إسلام ويب

تحدث الشيخ حفظه الله عن الرحلة التي يمر بها الإنسان، منذ أن يوضع نطفة في رحم أمه إلى أن يستقر قراره إما في جنة أو نار، مبيناً ما يتخلل هذه الرحلة من محطات رئيسية، وهي: عالم الأجنة في الأرحام، وعالم الدنيا، وعالم البرزخ، وعالم القيامة.

رحلة الإنسان من البداية حتى النهاية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأحبة في الله: يلقى هذا الدرس في مسجد الشوربتلي بمدينة جدة بعد مغرب يوم السبت الموافق (29) من شهر محرم من عام 1417 للهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام, وهو ضمن سلسلة التأملات القرآنية وعنوانه: رحلة الحياة.

وتأملات هذه الليلة في آيات كريمة جاءت في كتاب الله تضمنت رحلة الإنسان منذ أن يوضع نطفة في رحم أمه إلى أن يستقر قراره إما إلى الجنة أو النار, رحلة مضنية وشاقة, رحلة لم يؤخذ للإنسان فيها رأي, فهو يخلق دون رأيه, ويموت دون رغبته, ويبعث رغم أنفه, ثم يحاسب ويجازى على سلوكه في هذه الحياة, ثم يوجه في النهاية إما إلى الجنة إن كان من أهل الإيمان -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- أو يوجه ويسحب على وجهه إلى النار إن كان من أهل الكفر والفسوق والعصيان -أعاذنا الله جميعاً منهم-.

هذه الآيات جاءت في سورة المؤمنون يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16] هذه الآيات تضمنت مراحل خلق للإنسان, ومراحل سفره, بدأت أول مرحلة يوم خلق الله عز وجل آدم من طين, ثم جعل هذا الطين في سلالته وذريته, يتم عن طريق النطفة -الحيوان المنوي- وهذه الرحلة الطويلة تتم عبر خمس مراحل:

المرحلة الأولى: عالم الأجنة في الأرحام.

المرحلة الثانية: عالم الحياة الدنيا.

المرحلة الثالثة: عالم البرزخ في القبر.

المرحلة الرابعة: عالم القيامة.

المرحلة الخامسة والأخيرة: الجنة أو النار.

هذه خمس مراحل من يستطيع أن يفلت منها؟ من يستطيع أن يقول: أنا لا أريد أن أموت أريد أن أجلس في هذه الدنيا إلى آخر شيء؟ هل يطاع في طلبه هذا؟ لا. زرت في مرة من المرات ثرياً من الأثرياء في مكة لأعرض عليه مشروعاً من مشاريع الخير, وبعد أن وعظته قال لي: لا بد من البعث؟! -يعني: لا مناص من البعث؟!-

قلت: لا بد أن تبعث.

قال: والذي يريد أن يموت ولا يريد أن يبعث.

قلت: الذي لا يريد أن يبعث فليدفع عن نفسه الموت، حتى لا يبعث، إذا أتاه ملك الموت فليقل: لا أريد أن أموت, أريد أن أبقى هنا.

قال: ولكن ملك الموت لن يوافق.

قلت: وكذلك يوم القيامة تبعث رغماً عن أنفك، فكما تموت تبعث؛ فحقائق الخلق والموت والبعث جاءت في هذه الآيات متلازمة مترابطة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] هذا بداية الخلق, ثم بعدها مراحل الخلق المختلفة, ثم بعد ذلك ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15] واللام هنا تسمى لام التأكيد, يعني: هذا شيء لا بد منه, وتأمل في واقعنا اليوم هل يستطيع أحد أن يفلت من الموت؟ لا. بل يموت الكبير والصغير، والملك والمملوك، والأمير والمأمور، والغني والفقير، والراعي والرعية، والذكر والأنثى، كل الناس يموتون، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:34-35].

ثم بعد الموت قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16] ثلاث حقائق مترابطة يلزم من وقوع الأولى وقوع التي تليها, فما دام أنك خلقت إذاً لا بد أن تموت, وما دام أنك مت إذاً لا بد أن تبعث, ولو افترضنا أن رجلاً خلق نفسه ثم قال: أنا لن أموت، لقلنا: إذاً يمكنك ألا تُبعث؛ لأنك استطعت أن تمتنع من الموت، ولكن ما استطعت أن تمتنع من الخلق بل خلقك الله رغماً عنك ولا استطعت أن تمتنع من الموت بل تموت رغماً عنك, ولن تستطيع أن تمتنع من البعث بل سيبعثك الله عز وجل رضيت ذلك أم أبيت, ولهذا لما جاء العاص بن وائل أحد صناديد كفار مكة ، مر على المقبرة وأخذ عظماً قد رمّ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفتّه بين يديه وقال: يا محمد! تزعم أننا سوف نعود بعد أن نكون عظاماً؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم في منطق الواثق بربه الذي لا تزعزعه الشبهات, ولا تهزه الكلمات قال: (نعم ويدخلك الله النار) وفعلاً تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم ومات هذا الرجل كافراً وسوف يدخل الله العاص بن وائل النار؛ لأنه مات على الكفر وكذب بالبعث, ونزل الوحي من السماء في آخر سورة (يس) يبين هذه الحادثة يقول الله عز وجل: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] ضرب لنا مثلاً بالعظم ونسي التأمل في حال خلقه حينما كان تراباً قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] من يحيها وهي رميم؟ قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] الذي خلقها أول مرة أيعجزه أن يردها مرة أخرى؟ سبحان الله! أين عقل الإنسان؟!! قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79].

وسنتناول -أيها الإخوة- المحطات الخمس بالتفصيل.

عالم الأجنة في الأرحام أول محطة للإنسان

أول محطة تسافر فيها -أيها الإنسان- وتستقر فيها هي: عالم الأجنة في الأرحام ثم عالم الطفولة.

مراحل تكوين الجنين في بطن أمه

ومدة الرحلة تسعة أشهر في الغالب, تبدأ باللقاء بين الرجل والمرأة, حين يفرز الرجل هذه الحيوانات المنوية وتفرز المرأة بويضة, والبويضة هذه تفرز على مدى الدورة الشهرية، في كل دورة شهرية تفرز بويضة واحدة, ويكون هناك فترة للإخصاب يعني: تكون المرأة قابلة للحمل, وتكون البويضة حية, يأتي الرجل امرأته الحلال وتتسابق تلك الحيوانات المنوية إلى تلك البويضة المستقرة في أعلى قناة يسمونها: قناة فالوب ، وهي ليست قناة فالوب إنما الله هو الذي خلقها ولكن فالوب هو الذي اكتشفها, وتعلق بهذه البويضة القناة وسماها الله: قراراً مكيناً ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13] يعني: محمي محفوظ, يقذف الرجل في الدفقة الواحدة أعداداً هائلة من الحيوانات المنوية، قد تصل في بعض الأحيان إلى 400 مليون حيوان منوي, يموت معظم هذه الملايين في الطريق ولا يصل إلا القوي, فإذا وصل أول واحد عند البويضة أغلقت عليه, وتأتي البقية تدور حولها فلا تلقى مكاناً فتموت بعد ربع ساعة إلا الذي دخل البويضة فإن الله يكتب له الحياة.

ويختلط هذا الحيوان المنوي مع تلك البويضة ويبدأ التشكيل الإنساني يقول الله عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1] (هل) هنا ليست استفهامية ولكنها تقريرية بمعنى: قد أتى لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1] فأنت عمرك الآن ثلاثون سنة, اسأل نفسك قبل ثلاثين سنة: ماذا كنت؟ لم تكن شيئاً مذكوراً, وبعدها كيف جئت؟ قال الله عز وجل: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] أمشاج: أخلاط, نبتليه: نختبره.

بعد ما يحصل هذا الاختلاط والامتزاج بين النطفة والبويضة تستمر أربعين يوماً وهي على حالتها لا تتغير, بعد أربعين يوماً تتطور وتنتقل من مرحلة النطفة إلى مرحلة العلقة فتصير لحمة على شكل علقة, والعلقة: دابة تعيش في المياه الراكدة, يعرفها أهل القرى، وسميت علقة؛ لأنها تعلق في ألسنة المواشي والبقر إذا شربت من الماء, ولقد رأيتها بعيني مثل تلك العلقة بالضبط التي أخبر الله عنها, وقد رُصدت حركة تكون الجنين منذ كونه نطفة إلى أن يخرج من بطن أمه، وتقرر وتبين بالعلم الحديث أن خلق الإنسان يتم بتلك الخطوات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة, مما يدل على أن هذا كلام الله, وأن هذا الرسول رسول من عند الله حقاً.

