إسلام ويب

وردت عدة أدعية في قنوت الوتر منها: (اللهم اهدني فيمن هديت ...) وهذا حديث صححه جماعة من أهل العلم عن الحسن رضي الله عنه، وقد جاء بلفظ مقارب وفيه زيادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ذكر أن هذا الدعاء في صلاة الصبح، لكن هذا الحديث ضعيف لجهالة أحد رواته، ومما ورد ما اشتهر عن عمر أنه كان يدعو بـ (اللهم إنا نستعينك ونستهديك ...)، وهناك جملة أحكام مهمة بينها شراح الأحاديث السابقة.

شرح حديث الحسن: (علمني رسول الله كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

عندنا في هذه الليلة أحاديث، لكننا سنقتصر منها على حديثين؛ نظراً لوجود أثر الرشح عندي، وإني كنت متردداً في إلقاء هذا الدرس، لكن عزم الله تعالى لي وأنا في الصلاة على أن نستثمر هذا المجلس، وألا يكون مسعاكم إلى المسجد وخطواتكم أن تعودوا دون أن تخرجوا بفائدة، ولو كانت محدودة، وإن كنتم إن شاء الله مأجورين على كل حال، وحسب المسلم أن يكتب له أجر ممشاه إلى بيت من بيوت الله، وإلى مجلس من مجالس الذكر والعلم، نسأل الله أن يجعلنا مخلصين.

الحديث الأول: حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت )، رواه الخمسة كما يقول المصنف، وزاد الطبراني والبيهقي بعد قوله: ( إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت )، وزاد النسائي من وجه آخر في آخره: ( وصلى الله تعالى على النبي ).

تخريج الحديث

الحديث: رواه الخمسة، فهو في سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده، ورواه أيضاً الطيالسي كما في مسنده، وابن الجارود في المنتقي، والدارمي كما في السنن، ورواه الحاكم في مستدركه، وابن أبي شيبة في المصنف في مواضع، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط، وفي كتاب الدعاء له، وهو كتاب مستقل مطبوع في ثلاثة مجلدات محققة.

ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل، وهو موجود في المختصر المطبوع مختصر قيام الليل لـمحمد بن نصر المروزي، كما رواه أيضاً البيهقي في سننه في مواضع، وابن خزيمة كما في صحيحه أيضاً، وابن حبان كما في الإحسان، وكما في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان.. وغيره.

والحديث سنده صحيح، وقد صححه جماعة من أهل العلم، فمن صححه فيمن ذكرنا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما في المستدرك، وكذلك قال الإمام النووي في كتابه المجموع شرح المهذب قال: هذا حديث صحيح، وكذلك الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء إحياء علوم الدين المغني عن حمل الأسفار في الأسفار قال: إسناده صحيح، وكذلك الحافظ ابن حجر في كتابه نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، قال: هذا حديث حسن صحيح، وكذلك صححه من المعاصرين الألباني وغيره من المحققين أيضاً، فتصحيحه معروف مشهور، وممن يدخل فيمن أثبتوا الحديث الإمام الترمذي، فإنه حسنه كما في سننه، وكذلك أبو علي البكري في كتابه الأربعين .

وعلى كل حال لا كلام حول ثبوت الحديث، وصحة إسناده، والزيادة التي ذكرها المصنف في قوله: ( ولا يعز من عاديت ) عزاها المصنف للبيهقي، وعزاها للطبراني فهي موجودة عند الطبراني في المواضع المشار إليها سابقاً من معجمه وفي كتاب الدعاء له، وهي أيضاً بالإسناد عند ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم في كتاب السنة، وكذلك رواه من طريق آخر الإمام ابن منده في كتاب التوحيد وهو مطبوع.

