إسلام ويب

فضل الله تعالى صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، كما فضل صلاة العشاء وصلاة الفجر على غيرهما من الصلوات، وفي ذلك إشارة إلى فضلها وعظم أجر من صلاهما جماعة. وقد اختلف أهل العلم في مسألة حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال كما هي مبسوطة في كتب الفقه.

شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ...)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

ففي هذا اليوم عندنا تكميل الأحاديث المتعلقة بصلاة الجماعة, ثم عرض للأقوال الأساسية في المسألة الأم، وهي مسألة حكم صلاة الجماعة.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا ).

تخريج الحديث

قال المصنف رحمه الله تعالى: [متفق عليه].

فقد أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الأذان, باب فضل صلاة العشاء في جماعة.

وأخرجه مسلم في صحيحه أيضاً في كتاب المساجد ومواضع الصلاة, باب فضل صلاة الجماعة والتشديد في تركها.

كما أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد.

وأحمد في مسنده، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وأبو عوانة، وابن حبان .. وغيرهم.

أعني بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف أو قريباً منه: ( أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) وقد سبق أن بينت في المجلس السابق: أن هذا اللفظ جزء من الحديث الذي مضى معنا، حديث أبي هريرة : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة … ) إلى آخره, فقد جاء الحديثان معاً في بعض الطرق, وخرجته هناك, لكن هذا التخريج خاص بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله تعالى هنا.

فوائد الحديث

والحديث سبق أن بينت ما فيه من الفؤائد, ويمكن أن يضاف إلى فوائده اليوم فائدة: فضل صلاة العشاء وصلاة الفجر على غيرهما, فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ولو يعلمون ما فيهما -يعني: من الأجر- لأتوهما ولو حبواً ) فهذا يومئ ويشير إلى زيادة فضيلتهما، وعظم أجر من صلاهما في جماعة.

شرح حديث الأعمى الذي رخص له بالصلاة في بيته ثم أمر بالصلاة في المسجد مع الجماعة

الحديث الثاني: قال: وعنه يعني: أبا هريرة رضي الله عنه قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد, فرخص له النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فلما ولى دعاه, قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب ) .

تخريج الحديث

رواه مسلم في الكتاب السابق، والباب السابق نفسه, في كتاب المساجد ومواضع الصلاة, باب فضل صلاة الجماعة، والتشديد في تركها.

ورواه أبو عوانة أيضاً في مستخرجه على صحيح مسلم في أول كتاب الصلاة.

ورواه النسائي في كتاب الإمامة, باب فضل المحافظة على الصلوات، حيث ينادى بهن.

شواهد الحديث

والحديث له شواهد عدة:

منها: رواية عن عبد الله بن أم مكتوم واسمه عبد الله أو عمرو على اختلاف في الرواية, عن عبد الله بن أم مكتوم , وهذا اللفظ أو هذا الحديث عنه رواه أبو داود في كتاب الصلاة بلفظين مختلفين, في أولهما: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني رجل ضرير البصر, شاسع الدار, ولي قائد لا يلائمني ) بالهمز, وجاء بعض الروايات: ( لا يلاومني ) بالواو, قال الخطابي : وهو خطأ, يعني: بالواو, والصواب: الهمز, وربما تناوب هذان الحرفان كثيراً في لغة العرب: (ولي قائد لا يلائمني) .

وفي الرواية الأخرى عند أبي داود أيضاً: ( أنه قال: يا رسول الله! إن المدينة كثيرة السباع والهوام. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فحيهلا ) أي: فأجب, هاتان الروايتان عن أبي داود .

وكذلك رواه النسائي في الموضع السابق، في كتاب الإمامة, وزاد النسائي : (ولم يرخص له) يعني: ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم له.

ورواه أحمد في مسنده في مواضع مختصراً ومطولاً, وقال في الرواية المطولة, وأسوق شيئاً من لفظها؛ لما فيه من الفوائد والاختلافات.

قال في الرواية المطولة: ( أن الرجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فرأى في القوم رقة -كأنه قال: قلة- فقال: إني لأهم أن أجعل للناس إماماً, ثم أخرج فلا أقدر على رجل يتخلف عن الصلاة في بيته -يعني: يتخلف في بيته عن الصلاة في الجماعة- إلا حرقت عليه بيته.

فقال ابن أم مكتوم

: يا رسول الله! إن بيني وبين المسجد شجراً ونخلاً، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: تسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فائتها ).

وهذا اللفظ ذكرته عن أحمد، وقد رواه الحاكم أيضاً في المستدرك وصححه, ووافقه الذهبي , وكذلك خرجه ابن خزيمة وصححه, وقال المنذري في الترغيب والترهيب : هذا الإسناد جيد.

وسوف أذكر ما في هذه الرواية من الفوائد بعد قليل. وعلى كل حال أشير إلى بعض الألفاظ المغايرة فيها, من الألفاظ المغايرة أو من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أتسمع الإقامة؟) بدل قوله: (أتسمع النداء).