العلم الحديث يقرر ما ذكره القرآن عن مراحل تكوين الجنين

في مؤتمر الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة الذي عقد قبل سنوات في القاهرة، دعي إلى هذا المؤتمر أكبر عالم على وجه الأرض في علم الأجنة، علماً أن هذا العالم ليس مسلماً ليلقي محاضرة عن تكون الجنين -وطبعاً يتكلم عن علم- ولما انتهى من محاضرته قام أحد علماء المسلمين وقال له: إن ما ذكرت من الحقائق العلمية قد جاء بها كتاب الله وجاءت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر له الآيات التي في سورة المؤمنون, وذكر له حديث البخاري ومسلم: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك...) الحديث, ولما انتهى قال: أهذا عندكم في الكتاب والسنة؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والله ما أخبر نبيكم بهذه الحقائق إلا الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذه الحقائق قبل وجود الجامعات، ومراكز البحث العلمي، وأجهزة الرصد والتصوير التلفزيوني، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئاً عن تلك الحقائق، فقد كان يعيش في البادية لا يقرأ ولا يكتب، بل حتى الحرف لا يعرفه صلوات الله وسلامه عليه, ثم يخبر بحقائق علمية ما اكتشفت إلا في القرن العشرين في عصر العلم وعصر الذرة وعصر الأجهزة مما يدلل على أن هذا الكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

بعد أربعين يوماً أخرى تنتقل العلقة إلى مضغة وسميت مضغة؛ لأنها أشبه ما تكون بلقمة وضعت تحت الأضراس ثم مضغت، وقد رأيتها -أيضاً- بعيني كأنها لقمة مضغت, وهذه المضغة هي بداية تكون سلسلة العمود الفقري للإنسان, وبعد أربعين يوماً تتحول هذه المضغة إلى عظام, يركب الهيكل العظمي للإنسان كاملاً حتى الأضلاع، وقد رأيتها كأنها دبابيس مشكلة، كل عظم مع الثاني وكل مفصل مع الثاني، وبعد ذلك تكس هذه العظام باللحم ثم ينشئه الله خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.

ولو قمت بمقارنة بين تلك النطفة المنوية وبين ذلك الإنسان، لوجدت أنه لا نسبة ولا تناسب بينهما، ولكن كما قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].

يهيأ لهذا المخلوق الجديد في بطن أمه ويزود بإمكانات لاستقبال هذه الحياة, فيخلق له رغم أنه لا يمشي بهما في بطن أمه, وتركب له اليدان وهو لا يستعملهما, ويعطى عينان وهو لا ينظربهما؛ لأنه ليس في بطن أمه نور, بل يخلق الجنين في ظلمات ثلاث يقول الله عز وجل: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6] يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي: مراحل فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ظلمة الرحم, وظلمة البطن, وظلمة المشيمة, لكن مع ذلك الجنين له عينان لماذا العينان في الظلام؟ من أجل أن يستخدمهما إذا خرج من بطن أمه, وتخلق له أذنان بالرغم أنه ليس هناك أصوات في عالم الأرحام, وأيضاً يخلق له جهازاً تنفسياً كاملاً من الأنف إلى الرئة كما أوجد الله له جهازاً هضمياً من البلعوم إلى المريء، وتتم عملية تنفس الجنين وتغذيته عن طريق الحبل السري, المتصل ببطن الجنين مع أحشاء الأم حيث يتم إمداد الجنين بثلاثة أشياء عبر الحبل السري وهي: الطعام, والهواء, والماء, سبحان الله الذي لا إله إلا هو!! وبعد أن يصبح جاهزاً يخرج إلى الحياة.

من الذي أخرجه؟ إنه الله سبحانه وتعالى يقول الله عز وجل: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20] يكون وضعية الجنين في بطن أمه على هيئة الجالس, وجعل الله عز وجل وجهه من جهة العمود الفقري لأمه, لماذا؟ لأن البطن قد يتعرض لكدمات أو لضغط أو لضربة أو شيء ما يصيبك شيء تصيبك في النقرة, لكن بطنك وفمك وعينيك من جهة عظام أمك محمي, لأنك في القرار المكين ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13] وجالس متكئ هنا الطحال ومن هناك الكبد, ويعيش في راحة إلى أن تأتي ساعة الخروج فيقلبه الله عز وجل, فهذا المخاض -الطلق- الذي تعانيه المرأة هو: عملية قلب الجنين من أجل أن يخرج رأسه أولاً, وإذا خرجت رجلاه أو يداه أولاً تعسرت الولادة, ولا يخرج إلا بعملية تفتح فيها بطن الأم, ولكن الله يقلبه وينزل رأسه ويخرج هذا الجنين.

لو استطعنا أن نتحدث مع هذا الجنين قبل أن يغادر عالم الأرحام وقبل أن يخرج إلى الحياة, وقلنا له: أيها الجنين! سوف تخرج من هذا الرحم ومن هذه الظلمات ومن هذا الضيق إلى دنيا واسعة فيها سماوات وأرض وشمس وقمر وجبال وأنهار وبحار وأشجار وعمارات وطائرات وسيارات.. إذا حدثناه بهذا الكلام هل يصدق؟

سيقول لنا: أنتم تعيشون على الخرافات, أنتم رجعيون تؤمنون بالخرافة, سماوات! أرض! شمس! قمر! أين هي..؟! وينظر إلى بطن أمه فلا يرى إلا الطحال والكبد ويقول: ليس هناك شيء إلا بطن أمي, ولا يؤمن بأي شيء آخر؛ لأنه لم ير شيئاً.

قلنا له: شكراً هذه معلوماتك، وأنهينا الحديث معه, وخرج إلى الدنيا، وبعد أن عاش أربعين أو عشرين سنة جئنا وقلنا له: يا فلان!

قال: نعم.

قلنا: أجرينا معك محادثة وأنت في رحم أمك وقلنا لك: بأنك سوف تخرج إلى الدنيا هذه واسمع كلامك, ولما سمع كلامه قال: لقد كنت مخطئاً, فلمَ أنكرت؟

قال: لأني قست الدنيا على عالم أمي, وكنت أظن أن ما في الدنيا إلا بطن أمي, ثم تبين لي أن هناك دنيا واسعة ومعلوماتي كانت غلط.

كذلك أيها الإخوة! حينما نحدث الناس عن الجنة والنار، والبعث، والصراط، والحوض، وعن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وعن الحقائق الإيمانية في الآخرة إذا حدثناهم بها فعليهم أن يعرفوا أنهم لن يستطيعوا أن يدركوها كما لم يستطع ذلك الطفل أن يدرك هذه الحياة؛ لأن نسبة عالم الدنيا إلى عالم الآخرة كنسبة عالم الرحم إلى عالم الدنيا, ولكن عليهم أن يؤمنوا بها، والذي يكذب ويقول: أين الجنة وأين النار؟ مثل ذلك الطفل الذي يقول: أين السماوات والأرض؟ ولكن لما رآها آمن بها، وكذلك الإنسان يوم يموت يرى الجنة ويرى النار، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا من أجل أن يصحح الوضع مع الله, ومن أجل أن يعبد الله، ولكن لا يجاب, ولذلك يقول الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12] -نظرنا كل شيء- فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] وقال سبحانه في سورة الأنعام: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28].

مراحل عالم الطفولة

وبعد ذلك يخرج الجنين, ويلاحظ عند خروج الجنين ثلاثة أشياء:

ملاحظات في عالم الطفولة

أول شيء يخرج باكياً، ليس هناك طفل في الدنيا يخرج ضاحكاً, الأطفال جميعهم عربي وعجمي وسعودي وهندي وأمريكي إذا خرج إلى الدنيا فإنه يبكي, لماذا؟ قال العلماء: كان في بطن أمه في ضيق وخرج إلى السعة, كان في الظلمات وخرج إلى النور, المفروض أنه لما يخرج إلى السعة يضحك, لكن لماذا يبكي؟! لا يوجد مولود في الدنيا يخرج وهو لا يبكي, إلا عيسى عليه السلام فإنه خرج محفوظاً بأمر الله لم يقدر عليه الشيطان.

أما كل مولود فيخرج باكياً كما أوضح الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ينزغ الإنسان في جنبه الأيسر إذا خرج) كأنه يعلمه ويشعره ببدء المعركة, فيبكي الطفل.

- أن الولد يخرج قابضاً كفه, لا يوجد أحد يخرج ويده مفتوحة, لماذا؟ قالوا: هذا يعبر عن حرصه على الدنيا وعن استعداده للصراع.

