إسلام ويب

الفدية في الحج هي ما يعوضه الإنسان عن عبادة قصر فيها، وهي على ضربين: الضرب الأول: فدية على التخيير والتقدير، وفدية على الترتيب، سواء كان فدية الجماع أو المتمتع أو المحصر أو الفوات، كما يتعلق بالفدية أحكام ومسائل سواء كان عند تداخل المحضورات أو الفدية أو ما يجب فعله في كل ذلك.

تعريف الفدية وأنواعها

الفدية: هي ما يعوضه الإنسان عن عبادة قصر فيها من مال أو نحوه، ومثل ذلك: كفارة اليمين فقد تسمى فدية، وكفارة الصيام إذا واقع أهله في نهار رمضان، فهي تسمى فدية أو كفارة، وكذلك كفارة فعل المحظور حال الحج، مثل ما لو غطى رأسه، أو حلق رأسه، أو تطيب.. أو ما أشبه ذلك، أو واقع أهله، فإن هذه تسمى: فدية، وتسمى: كفارة، وقد يعبر عنها بعضهم بأنها البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، يعني: من أمر مكروه، وليس المقصود أنه مكروه من الناحية الشرعية، لكن وقوعه في شيء مكروه توجه إليه، والأصل فيها قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فيما يتعلق بحلق الرأس.

والفدية في الحج على ضربين:

الضرب الأول: فدية على التخيير والتقدير، بمعنى: أن يكون للفدية عدة خصال، خصلتان أو ثلاث خصال، ويكون المكلف مخيراً بين هذه الأشياء، فتسمى فدية تخيير، وكذلك تسمى فدية تقدير؛ لأنه إذا انتقل من خصلة إلى التي بعدها تكون الخصلة الثانية مقدرة أيضاً وليست متروكة لاجتهاده، كمن يترك الصيام وينتقل إلى الصدقة؛ لأن الصدقة إطعام ستة مساكين، أو يترك الصدقة وينتقل إلى الصيام.. وهكذا، فإنها مقدرة في خصالها كلها.

النوع الثاني: فدية على الترتيب وليست على التخيير.

النوع الأول: الفدية على التخيير

نأخذ النوع الأول المتعلق بالتخيير، والتخيير يكون بين الخصال الثلاث المذكورة في الآية الكريمة، في قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، حديث كعب بن عجرة ذكر تفسيراً لهذه الآية، ودل على أن الفدية من صيام، تكون بصيام ثلاثة أيام، أو صدقة تكون بإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، فتكون الكفارة كلها ثلاثة آصع، يعني: صام عن كل صاع يوماً، فإن انتقل إلى الثالث النسك، فهو أن يذبح شاة، ينسك شاة، ومعروف أن الشاة المقصود بها هنا مما يجزئ في الأضحية، طيب هذه هي التي على التخيير، كما ذكرناها في الآية.

العذر في الفدية

هل يستوي أن يكون الإنسان معذوراً أو غير معذور في هذه الفدية؟ يعني: كعب بن عجرة رضي الله عنه آذاه هوام رأسه، كان عنده قمل وعنده مشكلة في رأسه احتاجت إلى أن يحلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالحلق وشرع له الفدية.

لو إنسان حلق رأسه من باب الترفه، وليس في شعره شيء، ولا عنده أي دافع لذلك ولا له عذر، هل نقول: إنه مثل من حلق لعذر أو يختلف؟

الصواب أنه لا يختلف، وهناك روايتان، بعضهم يرى أنه يختلف حتى في الكفارة، لكن نقول: إحدى الروايتين أنه يختلف إذا كان غير معذور، فيقولون ذلك مثل كفارة اليمين، سواء كان الحنث جائزاً أو غير جائز.

والثاني: يقولون: لا يختلف الأمر، سواء كان محتاجاً أو غير محتاج، وإنما الاختلاف في كونه أثم بحلق رأسه بخلاف المعذور، فإنه ليس عليه إثم.

حكم إخراج الفدية بعد السبب وقبل فعل المحظور

هل يجوز له أن يخرج الفدية بعد وجود السبب وقبل فعل المحظور؟

يعني: لو آذاه رأسه، ونوى أن يحلق هل له أن يخرج الفدية؛ يذبح شاة ثم يحلق رأسه، أو نقول: لا يخرج الفدية إلا بعد حلق الرأس وارتكاب المحظور؟

الصواب أنه يجوز، مادام أنه وجد السبب، فإن له أن يخرج الفدية بعد أو قبل، مثله في ذلك مثل كفارة اليمين، يعني: لو أن إنساناً حلف أن لا يشرب هذا الماء، ثم نوى أن يشربه أليس يجوز له إخراج كفارة اليمين ثم يشرب؟

يجوز له أن يشرب، ثم يخرج الكفارة بعدما حنِث، كلا الوجهين جيد، لكن هل يجوز له أن يرتكب الكفارة قبل ما يحلف؟

هذه يُنتبه لها؛ لأنه لم يوجد الموجب أصلاً.

إذاً: يلحق بفدية الأذى؛ وفدية الأذى المقصود بها في الأصل: حلق الرأس، ويطلق عليها الفقهاء: فدية الأذى، ويلحقون بها فدية اللبس وفدية الطيب.

فدية من لبس محظوراً أو استعمل طيباً

إذا لبس محظوراً كما لو غطى رأسه بطاقية مثلاً أو عمامة أو غترة أو شماغ أو غيرها مما تغطى به الرءوس عادة، وهكذا فدية الطيب لو تطيب في بدنه وثيابه بعدما تلبس بالإحرام فهو قد ارتكب محظوراً، فالفقهاء يلحقون هذا بفدية الأذى ويوجبون عليه ما ورد في الآية الكريمة وفي حديث كعب بن عجرة .

وقد ذكرنا فيما سبق اعتراض الظاهرية وابن حزم والشوكاني على أصل المسألة، بحيث لا يوجبون فدية إلا فيما ورد النص فيه، وهو حلق الرأس، ولا يلحقون بها غيرها.

