إسلام ويب

امتن الله على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن تلك النعم والتي ظهرت أكثر في العصر الحاضر هي المعادن، وقد بين الفقهاء الأحكام المتعلقة بالمعادن لأن شريعة الإسلام جاءت ونزلت لجميع الناس في كل زمان ومكان وفيها كل ما يسألون ويتعلق بأمورهم.

نعم الله على عباده من المعادن وغيرها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

إذا كان الله سبحانه وتعالى قد امتن علينا ببهيمة الأنعام، كما ذكرنا ذلك فيما مضى في غير موضع من كتابه، كما في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة (يس).. وغيرها، وما في هذه الأنعام من الخير والدر والسمن والجلود والمنافع العظيمة.

ثم امتن علينا أيضاً سبحانه بالزروع والثمار، كما ذكرنا في الجلسة الماضية، وكيف أن هذه البلاد.. بلاد الإسلام فيها من الخيرات والبركات والنعم من هذا وذاك ما لا يكاد يأتي عليه العد والحصر، وبالذات ما يتعلق بالزروع التي كانت هي القسم الأول من موضوع الخارج من الأرض، حيث نجد أن كثيراً من بلاد الإسلام فيها من أنواع المزروعات، ما يحقق ما يسمى بالأمن الغذائي لهذه الأمة في كافة الظروف، سواء كانت ظروف سعة وغنى ووجد، بحيث تكون هذه مادة تقدم للمساهمة والمنافسة في ميدان التجارة العالمية، أو كانت ظروف ضعف وضيق وحاجة، حيث تكون هذه المزروعات وغيرها زاداً وعطاء وبذلاً، للفقير والمحتاج وابن السبيل، وقد ورد في حديث وإن كان ضعيفاً إلا أن معناه جيد وجميل: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر النخل فسماها: الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل )، وفي هذا إشارة إلى بقاء النخلة وصبرها ومصابرتها وثباتها، وإلى إطعامها خصوصاً في أزمان المحل والفقر والشدة.

فإن الله سبحانه وتعالى قد امتن وأنعم أيضاً على الأمة الإسلامية، بالجانب الآخر من الخارج من الأرض، وهو ما يتعلق بالمعادن، ونحن نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: ( بينا أنا نائم إذ أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي. فيقول أبو هريرة : ذهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تنتثلونها )، يعني: تستخرجونها.

فنجد أن المسلمين مَنَّ الله تعالى عليهم بهذه المعادن التي كانت في باطن أراضيهم، حتى إنك تجد أن الكشوفات المتعلقة بالنفط اليوم تتوالى باستمرار، تدل على ما يوجد في باطن البلاد الإسلامية، فأما ما يوجد -مثلاً- في السعودية أو في العراق .. أو في غيرهما فحدث ولا حرج، وهو معروف، لكن حتى البلاد الإفريقية فقد سمعت -مثلاً- أن السودان قد كشف في أرضها ثروة نفطية هائلة، تجعلها في مصاف ربما ثالث دولة في العالم على مستوى المخزون النفطي، وهكذا تجد أن الفوسفات تتوالى في البلاد الإسلامية، على رغم أن المسلمين ظروفهم العلمية والتقنية ليست على ما يرام على كل حال، لكن مع ذلك جعل الله تعالى في هذا لهم خيراً وسعة وغنى، ولذلك انتفعوا بهذا، على رغم أنهم بالمثابة والحالة التي ذكرت.

فالمعادن إذاً هي إحدى نعم الله تبارك وتعالى على عباده، وعلى المسلمين على وجه الخصوص، ولذلك كانت هي القسم الثاني من الخارج من الأرض: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267].

الفرق بين المعادن والكنز

عندنا القسم الثاني: وهو زكاة المعادن.

المعادن: جمع مَعدِن أو مَعدَن، وهو مأخوذ من العَدَن أو العَدْن وهو الإقامة، ومنه قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة:72]، أي: جنات إقامة وخلود وبقاء لا زوال له، يقال: عَدَنَ فلان بالمكان؛ إذا أقام فيه إقامة طويلة، وإنما سميت المعادن بهذا؛ لأنها تبقى في الأرض مدة طويلة، وقد تكون -كما ذكر الجوهري وغيره- سميت معادن؛ لأن الناس يقطنون حولها أو يقيمون قربها.

والفرق بين المَعدن وبين الكنز وبين الركاز، وإن كان سيأتي طرف منه في آخر هذه الجلسة، إلا أن الفرق الأساسي أن المعدن يطلق على ما خلقه الله سبحانه وتعالى من المعادن في باطن هذه الأرض.

أما الكنز فهو ما دفنه الإنسان بفعله أو أخفاه، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، والمعروف أن المقصود هنا ما لم يؤدوا زكاته، وقد يطلق على ما أخفوه؛ لأن الإخفاء ربما يكون سبيلاً للتفصي والتخلص من إخراج زكاته ودفعها، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً قال كما في الحديث الصحيح: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها)، وفي لفظ: (زكاتها).

إذاً: الفرق بين المعدن وبين الكنز أن المعدن هو ما خلقه الله سبحانه وتعالى في باطن الأرض، أما الكنز فهو ما أخفاه الإنسان أو منع زكاته.

وقد اختلف الفقهاء في تعريف المعدَن في باب الزكاة ما هو، وأجود تعريف فقهي وجدته في هذا، هو ما ذكره ابن قدامة في المغني، فإنه قال: إن المعدَن هو كل ما خرج من الأرض مما يُخلق فيها من غيرها مما له قيمة، فجعل له أربعة أوصاف:

أولاً: ما خرج من الأرض؛ فإن المعدِن يخرج من الأرض: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، فأما ما كان على ظاهر الأرض مثلاً، فإنه لا يسمى معدَناً.

والأمر الثاني: أنه يُخلق في الأرض، يعني: في باطنها.