- أن القابلة أو الممرضة أول عمل تعمله بعد خروج الجنين, قطع الحبل السري بالمقص، أي: تقطع رزقه الذي أجراه الله له وعاش عليه تسعة أشهر, لكن الله لم يقطع رزقه، إذا قطعوا رزقه الذي كان يأتيه عن طريق الحبل السري من أمه نقل الله الطعام من الحبل السري إلى الثدي, فتجد الأم ثديها ناشفاً ولا يوجد فيه شيء, ولكن ما أن يضع الطفل الصغير فمه على هذا الثدي ويمصه حتى تحن عليه الأم وتشفق عليه وترحمه، ثم يترجم هذا الحنان وهذه الشفقة في لبن من أحسن هيئة وأحسن كيفية لا حار ولا بارد، ولا حلو ولا حامض, من أخرجه من بين الدم والعروق؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.

ولقد قال العلماء والأطباء: إن أفضل لبن يتغذى به الطفل هو لبن الأم؛ لأن الله خلقه وجعله دواءً له, وعدول الأم عن إرضاع ولدها من ثديها إلى الحليب الصناعي خطأ, ويترتب على ذلك مشاكل كثيرة تعاني منها الأم نفسها؛ لأن بعض الأمهات تقول: أنا لا أريد أن أرضع ابني أو ابنتي, لماذا؟ قالت: أريد أن أحافظ على رشاقتي, تريد أن تبقى رشيقة دائماً, ولكن أثبت الطب الحديث أن عدم إرضاع الطفل يسبب للمرأة أمراضاً منها سرطان الثدي، فسرطان الثدي عبارة عن خلل في نمو الخلايا الموجودة في الثدي، ويترتب عليه انتشار غير حميد يسمونه بالانتشار الخبيث، ثم يؤدي إلى استئصال الثدي كله بسبب عدم إرضاع الأم ولدها من ثديها.

أيضاً رابطة الحنان والحب والرحمة والشفقة بين الأم والابن تنعدم بسبب الإرضاع عن طريق الحليب الصناعي؛ لأنها إذا أرضعته وحنت عليه وضمته إلى صدرها وربته يمتلئ قلبها رحمة وحباً وتعلقاً به, وهو أيضاً يبادلها نفس هذه المشاعر وينعكس هذا على بره بها إذا كبر, فيصبح باراً لها قائماً بواجبه نحوها لماذا؟ لأنه يرد لها شيئاً من الجميل, ولكن من أول ما جاء المولود تركته وجعلته يرضع من الحليب الصناعي؛ ولذا تجد بعض الأولاد لا يحس أن أمه أمه, ولا يحن إليها ولا يرحمها ولا يحبها وهي أيضاً لا تحبه لهذا السبب, فلا بد أن ترضع الأم ابنها.

نداء للشباب قبل الزواج

الله تبارك وتعالى أمر بتهيئة هذا المولود وإعداده قبل الزواج ليقوم بالرسالة التي خلقه الله عز وجل لها وهي العبادة, فيوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم إذا أراد أن يتزوج أن يكون له هدف في الزواج: وهو أن يبحث عن ذات الدين يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في البخاري : (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك) وهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يوفق في ذات الدين, كأنه امتلأت يداه بالتراب, يعني: إذا لم يكن عنده ذات الدين، فليس عنده زوجة ما عنده إلا تراب، صحيح أن الإنسان يود أن تكون امرأته ذات دين ومعها شيء من الجوانب الأخرى هذا مطلوب مثل: أن تكون جميلة، وذات مال, وذات حسب ونسب, لكن أهم شيء أن تكون ذات دين، فإن حصلت على ذات الدين فقد جاءتك البركة من كل جانب ولو قصر عليها شيء من الجمال, أو قصر عليها شيء من الحسب, قال تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] ولو كان ما عندها مال, لكن افرض أنها ذات مال أو ذات جمال أو ذات حسب وليس عندها دين والعياذ بالله فهذه لا خير فيها, مهما بلغت وكانت, إذاً عليك مسئولية وهي أن تتزوج ذات الدين، لكن من الذي يهيئ ذات الدين ويعدها؟ الآباء, ولهذا مسئولية إعداد البنات مسئولية الوالدين عندما يقول الشرع للشاب: لا تتزوج إلا ذات الدين.

مسئولية الوالدين في تربية البنات

أيها الآباء! ربوا بناتكم تربية دينية من أجل يتزوج بها صاحب الدين, لكن من أين يتزوج صاحب الدين إذا كانت البنات فاسدات؟! قد يضطر أن يتزوج بالفاسدة، وبالتالي تقوم الأسرة على أساس فاسد, ويأتي نسل وجيل فاسد تفسد معه الحياة, لكن الإسلام يقول لمن أراد الزواج: تزوج ذات الدين، ومعنى هذا: أيها الأب! رب ابنتك على الدين, وأنشئها نشأة إسلامية, وأيتها الأم ربي ابنتكِ على الصلاح والتقوى، فالدور الرئيسي في التربية للأم، فإذا كانت الأم صالحة كان الأبناء صالحين, وإذا كانت الأم فاسدة فالأبناء فاسدون, فالأم التي تكذب يكون أولادها كذابين, والأم التي لا تصلي فأولادها لا يصلون, والأم الخائنة يكون أولادها خونة, والأم الزانية يكن بناتها زانيات، لماذا؟ لأنهم يتخلقون بأخلاقها, من أين جاءنا خالد وعمار وصهيب؟ من أين جاءنا الأبطال؟ إلا من الأمهات الصالحات, ومن أين جاءنا الخنافس والحشرات الذين ملئوا الدنيا بالفساد إلا من الأمهات الفاسدات.

الأم مدرسة إذا أعددتها>>>>>أعددت شعباً طيب الأعراق

والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (فاظفر بذات الدين) حث على الدين بشكل أكبر لماذا؟ لأن دينها لها ولك ولأولادها.

إذاً مسئولية إعداد البنت مسئولية مشتركة بين الأب والأم, فالذي يربي بناته على الفسق والمعاصي يتسبب في إيجاد أمهات فاسدات وجيل فاسد، وعليه إثمه بين يدي الله, بل بعض الآباء الآن يضع لوحة فوق البيت ويقول للناس: لا تقربوا مني فبناتي لا يصلحن لكم -هذا لسان حاله- فالذي يركب (الدش) فوق بيته, هذا كأنه يرسل برقية ورسالة إلى الأزواج بفساد هذه الأسرة فإذا أراد أن يتزوج سأل: كيف بناته؟ قالوا: والله فوق بيته (دش)، قال: لا أريد بناته, لماذا؟ لأن فوق البيت (دش)، قد علمهم الفساد، فليس من فساد في الأرض إلا وقد أخذوه ودرسوه في الليالي الحمراء والسوداء, فما يأتي أحد يتزوج إلا واحد مثله, أما صاحب الدين فلا يأتيه, فإذا جاء السيئ وأعطيته ابنتك فقد قطعت رحمها, وسوف يريك النجوم في وسط النهار، يعني: سوف ترى منه كل ما تكره، لكن إذا ربيت ابنتك على الدين وحفظتها من مساوئ الأخلاق، وهيئتها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اخترت لها صاحب الدين، وأخذها هذا الرجل إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها, فإذا قامت الخلية الأولى من خلايا المجتمع وهي الأسرة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدت الحياة.

من آداب الإسلام في ليلة الزفاف

بعد ذلك إذا تزوج الرجل بذات الدين يعلمه الإسلام آداباً:

أول أدب في أول ليلة والتي يسمونها ليلة العمر -ليست القضية قضية شهوة ولا غرائز، لا. إنما قضية شرع ودين- أنك إذا دخلت عليها في غرفتها أن تضع يدك على ناصيتها وتقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه, وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تصلي لله ركعتين شكراً لله على هذه النعمة, وبعد ذلك إذا أردت أن تأتي أهلك فلا تنس أن تذكر الله قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق ولد لم يقربه شيطان) ولذلك ترون بعض الأولاد كالشياطين لربما نسي أبوه أن يسمي تلك الليلة, لذلك تجد الأب نفسه يقول: والله ولدي هذا شيطان. وتجد ولداً آخراً هادئ طيب صالح مهتدي، لا تأتِ وأنت كالبهيمة ما عندك دين، لا. أنت لك عقل أنت مسلم، تذكر اسم الله إذا أتيت أهلك، في تلك اللحظات يطغى على الإنسان جانب الشهوة والنزوة فينسى أن يذكر اسم الله, فلا تنس هذا الذكر: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.

وورد في الحديث أن الرجل إذا لم يذكر الله في هذه اللحظات يأتي الشيطان وينعقد على إحليل الرجل -قضيب الرجل- ويجامع المرأة مع الرجل, فيأتي الولد مشترك بينهما والعياذ بالله.

