إسلام ويب

البيان واجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحصل البيان، ومن بيانه أنه يفعل شيئاً كان قد نهى عنه، فيتضح أن النهي للكراهة، ولكن هل يصدر المكروه منه صلى الله عليه وسلم؟ وأيضاً: هل يسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإنكار؟ للعلماء في ذلك كلام.

القواعد التي يعرف بها أحكام أفعال رسول الله الموضوعة للتأسي

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبق لنا أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام التي يبينها بقوله أو بفعله أمرها واضح؛ لأنه بينها مثل: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وكقطع يد السارق من الكوع، وغير ذلك الذي لم يفعله بياناً لمجمل يقول: [إن علمت صفته من وجوب، أو ندب، أو إباحة]، فهو كما علم، ما علم أنه واجب فهو واجب، وما علم أنه ندب فهو ندب، وما علم أنه مباح فهو مباح.

وطرق العلم يقول المؤلف: إما بالنص، يعني بأن يقول: هذا الشيء واجب، أو بالتسوية بالمعلوم، يعني: أن يقول: هذا مثل هذا، ويكون مماثلاً لواجب، [أو بقرينة تبين إحداها] أي: تبين الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، [أو بوقوعه بيانًا لمجمل] فإنه يكون له حكم ذلك المجمل، [أو امتثالاً لنص يدل على حكم] فإنه يكون حكمه حكم ذلك النص، وهذه قواعد ويمكن أن تعرف أمثلتها فيما يمر عليك، أحياناً يمر عليك أمثلة كثيرة لا تستحضر واحدة منها عند ذكر القاعدة، لكن المهم أن تفهم القاعدة ثم تطبق إذا مر عليك في الكتاب والسنة.

ثم قال: [فأمته مثله] يعني: الأمة يكون حكمها حكم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا النص، إن كان للوجوب فهو واجب عليه وعلى الأمة، أو للإباحة فهو مباح له وللأمة، أو للندب فهو ندب له وللأمة.

يقول: [وإلا] يعني: وإن لم تعلم صفته من وجوب أو ندب أو إباحة، [فإن تقرب به فواجب علينا وعليه وإلا فمباح]، يعني: إن فعله على سبيل القربة فهو واجب عليه، وواجب علينا، وإلا يعلم أنه فعله على سبيل القربة بأن كان يحتمل أنه فعله على سبيل الجبلة أو على سبيل العادة فإنه مباح، يعني: وليس له حكم بالندب أو الوجوب.

مدى وجوب البيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قول المؤلف: إنه واجب عليه، هذا صحيح، لكن هل واجب وجوباً مستمراً أو حتى يحصل البيان؟

الصواب: أنه حتى يحصل البيان؛ وذلك لأن الفعل المجرد على القول الراجح إذا فعله تقرباً إلى الله يدل على الاستحباب فقط، أما إذا فعله على سبيل الجبلة أو العادة فقد سبق، فهو واجب عليه حتى يحصل البيان، فإذا بان للخلق فهو مستحب، أما بالنسبة لنا فإنه مستحب وليس بواجب؛ وذلك لأنه فعل مجرد فقط.

وأما من قال من العلماء: إنه واجب علينا، واستدلوا بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وهو يصلي فخلع الصحابة نعالهم، فهذا لا يدل على الوجوب؛ لأن مجرد خلع النعل قد يكون للاستحباب، ثم إنه في زمن النسخ والوحي لم ينقطع بعد، فظنوا أنها نسخت الصلاة في النعال فخلعوا.

إذا قال قائل: ما هو دليلكم على أنه مستحب؟

قلنا: فعله على سبيل التقرب يدل على أنه عبادة، والأصل عدم الإثم بالترك، وإذا كان هذا الفعل عبادة لا يأثم بتركه ماذا تكون فحقيقته أنه مستحب، مثال ذلك: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته فأول ما يبدأ به السواك يتسوك)، فهل نقول: إن السواك واجب عليه وعلينا؟

الجواب: أما عليه فواجب حتى يحصل البلاغ والبيان، وأما علينا فمستحب، ولا يجب علينا أن نتسوك عند دخول البيت؛ لأنه مجرد فعل من الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به.

