إسلام ويب

الكلام على الحدود والتعريفات من مباحث علم المنطق، ولكن يذكرها الأصوليون في كتبهم لأهميتها، فيذكرون تعريف الحد وأقسامه وشروطه، كما يذكرون ما يرد على الحد من النقض والمعارضة، وهذا ما تحتويه هذه المادة.

تعريف الحد وشروطه وأنواعه

تعريف الحد لغة واصطلاحاً

قال: [ فصل: الحد لغة المنع ].

الحد في اللغة: المنع، ولو قيل: ما يحصل به المنع، لكان أولى؛ لأنه ليس المنع نفسه ولكن ما يحصل به المنع، فهذه حدود الأرض تسمى حداً؛ لأنه يحصل بها المنع، أي منع تعدي أحد الجارين على الآخر، وحدود الله التي هي العقوبات المرتبة على المعاصي، فهل هي المنع أم يحصل بها المنع؟

الجواب: يحصل بها المنع.

وحدود الله الأوامر يحصل بها المنع أيضاً، فلو قيل: الحد ما يحصل به المنع أو ما يكون مانعاً لكان أوضح من قولنا: الحد هو المنع.

على كل حال: الشيء الفاصل بين شيئين يسمى حداً.

أما في الاصطلاح فقال: [ هو الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره ]؛ هذا الحد في الاصطلاح، وهو الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره، فلابد أن يكون جامعاً، وهذا معنى قولنا: (المحيط بموصوفه)، ولابد أن يكون مانعاً وهذا معنى قولنا: (المميز له عن غيره).

فلابد في كل حد أن يكون محيطاً بالمحدود ومانعاً من دخول غيره، مثال ذلك: لو قيل: ما الإنسان؟ فتقول: حيوان ناطق!

الآن نريد أن نمشي مع المناطقة، لا تستطيعون أن تقولوا: نحن لسنا حيوانات!

الإنسان حيوان ناطق، هذا الحد محيط بموصوفه، في قوله: (حيوان)؛ فإن الحيوانية في كل ذي روح، مميز له عن غيره بقوله: (ناطق)؛ لأن كلمة (ناطق) تخرج البهيم، بل تخرج جميع الحيوانات سوى الإنسان.

أما الببغاء فليس بناطق.

إذاً: نقول: الإنسان حيوان ناطق، هذا حد محيط للمحدود مانع لغيره، طيب تقول مثلاً: الصلاة عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.

فقولك: عبادة وصف محيط جامع لكل الصلوات، بل وللعبادات الأخرى، وقولك: ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، هذا مميز لها عن غيرها؛ لأنك تأتي مثلاً للصيام تجده عبادة لكن ليس مفتتحاً بالتكبير ولا مختتماً بالسليم، نأتي للحج نجده عبادة لكن ليس مفتتحاً بالتكبير ولا مختتماً بالتسليم.

فالحد سواء كان حداً لمحسوس أو حداً لمعقول هو الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره.

لكن لو قلنا مثلاً في الإنسان: الإنسان هو الحيوان، فهل هذا الحد محيط بموصوفه أم لا؟

الجواب: نعم، لأنه يشمل جميع الإنسان، لكنه غير مميز له عن غيره؛ لأنه يدخل فيه الحيوانات كلها.

ولو قلنا: الإنسان حيوان كاتب. فليس محيطاً بموصوفه؛ لأنه يخرج الإنسان الذي لا يكتب.

لو قلنا في الصلاة: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم فرضها الله على عباده، فهذا الحد لا يصلح لأنه غير محيط بالمحدود، لأنه خرج منه النفل؛ لأنك الآن قيدت الصلاة بأنها عبادة مفروضة، مع أن الصلاة منها مفروض ومنها غير مفروض.

فالمهم الآن لابد أن يكون الحد محيطاً بالموصوف وهذا معنى قولنا: (جامع)، مميز له عن غيره وهذا معنى قولنا: (مانع).

فكل لفظ أحاط بمعناه وأخرج ما سواه فهو حد، إذا قلنا: (الإنسان حيوان ناطق) مثلاً، فهو لفظ أحاط بمعناه وأخرج به ما سواه، وإذا قلنا: (الطهارة هي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث) فهو لفظ أحاط بمعناه وأخرج به ما سواه، المؤلف قال: (هو الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره) والمعنى واحد، لكن بعض العبارات قد تكون أوضح من بعض.