من السنن النبوية الواردة من حين الولادة إلى بلوغ سن الرشد

بعد أن تلد الأم وليدها، من السنة أن يكون أول صوت يدخل في أذن الولد هو الأذان؛ حتى يطرق سمعه أول كلمة: الله أكبر..الله أكبر..الله أكبر..الله أكبر ...إلخ، بعد ذلك إذا بدأ يتكلم تعوده على كلمة: لا إله إلا الله, قبل (ماما وبابا وجدة..) وغيرها من الكلمات فينبغي أن تعوده قول: لا إله إلا الله..لا إله إلا الله ..لا إله إلا الله وتعلمه هذه الكلمة, بعد أن يكمل السادسة من عمره ويبدأ في السابعة تعوده على الصلاة للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) اختلف أهل العلم في تحديد وقت هذه السبع الواردة في الحديث هل يكون في بداية السبع، أو إذا انتهت السبع؟ قالوا: لسبع يعني: إذا بدأ, ومن الناس من قال: أنه إذا أكمل السبع, لكن الأولى والأقرب للصحة: أنه إذا بدأ السابعة. فإذا بدأ في السابعة تقول له: تعال يا ولدي! أنت الآن دخلت السنة السابعة لا بد أن تصلي, الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نعلمك كيف تصلي؟ فتأخذ الإناء وتأخذه إلى مكان الوضوء وتريه كيف يتوضأ؟ وتأخذه معك في صلاة الظهر, وتقول له وأنت ذاهب إلى المسجد: يا ولدي! نحن ذاهبون إلى المسجد وهذا بيت الله .. بيت العظيم .. بيت الجليل, لا يجوز لأحد أن يجري فيه، ولا يتكلم، ولا يصيح، ولا يعبث بالمصاحف، ولا يلعب، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً, وإنما يجلس بأدب؛ لأن البعض يأخذ ولده إلى المسجد لكن يأخذه من غير تعليم, فيعبث الولد في المسجد، ويمزق المصاحف، ويجري، ويتحول المسجد إلى حديقة أو روضة أطفال, لا. إذا جئت بالولد فأت به وعلمه, ثم أمسكه بيدك ولا تمش وحدك وتتركه في طرف الصف, صل بجانبه من أجل أن تراقب تصرفاته, وعليك أن تتابع ولدك وتقول: هل صليت يا ولد؟ اسأله باستمرار عن كل صلاة؛ لأن الله يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] ليس مرة فقط وإنما تابعه بشكل مستمر لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] الرزق على الله، يقول الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه:132] هذه وظيفتك, فكثير من الناس الآن اهتمامه بالرزق فقط, الرزق على الله, ووظيفتك أنت الصلاة, لو أن مسئولاً كبيراً قال لك: تعال هذه المهمة نفذها ومسألة الرزق هذه عليّ لا تهتم, ماذا تقول؟ تقول: حاضر أنا مستعد؛ لأن هذا المسئول متكفل برزقي، فكيف تثق في الناس ولا تثق في ربك؟! الله يقول: لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] رزقك على الله فعليك أن تهتم بالصلاة.

وعند دخوله العشر سنوات، تنتقل من مرحلة الأمر والتعليم إلى مرحلة المتابعة والعقوبة، ليس بالضرب مباشرة, في البداية تتابعه؛ هل صليت يا ولد؟ قال: نعم. صليت، تسأله: أين صليت؟ قال: في المسجد, من صلّى بكم؟ قال: فلان الفلاني, ماذا قرأ في الركعة الأولى؟ ومن صلّى عن يمينك ويسارك؟ لتعرف هل هو صادق أم كاذب؟ ويعلم أنه متابع, وبعد ذلك إذا رأيت قصوراً فلا مانع من الضرب؛ لأن هذا هو توجيه النبي صلى الله عليه وسلم المعلم الأول للإنسانية (واضربوهم عليها لعشر).

بعد ذلك يصل سنه خمسة عشر عاماً ويبلغ عند ذلك سن الرشد, وبلوغ سن الرشد يكون بإحدى ثلاث: إما بالاحتلام، أو بالإنبات -بأن ينبت شعر في العانة- أو ببلوغ الخامسة عشرة سنة, إذا حصلت إحدى هذه العلامات حصل الرشد عنده وأصبح مخاطباً بتكاليف الشرع, ولذلك يلزمك أن تشعره أنه أصبح الآن مسئولاً عن جميع تصرفاته مخاطباً بتكاليف دينه، وأنه الآن مؤاخذ, والبداية كلها كانت عملية تدريب وتعليم فقط, أما الآن لم تعد عملية تدريب بل أصبحت مؤاخذاً, فإذا وقعت في أي خلل فإنك مستحق لعقوبة الله عز وجل.

المرحلة الثانية: مرحلة التكليف

تكلمنا عن المرحلة الأولى وهي: عالم الأجنة في الأرحام, والمرحلة الثانية هي: عالم الحياة الدنيا ويبدأ ما بين سن التكليف إلى لحظة الوفاة, والناس يقضون هذه المرحلة منقسمين إلى فريقين:

حياة المتقين

فريق قطع مراحل حياته متزوداً بكل ما يرضي الرب عز وجل, ممتثلاً أوامر الله عز وجل مجتنباً لنواهيه, مصدقاً بأخباره, عاملاً بأمره، منتهياً عن نهيه, يدور مع الكتاب والسنة, يسير حياته على وفق أمر الله, فلا ينظر إلا إلى ما أحل الله, ولا يسمع إلا ما أحل الله, ولا يتكلم إلا بما يرضي الله, ولا يمد يده إلا فيما أحل الله, ولا يطأ بفرجه إلا فيما أباح الله, ولا يسير بقدمه إلا فيما يحبه الله, ولا يُدخل بطنه إلا ما أحله الله, تفكيره في ليله ونهاره كله مع الدين, وليس معنى قولنا: إنه مع الدين أنه لا يعيش في الدنيا، لا. سيكون تاجراً لكن تاجر صادق بر, سيكون موظف لكن موظفاً أمين صادق, وسيكون كل شيء في الحياة بالدين؛ لأن الدين يصلح دنيا العبد وآخرته، سيترك فقط الخبائث والشرور والآثام والمعاصي, وهكذا يعيش إلى أن تنتهي أيامه.

حياة الغافلين

فريق آخر قطعوا مراحل حياتهم متزودين بسخط الله, ينتقلون يوماً بعد يوم فيما يسخط الرب, ينظرون بأعينهم إلى ما حرم الله ولا يبالون بالحلال والحرام, يسمعون بآذانهم كل فحش وخنا من غير أن يبالوا أهذا حلال أم حرام؟ يتكلمون بألسنتهم في كل ما يريدون من غير قياس لحلالٍ أو حرامٍ, يطئون بفروجهم في الحلال والحرام, يأكلون في بطونهم الحلال والحرام, يمدون أيديهم إلى الحرام, يسيرون بأقدامهم إلى الحرام, يعيشون وهم يتقلبون في المعاصي والذنوب حتى يموتوا وهم على ذلك, هؤلاء هم كما قال الله: (شر البرية) والفريق الذي ذكرناه آنفاً والأولين هم (خير البرية) يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] أي: شر الخليقة, فهم شر مَن خلق الله, أعوذ بالله من هذه العيشة أن تعيش في الدنيا وأنت على الشر والمعاصي.

أما أولئك قال الله عز وجل عنهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7-8] ثم تنتهي الحياة في الدنيا في المرحلة الثانية.

عالم البرزخ

المرحلة الثالثة: وتأتي المرحلة الثالثة من الحياة وهي: عالم البرزخ في القبر.

وعالم البرزخ يختلف عن عالم الدنيا كاختلاف عالم الدنيا عن عالم الأرحام, يوضع الناس في قبورهم وينعم أهل الإيمان ويعذب أهل الكفر والفسوق والعصيان, ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب, كيف؟ قد يكون ما بين القبرين إلا نصف متر, أحدهما: في روضة من رياض الجنة، والآخر: في حفرة من حفر النار ليس بينهما فاصل إلا شيء يسير، كيف؟

يجيب على هذا السؤال ابن القيم رحمه في كتابه الروح يضرب مثالاً لذلك فيقول: ينام الرجلان على سريرين مختلفين, ويرى الأول رؤيا حسنة، يرى أنه تزوج وأنه دخل بزوجته, وعاش معها ليلة العمر, ويرى الثاني رؤيا سيئة، رأى أن رجلاً اعتدى عليه بسكين وجعل يطعنه في بطنه وفي قلبه وفي جسمه .. مضت ليلته وهو يُطعن, فعاش طوال الحلم والليل في عيشة سيئة, وفي الصباح جاء شخص وأيقظ الأول وقال له: قم, ولما قام وإذا به ما عنده المرأة, فيتلفت فإذا بالسرير والفراش ما عليه أحد, ماذا سيقول؟

يقول: ليتك ما أيقظتني، لقد كنت في حلم رائع، كنت أتمنى لو مكثت فيه سنة.