عدم صدور المكروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: [ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم المكروه ليبين به الجواز، بل فعله ينفي الكراهة].

أقوال العلماء في حكم فعل رسول الله شيئاً بعد نهيه عنه

يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله فإن فعله ينفي الكراهة حيث لا معارض له، فإن كان له معارض أخذنا بالمعارض، لكن إذا لم يكن له معارض فإنا فعله ينفي الكراهة، وهذا ما ذهب إليه المؤلف.

وأشار إلى القول الثاني بقوله: (ولم يفعل المكروه ليبين به الجواز)؛ لأن من العلماء من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله فإنما فعله ليبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، فيكون فعل مكروهاً ليبين أن هذا الفعل ليس حراماً. والمؤلف يقول: فعل مكروهاً ليبين أنه ليس بمكروه، بل ليبين أنه جائز، فصار الفرق بين القولين:

أن القول الأول يقول إنه فعل ما نهى عنه ليبين أنه ليس للتحريم، وعلى هذا فالنهي باقٍ ولكنه للكراهية.

وعلى القول الثاني يقولون: فعله ليبين الجواز.

ولكن القول الأول أصح، أنه إذا نهى عن شيء ثم فعله فإن فعله ينفي التحريم، فهو يفعله ليبين أن النهي ليس للتحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل شيئاً يأثم به، ولو كان للتحريم لأثم به، هذا القول هو القول الراجح.

على أن من الناس في مثل هذه المسألة من يقدم القول على الفعل، محتجاً بأن الفعل يحتمل الخصوصية، ويحتمل النسيان، ويحتمل أشياء أخرى، والقول محكم لا يحتمل شيئاً، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلة بغائط أو بول، ثم رآه ابن عمر يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة، لكن في البنيان، فهل نأخذ بالقول ونقول: إنه حرام في البنيان وفي غير البنيان، أم نأخذ بالقول ونجعل الفعل مخصصاً؟

على القول الراجح الأخذ بالثاني؛ لأنه لا معارضة بين قوله وفعله مع إمكان الجمع.

ومن ذلك: نهى عن شرب الإنسان قائماً، ثم شرب قائماً من شن معلق في البيت، وشرب قائماً من زمزم، ففعله هنا على كلام المؤلف ينفي الكراهة، وعلى القول الثاني: ينفي التحريم، يعني: يبين أن النهي ليس للتحريم، ولكنه للكراهة.

وعلى الرأي الثالث: لا أثر لفعله، ونأخذ بالقول، لكن الصحيح أننا نأخذ بالقول وبالفعل، وأنه إذا تعارض القول والفعل فهو كما لو تعارض القول مع القول، أي: أننا يجب أن نجمع بينهما ما استطعنا؛ لأن الكل سنة، قوله سنة وفعله سنة، فأرجح الأقوال في هذه المسألة: أننا نجمع بين القول والفعل، وإذا أمكن الجمع وجب العمل به.

قال: [وتشبيكه بعد سهوه لا ينفيها؛ لأنه نادر]، أي: تشبيكه بعد سهوه لا ينفي الكراهة، أي: كراهة التشبيك؛ وذلك لأنه نهى عن تشبيك الأصابع في المسجد، ولما سها وسلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين تقدم إلى خشبة معروضة في المسجد واتكأ عليها وشبك بين أصابعه. يقول المؤلف: هذا لا ينفي الكراهة التي استفيدت من نهيه عن التشبيك في المسجد؛ لأنه نادر.

وفي كلام المؤلف هنا نظر، بل نقول: إن المورد لم يتفق، أي أن المورد فيما نهى عنه وفيما فعله لم يتفق؛ لأنه يمكن أن نقول: إن النهي لمنتظر الصلاة، وإذا فرغت الصلاة جاز التشبيك، وهذا القول هو الأصح؛ لأننا بهذا القول يمكن أن نجمع بين قوله وفعله، ومتى أمكن الجمع بين النصوص كان هو الواجب.

حكم سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإنكار

يقول: [وإذا سكت عن إنكار بحضرته أو زمنه من غير كافر عالمًا به دل على جوازه، وإن سبق تحريمه فنسخ].