كذلك الحنفية يرون أنه ليس عليه فدية إذا لبس إلا إذا استدامها لمدة يوم كامل، فلو لبس شيئاً ثم تذكر فخلعه، أو لبسه بعض الوقت ثم خلعه، فلا يرون عليه فدية إلا إذا استدام لبسه نهاراً كاملاً، وهذه من ضروب التوسعة عند الفقهاء التي يمكن أن يلجأ إليها المفتي حتى لو كان يريد ألا يخرج عن أقوال المذاهب المتبوعة المشهورة.

حكم لبس المحرم السراويل مضطراً

كذلك من لبس السراويل مضطراً، لم يجد إزاراً يغطي به بدنه فلبس السراويل على صفتها وعلى ما هي عليه من باب الضرورة.

فالصحيح أنه ليس عليه شيء؛ لحديث ابن عباس قال: ( ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل )، وأما مالك وأبو حنيفة فقالوا: إن عليه في ذلك الفدية حتى لو كان مضطراً؛ لأنهم ألحقوها بفدية الأذى من حلق رأسه كما حصل لـكعب رضي الله عنه.

من تطيب عامداً فعليه الفدية عند جميع هؤلاء الأئمة، يرون أن عليه الفدية إلا من ذكرنا أنهم لا يرون الفدية أصلاً.

حكم الفدية لمن ترك واجباً

هل يلحق ترك الواجب بفعل المحظور؟

من ترك واجباً من واجبات الحج، مثلما لو ترك رمي الجمرات، أو ترك المبيت بمنى أو ترك المبيت بـمزدلفة عند من يقولون بوجوب هذه الأشياء، هل يلحق بمن فعل المحظور، أو لا؟

المصنف رحمه الله في بعض نسخ العمدة قال: [وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب]، فألحق ذلك بالمحظورات, وعلى هذا يجب بترك الواجب فدية.

هل هذه الفدية على التخيير أم على الترتيب؟

نص المؤلف رضي الله عنه ورحمه الله أنها على التخيير، مثلما ذكرنا في فدية الأذى ونحوه، وهذا قول الأكثرين، بل ذكره بعضهم رواية واحدة في مذهب الإمام أحمد، واستدل هؤلاء بالأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنه: (من ترك نسكاً فعليه دم).

المصنف أيضاً ذكر جزاء الصيد بعدما ذكر الواجبات التي على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب قال: [فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام, أو طعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين, أو ذبح شاة].

أحكام الصيد في الحج

جزاء الصيد

ثم قال: [ وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم ].

أما جزاء الصيد فقد ذكرنا إجماع العلماء على وجوب الجزاء على المحرم يقتل الصيد، للآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95].

الصيد لابد أن يتوفر فيه شرطان هما: أن يكون وحشياً وأن يكون حلالاً، يعني: مباح الأكل.

أدلة جزاء الصيد للمحرم

إذاً: ما وجب ضمانه من الصيد قد يكون مضموناً بالإحرام، يعني: محرم أصاب صيداً؛ فيكون النهي عنه حينئذٍ لأن المحرم كان متلبساً بالإحرام، وقد يكون المقصود بالصيد صيد الحرَم، حتى لو كان على غير المحرم، هذا يضمن بمثله من بهيمة الأنعام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في الآية: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، وتقدير الآية: عليه؛ على من قتله جزاء، وهذا الجزاء هو: مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95]، لو ظلت الآية هكذا فقط: مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95]، لربما فهم البعض أنه يخرج بدل الغزال يخرج ماذا؟ غزالاً؛ لأنها مثلها، لكن لما قال الله سبحانه وتعالى: مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، علم أن المقصود من بهيمة الأنعام، أن هذا هو المقصود، والمثل ليس هو المماثل من كل جهة، وإنما المقصود النظير له أو المشابه في الخلقة والصورة، ولو لم يكن هذا المشابه مجزئاً في الأضحية وهذا يتفطن له.

ولذلك العلماء ذكروا مثلاً في جزاء الصيد إخراج العناق، وهل العناق تجزئ في الأضحية؟

لا، وكذلك الجفرة، يعني: سنها دون السن الشرعية، ومع ذلك فإنها تصلح، فإذا صاد صغيراً فإنه يخرج صغيراً، وإذا صاد كبيراً أخرج كبيراً ولو لم يكن المثل مجزئاً في الأضحية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، حتى لو لم يكن مجزئاً في الأضحية، والدليل على ذلك: أولاً: الآية كما ذكرنا، والدليل الثاني: حديث جابر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيبه المحرم كبشاً )، وفي بعض الألفاظ: ( وعده من الصيد )، وحديث جابر رواه أهل السنن؛ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي .. وغيرهم، وسنده جيد، بل نقل الترمذي في علله عن البخاري أنه صححه، لكن أعل جماعة هذا الحديث بأنه موقوف، وهذا الإعلال متجه، فيكون هذا أثراً من قول صحابي وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام .

ومما يستدل به أيضاً: أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهي كثيرة جداً، من ذلك: ما رواه مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه قضى في الضبع نظير ما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قضى في الغزال بعنز، وقضى في الأرنب بعناق؛ لوجود التشابه بين هذه الأشياء، وقضى في اليربوع، -وهو ما نسميه نحن بالجربوع- قضى فيها بجفرة، وكذلك روى الشافعي رضي الله عنه عن عطاء : أن عمر وعثمان وعلياً وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم قالوا: (في النعامة يصيبها المحرم، فيها بدنة من الإبل) لوجود الشبه بين شكل النعامة وشكل البدنة من الإبل، وفي سند هذا الحديث ضعف، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: إنما نجعل في النعامة بدنة بالقياس، يعني: من حيث الشبه، وليس بالأثر؛ لأن هذا الأثر غير ثابت عند أهل العلم بالحديث.

ومن الطريف: أن مالكاً رضي الله عنه روى -وغيره أيضاً رواه ابن أبي شيبة - عن محمد بن سيرين -هذه رواية مالك -: (أن رجلاً جاء إلى عمر، فقال له: أصبت ضبياً وأنا محرم فما ترى في ذلك؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فتهامسا، ثم قال عمر للرجل: عليك عنز مقابل هذا الضبي الذي أصبته، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ضبي حتى يسأل رجلاً إلى جانبه ويحكم معه؟ فلما سمعه عمر رضي الله عنه دعاه، وقال له: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا. يا أمير المؤمنين! قال: لو كنت تقرؤها لأوجعتك ضرباً، إن الله سبحانه وتعالى يقول: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95])، يعني: رجلان، فـعمر رضي الله عنه لم يكن هذا عن عدم معرفة، وإنما امتثالاً لأمر الشرع.