والشاهد الثاني من حديث جابر رضي الله تعالى عنه بنحوه. ولكنه أي: النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( فائتها ولو حبواً ) وحديث جابر خرجه أحمد في مسنده أيضاً, وخرجه أبو يعلى كما في المسند المطبوع أيضاً, والطبراني في معجمه الأوسط، كما في مجمع البحرين , ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد لهؤلاء، وقال: ورجاله موثقون, والعادة أنه يطلق هذه العبارة غالباً على من وثقهم ابن حبان .. أو نحوه. وفي إسناد الحديث ضعف, ولكنه يتقوى بشاهده الأول.

والشاهد الثالث: هو حديث أبي أمامة رضي الله عنه, وفيه ( أن عبد الله بن أم مكتوم

قال: يا رسول الله! قد دبرت سني ) (دبرت سني) بالدال، أو (كبرت) والمعنى واحد ( ورق عظمي, وذهب بصري ... ) إلى آخر الحديث.

وحديث أبي أمامة قد رواه الطبراني في معجمه الكبير، وسنده ضعيف, وإن حسنه بعضهم, فالصواب أنه ضعيف؛ لأن في سنده علي بن يزيد الألهاني، والكلام فيه معروف, ولكنه ينجبر بشواهده, هذه ثلاثة شواهد لحديث الباب.

فوائد الحديث

وفي هذا الحديث وشواهده عدة فوائد أسوقها بإجمال.

فمنها: التصريح باسم الرجل الأعمى المبهم في رواية مسلم ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى ) فقد صرح بأنه عبد الله بن أم مكتوم , بل جاء هذا الحديث من روايته هو بذاته، كما في الشاهد الأول, وهو عبد الله أو عمرو بن أم مكتوم .

الفائدة الثانية: أن مناسبة حديث الباب مع حديث أبي هريرة السابق واحدة, فإنه ذكر في الشاهد الأول: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فوجد فيهم رقة -أي: قلة- فقال: لقد هممت أن أجعل للناس إماماً, ثم أخرج، فلا أدع إنساناً يتخلف عن الصلاة في بيته إلا حرقت عليهم ) فحينئذ سمع ابن أم مكتوم رضي الله عنه هذا التشديد في صلاة الجماعة, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله, وهل يسعه أن يصلي في بيته أم لا؟

فتبين أن الحديثين مناسبتهما واحدة، على الأقل في هذا السياق, ولا يمنع أن يتكرر زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن التخلف عن الجماعة.

ومن الفوائد، وهي الثالثة: أن المعتبر فيمن تجب عليه صلاة الجماعة سماع النداء، سماع الأذان؛ لقوله: ( أتسمع النداء؟ ) والمقصود سماع النداء بالصوت المعتاد في الوقت المعتاد, فلا يدخل في ذلك مثلاً من ثقل سمعه فلا يسمع, كما لا يدخل في ذلك سماع النداء عبر مكبرات الصوت, وإلا لامتد ذلك إلى سماع النداء عبر المذياع, وهو يسمع على مسافة آلاف الأميال, وإنما المقصود سماع النداء بالصوت العادي في الأوقات العادية, بخلاف المؤثرات الطارئة فلا يعبأ بها، ولا يلتفت إليها.

فالمعتبر أن يسمع النداء, وهو ما عبر عنه في اللفظ الآخر: ( أتسمع حي على الصلاة حي الفلاح؟ قال: نعم، قال: فحيهلا ) يعني: فأجب، فهلم، فتعال.

وقال بعضهم: بل المعتبر في مثل حال عبد الله بن أم مكتوم سماع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في رواية أحمد : ( أتسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فأجب ) وأيضاً قالوا: إن قوله: (حي على الصلاة, حي على الفلاح) هذا في الأذان أو في الإقامة؟ في أيهما يكون؟

هو موجود في الأذان, وموجود في الإقامة, لكنه في الأذان مثنى مثنى, أما في الإقامة فهو مفرد, فلو أخذنا بظاهر اللفظ: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) لكان ذلك في الإقامة, فقالوا: هذا يعزز رواية الإقامة, وهو دليل على أن من كان في مثل حال عبد الله بن أم مكتوم، فإنه يعتبر أن يسمع الإقامة؛ لأن هذا حد قربه من المسجد, وقدرته على الحضور.

وقد استشكل بعضهم على ذلك أن ابن أم مكتوم قال: إنه رجل شاسع الدار, أي: بعيد من المسجد, والعادة أن من كان شاسع الدار لا يسمع الإقامة, فكيف يجاب على هذا الإشكال؟

يجاب عنه بوجهين:

الأول ذكرناه قبل قليل: وهو أن يكون المقصود الأذان, وتحمل رواية الإقامة هنا إما أن يقال: إنها رواية شاذة، أو رواية بالمعنى, ويكون المعتمد رواية الأذان خاصة، وأنها في مسلم (أتسمع النداء), وإن كانت عامة مبهمة؛ لأن النداء قد يطلق على الإقامة أيضاً, ولكنه بالأذان أليق, هذا جواب.

الجواب الثاني أن يقال: إنه لا يبعد أن يكون بلال رضي الله عنه كان يجهر بالإقامة, ويرفع صوته بها, وكان بلال رضي الله عنه جهير الصوت قوياً، فلا يمنع في هدأة الوقت, وقلة الناس يومئذ أن يسمعه عبد الله بن أم مكتوم , والبعد عن المسجد أمر نسبي.