والوصف الثالث: أنه يُخلق من غيرها، يعني: ليس هو مخلوقاً من الأرض نفسها، مثل ما يكون في الطين أو غيره، وإنما يخلق من أشياء أخرى موجودة في باطن الأرض.

والوصف الرابع: أن يكون له قيمة، أقلها أن يكون مثلاً نصاباً عند من يشترطون النصاب، وهو ما يكون فيه مجال للمواساة.

فإذاً: قيده بهذه القيود الأربعة، أخرج بهذا القيد ما يخرج من البحر، وسوف يأتي الإشارة إليه، ولكن يُشْكِل على ما ذكره ابن قدامة رحمه الله أمور:

في قوله: (ما خرج من الأرض)، يُشْكل عليه ما كان في غير الأرض؛ فإن العلم الآن يثبت أن كثيراً من الكواكب الموجودة في الفضاء فيها كميات هائلة من المعادِن، مثل: القمر وعطارد والزهرة والمريخ.. وغيرها، بل إن في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25] قال كثير من العلماء المعاصرين: إن المعادِن الموجودة في باطن الأرض إنما نزلت من الكواكب.. وغيرها، والله تبارك وتعالى أعلم بذلك، لكن هذا إيراد.

وقوله: (بأنه يخلق في الأرض)، كما ذكرنا أخرج ما يكون في خارج الأرض مما يعمله الناس ويصنعونه، وتقييده بالقيمة يخرج القليل الذي لا يبلغ النصاب.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنه أحصى المعادن الموجودة في وقته، قال: فوجدتها سبعمائة صنف، أو سبعمائة معدِن، ولا شك أن إحصاء ابن الجوزي هو أمر نسبي أو تقريبي؛ لأنه كان اجتهد وصبر، ولكن في حدود المعلومات الممكنة في تلك البيئة وفي ذلك العصر، وإلا فإن العلماء المعاصرين المختصين يذكرون أن أصناف المعادن تزيد على ثلاثة آلاف صنف، المستعمل والمشهور منها حوالي مائة صنف من المعادن.

بقي أن أشير إلى أن ثمة فرقاً بين تعريف المعدن الذي ذكره ابن قدامة، وبين تعريف المعدِن أو المعدَن عند المتخصصين المعاصرين، فإنهم يعرفون المعدِن على نحو مختلف، فالمعدِن عندهم أو المعدَن بالأصح بفتح الدال؛ لأن مقصودنا المادة وليس المكان الذي تستخرج منه، فالمعدَن هو الذي يتمتع عندهم بالخواص التالية:

أولاً: أن يكون موجوداً في الأرض أو في الطبيعة، وهذا ربما أشار إليه ابن قدامة .

ثانياً: أن يتكون من مواد لم تكن حية أصلاً، بخلاف النفط مثلاً عندهم؛ فإنه لا يعتبر عند المعاصرين معدَناً بالمعنى الصحيح، لأنه تكون من الأحياء التي كانت موجودة، ثم انطمرت في باطن الأرض.

الوصف الثالث: أن يكون للمعدَن التركيب الكيميائي نفسه أينما وجد، بخلاف الرمل مثلاً، فإنه يكون له تركيبات كيميائية مختلفة.

الوصف الرابع: أن تترتب ذرات المعدَن في نسق منتظم، وتكون وحدات صلبة يسمونها: بالبلورات، وبناءً عليه؛ فإننا سنجد أشياء يسميها الفقهاء كلهم: معدَناً، مثل النفط، ولا يسميها العلماء المتخصصون بالمعدَن على السبيل العلمي.

طيب. يحسن أن نضيف أيضاً إلى تعريف ابن قدامة كلمة وهي: (ما ليس بنبات)؛ لأن تعريفه قد ينطبق على النبات، فهو يخرج من الأرض ومما ليس منها، وقد يكون له قيمة، فنشترط أن يكون ليس بنبات، حتى يتحدد هذا التعريف أنه يشمل التعريف الفقهي أو التعريف الاصطلاحي للمعدَن.

أنواع المعادن .. والاستفادة منها والحض على استخراجها

المعادن كثيرة جداً، منها: الذهب والفضة والجواهر، والبلور والعقيق، والكحل والزرنيخ، والنورة والكبريت، والزفت والملح والزئبق، والقار والنفط، والياقوت والزبرجد، والفيروزج والرخام .. وغيرها.

ومن أنفس المعادِن المعروفة اليوم (البترول) أو النفط، كما هو معروف في قيمته الاقتصادية و(اليورانيوم) أيضاً، وهو من أعظم المعادن، ويدخل في تركيب السلاح النووي، ولذلك يباع بأغلى الأثمان.

وقد يطلق الكنز على المعدَن من باب التسامح والتجوز، أو باعتبار ما يئول إليه، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأعطيت الكنزين: الأحمر، والأبيض )، فإن مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الذهب والفضة، والحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد .. وغيرهم، ولذلك قال العلماء: إن المقصود بالكنزين الأحمر والأبيض الذهب والفضة: كنز كسرى، وكنز قيصر، وربما كان في هذا الحديث نفسه أيضاً إشارة ضمنية، إلى دعوة المسلمين وحثهم على استخراج هذه المعادِن، والاستفادة منها، وإنفاقها في سبيل الله تعالى، وتوظيفها في الدعوة إلى الله عز وجل، خصوصاً وأن ذلك ورد صريحاً في حديث أبي هريرة، كما في المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، أو والذي نفس محمد بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل )، وليس بلازم أن يكون المقصود بكنوزهما ما هو موجود في خزائنهما، بل يشمل هذا، ويشمل ما كان تحت ملكهم وقبضتهم من ذلك، وقد استشهد بعضهم على هذا المعنى، وهو دعوة المسلمين إلى استخراج المعادِن من الأرض، استشهدوا بحديث يروى عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اطلبوا الرزق في خبايا الأرض )، وهذا الحديث رواه الطبراني في الصغير والأوسط وأبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان .. وغيرهم، وقد عزاه القرطبي في تفسير سورة البقرة للترمذي، وأظن هذا وهماً؛ فإن الترمذي لم يخرج هذا الحديث فيما أحسب وأعلم، وإنما هو لمن ذكرت، والحديث على كل حال ضعيف، فإن فيه هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي يروي عن هشام بن عروة عن أبيه، ويروي عنه مصعب بن عبد الله المشهور بـمصعب الزبيري، وقد قال ابن حبان عن هشام هذا: ينفرد بما لا أصل له من حديث هشام بن عروة، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد، ولذلك عد الذهبي وابن حجر هذا الحديث من مفرداته، وقال النسائي : هذا حديث منكر، وقال ابن طاهر : لا أصل له، إنما هو من كلام عروة، وأشار البيهقي إذ رواه إلى ضعفه، فقال: الحديث يُحمل إن صح.. وهذا فيه إشارة إلى إعلاله أو تضعيفه .

