إسلام ويب

اختلفت وسائل الدعاة إلى فصل الدين عن الدولة في سعيهم لهذا الهدف، فكان لكل واحد منهم طريقته التي يسلكها، وشبهاته التي يبثها، ومن ضمن هذه الشبهات التي كثر تناولها عند بعضهم: أن الإسلام رسالة ودين وليس حكماً ودولة، متجاهلين أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل من أجل نشر هذا الدين، وأن هذا لا يكون من قبل نفسه وإنما هو بتوجيه ممن أرسله وهو الله عز وجل.

نماذج لدعاة فصل الدين عن الدولة ومناقشة العلماء لهم والرد عليهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

إخوتي الكرام: تدارسنا واحدة من طرق مكر الماكرين وتخطيط المجرمين في محاربة كتاب الله المبين وهي المناداة بفصل الدين عن الدولة .. عن السياسة، وقلنا بأن هذا الأمر لم يخطر على بال حكومة من الحكومات السابقة، وقلنا بأنه أفضع وأشنع من فصل الدين عن الأمة، ونريد هنا أن نذكر نماذج حسية من الحياة التي نعيش فيها تدعو إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة والحكم.

النموذج الأول: علي عبد الرزاق في كتاب: (الإسلام وفصول الحكم)

نبدأ هذه النماذج بصاحب كتاب (الإسلام وفصول الحكم)، الذي نقض فيه الإسلام من أوله إلى آخره، ورد عليه الشيخ محمد بخيت المطيعي ، ورد عليه غيره من أئمة الإسلام، كالشيخ مصطفى صبري ، شيخ الإسلام في آخر دولةٍ إسلاميةٍ انقضت وهي الخلافة الإسلامية العثمانية.

(الإسلام وأصول الحكم)، هذا الكتاب يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، لـعلي بن حسن بن أحمد عبد الرازق ، توفي سنة ستٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، أي: صار له قرابة ثلاثين سنة، أخذ الشهادة العالية، والتي يقال لها: العالمية -ولا نعلم ما نقول عنها: عالية أو نازلة- من أكسفورد، وعين قاضياً في بلدة المنصورة، وكان عضواً في مجلس النواب ومجلس الشورى، وصار وزيراً للأوقاف، ودرس في جامعة القاهرة عشرين سنةً متتاليةً لطلبة الدراسات العليا.

ألف كتابه: (الإسلام وأصول الحكم)، لينقض به الإسلام من أوله إلى آخره.

يقول في هذا الكتاب الذي رد عليه مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي عليه رحمة الله، في كتاب ضخم زاد على خمسمائة صفحة سماه: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، رد به على كتابه، ثم دعاه بعد ذلك في نهاية الكتاب إلى التوبة فقال له:

طريد عشيرةٍ ورهين ذنبٍ بما جرمت يدي وجنى لساني

أي: هذا حالك، أنت طردت من زمرة العلماء في هذه الحياة، وأنت أسير ذنبك بعد الممات، فتب إلى الله وإلا هذا حالك:

طريد عشيرةٍ، ورهين ذنبٍ بما جرمت يدي وجنى لساني

ثم ختم الكتاب بقوله:

يا علياً كن علياً وتجنب كل حتفي

وامحون ما في كتابك فكتاب الله يكفي

فاتخذ منه طبيباً فلعل الله يشفي

الرد على دعوى علي عبد الرزاق أن الإسلام رسالة ودين وليس بحكم ولا دولة

يقول في هذا الكتاب: (الإسلام رسالةٌ لا حكم، ودينٌ لا دولة). والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية ينقل كلامه هنا بالحرف، ثم يرد عليه كلمة كلمة: الإسلام رسالةٌ لا حكم، ودينٌ لا دولة، ولا شيء يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، ويبنوا قواعد ملكهم ونظام حياتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، ودلت على أنه خير أصول الحكم، وما عليهم أن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له، واستكانوا إليه.