وذاك إذا جاء شخص أيقظه: يا فلان قم, أول ما يقوم يقول: الحمد لله.. وينظر إلى جسمه هل هناك طعن ودم, فإذا به لم ير شيئاً.

ما لك؟

قال: الحمد لله، والله لقد كنت في حلم مزعج، رأيت شخصاً يطعنني بالسكين طوال الليل في قلبي وبطني وفي صدري وفي جنبي, الحمد لله أن هذا حلم وليس بحقيقة. فهذا تنعم في النوم، وهذا تعذب في النوم، ولكن من التي تنعمت وتعذبت عندهم؟ إنها الروح, تنعمت روح هذا في المنام فانعكس نعيم الروح على الجسد، وشعر الجسد باللذة بالرغم أنه لا توجد امرأة, وذاك تعذبت روحه في المنام بالطعن فتعذب الجسد بالرغم من أنه لا يوجد طعن في الجسد, كذلك الناس في قبورهم، صاحب الإيمان في قبره روحه تنعم, رغم أن جسده أصبح تراباً, لكن يتنعم الجسد عن طريق الروح, وذاك صاحب الكفر تتعذب روحه في قبره ومع أن البدن قد أصبح تراباً, إلا أنه يناله العذاب حتى تقوم القيامة.

وتتم مساءلة للإنسان في قبره في هذه المرحلة عن طريق ملكين من الملائكة هما: منكر ونكير, يسألان الرجل ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟

ومن رحمة الله أن الله كشف لنا الأسئلة وأخبرنا بالامتحان؟ وقال: الأسئلة ثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ الجواب سهل: ربي الله, ديني الإسلام, نبيي محمد صلى الله عليه وسلم, لكن من الذي يقول هذه الكلمات الثلاث؟ لا يتكلم هناك إلا الصدق يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] يلهمه الله حجته ويقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم -اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- يا أخي! ما أعظم أن يثبتك الله وتقول هذه الكلمات.

جاء في حديث البراء بن عازب -في مسند أحمد وفي سنن أبي داود والحديث صحيح- مرفوعاً قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالاً على الآخرة، نزلت من الجنة ملائكة معها حنوط من الجنة وكفن من الجنة، فيجلسون له مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الطيبة -كانت في الجسد الطيب- اخرجي إلى روح وريحان وإلى رب غير غضبان, فتخرج روحه وتسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، فلا يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك الحنوط والكفن, ثم يصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، حتى يوصل بها إلى الرب، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -أي: احجزوا له مكاناً في عليين أعلى درجات الجنة- وأعيدوا روحه إلى جسده فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه إلى جسده، حتى إنه ليسمع قرع نعال الذين دفنوه ويأتيه الملكان فيقعدانه، ثم بعد ذلك يسألانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله المؤمن ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, فيقولان له: صدقت, وينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي, افرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة, فيأتيه من روحها ونعيمها ويقول: رب أقم الساعة، وينام كما ينام العريس) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مثل هؤلاء.

أما الآخر والعياذ بالله قال: (وأما العبد الفاجر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، نزلت من النار ملائكة معها مسوح من النار، فيجلسون له مد البصر, ويأتيه ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب, فتتفرق روحه في جسده، ثم يجذبها كما يجذب السفود من الصوف المبلول, فتخرج ثم لا يدعوها في يده طرفة عين, حتى يأخذوها فيضعوها في تلك المسوح، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها -لا يسمح لها بدخول السماء- ثم قرأ رسول الله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]) إذا دخل البعير من ثقب الإبرة دخل الجنة, وهذا يسمونه التعليق على المستحيل أي: مستحيل أن يدخل الكافر الجنة.

قال: (ثم يقول الله عز وجل: أعيدوا روحه إلى الأرض، واكتبوا كتابه في سجين، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه ترمى من السماء -يقول الله عز وجل: فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]- فتعود روحه إلى جسده، ويأتي الملكان ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيضله الله ولا يعرف الجواب -قال الله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]- فيقول: هاه.. هاه.. هاه.. لا أدري, فتقول: كذبت لا دريت ولا تليت, وينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي, ثم يضرب بمطرقة من حديد, ثم يضيق عليه في القبر حتى تختلف أضلاعه، ثم يفتح له باب إلى النار ويقال له: نم كما ينام اللديغ).

هذه فترة البرزخ, ولهذا القبور على صنفين -كما ذكرنا- وعذاب القبور حق، وقد أُمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر، ففي الصحيحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة -والأمر موجه إلى الناس والأمة أيضاً- أن يقولوا قبل السلام وبعد الانتهاء من التشهد: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) فمن السنة أن تقول هذا الذكر؛ لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم.

عالم يوم القيامة

ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة من هذه الرحلة الطويلة, وهي: عالم يوم القيامة.

القيامة وتغير معالم الكون المشهود

هذا اليوم يوم عظيم سمي بأسماء كثيرة في القرآن الكريم: يوم القيامة, يوم الآزفة, يوم الزلزلة, الطامة, الصاخة, القارعة, لماذا؟ لأنه يحصل فيه تغيير لمعالم الكون المشهودة التي نراها الآن ويتبدل كل شيء, قال تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:1-2] وقال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:1-4] وقال سبحانه: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الانشقاق:1-3] فكل شيء يتغير, ولا يبقى مكانه, فيحصل للإنسان رهبة وخوف, فالآن لو هبت رياح أو أعاصير أو طغى البحر على البر كيف يكون الناس؟! كيف يكون خوفهم، فكيف إذا رأوا السماوات والأرض تدمر، والشمس تكور، والبحار تسجر؟!! يقول الناظم في هذا المعنى:

مثل لنفسك أيها المغرور>>>>>يوم القيامة والسماء تمور

قد كورت شمس النهار وأدنيت>>>>>حتى على رأس العباد تسير

وإذا الجبال تقلعت بأصولها>>>>>ورأيتها مثل السحاب تسير

وإذا البحار تأججت نيرانها>>>>>ورأيتها مثل الحميم تفور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت>>>>>فتقول للأملاك: أين نسير؟

فيقال: سيروا تشهدون فضائحاً>>>>>وعجائباً قد أحضرت وأمور

وإذا الجنين بأمه متعلق>>>>>يخشى الحساب وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف لهوله>>>>>كيف المقيم على الذنوب دهور؟

فمن هول يوم القيامة يكون الولدان شيباً، الولد الصغير يشيب، فكيف أنا وأنت؟ قال سبحانه وتعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17] وقال تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:18] وقال سبحانه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] وقال سبحانه: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30] وقال سبحانه: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:18-19].

نشر الصحف

في ذلك اليوم الرهيب يحصل للناس أهوال عظام وأمور جسام, أول تلك الأمور تطاير الصحف، تطير كتب الناس في السماء، ويؤمر كل واحد أن يأخذ كتابه, فآخذ باليمين وآخذ بالشمال, يأتي الشخص فيأخذ الكتاب باليمين إن كان من أهل اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم- ونظر فيه رأى الحسنات كلها؛ لأن السيئات يغفرها الله للمؤمن, فإذا رآه قال: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] يقول: انظروا شهادتي! مثل الطالب الذي يأتي بالشهادة وهي مملوءة بالعلامات الكبرى والدرجات الممتازة, فيذهب يريها لأبيه ولأمه ويخبر الناس كلهم, بعض الطلاب يقف في الشارع وهو لا يعرف أحداً من الناس, كل من مر يقول له: انظر شهادتي, فيقال له: وما شأني أنا بشهادتك؛ لكن من بالغ فرحته يجب أن يعلم الناس كلهم بخبر نجاحه وإن كانوا لا يعرفونه.

لكن البليد الذي شهادته كلها دوائر حمراء وساقط لا يظهرها لأحد, وإذا ذهب إلى البيت وقد أعلنت النتيجة وسأله أبوه أو أمه: أين النتيجة؟ قال: لم تظهر بعد -وهي قد ظهرت- بعد يومين أو ثلاثة أيام, وفي اليوم الثاني يقول: ما طلعت, فيقول أبوه: زملاؤك ظهرت نتائجهم لماذا أنت؟ يقول: ربما ظهرت سوف أذهب استلمها غداً, يريد أن ينزل الخبر بالتقسيط, لكيلا يفاجئ الأب بالخبر, وبعد ذلك لما يدخل البيت يقول: الحمد لله أبشركم, قالوا: خير, قال: سقطت في مادتين فقط, وهي ثمان وليست اثنتين ثم يقول: الأمر يسير وهذه المادتان سوف أنجح فيهما خلال الصيف, ولكن الذي لم ينجح في سنة لا ينجح في شهرين، الفاشل فاشل, والذي همته دنيئة همته دنيئة.