ومما يتعلق بهذه النقطة أن هذا من كلام عروة بن الزبير، أن رجلاً اسمه عبد الله بن عبد الملك جاء إلى محمد بن شهاب الزهري وكان قد ركب بعيره وأراد أن يتجهز للبحث عن الرزق في أنحاء الأرض، وقال للزهري : أوصني أين أطلب الرزق؟ فقال له الزهري -وهذه من الأبيات الجميلة، لم أكن أعرف أن الزهري يقول الشعر حتى قرأتها- يقول:

أقول لعبد الله لما لقيتهوقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع حنايا الأرض وادع مليكهالعلك يوماً أن تجاب وترزقا

فيؤتيك مالاً واسعاً ذا مثابةإذا ما مياه الأرض غارت تدفقا

إذاً: المعادن هي النوع الثاني من الخارج من الأرض الذي ذكره المصنف رحمه الله.

أقوال أهل العلم في المعادن التي تجب فيها الزكاة

وفي مسألة المعادن عدة أمور: الأول منها: ما هي المعادن التي تجب فيها الزكاة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة تقريباً على أربعة اتجاهات أو مذاهب:

القول الأول: لا زكاة في المعادن مطلقاً

الأول: مذهب الظاهرية كـداود بن علي الأصبهاني وابن حزم وغيرهما، وحكاه ابن حزم أيضاً في المحلى عن الليث بن سعد : أنه لا زكاة في شيء من المعادن مطلقاً، ولا خُمُس ولا غيره، وقالوا: إن هذه الأشياء مما رزقه الله العبد، ولم يثبت أن فيه شيئاً بنص ولا بإجماع، وذمة الإنسان معصومة، ولذلك فلا زكاة في شيء من المعادن، إلا أن يحول عليها الحول عند مالكها فتجب عليه الزكاة حينئذ ولا بد؛ لأنه مال حال عليه الحول، وذكر ابن حزم أن هذا القول هو أحد أقوال الإمام الشافعي .

القول الثاني: أن الزكاة في المعادن إنما هي في الذهب والفضة

القول الثاني: وهو مذهب الشافعي المذكور عنه والمنصوص في كتبه أو غالب كتبه قديمها وحديثها، وهو أيضاً مذهب مالك : أن الزكاة من المعادن إنما تجب في الذهب والفضة فحسب، وحجته في ذلك: أولاً: ما ورد من النصوص في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، كقوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولا صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاته .. ) وكل هذا قد مضى، والإجماع كما حكاه غير واحد، فقالوا: هذا دليل على أن المعدَن إذا كان ذهباً أو فضة فإن فيه الزكاة، وأما ما كان غير ذلك فلا زكاة فيه.

وكذلك احتجوا بأن ما وراء ذلك ليس فيه دليل، فيبقى مالاً مباحاً ظفر به صاحبه، فلا شيء عليه فيه، كما أن بعضهم قاسوه على الطين الأحمر.. وغيره، قالوا: وقع الاتفاق على أن الطين والرمل ليس فيه شيء، وكذلك المعادن المستفادة من الأرض تقوم بالذهب والفضة وتشبه الطين فلا شيء فيها.

واحتجوا بحديث نصه: ( لا زكاة في الحجر )، وهذا الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل وأشار إلى تضعيفه، وأنه من رواية عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعمر الكلاعي هذا ضعيف كما أشار إليه ابن عدي أو هو مجهول، هو ضعيف أو مجهول، قال: وأحاديثه منكرة وغير محفوظة.

وأيضاً: رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيها المقال الذي سبق مراراً، وقد تابع عمراً هذا محمد بن عبيد الله العرزمي، العرزمي : بعين فراء فزاي، وهو ضعيف أيضاً، ضعفه البخاري والنسائي وابن معين والفلاس .. وغيرهم.

إذاً: حديث: ( لا زكاة في الحجر ) حديث ضعيف، أو ضعيف جداً لا تقوم به حجة، هذا هو القول الثاني، وهو قول الشافعية والمالكية: أنه لا زكاة في شيء من المعادن إلا في الذهب والفضة.

القول الثالث: تقسيم المعادن المستخرجة إلى ثلاثة أقسام

القول الثالث: وهو مذهب الحنفية يقولون: إن المعادن المستخرجة من باطن الأرض تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول منها: معدَن جامد ينطبع بالنار، يعني: يقبل الطرق والسحب والتشكيل، ممكن أن يصنع منه مثلاً أشياء عديدة، يصنع منه صفائح، يصنع منه أسلاك، يصنع منه حلي.. أو غير ذلك، فهو يقبل الطرق والسحب وأصله جامد، مثل: الذهب، ومثل: الفضة، ومثل: الحديد، ومثل: الرصاص، ومثل: النحاس، وهذه أيضاً تصنع منها الدراهم والدنانير وغيرها والصُفُر، فهذه الأشياء يجب فيها الحق، كما سوف أبينه بعد قليل.