إذاً: الإسلام رسالة وليس بحكم، ودين، وليس بدولة. أي: أمرٌ كهنوتي كدين النصارى تماماً، ما لله لله، وما لـقيصر لقيصر، الدين لله، والوطن للجميع! إن أردت أن تتدين، فهذا بينك وبين دينك، إن شئت أن تعبد الله، وإن شئت أن تعبد الحمار، ما لنا ولك، عندنا بعد ذلك نظامٌ في الحياة يقرره مجلس الشيوخ، مجلس البرلمان، مجلس الوزراء، مجلس الشعب، مجلس الأمة، مجلس النواب، أما بعد ذلك فالدين ماذا تريد أن تتدين تدين. ولا أريد أن أذكر كل ما ذكر في كتابه ورد عليه الشيخ محمد بخيت المطيعي عليه رحمة الله، فهذا يحتاج لمواعظ ودروس متعددة، لكنني سأوجز مناقشة هذا الضال المضل بما ناقشه به على سبيل الاختصار الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله في كتابه: (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين)، مع أنه رد عليه على سبيل الانفراد، لكن ذكر مضمون الرد في موقف العالم، فقال له: حروبٌ النبي عليه الصلاة والسلام وسراياه فقط، سنقف عندها ونناقشك فيها، هل حارب النبي عليه الصلاة والسلام وغزا، وأرسل سرايا تقاتل في سبيل الله، أم لا؟ هذه الغزوات والسرايا أنت بين أمرين اثنين لا ثالث لهما:

أولاً: إما أن تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام حارب للدين.. من أجل أن ينصر دين الله، وأن يقيم هذا الحكم في هذه الحياة، فهل قاتل من أجل دين الله، وأراد أن يؤسس حكومةً لنشر نور الله؟ هل هذا واقعٌ أم لا؟ إن قلت: نعم، قاتل النبي عليه الصلاة والسلام من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار نور الله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى بطل مدعاك.

قال: بطل مدعاه من أوله لآخره، أن الإسلام دين وليس بدولة، ورسالة وليس بحكم.

إذاً: قتال النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته وسراياه لم؟ ليؤسس حكومةً دينية، يحكم بها البرية، فإذا سلمت بهذا وقلت: إن هذا الجهاد حصل من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا موجودٌ في القرآن، ولا ينكره أحدٌ من بني الإنسان من مؤمنٌ وكافر؛ لأن النبي عليه الصلاة قاتل وجاهد، هذا القتال والجهاد لم؟ ليؤسس حكومةً دينية، وأنت تقول: الإسلام دين لا دولة، ورسالة وليس بحكم.

إذاً: بطل مدعاك من أوله لآخره، إلا إذا أردت أن تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام خرج عن مقتضى رسالته، وتتهمه بعد ذلك بالشرور والسفه، فقاتل، لكن لا من أجل أن الله أذن له بالقتال، ومن أجل إعلاء دين الله، هو في الأصل لا يحق له أن يقاتل وقاتل، وأنت تقول بهذا، وأن النبي عليه الصلاة والسلام تخطى الحدود، واعتدى وتجاوز والله ما أذن له بهذا، إن قلت بهذا فأمرك واضح، ولا شك في كفرك، وإذا قلت: إن هذا الجهاد الذي قام به خير العباد نبينا عليه صلوات الله وسلامه مشروع من أجل تأسيس حكومةٍ لإقامة دين الله، فقد بطل مدعاك.

الرد على دعواه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤسس حكومة دينية وإن حكومة أبي بكر زمنية

الأمر الثاني: إذا قال أنه أراد يؤسس حكومةً زمنية لا حكومةً دينية، فأنت قلت: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن له حكومة، ولذلك يقول: حكومة أبي بكر حكومةٌ زمنيةٌ محضة لا صلة لها بالإسلام.