أوجه أعذار عبد الله بن أم مكتوم في طلبه الرخصة في ترك صلاة الجماعة والفرق بينه وبين عتبان بن مالك

على كل حال: عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه عذره مركب من عدة أشياء, العذر الذي قدم به للنبي صلى الله عليه وسلم مركب من عدة أشياء، نحاول أن نستجمعها من خلال النصوص التي ذكرتها لكم قبل قليل.

أولاً: أنه رجل أعمى ضرير.

الثاني: أن في طريقه النخيل والشجر.

الثالث: أنه بعيد الدار، شاسع الدار.

الرابع: ليس له قائد يلائمه, يعني: يكون له كل ساعة.

الخامس: أنه رق عظمه, وكبرت سنه, فهذه الأسباب كلها قدم بها عبد الله بن أم مكتوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله أن يجد له رخصة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأجب ), ( فحيهلا ).

وهذا لابد أن يتأمل فيه؛ لأن عتبان بن مالك رضي الله عنه، كما في الصحيحين، جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقدم له عذراً قريباً من ذلك, بل لعله أخف.

وعذر عتبان رضي الله عنه كما في الصحيحين قال عتبان رضي الله عنه: ( يا رسول الله! إني أنكرت بصري ) وهذه العبارة هل هي مثل كون ابن أم مكتوم أعمى؟ كلا, بل أنكر بصره. أي: أن بصره قد ضعف.

( إني أنكرت بصري, وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي- وكان إماماً لقومه- قال: فوددت يا رسول الله أنك جئت فصليت في بيتي مكاناً أتخذه مسجداً، أو أتخذه مصلى ) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلى في بيته حسب القصة، والرواية المعروفة في الصحيحين .. وغيرهما.

الجمع بين إعذار النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك وعدم إعذار ابن أم مكتوم عن صلاة الجماعة

أنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عذر عتبان بن مالك، ولم يعذر عبد الله بن أم مكتوم، فكيف يحمل هذا؟ أو كيف يجمع بين هذين الأمرين؟

يجمع بينهما بأضرب من وجوه الجمع:

الأول: أن يحمل أن المقصود بالنداء فيما يتعلق بـ عبد الله بن أم مكتوم هو الإقامة, كما ذكرت قبل قليل, وعلى هذا يكون بيته ليس بعيداً من المسجد, ليس من جيران المسجد, ولكنه ليس بعيداً بعداً يمنعه من المجيء، بدليل أنه يسمع الإقامة, كما في الرواية الأخرى وسندها جيد, كما ذكره المنذري وغيره. هذا هو العذر, وبناء عليه فإن ابن أم مكتوم يستطيع الوصول، مع بعض المشقة التي ليست شديدة.

الوجه الثاني: أن عبد الله بن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة, وأراد أن يدرك كامل الفضيلة, أي: أن يصلي في بيته, وتكون له الصلاة، كما لو صلاها في الجماعة سواء بسواء.

فيبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدرك فضيلة الجماعة بكمالها، إلا إذا صلى مع الناس, وهذا الوجه ذكره النووي في شرح مسلم , وذكره أيضاً في شرح المهذب في المجموع , وعليه اعتراض فإن الظاهر أن المعذور يكون له الفضل تاماً, كما في نظائر ذلك, وقد سبق في غير موضع, وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله مقمياً صحيحاً ) وقد بين ما في هذا الوجه من المؤاخذة العراقي في طرح التثريب شرح التقريب وغيره من أهل العلم.

فهذا هو الوجه الثاني: أن يكون ابن أم مكتوم أراد أن يصلي في بيته, ويدرك فضيلة الجماعة بكمالها. وهذا بينت ما فيه.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـعبد الله بن أم مكتوم , ثم بين له ما هو الأفضل والأولى في حقه, ولذلك جاء في الروايات كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له, بما في ذلك رواية مسلم قال: ( فرخص له ).

إذاً: الرخصة ثابتة أو غير ثابتة لـعبد الله بن أم مكتوم ؟‍‍‍!‍‍ثابتة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رخص له, ثم قال له: ( أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب ).

قالوا: فالأمر بقوله: (أجب) ليس ناسخاً للرخصة على هذا الوجه, وإنما هو بيان للأفضل والأولى في حق عبد الله بن أم مكتوم , وليس على سبيل الإيجاب والحتم والإلزام, وإنما على سبيل الندب والاستحباب والفضيلة.

قالوا: ومما يعضد ذلك ويؤيده: أن الأمرين جاءا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس واحد, وليس بينهما فرق كبير.

وقد يقال على العموم إن حادثة عتبان وحادثة عبد الله بن أم مكتوم حوادث أعيان, وحوادث الأعيان لا يمكن أن يقابل بينها, ولا أن يقال بنسخ بعضها لبعض, ولا أن يقال بمعارضة بعضها لبعض, فلكل حادثة ظروفها الخاصة التي قد تبدو من الرواية، وقد تخفى أحياناً, فتحمل كل حادثة على أنها حادثة خاصة لها ظروفها, ولا تعارض بينها, فالأفعال لا يكون بينها تعارض.

شرح حديث: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر)

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث الثالث والأخير من أحاديث الليلة: وهو حديث عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عذر ) .