القسم الثاني عندهم: الجامد الذي لا يقبل الانطباع ولا يقبل التشكيل والطرق والسحب، وذلك مثل: الجُص، أو الكحل أو النورة أو الزرنيخ.. أو غيرها، فقالوا: هذا لا شيء فيه لا من زكاة ولا من خمس ولا سواه.

القسم الثالث: وهو المائع، طبعاً لن يكون هنا حاجة إلى قيد آخر، فالمائع مثل: النفط والقار وسواها، قالوا: هذا أيضاً لا شيء فيه.

إذاً: الحنفية أوجبوا الحق الشرعي، وهو الخمس كما سوف أشير في الجامد الذي يقبل الانطباع ويقبل الطرق والسحب والتشكيل، ولم يوجبوه فيما سوى ذلك من الجامدات غير القابلة أو من المائعات، وكأن الحنفية بهذا ألحقوا الجامد القابل للتشكيل؛ ألحقوه بالركاز الذي ورد فيه النص أن فيه الخمس، ولذلك أوجبوا فيما يجب في الركاز.

أما ما سواه من الجامد الذي لا يقبل الطرق ومن المائعات فإنهم ألحقوها بالتراب والطين والحجر، وقالوا: ليس فيها شيء ولا خمس ولا صدقة ولا زكاة.

ويُشْكل عليهم في تقسيمهم -على الأقل- ما هو معروف اليوم من الغاز، فإن الغاز ليس جامداً ولا مائعاً، وهو لا شك أنه ليس معدناً بالتعريف العلمي الذي ذكرناه، ولكنه معدن بتعريف الفقهاء الاصطلاحي الذي مر قبل قليل، وهو من المعادن النفيسة المهمة، فثروات كثير من الدول اليوم -دول الخليج وغيرها- تقوم على الغاز كما هو معروف.

القول الرابع: وجوب الزكاة في المعادن كلها

المذهب الرابع: هو مذهب الحنابلة؛ ذهبوا إلى إيجاب الزكاة في المعادن كلها، يعني: سواءً كانت جامدة قابلة للطرق أو غير قابلة، أو مائعة أو ما سوى ذلك، وسواءً كانت في ملكه أو كانت في البراري، ودليل الحنابلة في ذلك عموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، فقالوا: كل ما خرج من الأرض وجب فيه الزكاة، وهذا هو الأصل الذي ينبغي طرده وعدم التفريق فيه بين معدن ومعدن، وما دمنا قد رجحنا في الأسبوع الماضي مذهب الحنفية في وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من النباتات والخضروات والفواكه.. وغيرها، فمن الطبيعي أن نرجح في هذا الموضع مذهب الحنابلة؛ لأنه أكثر اطراداً وأكثر انسجاماً مع عموم النص، الذي لا يوجد ما يقيده أو يحده، كما أنه يمكن الاستدلال لهم بقياس بقية المعادن على الذهب والفضة، التي ورد بها النص الصريح، والإجماع الذي نقله غير واحد، باعتبار أن كل هذه الأشياء معادن، وأنها استخرجت من باطن الأرض، وأنها ذات قيمة، فوجبت فيها الزكاة.

إذاً: هذه هي المسألة الأولى، وهذا هو القول الراجح فيها.

الأقوال في الزكاة فيما يخرج من البحر من المعادن

المسألة الثانية، ولها تعلق بالأولى وهي: هل ما يخرج من البحر من الجواهر والأحجار والمعادن الكريمة، كاللؤلؤ مثلاً أو المرجان، أو ما يخرج منه أيضاً من الطيب كالعنبر الذي يباع بأغلى الأثمان؛ هل هذا أيضاً فيه حق أو زكاة، أو ليس فيه شيء؟

القول الأول: أن المستخرج من البحر لا زكاة فيه

جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقول أبي عبيد صاحب الأموال وأبي ثور، ومذهب عكرمة نص عليه، كما ذكره ابن أبي شيبة عنه: أن المستخرج من البحر لا شيء فيه، لا من زكاة ولا من خمس، ويروى في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ليس في العنبر شيء)، وهكذا عن جابر، والأثر عنهما رواه أبو عبيد .. وغيره، وهذا من حجتهم.

من حجتهم أيضاً: أن هذه الأشياء كانت تستخرج في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة كما قاله أبو عبيد، ولا نقل عن أحد من الخلفاء الراشدين أنهم أخذوا منه الزكاة من وجه يصح.

وقد جاء عن ابن عباس أيضاً من وجه آخر غير ما سبق أنه قال: (لا شيء في العنبر، إنما هو شيء دسره البحر أو ألقاه البحر)، وأثر ابن عباس أخرجه البيهقي، وذكره البخاري معلقاً مجزوماً به، مما يدل على أنه عنده ثابت، ووصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق .. وغيرهما.

إذاً: هذا هو القول الأول، وهو مذهب الجمهور؛ أن ما يخرج من البحر ليس فيه شيء لا زكاة ولا خُمس ولا سواها.

القول الثاني: أن المستخرج من البحر فيه الزكاة

والقول الثاني في هذه المسألة: وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد : أن فيما يخرج من البحر الزكاة، والمقصود: ما يخرج منه من المعادن أو الطيب.. ونحوها أن فيه الزكاة، وقالوا: إنه يشبه معدَن البر.

وروي هذا أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه وعمر بن الخطاب والحسن والزهري، وهو إحدى الروايتين عن عمر بن عبد العزيز .

والأقرب في هذه المسألة هو القول الأول:

أولاً: لعدم وجود أدلة تكفي في هذا الباب.

وثانياً: لما ذكروه من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاءه لم يأخذوا منه شيئاً.

وثالثاً: لقلة ما يخرج من البحر بالقياس إلى ما يوجد في البر من المعادن فهو قليل، والشرع إنما يوجب الزكاة في الأشياء الكثيرة.