وله طريق آخر من رواية هشام بن عروة، وهذا عند ابن أبي عاصم كما أشرت في كتاب السنة له، من طريق هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحسن، وهذا الإسناد لا كلام فيه، ولكنه ذكر في أوله قال الحسن رضي الله عنه: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا فرغت من قراءة الوتر -أو إذا فرغت من قراءتي في الوتر- اللهم اهدني )، وزاد في آخره أيضاً، قال: ( لا منجى منك إلا إليك )، وهذا مما لم يذكره المصنف، وقد رواه الحاكم أيضاً في مستدركه أيضاً، والبيهقي، وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال الشيخ الألباني في كتابه إرواء الغليل : إسناده حسن، يعني: إسناد الحاكم ورجاله ثقات، رجال البخاري غير الشعراني، قال الحاكم : ثقة لم يطعن فيه بحجة، فلعله لذلك حسن إسناده الألباني، واقتصر على تحسينه ولم يصحح؛ لأن فيه الشعراني هذا تكلم فيه، لكن الصواب مع من حسنوا حديثه، فخلاصة الكلام في حديث الباب أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه علمه الحسن بن علي في دعاء القنوت في صلاة الوتر، كما ذكر.

الجمع بين روايتي: (اللهم اهدنا) و(اللهم اهدني)

وقد ساقه المصنف بلفظ المفرد: ( اللهم اهدني )، وقد جاء في رواية أخرى: ( اللهم اهدنا ).

وهذا يرشد إلى أن الإنسان إن صلى منفرداً دعا بهذا الدعاء على صيغة الإفراد: ( اللهم اهدني )، فإن صلى إماماً في جماعة، فإنه يدعو بصيغة الجمع، فيقول: ( اللهم اهدنا )؛ لأنهم يؤمنون خلفه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمّ قوماً فخص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم )، فيجب عليه أن يدعو بلفظ الجمع: ( اللهم اهدنا فيمن هديت )، إذا كان إماماً.

أدعية قنوت الوتر

هذا أحد الأدعية الواردة في قنوت الوتر، وقد جاء أيضاً في بعض الألفاظ وفي بعض الطرق: أن هذا في دعاء القنوت في الصلاة، ولكن أكثر الروايات -وهي المعتمدة- أن هذا الدعاء في قنوت الوتر، كما ذكرنا في بعض الطرق والألفاظ.

دعاء القنوت الوارد عن عمر

ومن الأدعية التي وردت أيضاً في قنوت الوتر غير هذا الدعاء الدعاء الآخر المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ما يسمى: (سورة الحفد) التي ذكر بعضهم أنها كانت موجودة في مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر يدعو بها في صلاة القنوت، قال بعضهم في صلاة القنوت قنوت الوتر.

وقال بعضهم: كلا، بل كان يدعو بها في النوازل وهذا أصح، ولفظها: ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق ).

فقوله: ( اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد )، معنى (نحفد) من الحفد وهو الإسراع في المشي، أي: نسارع في طاعتك، وخدمة دينك، فهي تشبه قول الملبي: (لبيك اللهم لبيك) يعني: (لبيك) فيها معنى الإقامة على الطاعة والثبات عليها، من لبَّ بالمكان إذا أقام.

وهذا (الحفد) فيه معنى الإسراع في طاعة الله تعالى، واتباع مرضاته.

وقوله: ( وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق ).

قوله: (ملحق) جاء بالوجهين:

الوجه الأول: بكسر الحاء (ملحِق): ( إن عذابك الجد بالكفار ملحِق )، يعني: أن من نزل عليه عذابك الشديد، ألحقه عذابك بالكفار، لاحظ المعنى: (إن عذابك الجد بالكفار ملحِق) يعني: من نزل عليه عذابك يا ربِّ الشديد، فإنه يلحقه بالكفار، فهو بالكفار ملحق.

والوجه الثاني: (ملحَق) بفتح الحاء، فيكون المعنى عليه: أن عذابك الشديد نازل بالكفار لا محالة، ومصيب لهم طال الزمن أم قصر، وكأن هذا المعنى أقرب وأظهر، وحتى على رواية الكسر (ملحِق) جائز: أن يكون المعنى: هو أن عذابك الشديد لاحق بالكفار، ونازل بهم لا محالة، فالله تعالى لا يرد بأسه عن القوم الظالمين .. المجرمين.