تخريج الحديث

المصنف رحمه الله تعالى عزا هذا الحديث لـابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم , وقال: إسناده على شرط مسلم , ورجح بعضهم وقفه.

والحديث كما ذكر المصنف خرجه هؤلاء, فقد خرجه ابن ماجه في سننه في المساجد, باب التغليظ في التخلف عن الجماعة.

وخرجه أيضاً الدارقطني في كتاب الصلاة.

وابن حبان فيه أيضاً, والحاكم، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي.

وأخرجه أيضاً أبو داود , وكان حرياً بالمؤلف رحمه الله أن يعزوه إليه؛ لأنه لا يترك العزو إلى أبي داود , ويعزو إلى ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم على عادته, فقد أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة, باب التشديد في ترك الجماعة, وأخرجه أيضاً غير من مضى البغوي، والبيهقي، والطبراني، وابن أبي شيبة.. وغيرهم، وهو حديث صحيح الإسناد سنده صحيح.

قال عبد الحق الإشبيلي: حسبك بهذا الإسناد صحة. وقال الحافظ ابن حجر : إسناده صحيح كما في التلخيص. وقال ها هنا: وإسناده على شرط مسلم . وقال الحاكم : على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي , وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما سبق.

قال المصنف هاهنا: ورجح بعضهم وقفه. أي: أنه موقوف على ابن عباس، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام, وكأن ذلك إشارة إلى ما ذكره الحاكم .. وغيره, فإن الحاكم قال عقب رواية هذا الحديث في بعض المواضع, بعد ما ذكر أنه صحيح على شرط الشيخين, قال: قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة , وغندر هذا لقبه, واسمه محمد بن جعفر , وهو من رجال مسلم محمد بن بشار لقبه بندار ومحمد بن جعفر لقبه غندر , هذا من الذاكرة, وهذا الذي أعلمه، ولا بأس أن يتأكد منه, والذي أعلم أنه من رجال مسلم . ولذلك قال المصنف: على شرط مسلم . وقال الحاكم: على شرطهما.

على كل حال يقول الحاكم رحمه الله: هذا الحديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة , ثم قال: وهو صحيح على شرط الشيخين, ثم قال بعد ذلك: وهشيم وقراد أبو نوح ثقتان, فإذا وصلاه فالقول فيه قولهما.

قراد أبو نوح هذا أيضاً قراد لقبه، لا بأس من هذه الفوائد، وقد استبشع الإمام أحمد هذا اللقب، أما اسمه فـعبد الرحمن بن غزوان.

على كل حال الحاكم كأنه يميل إلى أن الحديث موصول، ويرجح الموصول لأنه قد وصله ثقتان.

ومما يرجح الموصول أيضاً -يعني: المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قد رواه قاسم بن أصبغ الإمام المالكي، كما ذكر ذلك ابن حزم في المحلى بالإسناد, والبيهقي في السنن أيضاً, وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، ذكروا أن قاسماً رواه في مصنفه من طريق سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره, وإسناده هذا صحيح, وهو يقوي الأول.

شواهد الحديث

للحديث شاهد مرفوع أيضاً يقوي ويعزز ما سبق, وهو ما رواه الحاكم والبيهقي من طريق أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له ) وهذا الحديث حديث أبي موسى رواه أبو نعيم الأصبهاني أيضاً في تاريخ أصبهان , ورواه البزار في مسنده , وهو حديث صحيح الإسناد, وهو يقوي المرفوع.

إذاً: الحديث صحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو حجة لمن قال بأن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فلا صلاة له، إلا من عذر ) فظاهر الحديث يدل على أن غير المعذور ليس له صلاة, لا تصح صلاته، كما سوف يأتي بعد قليل في بحث المسألة, لكن يحمل الحديث والله تعالى أعلم على ضرب من التأويل, فيقال: (لا صلاة له) أي: تامة أو كاملة أو فاضلة .. أو ما أشبه ذلك, ولا يحمل على نفي الإجزاء بالكلية، والله أعلم؛ وذلك جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى، كحديث أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد .. وغيرهم.

الأقوال في حكم صلاة الجماعة

أترك حديث يزيد بن الأسود للأسبوع القادم؛ لأنه لا تعلق له بالمسألة التي بين أيدينا الآن, وأنتقل إلى بحث المسألة، وهي مسألة كبيرة, وهي أم المسائل في هذا الباب, حكم صلاة الجماعة والأقوال فيها.

وأقول: اتفق المسلمون على فضيلة صلاة الجماعة, والأمر بها, واستحبابها, وأنها أفضل من صلاة الفذ كما سبق في ذلك بعض النصوص, وأجمعت عليه الأمة, لكنهم اختلفوا في حكمها على أقوال كثيرة, أهمها أربعة أقوال أذكرها الآن بإيجاز, ومن قال بها وأدلتها, ثم أخلص إلى بيان القول الراجح منها.

القول الأول: أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة وأدلته

القول الأول: أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة, فلو صلى منفرداً من غير عذر فصلاته باطلة, وهذا مذهب داود الظاهري، وهو مذهب الظاهرية إجمالاً, فقد جنح إليه الإمام أبو محمد بن حزم كما في المحلى , وصرح بأنه لو صلى منفرداً من غير عذر لم تصح صلاته, ومما ينبغي أن يذكر أن الصنعاني في سبل السلام كأنه نقل مذهب الإمام ابن حزم نقلاً غير دقيق فيما ظهر لي, فرأى أنه يقول بالوجوب لا بالشرطية, وظاهر نصه في المحلى يرشح أنه يقول بالشرطية.