أهمية الحدود في العلوم

قال المؤلف هنا: [ وهو أصل كل علم ]:

ووجه ذلك أن بالحد يكون التصور، لا يمكن أن تتصور الشيء إلا بمعرفة حده.

والحد هو التعريف، إذا قيل لك: عرف الطهارة؟ عرف الصلاة؟ عرف الحج؟ فإنك تأتي بحدودها، إذاً: الحد هو التعريف، أيضاً هذه نقطة تقرب لكم الموضوع، أن الحد هو التعريف الذي عرف به الشيء.

يقول المؤلف إنه أصل كل علم؛ لأن الحد تعريف للمحدود، والتعريف بالشيء يستلزم تصوره، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهذا وجه كون الحد أصل كل علم؛ لأنك لا يمكن أن تحكم على شيء بنفي أو إثبات أو صحة أو فساد إلا بعد تصوره، والتصور التام هو الحد، ولهذا قال: إنه أصل كل علم.

وبيان ذلك: أن الحد يكون به تصور المحدود، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذاً: فهو الدرجة الأولى للأحكام إثباتاً أو نفياً، فلهذا قالوا إنه أصل كل علم.

شروط الحدود أن تكون جامعة مانعة

قال: [ وشرطه أن يكون مطرداً -وهو المانع- كلما وجد وجد المحدود، منعكساً وهو الجامع ].

الاطراد يقول المؤلف إنه المانع، وهو الذي يمنع من دخول غير المحدود في الحد.

وأن يكون منعكساً، يقول: وهو الجامع الذي يمنع من خروج شيء من أفراد المحدود عن الحد.

فالجامع والمانع متعاكسان، المانع هو الذي يمنع من دخول غير المحدود في الحد، والجامع هو الذي يمنع من خروج شيء من أفراد المحدود عن الحد، أي: أنه يجمع جميع أفراد المحدود فلا يخرج منها شيء، مثال ذلك: قال قائل في حد الإنسان: إنه الحيوان الماشي، فهذا غير مطرد؛ لأنه لا يمنع من دخول غير المحدود في الحد، لأنك إذا قلت: إن الإنسان هو الحيوان الماشي، دخل فيه البهائم لأنها حيوان تمشي فلا يكون مانعاً، والمانع هو المطرد على رأي المؤلف.

إذا قلت: الإنسان حيوان ذو لحية مثلاً، لم يصح هذا حداً؛ لأنه ليس جامعاً، إذ أنه يخرج به كل إنسان لا لحية له، وهذا لا يصح، لابد أن يكون الحد جامعاً مانعاً.

ويقول في المانع: كلما وجد الحد وجد المحدود؛ لأنه إذا كان مانعاً من دخول غيره فإنه يلزم إذا وجد الحد أن يوجد المحدود؛ ولو كان غير مانع لكان يوجد الحد ولا يوجد المحدود.

كذلك الجامع كلما وجد المحدود -وهو الإنسان- وجد الحد.

ولكن بعض العلماء عكس القضية في مسألة الجامع والمانع، فقال: إن الجامع هو الذي يجمع جميع أفراد المحدود، فكلما وجد المحدود وجد الحد، والمانع بالعكس، والذي ذهب إليه البعض هو الصحيح؛ لأن الحد إذا لم يكن جامعاً لجميع أفراد المحدود لم يكن مطرداً، وإذا لم يكن مانعاً لم يكن منعكساً؛ لأنه إذا جاء العكس لم يمنع من دخوله.

على كل حال المعنى بدلاً من هذه الكلمات كلها أن نقول: لابد أن يكون الحد مشتملاً على جميع أفراد المحدود، وأن يكون مانعاً من دخول غير المحدود فيه؛ لأنه إن لم يجمع جميع أفراد المحدود صار ناقصاً، وإن خرج به شيء من أفراد المحدود صار أيضاً ناقصاً؛ لأننا زدنا فيه وصفاً لا نحتاج إليه، وسيأتي إن شاء الله ما يوضحه أكثر.

قال: [ ويلزم أنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود ] يعني: يلزم من قولنا إنه لابد أن يكون جامعاً مانعاً، أنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود، وهذا واضح، إذا كان الحد غير جامع أو غير مانع فإنه لا يلزم أنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود، فلا يمكن أن يلزم كلما انتفى الحد انتفى المحدود إلا إذا كان الحد جامعاًمانعاً.