ثم كان عمر رضي الله عنه -وهذا دعاؤه- يعقب ذلك بالدعاء على كفرة أهل الكتاب، فكان يقول: ( اللهم عذب كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويحاربون أولياءك )، وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي، ومحمد بن نصر المروزي، وسنده صحيح كما ذكر ذلك البيهقي في سننه والألباني .. وغيرهم.

روايات أخرى لدعاء القنوت الوارد عن عمر

وله ألفاظ أخرى رغبت في سياقها؛ لأن الناس مقبلون على شهر رمضان، وعلى القنوت فيه، فمن الخير أن يسمعوا هذا الدعاء، ويقتصروا على القدر المشروع؛ لأن كثيراً منهم إذا تعدى المشروع أخطأ، وتعدى في الدعاء؛ لأنه ليس لديه فقه.

فالاقتصار على ما ورد أولى، خاصة أن فيه نفس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سوف أسوقه الآن، من الشدة على الكافرين، والرحمة بالمؤمنين، والرغبة في اجتماع كلمتهم.

فمن ألفاظ الحديث الواردة في بعض طرقه، وهو صحيح كما سوف أذكر، أنه كان يقول: ( اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل الأرض بهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين ).

وهذا اللفظ الذي سقته أخيراً، قال فيه الحافظ ابن حجر في كتاب نتائج الأفكار قال: هذا موقوف صحيح. يعني: على عمر، انتهى كلام ابن حجر .

في سنده ابن جريج، وابن جريج وإن كان ثقة إماماً إلا أنه مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث، فلعل تصحيح ابن حجر لهذا الإسناد لعله بالنظر إلى طرقه، فإنه جاء من طرق كثيرة ثابتة إجمالاً.

وكذلك رواه عبد الرزاق بسند حسن كما ذكر الحافظ قال: وزاد: ( اللهم عذب الكفرة، وألقِ في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم رجسك وعذابك ) وجاء في آخره كما ذكرته وسقته قبل قليل: ( اللهم عذب الكفرة، الذين يصدون عن سبيلك، ويحاربون أولياءك ).

وهذا القدر الذي هو: ( اللهم عذب الكفرة ) لم يكن من الموقوف على عمر رضي الله عنه، بل صح به الإسناد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد : ( أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: اجمعوا فجمعهم وصفهم صفوفاً، ثم رفع يديه ودعا بهم بنحو هذا الدعاء ). الذي ذكرته

وقد جاء هذا بسند صحيح من حديث رافع بن مالك الزرقي، وهو صحابي، ورواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في المعجم الكبير، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وهو مجلد مطبوع مستقل عن السنن الكبرى، وكذلك رواه الحاكم في مستدركه، وقال الحافظ ابن حجر : سنده صحيح، فهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعني: قوله (اللهم عذب الكفرة)، وعمر رضي الله عنه دعا به.

أقسام دعاء القنوت الوارد عن عمر وذكر المواطن التي دعا عمر فيها

وهذا الدعاء الذي دعا به عمر رضي الله عنه من الظاهر لكم أنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما نقله من مصحف أبي بن كعب، وهو ما يسمى بـ(سورة الحفد): ( اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحِق )، وكذلك: ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك ).

هذا أخذه عمر عن مصحف أبي أو عن أبي، وكان يدعو به.

القسم الثاني من الدعاء: دعاء عمر، هو دعاء على كفرة أهل الكتاب، ودعاؤه للمؤمنين بالمغفرة، وإصلاح ذات البين، ونصرتهم على عدوه تعالى وعدوهم، وإنزال بأسه تعالى بالكافرين، فهذا من عمر رضي الله عنه ذاته، فهو موقوف عليه رضي الله عنه، وإنما قاله عمر -والله تعالى أعلم- في قنوت النازلة، ليس في قنوت الوتر، إنما قاله في قنوت النازلة؛ ولذلك دعا على كفرة أهل الكتاب؛ لأن عمر رضي الله عنه كما هو معروف في خلافته، تحركت الجيوش الإسلامية إلى بلاد الشام .. وغيرها، تقاتل كفرة أهل الكتاب وتقارعهم؛ فلذلك دعا عليهم بهذا الدعاء، فكان يؤيد بعث الجند بهذه الدعوات التي يدعو بها، ويؤمن خلفه المسلمون.