وأطرف من هذا أنه في رواية ابن أبي شيبة عن قبيصة بن جابر: (أنه كان مع الرجل، فلما خرج الرجل قال قبيصة للرجل: والله إن فتوى عمر لا تغني عنك من الله شيئاً، إنه ما عرف حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه، ولكن اعمد إلى ناقتك فانحرها وعظم حرمات الله عز وجل، فنقلت هذه الكلمة لـعمر رضي الله عنه فغضب ودعا بـقبيصة وهم به ورفع عليه الدرة، وتكلم عليه، وقال: تعديت حرمات الله ورددت الفتيا وأسأت الأدب، وهم به، فقال قبيصة -وكان شاباً ذكياً- قال: يا أمير المؤمنين! إنني لا أحل لك مني ما حرم الله تعالى عليك -لا تتجاوز حدك معي- فتركه عمر وقال له: يا قبيصة ! إن الشاب يكون به تسعة أخلاق من الخير، ويكون فيه خلق واحد سيئ فيفسد هذا الخلق السيئ أخلاقه وخصاله الطيبة، فإياك وطيرات الشباب)، يعني: الاندفاعات، والأشياء التي لا تنبني على علم وعلى فهم وعلى نظر، عليك أن تتجنبها ولا تظن أنه يشفع لك في ذلك أن مقصودك تعظيم حرمات الله عز وجل.

اختلاف العلماء في صيد الناسي والمخطئ

الآية الكريمة نصت في قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، فهل هناك فرق بين العامد وغيره؟ هذا سؤال نذكره الآن وسنشير إليه بعد قليل.

اختلف العلماء في الناسي والمخطئ؛ لو أنه صاد صيداً وهو ناسٍ أنه محرم أو مخطئ يعني: أراد أن يصيب شيئاً أو رمى هدفاً فأصاب صيداً هل يجب عليه شيء أم لا؟ بعد اتفاقهم على رفع الإثم والحرج عن المخطئ والناسي، لكن هل عليه جزاء أو ليس عليه جزاء؟

الجمهور: وهو قول المالكية والحنفية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد وهي المشهورة عنه بطبيعة الحال، أن عليه الجزاء في الخطأ والنسيان كما عليه الجزاء في العمد، قالوا: لأن هذه الأشياء إتلاف، وغرم المتلفات عند الفقهاء لا فرق فيه بين العمد وغيره، إذا أتلف شيئاً وجب عليه ضمانه، سواء كان ناسياً أو عامداً أو جاهلاً أو عالماً يجب عليه أن يغرم ما أتلف، فقالوا: هذا إتلاف يجب عليه أن يغرمه، وقالوا: إن التعبير في الآية في قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] أنه جرى مجرى الغالب، كما في قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فقوله: فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، عند الجمهور أنه قيد أغلبي، ليس له مفهوم، وسواء كانت الربيبة في حجره أو ليست في حجره، فإن لها نفس الحكم، هذا قول الجمهور، وهذا تعليلهم للآية.

وبعضهم قال: إن جزاء العمد -كما نقل هذا عن الزهري - أنه قال: إن جزاء العمد وجب بالقرآن الكريم: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، وجزاء الخطأ والنسيان وجب بالسنة النبوية، وذهبوا إلى حديث جابر الذي ذكرته قبل قليل، وهو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الضبع كبشاً )، ولم يبين إن كان عامداً أو ناسياً أو جاهلاً، فقالوا: السنة دليل على أنه لا يفرق بين العامد والناسي. هذا قول.

القول الثاني: هو التفريق بين العامد وغيره، فالآية نصت على المتعمد، وأما غير المتعمد كالمخطئ لو أراد هدفاً فأصاب طيراً أو صيداً أو كان جاهلاً أو ناسياً، قالوا: ليس عليه في ذلك شيء، وهذا قول الطبري، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول سعيد بن جبير وأبي ثور والظاهرية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه وطاوس، ورجحه الشنقيطي في تفسيره، وجماعة من المحققين، وهذا القول جيد، وحجتهم فيه: أولاً: نص الآية الكريمة، قالوا: إن المتعمد وغير المتعمد بينهما فرق، ونص الله تعالى في الموضع نفسه على التعمد دليل على أنه يخرج ما سواه، والأصل أن القيد والشرط معتمد ولا يلغى إلا بقرينة قوية، هذا الدليل وهو وجيه.

الدليل الثاني: قالوا: إن الأصل براءة ذمة الإنسان من أي تكاليف شرعية كما ذكرنا هذه القاعدة مراراً وتكراراً، وهذه قاعدة مفيدة جداً في معظم المسائل: إذا تردد الأمر هل يجب على المكلف شيء أو لا يجب؟ نقول: الأصل عدم الوجوب، والأصل براءة الذمة إلا إذا وجب عليه شيء بدليل واضح ظاهر لا إشكال فيه.

الدليل الثالث: هو النصوص الأخرى، كما في قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقوله سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5].. إلى غير ذلك، وهذا القول هو الراجح، وسوف نعرض لهذه المسألة بعد قليل.

فدية صيد الطيور

يقول المصنف رحمه الله: [ وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم، إلا الطائر فإن فيه قيمته، إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة فيها بدنة ].

وكون القيمة هي المطلوبة هذا هو الأصل في الضمان؛ لأن الأصل أن من أتلف شيئاً فالمعتبر قيمته، وقيمته في بلد الإنسان أو في الموضع الذي أتلفه فيه؟

قيمته في موضع إتلافه.

والطير نوعان كما ذكره المصنف:

النوع الأول: ما فيه الجزاء، يعني: مثله مثل الصيد الآخر، كما قلنا في الغزال، أو في الضبع.. أو في غيرها، كذلك نقول: إن هناك نوعاً من الطيور فيها الجزاء، هذا النوع الأول؛ وذلك مثل الحمامة، فإن الصحابة رضي الله عنهم حكموا فيها بشاة، وقالوا: لأن الحمامة تعب الماء عباً وليست تمصه مصاً، فهي مثل الشاة في ذلك، فأوجبوا فيها شاة، ومثل الحمامة القمري -أو ما نسميه نحن بالقميري- والقطا وهو نوع من الحمام، والحجل.. ونحوها، وأما أبو حنيفة ومالك فيقولان: فيها القيمة، إلا أن مالكاً عد في حمام الحرم الشاة؛ لوجود النص فيها.