وكما يقول الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله، يقول: كل من طعن في الحكام السابقين لم يتجرأ على الطعن في الخلفاء الراشدين، ما تجرأ واحد، إنما ما سلم منهم أحد، هارون الرشيد وأبو جعفر ، والمأمون ، وغيرهم، ما سلم أحد، وكل واحدٍ يخطئ ويصيب، وقد جعلوا في تلك الطعون سبباً لتبرير عملهم، وهدم خلافة الإسلام والقضاء على الخلافة العثمانية الإسلامية، فقالوا: كان الحكم فيه فسادٌ وخلل، لكن ما تجرأ ضال أن يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي قبل من يحمل الشهادة العالمية، ويدرس عشرين سنة في الدراسات العليا، وهو قاضٍ، ويقول: حكومة أبي بكر زمنية. هذا ما تجرأ عليه أحد، بل كل من طعن في الحكومات التي جاءت بعد أبي بكر ، كان يطعن فيها لتفريطها بشيءٍ من الإسلام، وما يتهمها بالإلحاد والمروق من دين الرحمن.

أما هذا القاضي فيقول: كل الحكومات من عهد أبي بكر إلى هذا الوقت حكوماتٌ زمنيةٌ لا صلة لها بالإسلام على الإطلاق، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له حكومة.

فقال له الشيخ مصطفى : إن قلت أنه قاتل من أجل الدين بطل مدعاك، وإن قلت: قاتل من أجل الدنيا لتأسيس حكومةٍ دنيوية كفرت، فعلى كلا الحالتين قولك باطل، وما تتذرع به وتتعلل به مردودٍ عليك، وهو فاسد.

إخوتي الكرام! ختم الشيخ مصطفى الصبري عليه رحمة الله كلامه معلقاً على كلام هذا الضال في الجزء الرابع صفحة أربعٍ وسبعين وثلاثمائة، يقول: بالله عليكم هل سمعتم حكومةً لا دينية تدور رئاستها مع الإمامة في الصلاة؟ هل سمعتم هذا؟ حكومة أبي بكر لا دينية، والسبب في حكومته تولية النبي عليه الصلاة والسلام له في الصلاة.

هل الحكومة التي لا تنتمي للإسلام السبب في وجودها إمامة هذا الخليفة في الصلاة؟ سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم!

يا علياً كن علياً وتجنب كل حتف

وامحون في كتابك فكتاب الله يكفي

واتخذ منه طبيباً فلعل الله يشفي

يقول: نبينا عليه الصلاة والسلام ما كان له حكومة، والحكومات التي بعده حكوماتٌ زمنيةٌ لا دينية، فلا صلة للدين بالسياسة، والإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة.

إخوتي الكرام! فجهاد نبينا عليه الصلاة والسلام يشرع لنا على وجه الجلاء والتمام بأنه لم تحكمه غايات مادية، وشرف نفسي، وتوسعٌ بعد ذلك على حساب الغير، ثم اعتداءٌ وبطشٌ وسفكٌ للدماء.

بل قتال المسلمين لأعدائهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ثم إذا قالوا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله عليه صلوات الله وسلامه فهم إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير قول الله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

يقول أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري : (كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام). أي: تقاتلوهم، ثم تأسروهم وتربطوهم بهذه السلاسل، ثم بعد ذلك يسلمون فيصبحون إخواناً لكم.

وقد ثبت في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( عجب ربنا من قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل )، ومعنى الحديث هو ما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه من قوله: (نأتي بهم في السلاسل حتى يسلموا)، والحديث روي في مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه: (فنقاتلهم ونأسرهم، ونضع السلاسل في أعناقهم، فإذا أسلموا صاروا إخواناً لنا)، هذا معنى الحديث.

وأما ما نقله المناوي في فيض القدير في شرح الجامع الصغير عن الغزالي : بأن المراد من السلاسل هي التكاليف الشرعية التي كلفنا بها رب البرية: ( عجب ربنا من قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل )، أي: هذه التكاليف التي كلفنا الله بها من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاةٍ، ووعدنا عليها ثواباً، فنحن نرغب فيها من أجل الثواب، فكأنها بمثابة سلاسل تقودنا إلى الجنة.