ورابعاً: للكلفة التي تحصل لمن يستخرج هذه المعادن من البحر غالباً، فإنها قد تحتاج إلى غوص، وإن كان يوجد منها ما يلقيه البحر في البر دون عناء.

وخامساً: لأن إلحاق ما يخرج من البحر بالصيد وبالسمك الذي يستخرج من البحر أولى، ولذلك أيضاً ذهب الجمهور إلى أن الصيد ليس فيه زكاة، سواء كان صيد البر أو صيد البحر، وقد ذكر الله تعالى صيد البر في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي قتادة وغيره، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقاً على من صاده.

قال ابن قدامة رحمه الله: أما السمك فلا شيء فيه بحال في قول أهل العلم كافة، إلا شيء روي عن عمر بن عبد العزيز، رواه عنه أبو عبيد وقال أبو عبيد : ليس الناس على هذا، ولا نعلم أحداً يعمل به، وقد روي ذلك أيضاً عن أحمد .

والصحيح أن هذا لا شيء فيه؛ لأنه صيد فلم يجب فيه زكاة كصيد البر، ولأنه لا نص ولا إجماع على الوجوب فيه. انتهى كلام ابن قدامة، ولا يصح قياس الصيد على ما فيه الزكاة بحال من الأحوال فلا وجه لإيجابها فيه.

إذاً: الصحيح أن صيد البر والبحر ليس فيه زكاة على من أخذه، إلا أن يتحول إلى شيء آخر، كأن يكون عروض تجارة مثلاً، فتجب الزكاة التي هي زكاة عروض التجارة.

الأقوال في المقدار الواجب في زكاة المعدن

المسألة الثالثة: هي مقدار الواجب في المعدَن، إذا عرفنا أن المعدَن يجب فيه الحق عند جمهور العلماء، فما هو الواجب فيه، هل هو الخُمُس كما يجب في الركاز أو في الغنيمة، أم هي الزكاة التي هي ربع العشر؟

في المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن فيه الخمس

الأول: مذهب الحنفية وأبي عبيد أن فيه الخُمُس؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي الركاز الخُمُس ) والحديث متفق عليه، بل رواه الجماعة، والحديث مر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العجماء جُبار، والبئر جُبار، والمعدِنُ جُبار، وفي الركاز الخُمُس )، فقالوا: إن الركاز يجب فيه الخُمُس، وقاسوا المعدن على الركاز في ذلك، وقد جاء في هذا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الركاز الذهب والفضة التي خلقها الله تعالى في باطن الأرض )، واستدل بعض الحنفية وبعض الفقهاء بهذا، ولا شك أن هذا الحديث ضعيف جداً، فقد تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري وهو شديد الضعف، فلا يحل الاحتجاج بحديثه، وإنما قاس بعضهم ذلك أيضاً على الغنائم: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]، وهذا موجود في كتب الحنفية وغيرهم. هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن فيه ربع العشر

الثاني: أن فيه الزكاة، وقدر الزكاة كما هو معروف ربع العشر أي: (2.5%) وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، واستدلوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: عن غير واحد من علمائنا: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية )، بفتح القاف والباء، وهي من ناحية الفرع، كأنها جهة جدة والله أعلم.

قال: فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم، قال ابن عبد البر : هذا الحديث منقطع في الموطأ، وقد روي متصلاً على ما ذكرنا في التمهيد من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه. انتهى كلام ابن عبد البر .

وفي الحديث نظر من جهة الإسناد لاضطرابه، فقد جاء على وجهين كما ذكرنا، وجاء على وجه ثالث عند الترمذي وغيره، من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وهو أيضاً ضعيف أو شديد الضعف، كما أنه لا يخلو من ملاحظة باعتبار أن عبد العزيز الدراوردي ممن لا يحتمل تفرده وإن كان لا بأس به .

الوجه الثالث: أن في الحديث نظراً من جهة المتن، فإن ذكر الزكاة فيه أنها لا تؤخذ منهم إلا الزكاة إلى اليوم ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الشافعي وأبو عبيد .

الرواية التي ذكرها الدراوردي ليس فيها ذكر الزكاة، وبناء عليه فإن ذكر الزكاة في هذا الحديث لا يصح، أو لا يتم الاستدلال به.

القول الثالث: التفريق بين ما أخرج بمئونة أو بغير ذلك

القول الثالث: وهو أيضاً قول للمالكية: أنهم قالوا بالتفريق، بين ما أخرجه بكلفة ومئونة وما أخرجه بغير ذلك، فأما ما أخرجه بمئونة فإنها تجب فيه الزكاة فقط، أما ما أخرجه بغير كلفة ولا مئونة فاختلف قول مالك فيه في أحد الرأيين أنه أوجب فيه الزكاة، وفي رأي آخر: أنه أوجب فيه الخُمُس.

والأقرب من هذه الأقوال الثلاثة: أن الواجب فيه هي الزكاة، وهو القول الأوسط أن فيه ربع العشر إلحاقاً له بغيره من الخارج من الأرض، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي ذكرته قبل قليل، وهو حديث أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والمعدن جبار وفي الركاز الخمس )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المعدن وبين الركاز، فأما المقصود بالمعدن في الحديث فهو المكان الذي يستخرج منه المعدَن، وقوله: (جبار) ليس معناه عدم إيجاب الزكاة فيه، وإنما معناه: أنه لا ضمان على من تلف فيه إذا كان استؤجر لحفر معدن مثلاً فسقط عليه أو ما أشبه ذلك، فليس فيه ضمان.

الركاز.. وأقوال العلماء فيه

قوله: [ وفي الركاز الخُمُس ]، دليل على أن الركاز غير المعدن، وإن كان هذا الاستدلال ليس قوياً جداً، لكن هو أمثل ما في الباب.