وهذا مشروع عند العلماء، واقتصر على ذكر قول واحد من أقوالهم، وهو قول الإمام ابن تيمية، فإنه قال في كتاب الفتاوى (في الجزء الثالث والعشرين) قال: (إن عمر رضي الله عنه لما حارب كفار النصارى قنت عليهم القنوت المشهور: ( اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ..) )، ونص الشيخ الإمام ابن تيمية ظاهر في أن عمر إنما قال هذا الدعاء في قنوت النازلة، قال: (فـعمر قنت لما نزلت بالمسلمين نازلة)، والكلام لـابن تيمية فـعمر قنت لما نزلت بالمسلمين نازلة، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة.

الاقتصار في دعاء قنوت الوتر على الوارد بخلاف النوازل

إذاً: دعاء: ( اللهم اهدنا فيمن هديت )، وكذلك: ( اللهم إنا نستعينك ) و( اللهم إياك نعبد )، هذا يقال في قنوت الوتر، أما في قنوت النازلة، القنوت بسبب مصيبة ألمت بالمسلمين، فليس الدعاء فيها شيئاً معيناً، ولا يدعو بما خطر على باله، لا، بل يدعو بالدعاء المشروع، أو بدعاء من جنس الدعاء المشروع، مما يناسب سبب القنوت؛ ولهذا إذا دعا في الاستسقاء، فإنه يدعو بما يناسب الاستسقاء، وما يناسب المقصود من طلب نزول الغيث كما ورد ذلك، مثل: لو دعا خارج الصلاة، فإن الإنسان إذا ألمت به نازلة في ذاته أو بالأمة، ودعا خارج الصلاة، فإنه يكثر من الدعاء بما يناسب تلك النازلة؛ فكذلك إذا دعا داخل الصلاة في القنوت أو في غيره، فإنه يدعو بما يناسبها، بما يناسب المقصود، وبما يناسب الحال الواقع للمسلمين.

دعاء القنوت بـ(اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ...)

ومن الدعاء الوارد أيضاً في قنوت الوتر ما رواه علي رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك )، وهذا كونه صلى الله عليه وسلم دعا به في آخر الوتر، لاحظ الفرق في اللفظ هذا: (كان يدعو به في آخر الوتر)، كما يقول علي رضي الله عنه، هذا اللفظ كان يقوله في آخر الوتر.

جاء هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وأبي يعلى والنسائي رواه في كتاب النعوت له من السنن الكبرى، ورواه ابن ماجه، ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، وهو مطبوع، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على مسند أبيه، ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي على ذلك، وكذلك قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، وهو صحيح كما قال الحاكم وأقره الذهبي بلفظ: ( أنه كان يقول في آخر وتره )؛ ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في نتائج الأفكار : هذا حديث صحيح.

المواضع التي يقال فيها: (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك)

وقد اختلف أهل العلم في هذا الدعاء: ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك )، في أي موضع يقال؟

فقال بعضهم: إن قوله (في آخر الوتر) يعني: في آخر سجدة من الوتر.

واحتجوا لذلك كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( لما وقعت يدها على قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فسمعته يقول وهو ساجد: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك )، فعلى هذا يكون قول علي رضي الله عنه في هذا اللفظ: (أنه كان يقوله في آخر وتره) يعني: في آخر سجدته من سجود الوتر، هذا الاحتمال الأول.