أقسام الحدود والتعريفات

ثم قسمه إلى: حقيقي تام، وحقيقي ناقص، ورسمي تام، ورسمي ناقص، ولفظي.

فالحد له أنواع خمسة: حقيقي تام، وحقيقي ناقص، ورسمي تام، ورسمي ناقص، والخامس: لفظي.

الحد الحقيقي التام

وقد عرفها المؤلف كلها، يقول: [ حقيقي تام إن أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة، ولذا حد واحدٌ، وناقصٌ إن كان بفصلٍ قريبٍ فقط أو مع جنسٍ بعيدٍ ].

يجب أن نعرف أن كل الحدود تتضمن جنساً وفصلاً، فالجنس هو الذي يشترك فيه المحدود مع غيره، والفصل هو الذي يتميز به المحدود عن غيره، ولهذا سميناه فصلاً.

نضرب مثلاً في الإنسان لأنه أقرب شيء، نقول في الإنسان: حيوان ناطق، ما الجنس: (حيوان) الفصل: (ناطق)، فالجنس إذاً يعم المحدود وغيره، والفصل يميز أو يفصل بين المحدود وغيره، وكل حد لابد فيه من هذا.

فإذا كان الجنس قريباً وهو أخص الأجناس، وبعده الفصل المميز له عن غيره سمي حقيقياً تاماً، فإذا قلت: إن الإنسان حيوان ناطق، نقول: هذا حقيقي تام، وهذا أوضح من قول المؤلف: (إن أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة)؛ لأن هذا يحتاج أن نشرح الذاتيات والكلي والمركب، وهو يكفي أن نقول: إذا كان بجنس قريب مع فصل؛ لأنه إذا كان بجنس قريب مع فصل فقد أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية، (الكلية) ليشمل غيره (المركبة) أي: مع الفصل، نحن نقول: التام هو الذي يكون بجنس قريب مع الفصل.

والفصل يعني الوصف الذي يخرج غير المحدود من الحد، فقولك: (حيوان ناطق): (حيوان) هذا الجنس، الفصل: ناطق، فيكون هذا الفصل، يعني: للوصف الذي يخرج غير المحدود من الحد هو الفصل.

الجنس الآن (حيوان) هذا أقرب شيء وأخص شيء من الأجناس ولو قلنا في الإنسان: إنه جسم ناطق لا يكون تاماً؛ لأن (جسم) أعم من حيوان.

ولو قلنا: الإنسان نام ناطق. فغير تام، لأن (نام) جنس بعيد، وإن كان أقرب من (جسم)، لكنه أعم من حيوان؛ لأن النامي يشمل الحيوان والأشجار مثلاً لأنها تنمو، فنقول إذاً: عندنا ثلاثة تعريفات: جسم ناطق، نام ناطق، حيوان ناطق، أيها الذي نحكم بأنه حقيقي تام؟

حيوان ناطق؛ لأنه بأقرب الأجناس مع الفصل.

يقول المؤلف: [ ولذا حد واحد ] يعني: الحقيقي التام يكون حداًواحداً، بحيث لا يوجد للمحدود سوى هذا الحد، وإنما نقول هذا لأن هذا أخص ما يمكن أن ننطق به، ولهذا تجنبنا الجنس البعيد وأخذنا بأقرب الأجناس، وإذا أتينا بأقرب الأجناس وبالفصل لم نجد شيئاً آخر نحد به، ولهذا قالوا: لهذا حد واحد.

وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يكون هناك حدان حتى للحقيقي التام، ولا سيما في المعاني، فربما يعبر عن المعنى بعدة ألفاظ، فتكون الحدود متعددة.

وأجاب القائلون بأنه ليس له إلا حد واحد قالوا: إن اتحاد اللفظ مع اتحاد المعنى ما هو إلا مشبه للحد اللفظي الذي سيأتي؛ ولكن الحقيقة لم تتعدد، والخلاف في هذا شبيه باللفظي، وإن كان معنوياً فهو عديم الفائدة.

هل الحد الحقيقي واحد أم يكمن أن يتعدد؟

الجواب: في هذا خلاف، والمشهور عند جمهور العلماء أنه حد واحد، ويجيبون بأن تعدد الألفاظ لا يقتضي تعدد المعاني، ويكون هذا من باب الترادف.