المسألة الرابعة: الركاز ما هو؟ الركاز مأخوذ في اللغة من الركز، أي: الإثبات، تقول: ركزت الشيء أي: أثبته، ويستخدم الركز أيضاً لمعنى آخر، وهو الصوت الخفي، كما في قوله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98]، قال المفسرون: الركز: هو الصوت الخفي، ويمكن ردهما إلى أصل واحد.

وفي تحديد الركاز ما هو؟ قولان للعلماء، كما ربما يكون وضح من خلال الكلام السابق.

القول الأول: أن الركاز هو دفن الجاهلية

القول الأول وهو مذهب الجمهور من الأئمة الثلاثة.. وغيرهم: أن الركاز هو دِفْنُ الجاهلية، هو ما وجد مدفوناً من أزمنة الجاهلية، سواء كان مضروباً كالدراهم والدنانير، أو كان من ذهب أو من فضة، أو غير مضروب، أو حديداً أو نحاساً أو رصاصاً أو صُفراً أو رخاماً، أو كان بناءً أو إناءً أو عموداً أو عروضاً.. أو غير ذلك؛ الأشياء الموجودة من آثار الجاهلية، لو حفر إنسان فوجدها، فإن هذا يسمى ركازاً، وفي الركاز الخمس.

وهؤلاء استدلوا لذلك بعموم الحديث، وهذا كما ذكرت مذهب الثلاثة، إلا أن الشافعي خصه بالذهب والفضة لما أسلفت؛ فهو لا يرى زكاة إلا في الذهب والفضة دون غيرهما من الأموال والمعادن الموجودة.

القول الثاني: أن الركاز شامل لكل ما هو في باطن الأرض

المذهب الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وهو أعم من مذهب الجمهور، فإن أبا حنيفة يرى أن الركاز شامل لدفن الجاهلية أولاً، وشامل للمعادن التي تستخرج من باطن الأرض، وشامل للكنوز، سواء كانت كنوزاً إسلامية أو كنوزاً غير إسلامية، ولذلك أوجب الحنفية الخُمُس في دفن الجاهلية، وهذا وافقوا فيه الجمهور، وأوجبوه أيضاً في المعادن كما سلف، بينما الجمهور أوجبوا في المعادن الزكاة، وأوجبوا الخمس -عند الحنفية أوجبوه- في كنز الكافر، في الكنز إذا كان الذي دفنه كافراً، ولم يشترطوا لذلك نصاباً؛ لأنهم يعدونه كله من الركاز، خلافاً للجمهور.

علامات كون الركاز من دفن الجاهلية

كيف يستدل على أن هذا الركاز من دفن الجاهلية؟

قد يستدل عليه مثلاً بوجوده في قبورهم، أو في متاحفهم، أو في خزائنهم، أو في قلاعهم، أو في آثارهم أو دورهم لو حفرت وكشفت، أو توجد عليه علامات، مثل: توجد أسماء ملوك الجاهلية، وأسماء أشخاصهم، وصور صلبانهم أو أوثانهم، أو صورهم هم، أو تواريخ تدل على تاريخ دفنه، فإن هذا مما يدل على أن الركاز كان ما دفن في سنة كذا أو في عهد الملك فلان.. أو ما أشبه ذلك.

ويدخل بطبيعة الحال في هذا ما دفنه أهل الشرك وأهل الوثنية، كما يدخل فيه ما دفنه أهل الكتاب من اليهود والنصارى .. وغيرهم، إلا أن يكونوا من أهل الذمة، فإن أموالهم تظل على أصل الاحترام.

بناء على هذا: ما حكم ما دفنه المسلمون؟ قد تعثر بصرة أو جرة فتجد فيها مثلاً أموالاً كتب عليها: أنه ضرب في عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور .. أو شيء من هذا القبيل.

هذا مما اتفق الفقهاء على أنه لا يعتبر ركازاً، وإنما يعتبر حكمه حكم اللقطة، وسيأتي الكلام عن موضوع اللقطة.

يُعرف أنه من دفن أهل الإسلام بذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، أو أحد الخلفاء الراشدين، أو أحد خلفاء الإسلام أو ولاتهم أو ملوكهم، أو أن يوجد فيه شيء من القرآن، أو أن يوجد فيه تاريخ معروف.

سؤال: إذا كان المال الذي وجدته وبارك الله لك فيه مختلطاً، يعني: وجدت صرة من المال فيها شيء من دفن الجاهلية وأسماء ملوك الجاهلية، وفيها شيء من أسماء ملوك الإسلام، فكيف يعتبر هذا؟ هل يعد ركازاً؛ لأن فيه دفن الجاهلية، أو يعد لقطة؛ لأن فيه دفن الإسلام؟

الفقهاء متفقون تقريباً على أن هذا يلحق بما وجد من دفن أهل الإسلام، وأن حكمه حكم اللقطة، ولذلك يقول ابن عابدين من الحنفية نقلاً عن علي القاري يقول: وأما اختلاط دراهم الكفار مع دراهم المسلمين، فلا ينبغي أن يكون خلاف في كونه إسلامياً.

وهكذا قال في المغني كلاماً قريباً من هذا، قال: وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفر، فكذلك -يعني: حكمه حكم اللقطة- نص عليه أحمد في رواية ابن منصور ؛ لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم، يعني: أن الذي دفنه إنما هو مسلم .

ولا زلت أذكر كثيراً من الناس يتحدثون أحياناً عن دفن أو كنز موجود، وكثير من العوام يعتقدون عقائد باطلة، أنه يكون هناك رجل من الجن أو العفاريت مكلف بحراسة هذا الدفن، ولذلك لا يمكن الوصول إليه إلا بطرق مختلفة، وقد يعتقدون أن سحراً وضع فيه، وقد جاءني غير مرة بعض الطيبين، وهم يتحدثون عن دفون وركاز وأموال مدفونة في مناطق واسعة وشاسعة من الأرض، وأن الجن يحرسونها، وأنه ليس ثمة مشكلة في طرد الجن واستخراج هذه الأموال، المشكلة فقط شرعية: هل يجوز أو لا يجوز؟ فقلت لأولئك الإخوة: أبداً، شأنكم بها بارك الله فيكم، لكن لا تنسونا منها، ولم أر شيئاً حتى الآن، لأن الموضوع يبدو أنه كان أحلاماً في رءوس هؤلاء الإخوة الطيبين.