وممن نقل عنه ذلك، أو أن هذا القول هو رواية أيضاً في مذهب الإمام أحمد , اختارها جماعة من فقهاء الحنابلة، كالقاضي، وابن الزاغوني، وأبي الوفاء بن عقيل , بل اختارها الإمام ابن تيمية رحمه الله، كما ذكر ذلك البعلي , ولعل هذا من إفاداته رحمه الله تعالى وأقواله في شرح العمدة , فإنني تطلبت نصاً صريحاً من ابن تيمية يصرح بأنه يقول بالشرطية فلم أجد ذلك, وإن كان له نص في الفتاوى المصرية يتعلق بالقول بالشرطية ومن قال به, لكنه لم يصرح بأن هذا اختياره, فربما كان ذلك في شرح العمدة , والله تعالى أعلم؛ إذ فيه أقوال كثيرة فاتت على بعض من نقلوا آراءه وأقواله, وهذا القول قول طائفة من السلف وجماعة من أهل الحديث.

واستدل هؤلاء بأدلة, منها:

الدليل الأول: حديث الباب حديث ابن عباس : ( من سمع النداء فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عذر ) وهذا الحديث ظاهر في الدلالة على شرطية الجماعة في صحة الصلاة في ظاهره, لقوله: (فلا صلاة له) لأن الأصل نفي الصحة ونفي الإجزاء, والله تعالى أعلم. قالوا: هذا دليل على أن الجماعة شرط في صحة الصلاة.

الدليل الثاني: حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه: ( من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر ) فقد بينت إسناده قبل قليل, وهذا يقال فيه ما يقال في حديث ابن عباس، فيما يتعلق ببيان وجه الدلالة.

الدليل الثالث: وهذا ذكره ابن حزم : ما نسب إليه من قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) وهذا الحديث لو صح لكان دليلاً؛ لأنه كالحديثين السابقين ينفي صحة الصلاة وإجزاءها لجار المسجد , والجار كما جاء في بعض الآثار (إلى أربعين بيتاً), هذا لو صح, لكن الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام , فقد رواه البيهقي موقوفاً على علي، ولم يثبت رفعه, وقد رواه الدارقطني عن جابر وعن أبي هريرة وسنده ضعيف, بل قال بعضهم: ضعيف جداً. فلا حجة فيه.

أيضاً دليلهم الرابع: ما ذكره ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى عن ابن عمر (أنه صلى في بيته ركعتين, ثم سمع الإقامة فخرج إلى المسجد) قال ابن حزم: فلو أجزأت ابن عمر صلاته ما قطعها, هذا وجه الاستدلال, وهو استدلال غريب, إذ كيف يستدل بأن ابن عمر قطع صلاته، مع أنه ليس في الأثر تصريح بأنه قطع الصلاة, إنما فيه أنه خرج إلى الصلاة, فكيف يستدل بأنه قطع الصلاة, وأن ذلك دليل على عدم الإجزاء, ولا يستدل بكون ابن عمر رضي الله عنه صلى في بيته, لأن الأثر نفسه: (أن ابن عمر صلى في بيته), ولو كانت صلاة الجماعة شرطاً ما صلى ابن عمر رضي الله عنه في بيته، وهو قريب من المسجد، بحيث يمكن أن يسمع الإقامة, فيرد عليه بهذا.

كما أنه يرد عليه بوجه آخر: أن هذا فعل ابن عمر رضي الله عنه، والفعل لا حجة فيه.

كما أنه يمكن أن يرد عليه: بأن هذا الأثر من ابن عمر رضي الله عنه ليست دلالته على الشرطية بأقوى من دلالته على السنية, إذ قد يستدل من يقول بسنية صلاة الجماعة بهذا الأثر, ويقول: إن ابن عمر لولا أنه يرى أن الجماعة سنة ما صلاها في بيته, فلا حجة في ذلك, هذه بعض أدلتهم.

واستدل بعضهم بالقياس فقاسوا حضور الجماعة على سائر واجبات الصلاة, فقالوا: دلت النصوص على أن صلاة الجماعة واجبة, والواجبات في الصلاة لابد منها, فإذا ترك الواجب عمداً بطلت صلاته, فقاسوها على سائر واجبات الصلاة, وهذا مأخذ بعض فقهاء الحنابلة، الذين قالوا بالشرطية كما سبق.

القول الثاني: وجوب صلاة الجماعة وأدلته

القول الثاني: القول بالوجوب وأن صلاة الجماعة واجبة, وقد يعبر بعضهم بأنها فرض عين.

وهذا القول ينبغي أن يكون مذهباً لجماعة كثيرة من الصحابة، مثل أبي هريرة ، وعلي بن أبي طالب ، ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، لأثره المعروف في صحيح مسلم، وعبد الله بن أم مكتوم، أيضاً ابن عباس .

وأما عبد الله بن شقيق العقيلي فهو من التابعين، وكذا سالم ليس صحابياً.