الاحتمال الثاني: أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله في آخر الدعاء، في آخر القنوت يعني، وهذا هو ظاهر اللفظ في قوله (في آخر وتره) يعني: في آخر القنوت، وهذا هو الذي ذهب إليه الإمام أبو داود، كما يدل عليه تبويبه لهذا الحديث، فإنه ترجم عليه وأورده في باب القنوت في الوتر، بعد ما ذكر حديث الحسن بن علي حديث الباب، فدل على أن أبا داود يذهب إلى أن هذا الدعاء يقال في آخر القنوت من صلاة الوتر، ووافقه على هذا جماعة من الأئمة المصنفين في تراجمهم، كـابن ماجه في سننه، وكذلك الطبراني في كتاب الدعاء.

وقريب من هذا والله أعلم اختيار الإمام الترمذي، فإن الترمذي قال في سننه بعدما خرج حديث الحسن، الذي سقته قبل قليل، قال: وفي الباب عن علي . وكأنه يشير إلى هذا الحديث، الذي هو حديث علي رضي الله عنه أنه يقول: ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك )، فقوله: (وفي الباب) يعني: في باب الدعاء من القنوت، فهذا يرجح أن رأي الترمذي كرأي أبي داود وابن ماجه والطبراني أن هذا يقال في آخر دعاء القنوت.

والوجه الثالث: أن بعضهم قال: إن هذا الدعاء يقال عقب السلام من الوتر، وهذا هو ظاهر اختيار الإمام النووي في كتاب الأذكار، فإنه قال: إنه يقال بعد السلام من الوتر.

والأرجح -والله تعالى أعلم- من هذه الأقوال، أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء في آخر القنوت من صلاة الوتر، وكان يقوله في سجوده أيضاً، فهو من الأدعية المشتركة، أو من الأذكار المشتركة، التي تقال في القنوت، وتقال في السجود، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في سجوده في قيام الليل، كما في حديث عائشة في صحيح مسلم، كما أسلفته.

أما الحافظ ابن حجر، فإنه ذهب إلى اختيار أنه يقال في آخر السجود من القنوت، جمعاً بين الروايتين، وهذا له وجه، والأولى أن يقوله في القنوت، ويقوله أيضاً في السجود.

تخريج زيادة: (وصلى الله تعالى على النبي محمد) في دعاء القنوت

أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها المصنف، ونسبها للنسائي من وجه آخر، كما يقول: ( وصلى الله تعالى على النبي ) فهذه رواها النسائي في سننه في قيام الليل، باب الدعاء في الوتر، وقال الإمام النووي في كتاب الأذكار : إسناده حسن، بل بالغ فقال في المجموع : إسناده صحيح أو حسن، وهكذا قال في كتابه الخلاصة وفي النسائي لفظ: ( وصلى الله تعالى على النبي محمد )، ففيه زيادة (محمد) على اللفظ الذي ساقه المصنف.

وحكم النووي على هذه اللفظة، أو على هذه الزيادة بأنها حسنة أو صحيحة، وهو متعقب، بل سندها ضعيف أو منقطع، وهي رواية شاذة؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر : هذا حديث أصله حسن، يعني: أصل حديث الحسن بن علي ثابت، هذا كما سبق، بل أصله صحيح؛ لكن هذه الزيادة -يعني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا السند- غريبة لا تثبت؛ لأن عبد الله بن علي هذا أحد رجال الإسناد، وهو الراوي عن الحسن لا يعرف. هذا كلام الحافظ ابن حجر .

وعلى احتمال أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي، فالإسناد منقطع؛ لأنه لم يدرك جده، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن عبد الله بن علي في الإسناد، هو ابن الحسين بن علي، كما ذكر ذلك المزي وغيره.

فعلى أن يكون هو ابن الحسين بن علي فالسند منقطع، هذه هي العلة الأولى، فهو إما فيه جهالة أو انقطاع، ومع ذلك ففي الحديث علة أخرى أشار إليها الحافظ : وهي الشذوذ، فإن الراوي في هذا الحديث يحيى بن عبد الله قد خولف في ذلك، فرواه غيره مثل: إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، روياه ولم يذكرا فيه هذه الزيادة، فروياه على خلاف ما رواه يحيى .

لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الوتر ثابتة عن كثير من السلف، فقد ثبت عن معاذ بن الحارث الأنصاري، وهو صحابي رضي الله عنه: ( أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته )، ومثله أبي رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء، وكذلك رواه الحافظ ابن حجر في كتاب نتائج الأفكار بإسناده، وقال ابن حجر : وهذا موقوف صحيح، يعني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم موقوفة على معاذ بن الحارث، وأبي بن كعب رضي الله عنهما.

وكذلك أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل عن الزهري، وعن أيوب السختياني قالا: [ إنهم كانوا يفعلونه ]، يعني الزهري وأيوب يتكلمان عن السلف من الصحابة وكبار التابعين رضي الله عنهم، وسند هذه الرواية صحيح، سند رواية الزهري، وسند رواية أيوب السختياني كلاهما صحيح.

إذاً: من الثابت عن السلف، أنهم كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صلاة الوتر.

بيان محل القنوت وحكم رفع اليدين فيه

يبقي: أنه يتعلق بالقنوت في الوتر أحكام كثيرة جداً لا يتسع المجال لبسطها والحديث عنها.

مثل: محل القنوت وهل هو قبل الركوع أو بعده؟ وسنمر عليها عاجلاً وذلك ثابت؛ ولهذا كان أهل الحديث لأخذهم بكل ما ورد، كما نقل عن الإمام أحمد .. وغيره، يقنتون، أو يبيحون القنوت قبل الركوع وبعده، فذلك ثابت، وإن كان بعد الركوع أكثر، ولكنه ثابت قبل الركوع أحياناً في صلاة الوتر، وفي قنوت النازلة؛ وكذلك رفع اليدين في القنوت، فهو ثابت من حديث عمر عند البيهقي، وسنده صحيح.

وكذلك رفع اليدين في النازلة ثابت أيضاً:

ورفع اليدين في الدعاء عموماً متواتر كما سبق الحديث عنه، أما مسح الوجه باليدين فمختلف فيه، فيه أحاديث اختلف فيها العلماء، منهم من حسنها، كـالترمذي، ومنهم من ضعفها، والأولى: أنها لا تثبت، ولا يشرع للإنسان أن يمسح وجهه بيديه، لكن لو فعل لا نقول: إن هذه بدعة، ولا ينكر عليه؛ لأنه جاء فيها أحاديث أثبتها بعض أهل العلم.

مشروعية القنوت وثبوته

وكذلك المحافظة على القنوت، فأما أصل القنوت فهو ثابت عند جماهير أهل العلم، وإن خالف في ذلك أفراد قلائل من السلف، وهي رواية عن الإمام مالك : أنه يرى أن القنوت بدعة، ويقول: لم أجد أحداً يفعله من هؤلاء، يعني: السلف الصالح، وهذا محجوج بما وجده غيره، وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفعله، وكذلك أصحابه من بعده، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعلم علياً نفسه.

كما سبق قبل قليل: ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك )، وفعله الصحابة رضي الله عنهم منهم: عمر وأبي ومعاذ بن الحارث .. وغيرهم كما سبق في الروايات، فهو ثابت.

وقول مالك : إنه لم يجد أحداً يفعله من هؤلاء، محجوج بمن وجده من الأئمة، فهي إحدى الروايات عن الإمام مالك في بدعية القنوت، والصحيح الذي عليه الجماهير أن القنوت سنة، سواء قنت طوال العام، أو قنت حيناً وترك حيناً، أو قنت في النصف الثاني من الشهر .. إلى غير ذلك، الأمر في ذلك واسع.

