اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , استقيموا ولا تطغوا للشيخ : صالح بن حميد
أما بعــد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14].
أيها المسلمون: الاستقامة كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، ووفاء بالعهد مع الله، فالاستقامة: لله وبالله وعلى أمر الله قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13] فكما استقاموا إقراراً استقاموا إسراراً، وكما استقاموا قولاً استقاموا عملاً، لقد جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان والاستقامة.
فالإيمان بالله: كمال في القلب بمعرفة الحق، والسير عليه معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله رباً حكيماً إلهاً مدبراً معظماً في أمره ونهيه، قد عمر القلب بخوفه ومراقبته، وامتلأ منه خشية وإجلالاً، ومهابةً ومحبة، وتوكلاً ورجاءً، وإنابة ودعاء، أخلص له في القصد والإرادة، ونبذ الشرك كله وتبرأ من التعلق بغير ربه، والاستقامة اعتدال في داخل النفس من غير عوجٍ يمنة أو يسرة، وانتهاج للتقوى والعمل الصالح، والتزامٌ بالتواضع من الرأي والعلم والعمل، وقيام بأداء الفرائض واجتناب النواهي، وقول بالحق وحكم به، وبعد عن مواضع الشبه وموارد الفتن.
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13] إذا تمكن ذلك في العبد وتحقق، ظهر ذلك طمأنينة في النفس، ورقة في القلب وقرباً من الرب، إيمان واستقامة ينجلي بها الليل البهيم لذي البصر السقيم، وينسكب على القلوب الظامئة فترتوي، ويغشى النفوس العاصية فتستكين، ويهيمن على القلوب الشاردة فترجع وتئوب.
أيها المسلمون: استقيموا كما أمرتم ولا تطغوا، استقيموا ولا تتبعوا الهوى، استقيموا ولا تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون.
أيها المسلمون: الاستقامة شاقة؛ فالنفس معها تحتاج إلى المراقبة والملاحظة، استقامة لا تتأثر بالأهواء، استقامة تحقق العدل والتوحيد، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان، يقول عمر رضي الله عنه: [[الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب ]].
وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إذ قال له: (يا عبد الله بن عمرو ! إن لكل عالم شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر ). ويقول بعض السلف : ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصاناً.
فالمطلوب الاستقامة وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة، استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة وجبر للنقص البشري، وتسديد للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115]. {وأتبع السيئة الحسنة تمحها } استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظةً دائمة، ومحاسبة صادقة، وضبطاً للانفعالات البشرية.
ولقد كان من دعاء نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: {أسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً } فمن صلح قلبه استقام حاله فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بمأثم، ولم تبطش يده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، والأعضاء كلها تكفر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: {اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا } بهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً.
سددوا وقاربوا
حفظ القلب واللسان مدار تحقيق الاستقامة
يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم } متفق عليه.
ومن رأى من أميره شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزع يداً من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية، والعاصي لا يكفر بالمعصية إن لم يستحلها، وليس من سبيل الاستقامة أن يحمل الحماس بعض الناس على الوقوع في مخالفات الشرع.
فاتق الله يا عبد الله ولا تقل بلسانك إلا معروفاً، ولا تبسط يدك إلا إلى خير، كف عما لا يعنيك، ودع فضول الكلام والنظر، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا ترتفع عنك نعمته، واجعل طاعتك لمن لا غنى لك عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: [[عليك بالرجاء لمن يملك الوفاء، وعليك بالحذر لمن يملك العقوبة، وعليك بمراقبة لمن لا تخفى عليك منه خافية ]].
أيها الإخوة! أيها الأحبة! هذه هي الاستقامة في حقيقتها وطريقها.
أما جزاء أهلها: فتتنزل عليهم ملائكة الرحمن ألا تخافوا ولا تحزنوا، أمن من المخاوف وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون من مستقبل، مسددون موفقون، محفوظون بملائكة الله من أمر الله، بإذن الله: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31] لهم الأمن في الحال والمآل والنعيم المقيم: نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].
أهل الاستقامة لا يصبح الدين عندهم فريسة العابثين، ولا ميدان المتلاعبين، وليس لعبة للمنحرفين، وتقلبات المنافقين، أهل الاستقامة يتواصلون بالدين، لا يحمل بعضهم على بعض ضغينة، ولا تشوبهم ريبة، ولا تسرع إليهم غيبة، في الله يتحابون، وفي دين الله لا يغلون أو يزيدون، ومهما طال عليهم الطريق فلغير دين الله لا يدينون، غير ناكسين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين عن عمل.
أما من قل نصيبه واختلت استقامته، واعوجت مسيرته، فتجرفه أهواء عاتية، وتحرفه أغراض متباينة، لا يحمل رسالة، ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة، ويضل عند أدنى شبهة، ويزل لأول بارق شهوة: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] .. انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج:11] دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، هذا حال الفريقين، وهذا مسلك النجدين، فليجاهد العبد نفسه في تحقيق الإيمان والاستقامة، وليسأل ربه الثبات حتى الممات، والحفظ من فتن الشهوات والشبهات، وليعرض عن الجاهلين، وليصفح عن المسيئين.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
فقد جاء سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال: قل آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم .
وزاد غير مسلم بسندٍ صحيح قال: (قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا ).
أيها الإخوة: الإيمان دليل الحيران، وعدة المحارب، ورفيق الغريب، وأنيس المستوحش، ولجام القوة، وقوة الضعيف، الإيمان ضرورة للإنسان كي يطمئن ويبقى، وضرورة للإنسان كي يسعد ويرقى، إيمان القرآن والسنة، إيمان الصحابة وتابعيهم بإحسان، علمٌ ونية، وعقيدة وعمل، من أراد السعادة فلا سعادة من غير طمأنينة، ولا طمأنينة بغير إيمان، ومن أراد الحياة الطاهرة فلا طهارة بغير استقامة، ولا استقامة بغير إيمان، والنصر على الأعداء لا يكون إلا بالجهاد، ولا جهاد بغير إيمان، والخير والبركة والرخاء لا تكون بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير إيمان، والتعاون بين المسلمين والوحدة بين المسلمين لا تكون بغير إخاء، ولا إخاء بغير إيمان، وأفضل الطاعات مراقبة الله على دوام الأوقات.
فاتقوا الله رحمكم الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , استقيموا ولا تطغوا للشيخ : صالح بن حميد
https://audio.islamweb.net