الحد الحقيقي الناقص

قال: [ وناقص إن كان بفصل قريب فقط، أو مع جنس بعيد ].

نتكلم الآن عن الحقيقي، أن الحقيقي نوعان تام وناقص، فالتام ما كان بجنس قريب وفصل قريب، والناقص ما كان بفصل قريب بدون أن يذكر الجنس، فإذا سئلت: ما الإنسان؟ قلت: ناطق، فإذا حددت الإنسان بأنه الناطق صار هذا حقيقياً لكنه ناقص، لأنه نقص منه ذكر الحيوان (الجنس) لأن الجنس أمر كلي يعين على تصور المحدود، وأنت الآن ترى فرقاً بين أن يقال في الإنسان حيوان ناطق، أو يقال: هو الناطق، فقولك: حيوان ناطق يقرب أكثر؛ لأنه يعرفك بأنه من هذا الجنس من المخلوقات (الحيوانات)، ثم يفصل بأنه ناطق، لكن لو قلت: هو الناطق فصحيح أنه لا يوجد ناطق إلا الإنسان، وهو حيوان، لكن الأول أتم؛ لأنه أتى على كل الذاتيات العامة التي هي الحيوان، والخاص الذي هو الناطق.

وقوله: (أو مع جنس بعيد) هذه صورة ثانية للناقص.

يعني: ويكون الحد الحقيقي ناقصاً إذا جيء بالفصل مع جنس بعيد، مثاله: أن تقول في الإنسان: جسم ناطق، هذا نقول: حقيقي لكنه ناقص؛ لأنك إذا قلت: جسم ناطق، فإن السامع يفكر بكل الأجسام: السماء، الأرض، الشمس، القمر، الجبال، الأشجار، من أي نوع هو من هذه الأشياء؟ وذلك لا يتبين من كلمة (جسم).

فإذا قلت: (ناطق) تبين، فأنا بدلاً من أن أفكر في كل المخلوقات التي تكون جسماً أختصر الموضوع فأقول: (حيوان)، إذاً: هل ألتفت إلى السماء والأرض والأشجار والنجوم أم لا؟ لا ألتفت، فهو أقرب.

ولو قال قائل في الإنسان: إنه نام ناطق، (نام) وإن كان دون كلمة (جسم) لكن هو جنس بعيد، فيكون الحد تاماً ناقصاً.

إذاً: فالحد الحقيقي التام: جنس قريب وفصل قريب.

والحقيقي الناقص له صورتان: إما أن يؤتى بالفصل القريب فقط، أو يؤتى بالفصل مع جنس بعيد.

فالحقيقي له ثلاث صور: جنس قريب مع فصل، هذا تام، وجنس بعيد مع فصل، فهذا ناقص، وفصل فقط، وهذا ناقص أيضاً.

فصار للحقيقي ثلاث صور: الصورة الأولى: جنس قريب مع فصل، الصورة الثانية: جنس بعيد مع فصل، الصورة الثالثة: فصل بدون جنس، الأول: يسمى تاماً، والثاني والثالث يسمى ناقصاً، وكل الثلاثة تسمى حقيقياً.

وكل هذا التقسيم إذا تأملته لن تجد فائدة كبيرة، غاية ما هنالك أنه اصطلاح من أهل المنطق، ولا مشاحة في الاصطلاح، يعني: يفعلون ما يشاءون ما دام أنه لا يخالف الشرع، لكن كلما تأمل الإنسان هذه البحوث وجدها تنطبق تماماً على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذكي لا يحتاج إليها، والبليد لا ينتفع بها.

ثم الكلام عن الحد الرسمي، والرسمي أيضاً ينقسم إلى تام وناقص، فاستمع إلى التام، قال: [ ورسمي تام إن كان بخاصة مع جنس قريب، وناقص إن كان بها -أي بالخاصة- فقط، أو مع جنس بعيد ].

الخاصة غير الذاتية، يعني: الخاصة هي التي تكون أخص من الذاتية، مثل كلمة (ضاحك) بالنسبة للإنسان، يقولون: هذه خاصة وليست ذاتية، فمثلاً: لو حد الإنسان بأنه حيوان ضاحك، نقول: هذا رسمي تام؛ لأن الجنس قريب فيكون رسمياً تاماً.