إذاً: ابن عمر نفسه أبو هريرة أبو موسى .. كل هؤلاء ينبغي أن يكون هذا من مذهبهم على حسب الآثار السابقة.

وقال بهذا القول أيضاً جماعة كثيرة من السلف كـالحسن البصري، قال في صحيح البخاري تعليقاً: (إن منعته أمه عن العشاء شفقة لم يطعها). ونقل عنه أقوال في وجوب صلاة الجماعة, وعطاء .

وهو مذهب جماعة من الأئمة المتبوعين، كـالأوزاعي إمام أهل الشام , وأبي ثور، وأبي يوسف فقيه الحنفية، وابن خزيمة من الشافعية، ومثله أيضاً ابن المنذر، وهما فقيهان شافعيان محدثان, وهو مذهب ابن حبان، واختاره الخطابي .. وغيرهم.

وهو أيضاً المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى من مذهبه, وإن كان في المذهب روايات أخرى سوف ترد إن شاء الله تعالى, وبه قال أكثر فقهاء أهل الحديث, كما سبق فيما يتعلق بـابن خزيمة، وابن حبان، وابن المنذر، ومن ذكرت من فقهاء الشافعية, وكذلك هو اختيار البخاري ؛ لأنه بوب كما ذكرت لكم مرات: باب وجوب صلاة الجماعة, ومسلم (باب فضل صلاة الجماعة والتشديد في تركها).

هل يمكن أن نأخذ من هذا اللفظ أن مسلماً يرى وجوب صلاة الجماعة؟

لا يمكن أن نأخذ رأي مسلم من هذا التبويب؛ لسببين:

الأول: أن التبويب هذا من النووي حسب المطبوع مع شرح النووي , وهو أيضاً المطبوع مع تعليق فؤاد عبد الباقي , وهناك غير النووي بوبوا كما في الشرح المطبوع شرح الأبي والسنوسي .. وغيرهما, والقرطبي، فكل شرح له تبويب آخر مختلف؛ لأن مسلماً رحمه الله سرد الأحاديث، ولم يضع تراجم الأبواب المفصلة, هذا أولاً.

وثانياً: فإن اللفظ لا يدل على الوجوب, وإنما يدل على الأفضلية, فهو يدل على مذهب النووي رحمه الله، ولم يصرح فيه بالوجوب, بل قال: فضل صلاة الجماعة والتشديد في تركها, ولم يصرح بأن ذلك واجب.

المهم أن البخاري رحمه الله كأنه يختار القول بالوجوب, وهكذا غالب المصنفين في الحديث, فلو نظرت تراجم الترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبي عوانة، والبيهقي .. وغيرهم، لوجدت أنها تومئ إلى أن جل هؤلاء يرشحون القول بوجوب الجماعة, ويبوبون عليه, وهذا القول أيضاً هو أحد الأقوال عند الشافعية, وهو قول مشهور عندهم, وقد نقل المنذري في الترغيب والترهيب عن الشافعي أنه قال: الجماعة واجبة, ونسبه بعضهم للأحناف من منطلق أن الأحناف يقولون: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة. قالوا: والسنة المؤكدة عند الأحناف هي الواجب, على الأصح عند الأصوليين, كما قال في البحر الرائق مثلاً قال: والراجح عند أهل المذهب الوجوب. يعني: في صلاة الجماعة.

قال: والقائلون أنها سنة مؤكدة ليسوا مخالفين في الحقيقة، بل في اللفظ, فإن السنة المؤكدة والواجب سواء، خصوصاً فيما كان من شعائر الإسلام الظاهرة. هذا كلام أبي نجيم الحنفي .

ومثله ذكر ابن عابدين أو قريباً منه في منحة الخالق , ولهذا نسب بعضهم كما فعله شيخنا رحمه الله تعالى، الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي في كتابه السلسبيل إلى الحنفية، أنهم يقولون بالوجوب بناء على هذا التخريج.

أدلة هذا القول كثيرة أسردها رغبة في استدراك الوقت.

أولاً: حديث أبي هريرة الذي معنا الآن: ( ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ) إلى آخر الحديث, فإنه هم بالتحريق, ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليهم بتحريق بيوتهم إلا على ترك واجب, هذا واحد, والحديث متفق عليه.

ثانياً: حديث أبي هريرة في قصة الرجل الأعمى, فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أجب), يدل بظاهره على الوجوب, من منطلق قاعدة الأمر بالوجوب, وقالوا: لم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الأعمى، على رغم كثرة الأعذار التي قدم بها, فغيره من باب الأولى, ولم يكن ليتجشم ذلك إلا لفعل واجب.

الدليل الرابع: قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] وفي الاستدلال بهذه الآية نظر؛ لأنها لا تدل صراحة على الركوع والصلاة مع الناس ضرورة, وإنما كما في قوله تعالى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

ثالثاً: قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] .. إلى آخر الآية, صلاة الخوف, قالوا: فإن الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي بأصحابه صلاة الخوف في حال الحرب، والقتال، ولمعان السيوف، وتطاير الرءوس, وفي سبيل إقامة صلاة الجماعة، خفف الله تعالى عن المسلمين في ترك واجبات كثيرة من واجبات الصلاة، مثل عدم مواجهة القبلة واستقبالها, وأيضاً مثل: قصر الصلاة.