كذلك أهل الإيمان إذا نجحوا يوم القيامة هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] لكن لمن يظهرها؟ أتدرون من يسمع بهذا الخبر؟ أهل المحشر كلهم, كل من على أرض المحشر يسمعون خبر نجاحك إذا قلت لهم: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24].

فالذي لا يأخذ كتابه بيمينه يأخذه بشماله, هو لا يريد أن يأخذ الكتاب بالشمال, فيحاول يأخذ الكتاب باليمين فيضرب على كتفه فتسقط يمينه, فلا تبقى إلا شماله فيأخذ الكتاب بالشمال، فإذا أخذه رأى السيئات؛ فيرى قطع الصلاة والزنا والخمور واللواط والربا وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والحلف الفاجر والكذب والغيبة والنميمة.. يرى كل شيء عمله, يقول الله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] وقال سبحانه: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] ويقول سبحانه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] من منكم يذكر ماذا عمل قبل شهر؟ ماذا تغدينا ذلك اليوم؟ لا ندري, من زرنا؟ لا ندري, من زارنا؟ لا ندري, هل صلينا الفجر في المسجد؟ لا ندري, هل عصينا الله في ذلك اليوم؟ لكن الله سبحانه يعلم ذلك كله، (أحصاه الله ونسوه) يقول الله سبحانه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] أي: الكتاب وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] فعندما يرى الفضائح يخفيها ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27] فصاحب المال يقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28] وصاحب السلطان يقول: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29] فيقول الله للملائكة: خُذُوهُ [الحاقة:30] فيبتدره سبعون ألف ملك, إذا قال الله: خذوه فلا يقوم ملك واحد وإنما سبعون ألف ملك, الملك الواحد يقوم يأخذ بيده سبعون ألف فيلقيهم في النار من قوته, لكن لتنفيذ الأمر, ماذا يفعلون به؟ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] والغل: هو وضع القيد في اليدين والرجلين والرقبة, فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن:41].. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:31] أي: أوصلوه, ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] تدخل من فمه وتخرج من دبره, يقول في الحديث: (والذي نفسي بيده لو أن حلقة من هذه السلسلة وضعت على جبال الدنيا لأرفضتها) وهي سبعون ذراعاً، لماذا سبعون ذراعاً؟ لأن حجم الإنسان يومئذٍ كبير ليس بالشكل الذي عليه الآن, فالإنسان الذي في النار والعياذ بالله كما في الحديث الصحيح الذي ذكره السيوطي في الجامع : (أنه يضخم الإنسان حتى يكون مقعده في جهنم مثل ما بين مكة والمدينة) المقعد أربعمائة وعشرون كيلو متراً, وضرسه مثل جبل أحد, هذا الضرس الواحد فكيف بالرأس؟! جبل أحد واحد كيلو متر، هذا الضرس, عد اثنين وثلاثين ضرساً يعني: اثنان وثلاثون جبلاً والرأس مثل اثنين وثلاثين جبلاً من مثل جبل أحد تقريباً إذاً كيف الجسم؟!

أما حجم الجلد فهو مثل سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وكل جلد غلظة مسيرة ثلاثة أيام, تبدل في كل يوم أربعمائة مرة من شدة الاحتراق، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] لماذا تورط نفسك هذه الورطة كلها ولديك طريق للسلامة، طريق سهل ميسور جداً هو عبادة الله سبحانه، في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأقل أهل النار عذاباً فيقال له: هل تود أن تفتدي مما أنت فيه بملء الأرض ذهباً, فيقول: نعم ربي, قال الله: قد طلبت منك أهون من ذلك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً, وتطيعني ولا تعصيني فرفضت) وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوه [الحاقة:31-32] ما السبب؟ قال سبحانه: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33].

وزن الحسنات والسيئات

بعد ذلك يأتي الهول الثاني وهو هول الوزن قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] إن الله لا يظلم مثقال ذرة, لا تتوقع أن الله يضع حسناتك في موازين غيرك, أو يضع سيئاتك في موازين غيرك لا, والله إن حسناتك لك وسيئاتك عليك, قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] وقال سبحانه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90].

الحوض وهيئته

وبعد الوزن يأتي الحوض, والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن, نهر أعطاه الله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وعدد كيزانه -الكئوس- كعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة واحدة، لم يظمأ بعدها أبداً) قال العلماء: كيف يشرب في الجنة من أنهار الماء والخمر واللبن وهو لم يظمأ؟ قالوا: يشرب للتنعم ولا يشرب من العطش؛ لأن العطش انقطع عند الحوض, وإنما تشرب هناك من أجل الراحة والتنعم بما في الجنة من نعيم -نسأل الله للجميع من فضله-.

الصراط وصفته

بعد ذلك يأتي الصراط: وهو جسر ممدود على متن جهنم, دحض مزلة -أي: يسقط- أدق من الشعر, وأحد من السيف, وأحر من الجمر, وليس هناك طريق إلى الجنة إلا منه, ووسائل المشي عليه هو العمل, يقول صلى الله عليه وسلم: (منكم من يمر كالبرق, ومنكم من يمر كلمح البصر, ومنكم من يمر كشد الخيل, ومنكم كأجاويد الركاب -أي: الإبل- ومنكم كشد الرجل الذي يجري, ومنكم من يخطو خطوة ويسقط في الثانية, ومن الناس من يخطو خطوة والثانية في جهنم)؛ لأنه ما سار في طريق الله خطوة واحدة, الزم الصراط هنا تمشي هناك, أما من ضيع الصراط هنا فإن قدمه لا تثبت على الصراط هناك، والله تعالى يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] وقال سبحانه: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:126-127].

الذين يظلهم الله في ظله

بعد ذلك تدنو الشمس من الرءوس، حتى يكون ما بين الشمس ورءوس العباد مسافة ميل, قيل: إن الميل: مسافة, وقيل: ميل المكحلة, حتى إن أدمغة الناس تغلي كما يغلي الماء في القدور, والمظلة لا تكون إلا لسبعة أصناف يستظلون بمظلة الرحمن: (إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل معلق قلبه بالمساجد -أي: يلازم الصلاة في المساجد- ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله رب العالمين, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه, ورجل أنفق نفقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه) هؤلاء يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

المرحلة الأخيرة: الجنة أو النار

وبعد ذلك أيها الإخوة! ينتهي الفصل بين الناس والحساب والجزاء وينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير, يساق أهل الجنة إلى الجنة سوق التكريم والتشريف الذي جاء في سورة الزمر يقول الله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:73-74].

ثم يساق الفريق الثاني -أعوذ بالله وإياكم من ذلك- إلى النار كما قال الله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71] من باب التقريع والإهانة والنكاية بهم, كيف دخلتم النار؟! ألم يأتكم كتاب من الله؟! ألم يأتكم رسل يتلون عليكم كتاب الله وينذرونكم هذا اليوم يعلمونكم أن هناك يوم بعث؟! لأن الملائكة لا تتصور أن أحداً يدري بيوم القيامة ولا يعمل لذلك اليوم: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].

نعيم الجنة

أيها الإخوة! في الجنة من النعيم ما لا يتصوره العقل, أنت يا أخي في الله! يا أيها المؤمن! الملتزم بدين الله لا تتصور وأنت تترك المعاصي والشهوات أنك خسرت شيئاً، لا والله, والله ما تترك شيئاً من أجل الله إلا عوضك الله في الجنة ما هو أعظم منه, إذا غضضت بصرك عن النساء في الدنيا فتح الله بصرك للنظر إلى وجهه في الدار الآخرة, وأيضاً فتح بصرك للنظر إلى الحوريات في الجنة، اثنتين وسبعين حورية, الواحدة منهن خير من الدنيا وما عليها, إذا حصنت سمعك من سماع الأغاني في الدنيا تسمع يوم القيامة خطاب رب العالمين، يحدثك الله عز وجل كما يحدث أحدكم الآخر, وتكلم الله ليس بينك وبينه ترجمان, وتسمع أيضاً غناء الحور العين, ورد في الحديث: (أن الله عز وجل يركب في ورق الجنة مزامير من مزامير آل داود، ثم تهب ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة, هذه الريح تمر على تلك المزامير فتعزف بألحان ما سمعت بمثلها الآذان, ثم يغني الحور العين على أنهار وضفاف حضيرة القدس يسبحن الله بكرة وعشياً, فيطرب أهل الجنة طرباً لم يطربوا مثله قبله ولا يطرب أحد مثله) هذه الأيام إذا لم تسمع الأغاني قالوا: أنت معقد, لماذا لا تسمع الأغاني؟ اسمع أغاني ومتع نفسك لكن تذكر الأغاني هناك, أما هؤلاء الذين يسمعون الأغاني التي حرمها الشرع سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاب أهل النار, جاء عمرو بن قرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ائذن لي في دفي بكفي -أي: ائذن لي بضرب الدف بالكف من أجل الكسب- يقول: ما وجدت كسباً غير هذا؟ قم قاتلك الله، ثم قال لما ولّى: هؤلاء وأمثالهم -أي: هذا المغني وأمثاله- يبعثون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة، كلما قاموا صرعوا) فأنت لا تخسر شيئاً ولكن تخسر الشر, والهون، وتكسب الرضا في الدنيا والآخرة, والخلود في جنة عرضها السماوات والأرض (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