كذلك النعامة فيها بدنة كما ذكرنا، وأصل النعامة كما هو معروف أن لها جناحين وهي تبيض وتضع بيضها بأن تحفر له وتدفنه، ولهذا العلماء يضربون بها المثل أحياناً في سوء التقدير، أن النعامة تضع البيض، ثم تغلط وتذهب إلى بيض أخرى فتضع عليها جناحها، فهذا يضرب مثلاً في الإنسان الذي يضع خيره في غيره، يعني: يضع خيره لغيره، يقولون:

كتاركة بيضها بالعراءوملحفة بيض أخرى جناحا

وما ندري هل هي متعمدة أو جاهلة بذلك.

المهم: أن النعامة تشبه الدجاج، وتشبه الأوز، وهي لها جناحان وتبيض؛ ومع ذلك أوجب الصحابة رضي الله عنهم كما سبق؛ عمر وعبد الرحمن بن عوف الرجل الثاني الذي كان مع عمر ما ذكرناه وهو عبد الرحمن بن عوف، أوجبوا فيها بدنة وهذا مذهب الأكثرين. إذاً: هذا هو النوع الأول من الطيور وهو ما فيه الجزاء مثل غيره.

النوع الثاني: ما فيه القيمة، وهو ما سوى ذلك من الأشياء، كمن صاد عصفوراً مثلاً، أو غيره من الطيور التي لم يرد فيها شيء، وليست مثل الحمام ونحوه، فإن هذه الأشياء فيها القيمة.

حكم من وجب عليه جزاء الصيد

من وجب عليه جزاء الصيد فهو مخير بين ثلاثة أشياء -كما هو ظاهر الآية- نقول: مخير، لماذا كان مخيراً؟ لأن الله سبحانه وتعالى عبر بقوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، فالتعبير بـ(أو) يدل على أنه للتخيير، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: [ كل شيء في القرآن (أو) فهو للتخيير، وكل شيء في القرآن (فإن لم يجد، فإن لم يستطع) فهو على الترتيب ]، مثل: كفارة الظهار، ومثل كفارة اليمين، اليمين فيها تخيير وترتيب، ومثل كفارة القتل، فهذه قاعدة جيدة.

ولذلك الله سبحانه وتعالى عبر بقوله: (أو.. أو) فدل على أن الجزاء على التخيير، فهو مخير بين ثلاثة أشياء:

الأول: إخراج المثل كما سبق: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فلو أنه -مثلاً- صاد غزالاً، نقول عليه عنز، ولو صاد غزالاً قلنا: عليه عنز، هذا هو المثل.

طيب: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]؛ لأنه قد يصيد شيئاً ما ورد فيه نص، فهنا نقول: إن كان نقل عن الصحابة فيه تقدير رجع إليه، وإلا فإنه يحكم به ذوا عدل من الموجودين، وهل يجوز أن يكون القاتل منهم؟ نعم إذا كان القاتل ذا عدل فإنه يجوز أن يكون هو وواحد آخر معه يحكمان بأن هذا الصيد يكافئه ويعادله ويشابهه ويناظره الشيء الفلاني ثم يخرجه.

الثاني: كفارة طعام مساكين، هذا الأمر الثاني الذي هو مخير فيه، فيقوم المثل بدراهم ويخرج بقدرها طعاماً يتصدق به على المساكين، فإذا افترضنا أن قيمة العنز -مثلاً- مائة ريال، فإنه يمكن له أن يخرجها أو يشتري بالمائة طعاماً ويطعمه للفقراء والمساكين، ولما نقول: يشتري، طيب لو كان عنده طعام يخرج أو ما يخرج؟ يخرج بطبيعة الحال، والطعام يوزع -كما سبق- لكل مسكين مد من البر على قول ونصف صاع على القول الآخر، وهو أقوى وأجود، وابن حزم رحمه الله يقول: يطعم ثلاثة مساكين؛ لأن أقل الإطعام ثلاثة مساكين؛ لأنه أقل الجمع، والله سبحانه يقول: طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95]، ويكون الإطعام عنده بحسب من تشبعه هذه الفدية.

الأمر الثالث: هو عدل ذلك صياماً، وهذا يحتاج إلى نظر، الصيام هذا المطلوب ما هو؟ كم يوماً يصوم؟ الله سبحانه وتعالى قال: عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، عدل ماذا؟ كيف عدل الإطعام؟

يعني: أنه يصوم عن كل مسكين يوماً، فلو تصورنا -مثلاً- أنه سوف يطعم خمسين أو ستين مسكيناً، فإنه يصوم عن كل مسكين يوماً، فيصوم ستين يوماً، لكن لا يلزم أن تكون متتابعة، وكما ذكرنا أن ما يتعلق بالإطعام: عن كل نصف صاع من البر يصوم يوماً، وهذا رواه البيهقي عن ابن عباس واحتج به الإمام أحمد.

طيب هذا القسم الأول من الكفارات: وهو ما كان على سبيل التخيير.

طبعاً هنا قال: [عليه مثل ما قتل من النعم إلا الطائر فإن فيه قيمته، إلا الحمامة ففيها شاة، والنعامة فيها بدنة، ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً]. وقلنا: إن الأقرب أنه نصف صاع.

النوع الثاني: الفدية على الترتيب

القسم الثاني: ما كان على سبيل الترتيب، وهذه عدة كفارات ذكرها المصنف رحمه الله.

فدية المتمتع وشروطه

قال: [ الضرب الثاني: على الترتيب، وهو المتمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ].

هذا المتمتع يلزمه ذلك على الترتيب؛ لقول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196].

فدل على أنها تلزم المتمتع إذا لم يجد هدياً، وأنها تلزمه مرتبة، يعني: يجب عليه الأول، فإن لم يجد فعليه الثاني. يعني: المتمتع يلزمه الهدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام.