هذا نفسٌ فلسفيٌ فليطرح، ولا داعي لقبوله ولا لأخذه، ومعنى الحديث ما أشرت إليه: أننا نقاتلهم فنأسرهم، ونضع السلاسل في أعناقهم ورقابهم، فإذا أسلموا -كما قال أبو هريرة رضي الله عنه- صاروا إخواناً لنا.

هذا نموذج علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وفصول الحكم).

النموذج الثاني لدعاة الفصل بين الدين والدولة محمد عبده ومناقشة العلماء له

نموذجٌ آخر من الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة، وأن الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة، فلا دخل له في شئون الحياة وأمور الأمة: الأستاذ الإمام محمد عبده الذي هلك سنة ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائة وألف، وقد بين حاله الشيخ محمد محمد حسين الذي توفي من سنواتٍ قريبة -نسأل الله أن يجعل قبره روضةً من رياض الجنة- في كتابه: (الإسلام والحضارة الغربية) في الفصل الثالث في خمسين صفحةً متتالية، من صفحة ثلاثٍ وستين إلى صفحة مائة وثمانية: (الفصل الثالث: الأفغاني ومحمد عبده ). ويلزم إخوتي الكرام أن تتطلعوا على هذا الفصل خمسين صفحة سوداء منكرة، في حياة الأفغاني الماسوني، وهو إيراني، وليس من بلاد الأفغان ولا صلة له بالأفغان، لكن لينفي عن نفسه التشيع والباطنية نسب نفسه إلى الأفغان، وهو مؤسس المحافل الماسونية في البلاد العربية، وتلميذه الذي كان يرضع من ثديه محمد عبده ، وكان يتردد عليه وعلى اللورد كرومر النمساوي الذي كان منتدباً من قبل بريطانيا على بلاد مصر، فبين هذا وذاك .. بين جمال الدين الأفغاني ، وبين اللورد كرومر ، وهكذا مع بعد ذلك بلنت الذي كان يقول عن محمد عبده : إنني أستطيع أن أقول كما نقل الشيخ محمد محمد حسين عنه في هذا الفصل: إنه لا ثقة لـمحمد عبده بالإسلام، كما أنه ليس لي ثقةٌ بالكنيسة الكاثوليكية، ومحمد عبده لا يثق بالإسلام إلا كثقتي بالكنيسة الكاثوليكية. مع أنه كان المفتي!

وكان يقول: (لعنة الله على ساس ويسوس وسياسة، دعونا من هذا)، أي: الدين شيء والسياسة شيءٌ آخر، لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين كما يقول عتاة المجرمين في هذا الحين، وصل به الأمر إخوتي الكرام إلى درجةٍ مزريةٍ في فصل الدين عن الدولة.

كان مستشاراً في محكمة الاستئناف في مصر ، ومحكمة الاستئناف والقوانين في بلاد مصر وهكذا القوانين التي بعد ذلك صدرت منها إلى سوريا ولبنان والعراق وغيرها من البلاد هي القوانين التي وضعها نابليون بونابرت بالحرف، حتى جاء بعد ذلك السمهوري في سنة ألف وتسعمائة وثمانٍ وأربعين بعد وفاة محمد عبده ، فغير قانون نابليون بونابرت إلى قانونٍ ألعن منه وأكفر، واستقاه من عشرين مصدراً من المصادر الأجنبية، وسيأتينا هذا عند الأمر الثاني عند الفصل والمكر.

لكن انظروا الآن في الفصل، محمد عبده مستشار في المحكمة الاستئنافية التي كانت تحكم بالقوانين الفرنسية، التي وضعها نابليون بونابرت ، مع أن اللعين نابليون بونابرت عندما جاء وفرض القوانين بنفسه ردت عليه وطرد وأخرج هو وحملته، ثم بعد ذلك رتب لوضع دستورٍ للبلاد من قبل نصارى لا يؤمنون برب العباد، فأخذوا ذلك الدستور بحذافيره ووضعوه على المسلمين، من الذي غاب؟ صورة نابليون ، لا أثره ولا فعله، محمد عبده مستشار في محكمة الاستئناف التي تحكم بالقوانين الفرنسية، عين بعد ذلك مفتياً في الشريعة الإسلامية.