عذاب النار

أما الأشقياء أجارنا الله منهم فيساقون إلى النار, وفي النار أيها الإخوة في الله! ما لا يتصوره العقل، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] فيها السلاسل والأغلال, فيها الحيات والعقارب, الفراش نار, والدفاء نار, والطعام زقوم, والشراب حميم, والظلال يحموم, يصيحون في النار صياحاً مرتفعاً يقول الله عنهم: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] فيقول الله : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] لقد عمرناكم في الدنيا وأعطيناكم فرصة للذكرى والعمل وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] بعد ذلك يدعون الخزنة -الخزنة: الملائكة المسئولة عن النار- يقول الله عز وجل حاكياً حال الكفار في النار: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49] يريدون إجازة ليوم واحد فقط من العذاب, فتقول الملائكة: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50] وبعد أن ينقطع رجاؤهم من الخزنة يرفعون الشكوى إلى خازن النار وهو مالك ويقولون كما قال الله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ ماذا قالوا؟ أخرجنا، هم يعلمون أنه ليس هناك خروج لذا يقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ يعني: موتنا، الموت أهون من هذه الحياة قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] يعني: هذا مكانكم المناسب لكم، لماذا؟ قال: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78] وبعد ذلك ينقطع رجاؤهم إلا من الله فيرفعون الشكوى إلى الله يقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:106-108] يقول عليه الصلاة والسلام: (فوالذي نفس محمد بيده ما يتكلم أحدهم ولا ينبس ببنت شفه، وإنما هو الشهيق والزفير) ما عاد في ولا كلمة، فإذا قال الله: (قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ما في كلام، لماذا؟ قال: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110] كنتم تضحكون عليهم في الدنيا أما في الآخرة: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111].

وبعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، جاء في الحديث: (أنه يؤتى بالموت على هيئة كبش، ثم يوقف بين الجنة والنار، ويدعى أهل الجنة ويقال لهم: هل تعرفون هذا؟ قالوا: هذا هو الموت, ويقال لأهل النار: أتعرفون هذا؟ قالوا: هو الموت, ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت, ويا أهل النار خلود فلا موت) فلا يكون نعيماً على أهل الجنة أعظم من هذا النعيم؛ لأنه طمأنهم على أنهم خالدون في هذه النعمة, ولا يكون عذاباً أشد على أهل النار من هذه الكلمة؛ لأنه قطع أملهم في الخروج من النار -نعوذ بالله جميعاً من عذاب النار-.

أخي في الله: أنت تسير وليس لك خيار إلا أن تسير فاسلك الطريق الصحيح, ولا تقل: إن طريق الإيمان والدين فيه مشقة، فهي مشقة تعقبها راحة وسعادة أبدية, ولا تغتر بما في طريق الفسق والمعاصي من اللذات، فإنها لذات مؤقتة تعقبها حسرات وعذاب طويل.

وهذا الكلام الذي نقوله أيها الإخوة ليس قصصاً ولا أساطير، وإنما هو حقائق جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المسلم العاقل إلا أن يستجيب لداعي الله حينما قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:13].

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يسلك بنا جميعاً سبيل الأبرار, وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا ما يسخطه ويأباه.

كما نسأله في هذه الليلة المباركة أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً.

اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

تحديد نوعية الجنين ليس من علم الغيب

السؤال: تقدم الآن الطب ووجد جهاز يعرف نوع الجنين ذكر أم أنثى قبل الولادة؟

الجواب: هذا ليس من أمور الغيب، أما بالنسبة لقول الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] هذه المفاتح خمس من ضمنها: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] فالعلم المذكور هنا ليس علم كونه ذكراً أو أنثى, وإنما العلم به في كل شئونه في حال كونه نطفة, لكن بعد أن تطور من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة ثم أصبح جهازاً كاملاً وله جهاز تناسلي خاص بالذكر، أو جهاز تناسلي خاص بالأنثى، أُمر ملك من الملائكة بنفخ الروح، ونوعه ذكر أو أنثى، وكتابة عمله وأجله وشقي أو سعيد, حينئذ لم يعد العلم عند الله وحده، بل أصبح العلم عند الله وعند الملائكة, وما دام أن الملائكة استطاعت أن تعرف نوعيته أصبح بإمكان الإنسان أيضاً أن يعرف بإمكانيته الحديثة نوع الجنين، وهذا ما حدث الآن عن طريق التصوير التلفزيوني الصوتي, يضعون الجهاز على بطن الأم ويرون في الشاشة نوعية الجنين إذا كان ذكراً أو أنثى طبعاً في مراحل نهائية من الخلق, لكن قبل ذلك لا يستطيعون أن يعرفوا شيئاً، وليس هذا تعارض مع ما ثبت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم طفل الأنابيب

السؤال: ما حقيقة طفل الأنابيب وما حكمها الشرعي؟

الجواب: المقصود بطفل الأنابيب: أن المرأة التي لا تحمل يكون عندها موانع مرضية من عملية تكُّون النطفة مع البويضة في الأنبوب التي تسمى: قناة فالوب, يأخذون الحيوان المنوي من الرجل، ويأخذون الخلية من امرأته ويضعونها في أنبوب حتى يحصل التلقيح, فإذا اكتمل التلقيح يعيدونها في الرحم وتحمل بها, هذا هو المراد بطفل الأنابيب.

حكمها الشرعي: أفتى العلماء بحرمة ذلك. لماذا؟ لأنه من الصعب ضبطها، فقد يوضع حيوان منوي لرجل آخر, قد يكون الرجل نفسه ليس عنده حيوانات منوية، لكن من أجل الربح المادي يأتي إلى الطبيب فيقول الطبيب: نعم نفعل لك بالأنبوب, ويأخذ الحيوان المنوي منه أو من أي إنسان، ما يدري الأب أن هذا حيوانه المنوي نفسه أم لا؟ وقد تكون البويضة ليست من الأم, وبالتالي يصعب السيطرة على الموضوع, فسداً للذريعة وقطعاً لها منعت، وقد أفتى بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ والشيخ ابن عثيمين ، والشيخ أبو بكر الجزائري , وقد اطلعت أنا على دراسة أعدها أحد الدكاترة في هذا الموضوع، فمن الصعب جداً ضبط هذه القضية، وبعض الأطباء يحاول أن يظهر هذا الموضوع حتى ولم يكن يفعل ذلك لماذا؟ من أجل سبق طبي، أو ربح مادي، أو شهرة وغير ذلك، حتى ولو لم يكن الموضوع صحيحاً.

درجة حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت...)

السؤال: ما صحة حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت ولكن ليقل: اللهم إن كانت الحياة خيراً لنا ...

الجواب: هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفيه توجيه للأمة أنه إذا نزل بك مرض أو نزلت بك مصيبة أو نزل بك شيء ما ألا تقول: اللهم إني أسألك الموت, لا تدري، فلعلك تسأل الموت وتدخل النار بهذا الموت, ولكن قل: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وأمتني إذا كانت الوفاة خيراً لي).

الفرق بين امتحان الدنيا والآخرة

السؤال: يا شيخ: نرجو منك أن تدعو لنا في الاختبارات؟

الجواب: جزاك الله خيراً على اهتمامك بالامتحانات, لكن يجب أن تكون اهتماماتك بالامتحانات الكبرى التي هي أعظم من امتحانات الدنيا, نرى الناس لما آمنوا بامتحانات الدنيا أصبحوا جادين فيها، المرأة والرجل والبنت والولد وكل الناس مهتمون ليتنا نهتم بالآخرة كما نهتم لامتحانات الدنيا.

ثم ما نسبة امتحانات الدنيا إلى امتحانات الآخرة؟ امتحانات الدنيا في بعض فصول الكتب, أما امتحان الآخرة ففي كتاب لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49].