طيب! ما هي الشروط التي يحصل بها التمتع؟ أو بمعنى آخر: من هو المتمتع؟ المتمتع: هو الذي جمع الحج والعمرة في سفر واحد وفصل بينهما بالإحلال.

ولهذا قال العلماء: إن التمتع يلزم له أربعة شروط على الأقل، بل ابن تيمية رحمه الله عدها عشرة، ولكن الثابت من الشروط أربعة شروط:

الأول: أن يعتمر في أشهر الحج، فلو اعتمر مثلاً في رمضان، ثم حج في العام نفسه هل يكون متمتعاً؟ لا؛ لأنه لم يوقع العمرة في أشهر الحج، وإنما يصدق التمتع على من اعتمر في شوال مثلاً، أو في ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة، ثم حل من عمرته، ثم أحرم بالحج، فلابد أن تكون العمرة في أشهر الحج.

الثاني: أن يحج من العام نفسه، فلو أنه اعتمر من هذا العام في ذي القعدة، ولكنه ما أحرم بالحج إلا العام القادم، هل يكون متمتعاً؟ لا، لا يكون متمتعاً.

الثالث: ألا يسافر بعد العمرة سفراً تقصر فيه الصلاة عند الأكثرين، وبعضهم قالوا: ألا يسافر سفراً يعود به إلى أهله، وبعضهم قالوا: إذا سافر انقطع تمتعه، وبعضهم قالوا: إذا سافر إلى الميقات انقطع تمتعه، وبعضهم قالوا: إذا سافر سفراً تقصر فيه الصلاة انقطع تمتعه، والقول الرابع: أنه لا ينقطع تمتعه إلا إذا رجع إلى بلده وإلى أهله.

الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام، يعني: من أهل مكة وأهل الحرم، وفي حاضري المسجد الحرام كلام، ربما عرضنا له، وربما يأتي له زيادة إيضاح.

المهم هذه شروط أربعة يكون الإنسان بها متمتعاً، فإذا سافر الإنسان مثلاً من القصيم إلى مكة واعتمر في شوال، ثم حل من عمرته وانتظر ولم يسافر سفراً تقصر فيه الصلاة، ثم أحرم بالحج في عامه فإنه يعتبر متمتعاً ويلزمه هدي، فإن لم يستطع صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.

طيب هذا هو الأول مما يجب فيه الترتيب.

فدية الجماع قبل التحلل الأول

الثاني مما يجب فيه الترتيب أيضاً: فدية الجماع، وهي بدنة عند بعضهم، وإن كانت بعد التحلل الأول فهي شاة، والبدنة إذا لم يستطع أو لم يجدها فينتقل إلى صيام كصيام التمتع عندهم، فعلى ذلك نقول: فدية الجماع أيضاً هي على الترتيب؛ عليه بدنة أو شاة، فإن لم يجد فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، أو يصوم عشرة أيام.

فدية من فاته الحج

الثالث مما يجب فيه الترتيب: دم الفوات، ويقصد بالفوات: من فاته الحج، إنسان ذهب للحج وفاته، -ضاع مثلاً في الطريق، أو ضاعت إبله، أو عرض له عارض- وفاته الوقوف بعرفة، ومن فاته الوقوف بـعرفة فقد فاته الحج، فهذا ماذا يصنع؟ عليه أن يجعل حجه عمرة، يعني: يتحلل من حجه بأعمال العمرة، فيذهب إلى البيت ويطوف به، ثم يطوف بين الصفا والمروة، ثم يتحلل من عمرته، ثم يحج من قابل ويهدي ما استيسر من الهدي.

وقد أفتى عمر رضي الله عنه بهذا لـهبار بن الأسود، وأفتى به أيضاً لـأبي أيوب الأنصاري كما رواه البيهقي والشافعي بأسانيد صحيحة كما يقوله النووي في المجموع، وقد جاء هذا الأثر المروي عن عمر موقوفاً وجاء عند الدارقطني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصح.

وفي إيجاب الحج على من فاته الحج نظر إلا أن يكون هذا الحج واجباً عليه في الأصل، كأن يكون حج حجة الإسلام، أو أن يكون واجباً عليه بالنذر.. أو ما أشبه ذلك مما يتعين عليه قضاؤه.

فدية المحصر عن الحج

النوع الرابع: المحصر، والمحصر يلزمه دم، وبين الفوات والإحصار فروق معروفة عند الفقهاء، منها على سبيل المثال: أن الفوات لا يقع إلا بعد عرفة، أما الإحصار فإنه يقع بعدها وقبلها، فالمحصر يلزمه دم، وهو من صده عن البيت عدو أو سبع أو خوف طريق.. أو ما أشبه ذلك، فإنه يتحلل من إحرامه وينحر ما استيسر من الهدي، كما في قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وإذا لم يجد فإنه يصوم كما ذكر الله سبحانه في آخر الآية كما ذكرنا.

ونحر الهدي بالنسبة للمحصر يكون في الموضع الذي أحصر فيه، سواء كان داخل الحرم أو خارجه، وهو الذي نص عليه الإمام أحمد، وعليه أكثر أصحابه، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فإنهم لما أحصروا عام الحديبية نحروا هديهم حيث كانوا، وقيل: إنه لا ينحر هديه إلا في الحرم، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الشجرة فهو حجة.

وأما الآية الكريمة: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، فإن المقصود (بمحله) مكان إحلاله، يعني: المكان الذي يحل فيه، مكان حلوله.

وهل يجب عليه أن يحل فوراً لمجرد ما يحصر، أو عليه أن ينتظر إلى يوم النحر، فلا ينحر هديه ولا يحل إلا يوم النحر؟

هما قولان، والأقرب أنه يذبحه وقت الإحصار ولا ينتظر به يوم النحر، فإذا لم يجد فإنه يصوم عشرة أيام على ما ذكرنا.

هذه هي الأشياء الأربعة التي يلزم فيها الترتيب في الفدية، وهي: دم التمتع، وفدية الجماع، ودم الفوات، ودم الإحصار.

من أحكام الفدية

بعد ذلك المصنف رحمه الله ذكر بعض الأحكام. ‏

كفارة تكرار المحظور

فقال: [ من كرر محظوراً من جنسٍ غير قتل الصيد فكفارة واحدة ].