الفروق بين الركاز والمعدن

الفرق بين الركاز والمعدَن على ضوء ما تحدد ومضى يكون فيما يلي:

أولاً: المعدَن مما خلقه الله سبحانه وتعالى في باطن الأرض، أما الركاز فهو من دفن الإنسان، وهذا عند الجمهور.

الفرق الثاني: أن المعدَن يشترط فيه بعد التصفية أن يبلغ نصاباً، أما الركاز فتجب الزكاة في قليله وكثيره كما نص عليه المؤلف وغيره، وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعية، فتجب الزكاة في قليل الركاز وكثيره عند الجمهور، وهو الراجح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي الركاز الخُمُس ).

الفرق الثالث: أن المعدِن أو المعدَن فيه الزكاة، وأما الركاز ففيه الخُمُس. طيب.

الأقوال في مصرف خمس الركاز

سؤال: أين يصرف الركاز، سواء قلنا: فيه الخُمُس، أو قلنا: فيه الزكاة أين يكون مصرفه؟

القول الأول: أنه يصرف في مصارف المسلمين العامة

أما الجمهور وهم الأحناف والمالكية وهو المذهب أيضاً عند الحنابلة، وبه قال المزني من الشافعية، فإنهم يقولون: إن خُمُس الركاز يصرف في مصارف الغنيمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، وليس في مصارف الزكاة، ولذلك فهو يصرف في مصالح المسلمين العامة، ويحل للأغنياء منه كما يحل للفقراء، ولا يختص بالأصناف الثمانية، ويحل أن يأخذ منه آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو عبيد في مصنفه عن الشعبي : [ أن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارج المدينة المنورة، فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذ عمر منها الخُمُس مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها، ثم وزع عمر رضي الله عنه الخُمُس على من حضره من المسلمين من أغنيائهم وفقرائهم، إلى أن فضل منه فضلة، فقال: أين الرجل الذي وجد الركاز؟ فقام الرجل إليه فأعطاه إياه عمر، وقال: خذ هذا أو خذ هذه الدنانير فهي لك ].

فأُخذ من هذا: أن الخُمُس يصرف في مصارف الفيء في المصالح العامة للمسلمين، ولذلك حل للرجل الذي وجده أن يأخذ مزيداً على ما أخذ، وأن يأخذ من الخُمُس نفسه، ولذلك ألحقوه بالغنيمة، قالوا: إنه خُمُس، وإلحاقه بخُمُس الغنيمة أشبه، وهذا جيد فهو أكثر انسجاماً مع النص: ( وفي الركاز الخُمُس فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، وهو أيضاً أنفع للمسلمين، والأصل عدم تحديده بمصارف الزكاة.

القول الثاني: أنه يصرف في مصارف الزكاة الثمانية

القول الثاني: وهو مذهب الشافعية، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد : أنه يجب أن يصرف الخُمُس في مصرف الزكاة، في الأصناف الثمانية التي ذكرها الله تعالى في سورة التوبة، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60] .. إلى آخر الآية، ولا شك أن القول الأول أجود وأوسع وأنفع. هذا ما يتعلق بالخُمُس.

مصرف بقية الركاز غير الخمس

باقي الركاز الذي هو أربعة أخماس، ماذا يصنع به؟

يقول المصنف وغيره: [باقي الركاز لواجده] يعني: لمن وجده؛ وذلك لفعل عمر الذي ذكرناه، ورواه عنه الشعبي قبل قليل، ولما رواه أيضاً ابن أبي شيبة والبيهقي وسعيد بن منصور في سننه عن الشعبي نفسه عن علي رضي الله عنه: (أن رجلاً وجد ركازاً، فجاء به إلى علي، فأمره علي أن يتصدق بخُمُسه على المساكين، وأن يأخذ باقيه)، فاستدلوا من هذا وهذا على أن باقي الركاز لمن وجده.

إذاً: هو ليس لصاحب الأرض، مثلاً: لو أن رجلاً استأجر رجلاً آخر على أن يهدم له هذا الجدار فهدمه، أو أن يحفر له هذه الأرض فحفرها، ثم ظفر بركاز، فهذا الركاز للعامل الذي وجده وظفر به، وليس لصاحب الأرض؛ لأنه لا علاقة له بالأرض، فهو ليس جزءاً منها، ولا يُمَلك بملك الأرض، وإنما هو مودع فيها، فجرى في ذلك مجرى الصيد الذي هو لمن صاده، ومجرى الكلأ الذي هو لمن ظفر به، فهو كالمباحات الأخرى إذا ظفر به إنسان فهو له، حتى لو وجده، سواء وجده في أرض مباحة، أو وجده في أرضه هو، أو حتى وجده في أرض غيره، كما هو ظاهر الرواية في المذهب.

كيفية تصرف الإنسان إذا وجد معادن

هذا يجرنا إلى مسألة ربما تكون هي آخر ما لدينا، وهي مسألة ملكية المعدَن، ربما مر شيء منها في المبحث الأول في موضوع الزكاة.