تعيين دعاء خاص في القنوت

ولا يتعين في القنوت دعاء خاص مثل الأدعية التي ذكرنا، لا، فإن دعا بالأدعية التي ذكرنا فهذا حسن وجيد، وهو أولى من الدعاء بأدعية أخرى، اللهم لا بأس أن يدعو بما سبق، ويضيف إليه أدعية واردة مثل: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) .. وما أشبه ذلك، أو أدعية من جنس الأدعية الواردة، يعني: إن كان فقيهاً أو طالب علم يميز، فإنه يدعو بجنس الدعاء الوارد، كأن يدعو مثلاً بدخول الجنة والنجاة من النار، والمغفرة له ولوالديه ولأقاربه .. وما أشبه ذلك من الأدعية، التي تدخل في عموم الدعاء الوارد، وليس المقصود حين نقول: (يدعو بالدعاء الوارد) أنه يلتزم بالألفاظ نفسها، هذا ليس بلازم، ولا يتعين الدعاء الذي ذكرنا سابقاً أبداً، لا في قنوت الوتر ولا في قنوت النازلة، نقل الاتفاق على ذلك -يعني: على عدم تعيين هذا الدعاء- جماعة، منهم: القاضي عياض رحمه الله، ومنهم أيضاً ابن الصلاح، ومنهم الأبي .. وغيرهم، أنه لا يتعين هذا الدعاء، بل يدعو به أو بغيره، وكذلك قال النووي في كتابه الأذكار، قال: هو الصحيح، يعني: أنه لا يتعين، ولكنه يستحب، قاله النووي رحمه الله.

ما يقال بعد صلاة الوتر

ومن الأحكام التي ينبغي معرفتها عن الوتر: أنه يقول بعد الوتر كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وغيره بسند صحيح، أنه كان يقول بعد الوتر: ( سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، يمد صوته بالثالثة ).

مشروعية صلاة ركعتين خفيفتين جالساً بعد الوتر

كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( أنه كان يصلى عقب الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس )، وقد تكلم العلماء فيها بكلام طويل، وأكثر أهل العلم على أنه لا يصلي بعد الوتر شيئاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم أيضاً: ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً )، ولو صلى بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس، فإنه لا تثريب عليه في ذلك إن شاء الله، كيف وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت دليل ظاهر على الخصوصية.

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح)

الحديث الثاني وبه نختم:

هو حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاءً ندعو به في القنوت من صلاة الصبح ) ثم ذكر الدعاء السابق، دعاء الحسن : ( اللهم اهدنا فيمن هديت .. )، إلى آخره، لكن ذكره هنا بلفظ الجمع، والمصنف رحمه الله اقتصر على القدر الزائد في حديث ابن عباس .

تخريج الحديث

وحديث ابن عباس فيه: أنه للقنوت في صلاة الصبح، كما أسلفت قبل قليل.

ولكن المصنف أشار إلى ضعف الإسناد، قال: وفي سنده ضعف، والحديث رواه البيهقي في سننه في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، ثم ذكر اللفظ الذي ساقه المصنف، وذكر: ( اللهم اهدنا فيمن هديت .. )، إلى قوله: ( تباركت ربنا وتعاليت )، وسبب الضعف الذي ذكره المصنف، أو أشار إليه أن في سند الحديث ابن جريج، كما في سند البيهقي، وهو مدلس وقد عنعن، وفي بعض الكتب الأخرى وجدتها ابن خديج، فلا أدرى أهو خطأ مطبعي، أو أنه مختلف في ذلك الراوي.

وأيضاً من أسباب الضعف: أن ابن جريج أو ابن خديج يرويه عن ابن هرمز، قال في بعض الطرق عند البيهقي : عبد الرحمن وفي بعضها قال: عبد الله، وابن هرمز هذا ليس هو الأعرج، وإنما هو عبد الرحمن بن هرمز المكي، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، فإنه ذكره تمييزاً؛ لأنه ليس من رجال الكتب الستة، وأشار إليه، فـالحافظ رحمه الله في تهذيب التهذيب ذكر ابن هرمز تمييزاً، وقال: إنه يروي عنه ابن جريج أو ابن خديج، ويروي هو عن ابن بريد .. وهكذا في إسناد البيهقي رحمه الله، أو ابن يزيد، ثم قال الحافظ ابن حجر في التهذيب : أخرج حديثه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل، والحاكم في كتاب القنوت والبيهقي من طرق، وهو مجهول، فتبين بذلك: أن السند ضعيف، علته ابن هرمز هذا وهو المكي، وهو مجهول كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى.

هذا وأسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 329-330 للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net