مفتي في المشيخة الإسلامية ومستشار في المحكمة المدنية الفرنسية، وبقي في هاتين الوظيفتين فبدأ العامة يقولون: سبحان الله! هو في محكمة الاستئناف يحكم بقانون فرنسا، وفي منصب الإفتاء يحكم ويفتي بقانون وشرع الله، كيف هذا التناقض؟! ما لقيصر لـقيصر وما لله لله، تسأل عن الدين يفتيك، وأما المحاكم هذه فلها قوانين بعد ذلك خاصة.

مستشار في محكمة الاستئناف، ومفتي بعد ذلك للمسلمين إن هذا حقيقةً مما يندى له الجبين، وكيف يرضى مسلمٌ بهذا؟ ولو ترك منصب الإفتاء لكان أيسر ووزرٌ ارتكبه، ولعل الله يتوب عليه ويلهمه رشده بعد ذلك، أما إنه يجمع بين الشيطان والرحمن، ويقول: الرحمن في الجهة والشيطان في جهة، ويرضي هذا هنا، ويرضي هذا هنا، لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجه خالصاً.

كان مفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله، وهلا اقتدى بإمامٍ كـأبي حنيفة إذا ادعى الانتساب إليه؟

يقول الذهبي في ترجمة سيد الفقهاء الإمام أبي حنيفة الذي توفي سنة خمسين ومائة للهجرة، وهو تابعيٌ باتفاق، ثبتت رؤيته لـأنس بن مالك رضي الله عنه، وقيل: رأى ستةٌ من الصحابة الكرام، ولم تثبت هذه المنقبة لإمامٍ من الأئمة الأربعة إلا لـأبي حنيفة . يقول الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء في الجزء السادس صفحة اثنتين وأربعمائة: فقيه الملة، إليه المنتهى في الفقه والتدقيق، والناس عيالٌ عليه في الفقه. ألا اقتديت به؟! أبو حنيفة دعاه أبو جعفر المنصور ، والحكومة إسلاميةٌ شرعيةٌ، لكن فيها شيءٌ من الجور والظلم كما يوجد في الرعية شيءٌ من الجور والظلم، فعرض عليه القضاء فأبى، فقال: أترغب عما نحن فيه؟ قال: لا أصلح يا أمير المؤمنين.

سبحان الله! إمام المذهب الذي أخذت رتبة الإفتاء فيه يترك القضاء في حكومةٍ شرعية، وأنت تأخذ القضاء في القوانين الفرنسية؟

قال له: (أترغب عما نحن فيه؟ قال: لا أصلح يا أمير المؤمنين).

انظر لبطش وجور وظلم الحكام حتى في ذلك الزمان، فيه شيءٌ من الجور، وهذا لا يخرجه عن حظيرة الإسلام.

قال: (كذبت). يقال هذا لفقيه الملة، وشعرةٌ من أبي حنيفة أطهر من ملء الأرض من مثل أبي جعفر . (كذبت. قال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، قد حكمت على نفسك، إذا كنت كما تقول فلا أصلح للقضاء، فكيف ستولي القضاء كذاباً؟ إذا كنت كما تقول فلا أصلح للقضاء، وإذا كنت كما أقول فقد أخبرتك عن نفسي). فأنت الآن كيف تتكلم بهذا، إذا كان عندك رشد وعقل وتتهمني بالكذب كيف ستوليني القضاء؟! وإذا كنت صادقاً عندك فأقول: أنا لا أصلح. فحلف أبو جعفر أن يلي أبو حنيفة القضاء، فحلف أبو حنيفة ألا يلي القضاء لـأبي جعفر ، فقال الربيع حاجب أبي جعفر : سبحان الله! يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ قال: أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني، فليحنث في يمينه. فغضب أبو جعفر وأمر بسجنه، وقيل: ضربه مائة سوط. وقيل: توفي أبو حنيفة عليه رحمة الله ونور الله قبره -ونسأل الله أن يكرمه بجنات النعيم، وأن يشفعه فينا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين- وهو في سجن أبي جعفر .