مثلاً: لو حلق رأسه.. حلق بعضه أو حلق رأسه، ثم خرج شعره، ثم حلقه مرة أخرى أو قصر، ثم حلق، أو لبس الثوب، ثم خلعه، ثم لبسه مرة أخرى، أو تطيب مرة، ثم تطيب مرة أخرى، ولم يكفر عن الأول، فهنا تتداخل الكفارات، ويكون الموجب واحداً، ونظيره نظير اليمين لو حلف لا يفعل هذا الشيء، ثم حلف مرة أخرى لا يفعله، ولم يكفر فإنها تتداخل، وعليه في ذلك كفارة واحدة على القول الصحيح.

لكن لو كفر عن الأول، لو أنه حلق مثلاً، أو قل: لو أنه لبس، ثم كفر عن اللبس، ثم لبس مرة أخرى فإنه يلزمه حينئذٍ كفارة جديدة، وكذلك لو أنه تطيب، ثم كفر، ثم تطيب مرة أخرى فتلزمه كفارة جديدة؛ لأن ذمته برأت والكفارة الأولى وقعت عن الفعل، وكما ذكرنا قبل قليل: لا يتجه وجود الكفارة قبل وجود سببها.

أما إذا فعل محظوراً من أجناس متعددة، كأن حلق رأسه، ثم لبس ثوبه، ثم تطيب، فهنا يلزمه ثلاث كفارات؛ لأن الكفارات ليست من جنس واحد، بل هي أجناس متعددة، كذلك من قتل صيداً، ثم قتل صيداً؛ قتل -مثلاً- عصفوراً، ثم صاد غزالاً أو حماراً وحشياً.. أو نحوه؛ فهنا الكفارات متعددة؛ لأن موجبها متعدد وفيها إتلاف، وقيل: كفارة واحدة إذا كان الجزاء واحداً، وهذا قول جيد، يعني: أن الكفارة في جزاء الصيد واحدة إذا تكرر الجزاء بشرطين:

الشرط الأول: ألا يكفر، كما سبق، أما لو كفر عن الصيد الأول ثم صاد، فتجب عليه كفارة أخرى.

والشرط الثاني: أن يكون الجزاء واحداً، بمعنى -مثلاً- لو صاد غزالاً، ثم صاد غزالاً آخر ولم يكفر، نقول: عليه عنز واحدة هذا متجه.

حكم من ارتكب محظوراً ساهياً أو ناسياً

فيما يتعلق بالحلق والتقليم والوطء، يقول المصنف رحمه الله: [ الحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وسائر المحظورات لا شيء في سهوه ]، هذا يعيدنا إلى ما ذكرناه قبل قليل فيما يتعلق بموضوع جزاء الصيد، إذا كان ناسياً أو جاهلاً أو مخطئاً غير متعمد.

فالمصنف وكثير من الفقهاء الحنابلة وغيرهم يجعلون المحظورات على نوعين:

النوع الأول عندهم: ما يسمونه المتلفات أو ما فيه إتلاف، فهذا يقولون: يستوي عمده وسهوه.

النوع الثاني: هو ما ليس بإتلاف ويمكن تداركه، فهناك فرق بين عمده وسهوه، فعلى سبيل المثال: موضوع حلق الرأس، حلق الرأس إتلاف، هل يمكن أنه بعدما حلق رأسه يعيده؟ لا يمكن، فيرون أن هذا إتلاف لا يمكن تداركه، ولذلك يستوي عمده وسهوه، وهكذا ما كان من المتلفات، بخلاف -مثلاً- لبس الثوب فإنه يستطيع أن يزيله، أو الطيب فإنه يستطيع أن يغسله، فهذا ليس بإتلاف، ولهذا يفرقون بين العمد وبين السهو، في هذا بعض التفصيل، فعلى سبيل المثال: الوطء في حال الإحرام، المنصوص عن الإمام أحمد أنه يستوي عمده ونسيانه، يعني: تجب الكفارة على الواطئ حتى لو كان ناسياً، وتجب الكفارة على الواطئ حتى لو كان جاهلاً، ويستوي عمده ونسيانه، ونقل هذا عن سفيان، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي أيضاً في مذهبه القديم.

وأما في الجديد فقال الشافعي : لا يفسد الحج بالنسيان ونحوه والإكراه مثلاً، ولا يجب عليه شيء إذا كان جاهلاً أو ناسياً، وهذا القول الذي هو جديد مذهب الشافعي في تقديري أنه جيد وهو الأقوى؛ أن النسيان والجهل يعفى به عن الإنسان في مثل هذه الأمور؛ الشافعي نص عليه فيما يتعلق بموضوع الجماع.

كذلك موضوع الحلق والتقليم؛ حلق الرأس، أو تقليم الأظافر هذا أهون من الجماع، ولهذا أيضاً ذهب ابن حزم إلى أنه لا شيء على الناسي مطلقاً في كل هذه الأشياء، وهو أيضاً وجه في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقول إسحاق وابن المنذر ؛ وذلك للآية الكريمة.

طيب إذاً: نحن نقول: إن هناك فرقاً بين السهو وغيره في سائر المحظورات على القول الذي اخترناه وذكرنا من قال به.

وقد يكون الأقرب إشارة: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، هذا يدل عليها فيما يتعلق بالصيد، والآية الكريمة، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].. إلى غير ذلك.

إخراج الهدي والإطعام لفقراء الحرم

قال: [ كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ]، هكذا يقول المصنف: [ إلا فدية الأذى ]، ما هي فدية الأذى؟ فدية حلق الرأس وما كان في معناها أيضاً، فهي في الموضع الذي حلق فيه، كما حصل لـكعب رضي الله عنه، فإنه أخرج الفدية في المكان الذي هو فيه من غير أن يكون ثمة تحديد، وكذلك هدي المحصر إذا أحصر فإنه ينحره في موضعه كما ذكرنا، وأما الصيام، فإنه يجزئه.. إذا لم يستطع فإنه يجزئه في كل مكان كما جاء هذا عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [ يصوم حيث شاء ].

فيما يتعلق بالهدي، يقول المصنف: [ كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ].

والهدي عشرة أنواع ذكرها ابن تيمية وغيره.