والفرق بينه وبين الحقيقي أن الحقيقي يتكلم عن حد الإنسان حقيقة، وهذا يتكلم عن حد الإنسان مع وجود عارض؛ لأن الضحك ليس من الصفات الذاتية، بل هو عارض له سبب، أما النطق فهو صفة ذاتية، كل إنسان ينطق، ولذلك يعد الخرس فوات صفة، لكن عدم الضحك لا يعد فوات صفة.

فإذا قلت: الإنسان حيوان ضاحك، سميناه رسمياً تاماً، رسمي يعني: يشبه الرسم، فليس هو الشيء الذي يبين الحقيقة، بل يبين رسم الإنسان، كما لو رسمت بيدك صورة إنسان فليس هو الإنسان حقيقة.

ونسميه تاماً لأنه بجنس قريب.

الحد الرسمي الناقص

والرسمي الناقص له صورتان: أن يكون بالخاصة فقط، أو بالخاصة مع جنس بعيد.

بالخاصة فقط كما لو قيل لك: ما الإنسان؟ فقلت: الضاحك، فلم تدخل الجنس إطلاقاً، وإنما ذكرت الخاصة فقط، فيكون ناقصاً لما ذكرنا في التام، يعني: صار ناقصاً لأنك لما لم تذكر جنسه فالسامع ربما يحوم حول أشياء كثيرة لا يدري فهو رسمي ناقص لأنه لم يذكر جنسه.

الصورة الثانية: رسمي ناقص إذا ذكر مع جنس بعيد، كأن تقول في حد الإنسان: إنه جسم ضاحك، (جسم) هذا جنس بعيد، أو تقول في الإنسان: إنه نام ضاحك.

الحد اللفظي

قال المؤلف: [ولفظي إن كان بمرادف أظهر]:

والحد اللفظي أن يعبر عن المعنى بلفظ مرادف أظهر من اللفظ الموجود مثل: لو سألك سائل: ما الغضنفر؟ وأنت لم تسمع بالغضنفر من قبل، فقال قائل: الغضنفر الأسد، فإنا نسمي هذا الحد لفظياً، الحد اللفظي إذاً بسيط: أن يفسر اللفظ بمرادفه الأظهر منه.

وكلمة (الأظهر) الظهور والبطون يختلف، قد يكون الأسد عند قوم أوضح من الغضنفر، وعند آخرين أخفى من الغضنفر، فإذا كنت مثلاً في قوم لا يعرفون إلا الأسد فقط، وتحدثت بشجاعة الغضنفر، وأن الغضنفر ملك الوحوش وما أشبه ذلك، فيقولون: ما هو الغضنفر الذي ملأت أسماعنا بالتحدث عنه؟ لأنهم لا يعرفون هذا اللفظ، تقول لهم: الأسد، إذاً: الآن حددت الغضنفر بمرادف أظهر.

وإذا عشت بين قوم لا يعرفون لفظ الأسد إنما يعرفون الغضنفر فقلت: الأسد والأسد والأسد، قالوا: ما الأسد هذا الذي ملأت أسماعنا به؟ فقلت: هو الغضنفر.. الآن نقول هذا حد لفظي.

قال إنسان: الهر السنور، إذا كان في قوم عندهم السنور أظهر من الهر فهو حد لفظي، ونحن الأظهر عندنا الهر، وأكثر من هذا أيضاً البس، بل باللغة العامية نقول: البس، يعني حين تقول البس، فما هو البس هذا؟

إذاً: ممكن أن نفسر البس بالقط، لأنه أظهر عند المخاطبين.

المهم تعريف الحد اللفظي: أن يفسر الشيء بلفظ مرادف أظهر.

لو قال إنسان: إن الهر هو القط عند أناس لا يعرفون لا الهر ولا القط..، فهذا لا يكون حينئذ حداً صحيحاً؛ لأنه لا يعرف المحدود ولا يبينه، فتفسير الشيء بأخفى منه أو بمماثل لا يصح أن يكون حداً.

أولاً: تفسيره بما هو أظهر يصح، فلو قال لك إنسان: ما هو القمح؟ فقلت: المعية، فهل المعية أوضح أم القمح أوضح؟

الجواب: القمح أوضح مع أن المعية، فالحد إذاً خطأ؛ لأنه غير جامع، لأن القمح أعم من المعية، فيكون غير جامع، فهو غير مطرد، والله أعلم.

يرد على الحد النقض والمعارضة دون المنع

قال: [ ويرد عليه النقض والمعارضة لا المنع ].