امتحان الدنيا زمنه ساعة ونصف أو ساعتين أو ثلاث ساعات بالطويل, أما امتحان الآخرة ففي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, وأنت واقف للحساب.

امتحان الدنيا يشرف عليه ثلة من البشر يرحمون ويخطئون ويصيبون ويغفلون, لكن امتحان الآخرة يشرف عليه مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. رئيس اللجنة في الدنيا بشر, لكن الذي يسأل الناس يوم القيامة رب البشر لا تخفى عليه خافية: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

ونتيجة امتحان الدنيا نجاح من سنة إلى سنة, أو من مرحلة إلى مرحلة، وإذا لم تنجح فهناك دور ثاني, وإذا ما نجحت في الدور الثاني هناك سنة أخرى, وإذا ما نجحت في السنة الثانية فاترك الدراسة فهناك سبعون مهنة وشغلة, لكن امتحان الآخرة نتيجته واحدة إما الجنة وإما النار, ولا يوجد دور ثاني ولا فرصة ثانية قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

فليكن تركيزك على امتحان الآخرة، ولا مانع من امتحانات الدنيا والتركيز فيها حتى تنجح.

وأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفق جميع الطلاب للنجاح في الدنيا وفي الآخرة.

كما أوصيهم بالابتعاد عن الغش, انتبه (من غشنا فليس منا) طبعاً كل الكلام الذي نقوله للرجال هو موجه للنساء؛ لأن (النساء شقائق الرجال) لا يغش الطالب ولا تغش الطالبة, ولو غفل المراقب فإن الله يراقبك من فوق سبع سماوات, هذه معلومات أعطيت لك من أجل أن تدرسها أيها الطالب وتختبر فيها وتنجح, ولكن إذا ما درستها وأخذتها في ورقة ودخلت تنقلها وأخذت شهادة زور وكذب, فلا يصلح هذا (من غشنا فليس منا) ويقع الغشاش في لعنة الله ورسوله -والعياذ بالله-.

حكم موتى أطفال المسلمين والكفار في الآخرة

السؤال: من مات في سن الطفولة هل يدخل الجنة؟

الجواب: نعم. أبناء المؤمنين وأبناء المسلمين يدخلون الجنة بإذن الله.

أما أبناء الكفار فلأهل العلم كلام طويل, ومن ضمن أقوال أهل العلم: أنهم يدخلون الجنة، وبعضهم قال: يكونون خدماً لأهل الجنة, وبعضهم قال: إنهم يبلغون سن التكليف يوم القيامة ويرسل لهم الرسول ويبلغون بالرسالة يوم القيامة فتقام عليهم الحجة يوم القيامة مع أهل الفترة، ومع من لم تبلغهم الدعوة, هناك أناس عاشوا في فترات ما بين الرسل أي: بعد أن تنتهي دعوة الرسول, والفترة الثانية في رسالة أخرى، هناك أناس عاشوا ما بلغتهم الدعوة, الله عز وجل لا يدخلهم النار إلا بعد قيام الحجة, وهناك أناس يعيشون في الأرض ما بلغتهم الدعوة, مثل من يعيش في أدغال أفريقيا أو في صحراء، ما بلغه دين وما عرف الله وما عرف الرسول ولا عرف الإسلام, هذا لا يدخل النار؛ لأن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقال في آية أخرى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فمن لم تقم عليه الحجة فالله لا يدخله النار حتى يقيم عليه الحجة؛ لأن الله عدل, والله منزه عن الظلم تبارك وتعالى.

الفرق بين تحديد النسل وتنظيم النسل وحكمهما

السؤال: كيف نرد على من يقول: يجب تحديد النسل بعدد معين من الأبناء؟

الجواب: دعوة تحديد النسل أو منع النسل دعوة خبيثة موجهة من أعداء الإسلام, ومركز بها على المسلمين؛ لأنهم يرون كثرة المسلمين شيء مخيف بالنسبة لهم, فيخوفونهم بالرزق ويقولون: إن بعد سنة ألفين ستقع كارثة ويموت الناس, وهذا كلام لا أساس له من الصحة، فالذي خلق الناس هو الذي يرزقهم؛ لأن الماء من السماء, والأرض هي التي تنبت, والله هو الذي ينزل الغيث والله يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] لكنها دعوة تحمل هذا التغليف، وهي في حقيقتها دعوى لإضعاف المسلمين وإلى تقليل نسلهم, فلا يجوز تحديد النسل ولا منعه.

أما تنظيم النسل، ما هو تنظيم النسل؟ يعني: بدل أن تحمل زوجتك كل سنة, تجعلها تحمل سنة وتجلس سنتين أو ثلاث سنوات من أجل يقوم الولد ويمشي، هذا ليس فيه مانع, لماذا؟ لأنه ليس منعاً وإنما هو تأجيل أو تنظيم، ودليله: حديث جابر في مسلم قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) والعزل: هو القذف خارج الرحم, وهو نوع من تنظيم النسل لكن نوع بدائي, فإذا أراد الإنسان ألا تحمل امرأته في فترة معينة من الفترات على أساس أن يكبر أطفالها؛ لأن بعض النساء تعاني؛ لأنها في كل سنة تحمل, ما إن تضع حتى تحمل, ويأتي هذا بعد ذاك حتى يصيروا ستة أو سبعة أطفال فالبعض محتاج إلى رضاعة كاملة، والبعض الآخر محتاج إلى رعاية وعناية، فتنظيم النسل يسهم في حل هذه المشكلة.

مسألة تعلق الروح بالجسد

السؤال: هل تخرج الروح عند النوم، أم أنها تبقى في الأرض؟

الجواب: الروح لها تعلق بالجسد في حالتين: حالة النوم وحالة اليقظة, تتعلق الروح تعلقاً كاملاً حالة اليقظة, وتعلق جزئي في حالة النوم, ولهذا الله يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى [الزمر:42] بمعنى أن الأخرى التي لا زالت حية أنها خرجت لكن قريبة, ولذلك ترون النائم إذا نام وجئت بعطر عند أنفه هل يشمه وهو نائم؟ لا. افتح عينه وضع منظراً أو صورة هل يراها؟ وتكلم عند أذنه بصوت خفيف هل يسمع؟ لا. رغم أن السمع موجود والبصر موجود والأنف موجود, لكن الذي يشم ويبصر ويسمع هي الروح, والروح غير موجودة ولذلك عندما تتكلم بجانبه لا يسمعك, إذا أردت أن يسمع أيقظه: فلان قم قم.. فإذا استيقظ أعطه الريح الطيب تجد أنه يميز هذه الرائحة الطيبة، أعطه الصورة تجد أنه يميز هذه الصورة أو هذا المنظر, وتجد أنه يسمع كلامك, من الذي سمع الروح أين كانت الروح؟ كانت قريبة عنده, لماذا قريبة؟ من أجل تعود, فلماذا تخرج؟ من أجل يرقد, إذا لم ينام لم يجد الراحة.

جاء شخص من العمل تعبان يريد أن ينام محطم من الشغل, تمدد على السرير فإذا قلت له: ما بك؟ قال: والله أريد أن أرتاح أريد أن أنام, فإذا قلت له: ما عندي مانع، ما الذي يرتاح فيك؟ قال: جسمي عضلاتي أريد أن أتمدد, تمدد وارتاح عشرين ساعة ليس عشر ساعات لكن لا تنام, وكلما أغمض عينيه أيقظه, يقول: هلا تركتني لآخذ قسطاً من الراحة، تقول له: أنت مرتاح ماذا فعلت بك؟ أنت متمدد على السرير والمكيف شغال ومرتاح لكن لا تغمض عينك, هل يرتاح.. ؟! لا يرتاح إلى أن ينام, ما معنى النوم؟ خروج الروح, بعد أربع ساعات أيقظه, قال: الحمد لله لا إله إلا الله ما شاء الله, نشيط! لماذا؟ لأن روحه خرجت, ما لم تخرج الروح فلن يشعر بالراحة أبداً.

ولهذا الواحد أحياناً يغالب نفسه في أيام المواسم وأيام العمل وأيام الامتحانات, بعض الطلاب لا ينام فإذا دخل صالة الامتحان أتاه النوم, بحث للأفكار والمعاني والأسئلة التي أمامه فلا يراها ينام على الطاولة, ويصاب البعض بالانهيار ولهذا يوصي المدرسون والتربويون أنه لا داعي أن تسهر ليلة الامتحان, ذاكر أول السنة من أجل أن تنجح إن شاء الله.

أكتفي بهذا والله أعلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , رحلة الحياة للشيخ : سعيد بن مسفر

https://audio.islamweb.net