منها: هدي المحصر كما ذكرنا، ومنها: هدي المتمتع، ومنها: جزاء الصيد ففيه الهدي، ومنها: فدية الأذى إذا حلق رأسه أو تطيب أو لبس، ومنها: ما وجب لترك واجب كما لو ترك -مثلاً- المبيت، أو ترك الرمي، ومنها: هدي الإفساد، إذا أفسد حجه وما في معناه، ومنها: هدي الفوات كما أشرنا إليه، ومنها: الهدي المنذور في الذمة، فإنه يجب بالنذر، وإن لم يكن واجباً بأصل الشرع، ومنها: الهدي المعين سواءً عينه واجباً أو عينه تطوعاً.

فهذه عشرة أنواع، وهذه أنواع الهدي كلها لا تذبح إلا في الحرم، ما هو الدليل على أنه لا يذبح الهدي إلا في الحرم؟

الدليل: أولاً: من القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه قال: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وليس المقصود الكعبة البنية نفسها؛ لأنه لا أحد يقول بالذبح عندها، وإنما المقصود الحرم، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25] عند بعضهم، ثم قوله تعالى: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33] فهذا مما استدل به جمهور الفقهاء على أنه: لا يجوز ذبح الهدي إلا داخل حدود الحرم، لو واحد ذبح بـعرفة مثلاً يصح ذبحه أو ما يصح؟

على قول الجمهور ما يصح، على قول الجمهور ومذهب الأئمة الأربعة، فالمشهور عنهم: أنه لا يجزئ ذبح الهدي إلا داخل أميال الحرم. هذا قول.

ومما يستدل به إضافة إلى الآيات التي ذكرناها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر )، وهذا الحديث رواه أهل السنن: أبو داود وابن ماجه والدارمي عن جابر، وأصله في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( منى كلها منحر )، فهذا في صحيح مسلم من حديث جابر .

وأيضاً جاء في المسند من حديث جبير بن مطعم وسنده جيد، ولكن فيه انقطاع كما ذكر أهل العلم.

المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن منى كلها منحر، وفجاج مكة طريق ومنحر.

فمع ما سبق من الآيات دل ذلك على أن الهدي يذبح في الحرم.

ولكن في المسألة قول آخر ذكره النووي في المجموع : أن عند الشافعية في المسألة قولين: وأن عندهم قولاً آخر وهو أنهم قالوا: لو ذبحه خارج الحرم، ثم رده إلى فقراء الحرم، وهو غض طري لم يفسد فإنه يجزئه ذلك، وفي المسألة أقوال لبعض السلف تدل على جواز ذلك، والأقرب: أنه لا يجوز ذبح الهدي إلا داخل الحرم، لكن من وقع منه ذلك بجهل ونقله إلى الحرم وهو غض طري ووزعه على فقراء الحرم ومحتاجيه، وكان به مسغبة أو فقر فلا بأس أن يؤخذ بالقول الآخر، وإلا فبعض الشيوخ يشددون في ذلك، حتى أني أذكر أن أحد المشايخ، وهو الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سأله واحد: وذكر أنه ذبح هدياً كثيراً، قال: مائة، قال: وإن كانت مائة، وأمره أن يعيد الذبح.

إذاً: الكلام الذي ذكره النووي يقول: ذبح الهدي ونحوه يختص بالحرم عند الجمهور، لكن هناك خلاف في المسألة.

قال: وباختصاص ذلك بالحرم خلاف حكاه المصنف يعني: الشيرازي صاحب المهذب وحكاه آخرون قولين، يعني: إما وجهان أو قولان في مذهب الشافعي، أصحهما يختص بالحرم، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله إلى الحرم طرياً لم يجزئه ذلك، والوجه الثاني قال: لا يختص به، فيجزئه ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرغه في الحرم قبل أن يتغير اللحم، هذه مسألة.

المسألة الثانية التي ذكرها المصنف أيضاً وتحتاج إلى نظر، قوله: [ كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ]، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية أيضاً؛ أن الهدي والإطعام يكون لمساكين الحرم خاصة، وذهب المالكية والحنفية إلى أنها لمساكين الحرم وغيرهم، قالوا: لأن الصدقة والهدي والإطعام قربة معقولة المعنى -يعني: معروف السر في تشريعها- وهو نفع الناس، وهي صدقة، فكل فقير محل للصدقة، سواء كان من فقراء الحرم ومساكينهم أو من غيرهم، وهذا قول جيد خصوصاً في هذا الوقت الذي تكثر فيه الهدايا وتبلغ أحياناً الملايين ويصعب توزيعها على مساكين الحرم، بل ربما لا يحتاجون إلى كلها، وحتى عند الحنابلة -كما نص عليه في الإنصاف وغيره- أنه إذا استغنى فقراء الحرم، أو لم يتمكن من إيصالها إلى فقراء الحرم فإنه يدفعها لغيرهم، لكن في مذهب الشافعية شيء من التشديد، حتى إنهم نقلوا عن القاضي حسين من فقهائهم أنه يقول: لو لم يجد في الحرم مسكيناً لم يجز له نقل الدم إلى موضع آخر، سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأن بعضهم جعلها نظير الزكاة، هل تنقل أو لا تنقل؟ كما بحثناه سابقاً.

فـالقاضي حسين يقول: حتى لو جوزنا نقل الزكاة لم يجز نقل الدم من الحرم، وعليه أن يصبر حتى يجد من مساكين الحرم من يأخذه أو من يحتاجه، وهذه من الأقوال الشديدة صعبة التطبيق خصوصاً في مثل هذا الوقت، ولهذا نقول: إن من التوسعة نقل الهدي إلى أنحاء العالم الإسلامي ليوزع على الفقراء والجياع والمساكين، وهذا من أسرار التشريع.

فدية الأذى ذكرنا أنه يفرقها حيث حلق؛ لحديث كعب بن عجرة وكذلك المحصر، هذا ما لدينا.

الأسئلة

حكم الجمع بين صيام الكفارات والأيام البيض والإثنين والخميس

السؤال: هل يجوز جمع صيام الكفارة مع أيام البيض أو الإثنين والخميس؟

الجواب: أما إن كان قصد أنها تكون نفلاً وفرضاً فهذا لا يجزئ، وأما إن فعلها لأن زوجته تصوم -مثلاً- البيض فجمعها معها فلا بأس بذلك.