وكثرة الحركة في الصلاة كثرة شديدة، وترك السنن، والسلام قبل الإمام، والتخلف عن الإمام, كل هذه الأشياء تسومح فيها في حال صلاة الخوف, مع أنها في الأصل بعضها مبطل للصلاة، لو فعله عمداً في الحالات العادية. قالوا: ولم يكن الشارع ليتسامح ويخفف في مثل هذه الأمور كلها، إلا لتحصيل أمر أعظم منها، وهو صلاة الجماعة, فدل ذلك على أنها واجبة.

الدليل الخامس: حديث ابن عباس : ( من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر ) ودلالته ظاهرة, فهو لتأكيد الوجوب والتشديد عليه.

ومثله الدليل السادس: وهو حديث أبي موسى كما سبق أيضاً.

الدليل السابع: أثر ابن مسعود رضي الله عنه, الذي رواه مسلم في قوله: (وإنهن من سنن الهدى, وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم, ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) وجاء في رواية ذكرها بعض الفقهاء: (لكفرتم) فقالوا: إنه لا يعبر بالضلال إلا على ترك واجب.

وعلى كل حال فهذا قول من ابن مسعود رضي الله عنه, ولكنه كان يخبر عن حال أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الدليل الثامن ووجه في حديث أبي هريرة السابق: ( أثقل الصلاة على المنافقين ): أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا من علامات المنافقين, وقد نهينا عن التشبه بهم, بل التشبه بهم حرام, فلا يجوز التشبه بهم في التخلف عن صلاة الجماعة.

الدليل التاسع: فعل النبي صلى الله عليه والخلفاء الراشدين، وسائر أصحابه, فإنهم كانوا يحافظون على صلاة الجماعة ولا يدعونها إلا في حالات الأعذار المعروفة، كالمرض، أو المطر، أو البرد الشديد .. أو ما أشبه ذلك, على ما هو معروف في الأعذار، التي ساقها ابن حبان تفصيلاً في سننه , وساقها غيره, وسيأتي ذكر شيء منها.

الدليل العاشر: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو -وفي رواية: ولا بلد- لا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان, فعليك بالجماعة, فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) وحديث أبي الدرداء هذا خرجه أبو داود، والنسائي، وأحمد، والحاكم، والبغوي، والبيهقي، وابن خزيمة , وصححه ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان، وقال كثير من المحققين: إسناده حسن.

فهو صالح للاحتجاج, وفيه الأمر بالجماعة, والوعيد على تركها بتسلط الشيطان واستحواذه, وإنما يستحوذ الشيطان على من غفلوا عن فعل الواجبات, كما قال الله تعالى عن المنافقين: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]

طيب, هذه تقريباً أهم الأدلة, وقبل أن نغادر هذا القول, فإنني أقول: إنه هو القول الراجح المختار فيما ظهر لي من سرد أدلته, وقوتها, وصلاحيتها للاحتجاج, وغالبها في الصحيحين, وعدم وجود ما يعارضها أو يقاومها, وكثرة القائلين بهذا القول أيضاً, وأن فعل المسلمين في كافة الأمصار عليه.

القول الثالث: أن صلاة الجماعة سنة وأدلته

القول الثالث: هو القول بالسنية, أن صلاة الجماعة سنة, وهذا مذهب المالكية في قول مشهور عندهم, ومذهب بعض فقهاء الشافعية, ويذكر ذلك أيضاً رواية عن الإمام أحمد , قال الإمام ابن قدامة في كتابه الشهير المغني: ولم يوجبها- يعني: صلاة الجماعة- مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي . وهذا قد يدل على أنهم يرون أنها سنة, أو يرون أنها فرض كفاية، كما سوف يأتي.

ومن أدلة القائلين بأنها سنة:

أولاً: حديث ابن عمر : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ ) قالوا: فإن المفاضلة دليل على أن صلاة الفذ صحيحة، ولا إثم فيها, وإلا لم يكن ثم سبيل للمقارنة بينها وبين صلاة الجماعة.

ومثله أيضاً حديث أبي هريرة .

ومثله أيضاً حديث أبي سعيد .

فهذه ثلاثة أدلة مأخذها واحد, وهو المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ, وقالوا: إن المفاضلة دليل على أن صلاة الفذ حتى لغير عذر صحيحة، بل جائزة.

والجواب عن ذلك أن يقال: أما صحيحة فنعم, وجائزة فلا، لأنه لا يمنع أن يكون مفرطاً آثماً في ترك الجماعة، وتكون صلاته صحيحة.

الدليل الرابع عندهم: حديث يزيد بن الأسود وهو الحديث الذي وقفنا عنده، وإنما تركته لرعاية استدراك الوقت, فسوف أذكر تخريجه الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.

وعلى كل حال فإن حديث يزيد بن الأسود فيه: ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ) وقد جاء عند الترمذي وغيره: ( أن ذلك كان في مسجد الخيف بـمنى , قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا هو برجلين في آخر المسجد لم يصليا، فقال: علي بهما, فجيء بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترعد فرائصهما, فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟! قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا, قال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا مع الإمام, فإنها لكما نافلة ) قالوا: فلم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما صليا في رحالهما, ولم يعتب عليهما في ذلك, فدل على أن صلاة الجماعة سنة ليست بواجبة.