إذا سكت عن إنكار بحضرته دل على جوازه، إن كان عبادة فعبادة، وإن كان عادة فعادة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يسكت على منكر؛ لأن سكوته على المنكر يعني إقراره وإباحته، فيكون هنا ساكتاً عما دلت عليه الشريعة، وهذا مستحيل.

وكذلك أيضاً إذا سكت عن إنكار في زمنه وإن لم يكن حاضراً، مثل أن ينقل إليه كلام أو فعل ويسكت، فهذا يدل على الجواز؛ لأنه بلغه فأقره، إلا إذا كان من كافر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر الكافرين على ما هم عليه، فلو بلغه أن كافراً شرب الخمر مثلاً وسكت عنه فإنه لا يدل على جواز شرب الخمر، وإنما يدل على جواز إقرار الكافر على شرب الخمر، لكنه لا شك أنه يمنع من إظهاره في الأسواق؛ لما فيه من انتهاك حرمة المسلمين.

قوله: (أو زمنه من غير كافر عالمًا به)، يعني: سكت حال كونه عالماً به، وهذا القيد (عالماً به) تعود إلى ما فعل في زمنه وحضرته؛ لأنه ربما يفعل وهو في غفلة، أو يفعل وهو لم ينظر إلى الفاعل، يكون مثلاً بحضرته لكن في مكان بعيد، أو خلف سارية من سواري المسجد أو ما أشبه ذلك، المهم أن قوله: (عالماً به) يشمل ما فعل في زمنه وما فعل في حضرته.

قال: [وإن سبق تحريمه فنسخ].

يعني: أنه إذا فعل الشيء بحضرته وقد سبق تحريمه فإن سكوته يعتبر نسخاً، وعلى هذا فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل إذا كان قد سبق النهي عنه يعتبر نسخاً، أي: أنه صار مباحاً بعد أن كان منهياً عنه.

تعريف التأسي وحقيقته

ثم قال: [فائدة: التأسي فعلك كما فعل لأجل أنه فعل].

أي التأسي الذي أمر الله به فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، هو أن تفعل الشيء لأنه فعله، لا بد من هذا؛ لأنك إذا شعرت هذا الشعور فأنت متبع له تماماً، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

[وفي القول فامتثاله على الوجه الذي اقتضاه] يعني: التأسي في القول أن تمتثله على الوجه الذي اقتضاه، فمثلاً لما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين)، فإذا شك في صلاته وبنى على ما استيقن وكمل وسجد سجدتين، يسمى هذا تأسياً.

فليس التأسي خاصاً بأفعاله، بل بأفعاله وأقواله، فمن تابعه على فعله فهو متأس من أجل أنه فعل، ومن امتثل أمره فهو متأس؛ لأنه تابعه.

قوله رحمه الله: (فامتثاله على الوجه الذي اقتضاه)، يعني أيضاً أنه لا بد أن تمتثله على الوجه الذي اقتضاه الأمر، فإن خالفت فلست بمتأسي، قال: [وإلا فموافقة لا متابعة] وما أكثر أعمالنا الموافقة!

يعني: إن فعله لا لأن الرسول فعله سمي موافقاً لا متأسياً؛ ولهذا نحن نكرر دائماً أن يكون الإنسان عند فعل العبادات مستشعراً الإخلاص لله، وأنه فعل ذلك لأمر الله، وأن يستشعر أيضاً الإخلاص في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه فعل ذلك لأنه فعله، حتى يتم له التأسي.

ففي جانب الرب عز وجل نلاحظ شيئين: امتثال الأمر، والثاني: الإخلاص لله.

وفي جانب الرسول عليه الصلاة والسلام نلاحظ شيئين أيضاً هما: الإخلاص في متابعة الرسول، يعني: ألا يأتي بشيء لم يشرعه، والثاني:

أن يشعر في نفسه أنه فعله لأن الرسول فعله، وبهذا يكون أتى بالركنين الأساسيين في العبادة وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستحضر صار عمله موافقة لا متابعة، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [69] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net