ما يتعلق بالمعادن العامة، المناجم العامة، والمعادن التي يستخرج منها الفحم، أو الغاز، أو النفط، أو الحديد، أو الذهب أو سواها، هذه المناجم العامة هل يمكن أن يتملكها شخص بنفسه وتكون له، أو تكون لعامة المسلمين؟

ظاهر كلام الفقهاء وربما يُفهم من جميع ما مضى أنه يمكن أن يتملكها إنسان، لكن نحن وجدنا نصوصاً أخرى للشافعية والمالكية تدل على غير هذا، فإن المالكية لهم قول: أن ما في جوف الأرض من ذهب أو فضة.. أو غيرهما من المعادن هو فيء عام لجميع المسلمين، فهو بمنزلة ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهو فيء عام لمصلحة الأمة كلها لا يملكه فرد بعينه، وكذلك يقول الشافعية أيضاً في بعض كتبهم، يقولون: المعدن الظاهر لا يُملك بالإحياء، ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا بإقطاع ولا بغيره؛ لأنه من الأمور المشتركة بين الناس، فهو كالماء والكلأ، وهذا القول أجود؛ لأسباب عدة:

منها أولاً: أن فيه مصلحة للمسلمين، خصوصاً وأننا نلاحظ أن الثروة المعدنية اليوم أصبحت ثروة هائلة طائلة، ولا يتصور أن تكون ملكاً لأفراد، وقد يكون كثير من الفقهاء كانوا يتكلمون عما هو موجود في وقتهم، أن يجد الإنسان قطعة صغيرة أو معدناً يسيراً، يستخرج منه الشيء بعد الشيء من الذهيبة، فهذا شيء، وما هو موجود اليوم من الكميات الهائلة من المعادن التي تثور من فوهات هذه المناجم هي شيء آخر، لا يمكن قياس هذا على ذاك بحال، فهذه مصالح عامة ينبغي أن تكون ملكاً للأمة كلها، تصرف في مصارفها ومصالحها العامة.

وبناءً على هذا نقول: إنه لا زكاة فيها ولا خُمُس؛ لأنها كلها تصرف في المصالح العامة للمسلمين، وقد سبق أن من شروط وجوب الزكاة: التملك، فلا تجب الزكاة إلا في مال مملوك، فغير المملوك لا زكاة فيه، وهذه المصالح العامة والمنافع العامة والمعادن والمناجم وغيرها ليست مملوكة لفرد، ولذلك فإنه لا زكاة فيها على ما سبق وبينا.

ومما يؤيد ويؤكد هذا المعنى ما رواه أهل السنن، ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما عن أبيض بن حمال : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يقطعه الملح الذي بـمأرب بـاليمن، استقطع من النبي صلى الله عليه وسلم الملح الذي بـمأرب، فأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلما ولى قال له رجل: يا رسول الله! أتدري ما أقطعته؟ إنما أقطعته الماء العِدْ -يعني: أقطعته معدَناً أو منجماً هو كالماء العِدْ الذي يرتاده الناس ويحتاجونه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلا إذاً، ورده )، وهذا الحديث وإن كان الترمذي قال: حديث غريب، وأبو داود أيضاً ذكره وسكت عليه، وابن ماجه والدارمي، وفي سنده مقال، أو في أسانيده مقال، إلا أنه يمكن أن نمشيه على طريقة ابن حبان، فإن ابن حبان وثق رجاله، ويكفي أن قواعد الشريعة العامة تشهد لهذا الحديث كما أسلفت .

إذاً: هذه المعادن الموجودة اليوم ليس فيها زكاة، ولا تكون ملكاً لشخص معين، ولا يمكن إقطاعها لأحد، والله أعلم.

هذا ما يتعلق بالقسم الثاني من زكاة الخارج من الأرض، وهو المعادن.

الأسئلة

حكم الزكاة في المال الذي يزيد وينقص

السؤال: أنا طالب جامعي يزيد مالي وينقص، لكن إن قل لا يقل عن ألف ريال تقريباً، فهل علي زكاة في هذا المال؟

الجواب: هذا يرجع إلى مسألة تحديد النصاب من المال كم هو، وخصوصاً نصاب الأوراق النقدية.

وأقول لأخي الكريم: سيكون موضوع جلستنا في الموضوع القادم في هذه الليلة إن شاء الله هو عن زكاة الأثمان، وسوف أتحدث عن مقدار النصاب من الأوراق النقدية الموجودة اليوم.

حكم الأكل من الأموال المختلطة والمحرمة

السؤال: أبي يتاجر في الأجهزة المحرمة، ولا أعلم أنه يزكي زكاة هذه المحلات، فهل ما يصرفه علي من مال هو محرم أم لا؟

الجواب: إذا كانت تجارة أبيك مختلطة من أموال محرمة ومباحة، وهذا حال غالب الناس؛ فإن ما يصرفه عليك حلال، أما لو فرض جدلاً أن ثمة أموالاً محرمة (100%) كلها حرام لم يرد شيء حلال ولا تاجر في حلال، فإن هذا المال لا يجوز أخذ شيء منه، ولا على سبيل النفقة.

حكم اشتراط صاحب الأرض على الحافر أن الركاز له إن وجد

السؤال: ذكرت أن الركاز للحافر وليس لصاحب الأرض، فإذا شرط صاحب الأرض على الذي سيقوم بالحفر إن وجد شيئاً يكون له؟

الجواب: إذا شرط فإن المؤمنين على شروطهم، إلا شرطاً حلل حراماً أو حرم حلالاً.

إلحاق شجر المطاط بالمعادن في الزكاة

السؤال: شجر المطاط هل يعتبر من المعادن، حيث إنه قابل للتشكيل؟

الجواب: ما المقصود بشجر المطاط، فإن المطاط شجر، وهنا ننتقل إلى أن نتكلم في موضوع الزروع والثمار، وهذا كان محله الأسبوع الماضي، إذا كان المقصود ما يخرج من هذا الشجر مما يستفاد منه في أكل ونحوه..

حكم زكاة الحرير الصناعي

السؤال: خرج في الآونة الأخيرة حرير صناعي وغيره؟

الجواب: هذا سؤال مهم، نحن لما ذكرنا تعريف المعادن ذكرنا أنه ما يخرج من الأرض، فخرج بذلك ما يكون مصنعاً بفعل الإنسان، فإن هذا لا يدخل في أصل المسألة.

والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة الخارج من الأرض 2 للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net