وكيف يجاب عن هذا الاستدلال؟ كيف يجاب عنه؟ أن ذلك كان في سفر، كما ذكرت أنه كان في حجة الوداع في مسجد الخيف، فكان في سفر.

ثانياً: أنه يحتمل أن يكونا صليا في رحالهما في جماعة, خاصة وأن الناس في منى يقيمون فيها في خيامهم, وقد تصلي الطائفة بصلاة إمام, وتصلي الطائفة الأخرى بصلاة إمام آخر, كما هو حال الناس عبر العصور, فلا يبعد أن يكونا صليا في جماعة.

الدليل الخامس: قالوا: لو كانت واجبة لكانت شرطاً لصحة الصلاة, فإذ لم تثبت شرطيتها فينبغي أن يقال بعدم وجوبها.

وهذا ينازع فيه؛ إذ من الممكن أن يقال: إن هناك واجباً ليس بشرط, ولا تتوقف صحة الصلاة عليه, فتنقض هذه القاعدة التي بنوها وأصلوها.

ومن أدلتهم, وهو السادس، وقد استدل به الشوكاني وغيره: ما رواه البخاري في كتاب الأذان, ورواه مسلم أيضاً في المساجد ومواضع الصلاة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى, والذي ينتظر الصلاة -أو قال: العشاء- حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام ) قالوا: فكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم أجراً) هذا دليل على أن من صلى ثم نام ولم ينتظر الإمام أنه مأجور, وأن صلاته صحيحة, وأنه لا إثم عليه.

وكيف نجيب عن هذا الاستدلال؟ بما أجبنا به عن حديث ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس -أو سبع- وعشرين درجة ) فنقول: إثبات الأجر والفضيلة لمن صلى ثم نام، لا يمنع من أن يكون فاته أجر عظيم بترك الجماعة, وأن يكون لحقه إثم بالتفريط في ذلك أيضاً.

الدليل السابع: من أدلتهم. وهو غريب واستدل به بعضهم: حديث الهم بالتحريق: ( ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ) حديث أبي هريرة المتفق عليه, قالوا: لأن كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم بترك الجماعة والتخلف عنها, فهذا دليل على أنها ليست بواجبة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتخلف عن واجب, وفي هذا نظر بين, سبق أن ذكرته, فيقال: إما أن من الممكن أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة أخرى.

ومن الأجوبة أيضاً أن نقول: إنه تخلف عن واجب، من أجل أمر آخر هو أوجب منه, والتخلف عن الواجب من أجل واجب أكبر منه وأعظم هذا سائغ, وأصول الشريعة تشهد له وتدل عليه.

القول الرابع: أن صلاة الجماعة فرض كفاية وأدلته

القول الرابع: أن صلاة الجماعة فرض كفاية, إذا قام بها في البلد من يكفي، أصبح ذلك في حق الباقين سنة, وإذا تركها أهل بلد عن آخرهم قوتلوا عليها, وهذا هو مذهب بعض المالكية, بل هو التحقيق في مذهبهم, وهو الراجح في مذهب الإمام الشافعي، وهو أيضاً قول عند الحنابلة، وذهب إليه كثير من الحنفية اختاره الكرخي والطحاوي .. وغيرهما.

إذاً: تحصّل لنا أن الحنابلة لهم في صلاة الجماعة على ثلاثة أقوال:

الأول: القول بالشرطية.

الثاني: القول بالوجوب.

الثالث: أنها فرض كفاية.

فيتحصل من ذلك أن المذهب فيه ثلاثة أقوال أو روايات في صلاة الجماعة, أقواها ما ذكرته قبل وهو الوجوب, وهو الموجود في معظم كتب المذهب, والمنصوص عن الإمام أحمد كما أسلفت.

القائلون بفرض الكفاية وظفوا -كما يعبر- الأدلة بطريقة أخرى, هؤلاء القائلون بفرض الكفاية أخذوا أدلة القائلين بفرض العين, وقد ذكرناها ويمكن بلغت أربعة عشر دليلاً, فأخذوا هذه الأدلة وقالوا: هذه الأدلة عينها كلها، وقالوا: كل هذه الأدلة تدل على فرض الكفاية، مصروفاً عن فرض العين إلى فرض الكفاية.

قلنا: ما الصارف لها عن فرض العين إلى فرض كفاية؟

قالوا: الصارف لها هي أدلة القائلين بالسنية. هذا الاستدلال الأول, وينطوي فيه أدلة كثيرة.

من أدلتهم على وجه الخصوص: حديث أبي الدرداء الذي ذكرته قبل قليل, وأخرجه أبو داود وأحمد .. وغيرهما في قول صلى الله عليه وسلم: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة ) قالوا: فإن هذا دليل على أن المقصود أن تقام صلاة الجماعة في القرية أو البلد, ولا يلزم أن يقيمها الجميع, ولهذا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمون الصلاة) بل قال: (لا تقام فيهم الصلاة), فإذا أقيمت فيهم الصلاة سلموا من الحوب والإثم المذكور في الحديث.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 426-428 للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net