النقض معناه: أن تنقض على المعرف تعريفه، مثل لو قال المعرف في تعريف الإنسان: إنه حيوان متجمل، فقلت: هذا ينتقض عليك بالإنسان الذي لم يتجمل، كإنسان لبس لباساً عادياً هل تقول إنه إنسان أم لا؟ قال: أقول إنه إنسان، تقول: إذاً: ينتقض عليك الحد بهذا.

ويرد على الحد أيضاً المعارضة.

الحد عموماً يرد عليه بالنقض، وذلك بأن تنقضه بدخول أو خروج أفراد من أفراده، لو قلت مثلاً: الإنسان حيوان نامٍ، فهذا ينتقض عليك بالفرس والبعير مثلاً، فالبعير والفرس حيوان نام، وليس بإنسان، فصار النقض معناه: أننا ندخل غير المحدود في الحد، هذا النقض، والمثال الصحيح أن يقول قائل في الإنسان: إنه حيوان نام، فنقول: ينتقض عليك بالفرس.

قال: الإنسان حيوان ذو صوت، ينتقض عليك أيضاً بكل حيوان يصوت، هذا النقض.

والمعارضة: أن تعارض الحد بما هو أوضح وأبين، فإذا ذكر حداً عارضته بما هو أوضح، مثاله: قال قائل: إن الصلاة أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، فتقول له: هذا حد ولا بأس، لكن أنا أعارضك بحد آخر أحسن منه، يجب أن نقول في تعريف الصلاة: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.

أما المنع فهذا لا يمكن أن يرد على الحد، يعني لو قال لك: الإنسان حيوان ناطق، لم يمكن أن تمنعه لأنه خبر، وتعريف الأشياء عبارة عن الإخبار بذاتياتها، فإذا قال: هذا هو الذي أقول في الإنسان إنه حيوان ناطق لا يمكن أن تمنعني، فالمنع لا يرد عليه؛ لكن لاحظوا أنه إذا علمت أن هذا الحد غير صحيح يمكن أن تورد عليه إما النقض أو المعارضة، أما أن تقول: هذا ممنوع فلا يصح، بل تنقضه أو تعارضه.

فإما أن تذكر نقضاً أو معارضة فحينئذٍ أتبعك وأوافقك، وإما ألا تذكر، وحينئذٍ لا أوافقك على هذا.

فالخلاصة: أن من الإيرادات التي تورد على الحد لإفساده وإبطاله إما معارضة وإما نقض، وأما أن يمنع بالكلية فيقال: أنا لا أقبل هذا الحد، فهذا لا يمكن، بل بمجرد أن تقول: هذا ليس بحد.. اذكر السبب، عارض أو انقض، وحينئذٍ ينظر في الموضوع.

الفائدة من هذا الفصل كله: أن التعاريف والحدود لها فائدة، ما هي الفائدة؟ تصور الأشياء ليترتب على ذلك الحكم عليها.

ثانياً: أن الحدود يمكن أن تنقض، وذلك بأن يدعي الناقض بأنه دخل في الحد ما ليس منه، مثال ذلك: أن تقول في الإنسان: إنه حيوان نام، فيقول لك: ينتقض بالفرس والبعير وشبهها فإنها حيوانات نامية، وإن قال: الإنسان جسم نام صار ينتقض عليك بأكثر أيضاً، ينتقض عليك بالنبات وبالبهائم وبغيرها، وإذا قال: الإنسان خلق مشهود، انتقض عليك بكل المخلوقات، إلا ما غاب عنك، وإذا قال: الإنسان خلق من خلق الله، فقد دخل فيه كل مخلوق؛ لأن كل شيء خلق من خلق الله، وأعم من ذلك أن يقول: الإنسان شيء معلوم، هذا من أ كبر الخطأ أيضاً؛ لأنه يدخل فيه الخالق.

إذاً: لابد أن نأتي في الحد بأقرب ما يكون من الجنس ومن الفصل، حتى لا تربك المخاطب ويذهب يطلب المحدود في أصناف المخلوقات وأنواعها، والمقصود من الحد هو تقريب التصور للحكم.

الحد اللفظي: كل الألفاظ المترادفة فإن بعضها مع بعض يعتبر حداً لفظياً، فإذا فسرت اللفظ بلفظ أوضح وأظهر فهو حد لفظي، والله أعلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [5] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

https://audio.islamweb.net