درجة حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)

السؤال: حديث: ( لا صلاة لفرد خلف الصف

الجواب: هذا فيه ضعف.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

السؤال: من صلى مع جماعة وكان هناك فرجة في الصف الأول وصلى لوحده فما حكم صلاته؟

الجواب: إذا كان يجد فرجة، فيجب عليه أن يذهب إليها، أما إن لم يجد فرجة فإنه يصلي حتى لو كان منفرداً.

إحلال من أحصر إذا لم يسق الهدي

السؤال: من لم يحمل تصريح الحج والدخول إلى الحرم فكيف يحل من إحرامه إذا أحصر لهذا السبب؛ ولم يكن ساق الهدي؟

الجواب: أرى أنه إذا لم يحمل تصريحاً وأراد الحج فعليه أن يشترط، فإن له على ربه ما اشترط، فإذا مُنع حل من إحرامه ولا شيء عليه، فإن لم يكن اشترط فإنه ينحر هدياً ويحل من إحرامه.

حكم الحج على من لم يجد مالاً

السؤال: هل يجب الحج على الشاب المتوفرة فيه جميع شروط الحج إلا أنه لا يملك مالاً، بل يعيش على نفقة والديه؟

الجواب: ماذا توفر فيه من شروط الحج إذا كان لا يملك مالاً؟! فليس عليه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فمن لم يجد مالاً يحج به فليس عليه حج حتى يجد، وسواء من ماله أو من مال والده.

لو وجد أحداً يحججه كما يوجد الآن من يحججون الناس بالمجان فلا بأس أن يذهب معهم، ولكن لا يلزمه ذلك؛ لأنه ربما يكون في التحجيح بالمجان نوع من المنة التي تأنفها بعض النفوس فليس عليه في ذلك وجوب.

حكم حج من عليه دين ولم يستطع أداءه

السؤال: ما حكم ذهاب الرجل إلى الحج ويكون عليه دين بمبلغ غير كبير ولم يستطع أداءه إلا بعد الحج، فهل يذهب للحج؟

الجواب: هذا يعتمد، لا نقول: إن الدين يمنع الذهاب إلى الحج مطلقاً، إذا كان عنده -مثلاً- سداد، أو كان الدين أقساطاً تؤخذ من راتبه الشيء بعد الشيء، فليس عليه مانع أن يحج، وكذلك إذا كان يعرف أن أصحاب الديون ليس عندهم مانع من ذلك، فلا بأس أن يحج، خصوصاً إذا كان الحج بمبلغ زهيد، أو كان سيحج عن غيره بحيث لن يدفع شيئاً من ذمته.

فدية مس الطيب بعد لبس الإحرام وقبل التلبية

السؤال: رجل مس الطيب بعدما أحرم، ويقول: إنه لم يعقد النية ولم يلب، هل تجب عليه فدية؟

الجواب: لا تجب عليه الفدية؛ لأنه إذا لبس الإحرام لا نقول: إنه أحرم، ولذلك قد يلبس الإنسان الإحرام وهو في بلده، بل قد يكون الإحرام زياً عند قوم، وإنما المقصود بالإحرام: هو الدخول في النسك، فإذا لبى ناوياً الدخول في حج أو عمرة، فهنا نقول: أحرم، وبناء عليه لا يجوز له مقارفة شيء من محظورات الإحرام.

كما أسلفنا لكم: أن عندنا في موضوع العدة مجموعة فصول، ونحن حريصون على أن ننجزها في هذا العام إن شاء الله، وبقي علينا شيء سنكون مضطرين إلى أنه بعد غد الذي هو يوم الجمعة نعقد جلسة؛ لنستكمل فيها دخول مكة وصفة الحج وما بعدها، لعل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إكمال هذا الكتاب، بحيث نكون انتهينا من جميع أبواب العبادات، وفيما بعد ننتقل إلى المعاملات والبيوع وغيرها.

قتل الصيد في الحرم وعقوبة فاعله

السؤال: ما هي عقوبة قتل الصيد في الحرم؟ وماذا يجب على من قتله؟

الجواب: هذا مما ذكره الأئمة والعلماء، ولذلك كان لـمجاهد قول شديد في هذه المسألة، فالله سبحانه وتعالى نهى عن قتل الصيد، وقال في الآية الأخرى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، فهذه من المواطن التي يتبين فيها تقوى الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، فإذا تعمد الإنسان قتل الصيد، فلا شك أن هذا عمل عظيم، ولهذا الله سبحانه وتعالى توعد عليه، أنه: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] هذا أول مرة عليه الجزاء، ثم قال في آخر الآية: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95]، يعني: لك الأولى: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]، فمن أصر وكرر فهو عرضة لهذا الوعيد الشديد، وهكذا كل محظورات الإحرام، وخصوصاً أنها في الحرم، يعني: هي تكون في الحرم، وغالباً ما تكون أيضاً في أوقات فاضلة، كوقت الحج مثلاً.

وقوله: (ينتقم الله منه) هذا ليس بلازم أن يكون عقوبته في الدنيا؛ لأن العقوبات الشرعية للأفراد خاصة، ليس لازم أن تكون في الدنيا، وإنما هي تكون في الآخرة، أما العقوبات الدنيوية، فهي غالباً على المعاصي والذنوب العامة التي تقع من الأمة كلها، وليست من أفراد بأعيانهم، أما ذنب الفرد فهذا يكون فيه وعيد، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته صورة حمار أو يقلب رأسه رأس حمار)، هذا ليس بلازم أن يقع في الدنيا، بحيث نقول: والله فلان فعل هذا ولم يقع له هذا الوعيد، بل هذا قد يقع في الآخرة عقوبة من الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان.

هكذا ترتيب الآية: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ [المائدة:95]، فالإشارة تكون لأقرب مذكور.

المطلوب من الإنسان مثل ما قتل من النعم.

وقوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95]، يعني: من هذا المثل؛ لأن الكفارة ماذا نقول؟ هل نقول مثلاً: إنه يخرج أي كفارة بحيث سواء كان صاد كثيراً أو قليلاً أو كذا؛ يخرج مثلاً لثلاثة مساكين وفقط، أو أنه لابد أن تكون تتفاوت؟ لابد أن تكون تتفاوت، طيب، كيف نعرف تفاوتها؟ أن نقيسها بما قبلها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net