قضاء يتركه لأنه دخل فيه شيءٌ من البلاء، وأنت تتولى القضاء بالقوانين الفرنسية؟! هذا كان حال أئمتنا نحو القضاء عندما دخله شيءٌ من الأهواء، وفرض عليهم ما لا تقره شريعتنا الغراء.

وهكذا من جاء بعد أبي حنيفة : عبد الله بن إدريس الأودي نعته الذهبي بشيخ الإسلام في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع صفحة اثنتين وأربعين.

عبد الله بن إدريس الأودي ، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة بعد اثنتين وأربعين سنة من وفاة أبي حنيفة عليهم رحمة الله، دعاه هارون الرشيد صاحب العصر الذهبي، وعرض عليه القضاء فامتنع، فقال هارون الرشيد : سبحان الله! أعرض عليك القضاء فتأبى؟ فقال: لا أصلح يا أمير المؤمنين. فقال هارون : ليتني ما رأيتك ولا عرفتك. فقال: وأنا والله ليتني ما رأيتك ولا عرفتك، أنا جئت إليك أم هذا بإكراهٍ منك لي؟ فتمعر وجه هارون ، لكن عندهم مع ذلك خشيةً من الحي القيوم، ثم قال: اخرج عني، فخرج عبد الله بن إدريس الأودي شيخ الإسلام، فأرسل إليه جائزةً خمسمائة درهم، وقال: أبيت أن تلي لنا عملاً فاقبل صلتنا، فلما جاءه الحاجب والرسول بهذه الصرة وفيها الدراهم، صاح بأعلى صوته: اخرج من هنا، اخرج من هنا، وما التفت إليه، فذهب هذا الحاجب والرسول إلى هارون وقال: رد الصلة وما قبلها، فأرسل إليه هارون : ما وليت لنا عملاً، ولا قبلت لنا صلةً، فسيأتيك ولدي المأمون فحدثه، فقال: إن جاء مع أولاد المسلمين حدثته، أما على انفراد فابن الخليفة وغيره سواء.

ألا اقتديت بهؤلاء؟ القوانين الفرنسية تصبح مستشاراً فيها؟ سبحان الله العظيم! ولذلك القضاء لما صار فيه شيءٌ من البلاء كان أئمتنا يحذرونه، انظروا لهذه الحكمة التي يقولها الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الرابع عشر صفحة خمسٍ وثمانين في حوادث سنة سبعمائة وسبع عشرة عند وفاة قاضي القضاة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان الزواوي قاضي القضاة في بلاد دمشق، يقول الإمام ابن كثير : عزل قبل وفاته بعشرين يوماً ثم توفي. يقول: وهذا من علامات الخير فيه، فهو خيرٌ له من أن يلقى الله وهو قاضٍ. هذا من علامات الخير فيه، أنه جاءه العزل وعزل قبل موته بعشرين يوماً، ثم أدركته منيته، فكيف بمن يكون مستشاراً في محكمةٍ مدنيةٍ كفرية تحكم بالقوانين الفرنسية؟!

الرد على المطالبين بفصل الدين عن الدولة

إخوتي الكرام! هؤلاء سأرد عليهم باختصار فأقول: يا من تريدون فصل الدين عن السياسة، وتجريد الحكومة من الدين، خبروني هل الله جل وعلا يعلم صالح الفرد ولا يعلم صالح الأمة والجماعة؟ خبروني؟ فالأفراد علم ما يصلحهم فلهم أن يتدينوا، وأما الأمة فلا يعلم ما يصلحها، فلذلك يسن لها نظاماً غيره.

هل الله يعلم صالح الفرد ولا يعلم صالح الجماعة؟

وهل الله يبالي ويعتني بأمر الفرد ولا يعتني بأمر الجماعة؟

وهل الله جل وعلا أصاب في ديننا وأخطأ في دنيانا ففي ديننا نفوض إليه أمورنا، وفي دنيانا نفوضها للذين لا يؤمنون بربنا؟

وهل من حق الله أن يتدخل في شئون عباده منفردين وليس له حقٌ أن يتدخل في شئونهم مجتمعين؟

خبروني ماذا ستقولون عن هذا؟ إن الجماعة هي أكثر استعداداً واستطاعةً للخير والشر، ولذلك ديننا هو دين الجماعة، ولا يصلح إقامة هذا الإسلام وهذا الدين إلا بجماعة، فالأوامر التي ألزمنا الله بها ووجهنا إليها: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، من الذي سيقوم بهذا؟ أفرادٌ أم جماعة؟ جماعةٌ تقيم نائباً عنها، حكومةٌ إسلاميةٌ رشيدة تنفذ هذه الأحكام، وإلا من الذي سينفذها؟

إن ديننا يأمرنا بالحرص على الجماعة، وعلى الإمارة في الجماعة، وترتيب شئوننا في أقل الجماعات، بل في أقصر الاجتماعات، فلا بد لنا من إمامٍ وأمير، ولا بد لنا من سائسٍ وقائدٍ خبير.

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ثبت في سنن أبي داود والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة في الجياد، ورواه أبو يعلى والبيهقي في سننه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فليؤمروا أحدهم )، وفي روايةٍ: ( إذا كنتم ثلاثةً في السفر فأمروا أحدكم )، أقل الجماعات ثلاثة، أقصر الاجتماعات: اجتماع السفر، لا بد له من إمامٍ وأمير، فكيف بعد ذلك هذه الرعية التي هي جموعٌ كثيرة تترك بدون إمامٍ وأمير يحكمها بشرع الحكيم الخبير؟!

إذا خرج ثلاثةٌ في سفر فليؤمروا أحدهم، ورحمة الله على الإمام شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عندما كان يقول:

لولا الأئمة لم يأمن لنا سبلٌ وكان أضعفنا نهباً لأقوانا

فإذاً: إذا كان الله جل وعلا يعلم صالح الفرد، فهو يعلم صالح الجماعة، وهذا الفرد عضوٌ في الجماعة، وما يصلحه يصلح الجماعة، وما يصلح الجماعة يصلح الفرد، ودين الله جل وعلا تنظيماً لجميع شئون الحياة: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

إخوتي الكرام! أما الفروق التي سأذكرها، والمميزات التي سأبينها، والتي توجد في شريعة ربنا ونظامه وهديه، ولا يوجد واحدٌ منها في القوانين الوضعية، فهي خمسةٌ:

أولها: أن هذا الدين وهذا الدستور وهذا القانون وهذا القرآن محترمٌ مقدس.

ثانيها: أنه مصونٌ من العبث.

ثالثها: أنه تتسع نصوصه لكل ما يقع ويحدث.

رابعها: فيه إنصافٌ وعدلٌ لجميع المخلوقات.

خامسها: هو جنسيةٌ فوق الجنسيات يجمع بين المؤمنين والمؤمنات.

وهذه الأمور الخمسة سأفصل الكلام عليها بالبراهين والأدلة في الموعظة الآتية إن شاء الله، وأقارن بينهما كما يقارن بين الإيمان والكفر، وبين الدر والبعر، أقارن بين شريعة الله الحنيفية وبين القوانين الوضعية الرجعية ليظهر لنا الحق، وأن دين الله صالحٌ للحياة في كل وقت، في العصور المتقدمة، وفي العصور الحاضرة، وفي العصور الآتية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، وردنا إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين!

اللهم ألف بين قلوب المسلمين يا أرحم الراحمين، واختم لنا على الإيمان الكامل بفضلك ورحمتك يا رب العالمين!

اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [2] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net