إسلام ويب

ذكر الشيخ جملة من الوصايا والتوجيهات والتحذيرات، فوصية بالتقوى، وتحذير من الموت، ووصية بالسكوت عما لا يعني، وتحذير من خطر اللسان في كثرة الكلام، وتحذير من الشهوات والشبهات، وأمر بكثرة الطاعات.

ثم تحدث الشيخ عن العلماء ومنزلتهم، وأنهم هم الهداة الذين ينيرون للناس الطريق، فإذا فقدوا أظلمت الدنيا وتخبط الناس في ظلمات الجهالة، وذكر أنه لابد من معرفة حق العلماء وإنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها..

فائدة المواعظ والوصايا

الحمد لله وسعت رحمته ذنوب المسرفين، وأعجزت آلاؤه عد العادين، أحمده سبحانه لا تحجب عنه دعوة، ولا تخيب لديه طلبة، ولا يضل عنده سعي، وأشكره وأثني عليه، رضي من عظيم النعم بقليل الشكر، وغفر بالندم كبير الذنب، ومحا بتوبة ساعة خطايا سنين.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ الآمال، وتهدي من الضلال، وتحفظ النعم من الزوال. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله ربه هدىً ورحمة، وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم وأعد لهم مغفرة وأجراً كبيراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: التاريخ ديوان البشرية، والتراث سجل الأمم، يدون فيه حلو الأيام ومرها، ويحفظ فيه تجارب الناس خيرها وشرها، وفي مدونات التاريخ وسجلات الأمم تأتي وصايا الحكماء، ونصائح العقلاء، ومواعظ الواعظين، وآداب المتأدبين.. تأتي خلاصة لهذه التجارب، ونتيجة لهذه المدونات، كأنها الثمار ودرر البحار، وما زالت الأقوال المأثورة، والأمثال الجارية، والحكم المحفوظة، والوصايا السائرة، تملأ أحاديث الناس، فتؤدب الناشئة، وتصقل التجربة، وتزكي الخبرة، وتزين المجالس.

ونحن أمة الإسلام قد جاءنا الوحي من كتاب ربنَّا عز شأنه، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرشداً للأمة في مسيرتها، وهادياً لها في طريقها، ثم من بعد ذلك تجيء رجالات هذه الأمة في خلفائها وأئمتها، وعلمائها وصلحائها، وناصحيها وواعظيها، من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، والعلماء الربانيين، والصالحين المصلحين، والذين يأمرون بالقسط من الناس.

وشرائع الدين وتوجيهات الشرع كلها دالة على معالي الأمور، مرشدة لكريم الأخلاق، زاجرة عن الدنايا، ناهية عن القبائح، باعثة على صواب التدبير، قائدة إلى حسن التقدير.

وطرق الخير -بفضل الله- كثيرة، وأبواب البر واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح الناس، وصلاح الناس -بعد توفيق الله- بالإرشاد وحسن التوجيه والتفصيل.

جملة من الوصايا والتوجيهات

أيها المسلمون: وهذه جملة من الوصايا والتوجيهات، دونها الأقدمون ووعظ بها الواعظون مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم والصلاح والحكمة.

الوصية بالتقوى والاستعداد للموت

فأول الوصايا، وصية الله للأولين والآخرين، في قوله سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:13].

فعليكم بتقوى الله، عليكم -رحمكم الله- بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته، والحذر من سخطه واعتصموا بحبله، واعمروا قلوبكم بذكره، أحيوا قلوبكم بالمواعظ، وثبتوها باليقين، وذللوها بذكر الموت، وبصروها بفجائع الدنيا، وحذروها تقلبات الدهر، ونوروها بالحكمة، وانظروا في أخبار الماضين وسير الأولين، وخافوا إن عصيتم ربكم عذاب يوم عظيم.

الحذر الحذر -يا عباد الله- أن تكونوا ممن لا تنفعه المواعظ، وممن لا يحبون الناصحين، فلقد ذم الله أقواماً وسجل عليهم سوء مقالتهم: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:136-138]، وقال في قوم آخرين: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79].

انظر -يا عبد الله- أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، الزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعاده، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، واعمل بما يحفظك الله به، وما ينجيك من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأتم نعمته عليك.

واعلم أن الدنيا دار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأن المرد إلى الله، وأن الإنسان طريد الموت.. لا ينجو هاربه، ولا يفلت طالبه، فهو مدركه لا محاله، فكن منه على حذر، ولمقدمه على استعداد: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فأجمل في الطلب، واقتصد في المكسب، وتحرى طيب المطعم والمشرب، فبئس الطعام الحرام، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].

فاحتط لنفسك واستقل من عثرتك، فلست في دار المقام، فلقد نادى المنادي بالرحيل، فما بقاء المرء بعد ذهاب أقرانه! وطوبى لمن كان من الدنيا على وجل! ويا بؤس من يموت وتبقى من بعده ذنوبه.

دع الغفلة فإنك لم تزل في هدم عمرك وتناقص أيامك منذ أن خرجت من بطن أمك، فحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء كان مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الحسرة والندامة.

أصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، وليكن أول ما تلزم به نفسك -يا عبد الله- وتنظر فيه لشأنك صلاح دينك، وصحة معتقدك، وصدق إخلاصك، ولزوم ما افترض الله عليك.

المحافظة على الصلوات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حافظ على الصلوات الخمس في الجماعة في مواقيتها، فقد قال الله في محكم تنزيله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] وصلِّ من الليل ما تيسر واعط كل ركعة حقها.. مر بطاعة الله وأحبب إليها، وانه عن معاصي الله وأبغض إليها، فذلك سبيل المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].

التحذير من الشبهات والشهوات

واحذر من الشبهات والشهوات والأمور المبتدعة، يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، واتق كل شيء تخاف فيه تهمة في دينك أو دنياك.

البر بالوالدين وصلة الأرحام

بر والديك، وخصهما منك بالدعاء، وأكثر لهما من الاستغفار، ففي التنزيل العزيز: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28] ويقول سبحانه: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24].

صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وعف عن المحارم تكن عابداً، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً.. ارحم المسكين، وأكرم الغريب، واسع على الأرامل، ففي الحديث الصحيح: {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو قال: كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر مخرَّج في الصحيحين .

التحذير من الظلم

وظلم الضعيف أفحش الظلم، وكل معروف صدقة، ولا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وقد علمت قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10].

وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وغض الطرف عن عيوب الناس، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، واجعل من نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، ولا تظلم كما تحب ألا تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، يجمع لك ذلك كله قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه مخرَّج في الصحيحين .

التحذير من خطر اللسان

اترك من أعمال السر ما لا يحسن بك أن تعمله في العلانية، واحفظ لسانك من الكذب وقول الزور وأبغض أهله، فأول فساد الأمور الجرأة على الكذب وتقليد المنافق والكذوب، والكذب رأس المأثم، ففي الحديث الصحيح: وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً .

فتكلَّم -رحمك الله- بخير وإلا فاسكت، واجتنب فضول الكلام، واسمع قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت فلا تقل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، وخير القول ما نفع، والقول على الله بغير علم قرين الشرك بالله، وسبيل من سبل الشيطان العريضة، ولقد قال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169]. فدع -رحمك الله- القول فيما لا تعرف، والخوض فيما لم تكلف.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم }.

الحث على الصبر والمصابرة

املك نفسك عند الغضب، والزم الوقار والحلم، واحذر الحدة والطيش والغرور والتكبر، فالحلم بالتحلَّم، والصبر بالتصُّبر، واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، وحسن اليقين، فالصبر عز والفشل عجز، وفي الحديث: واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسر وإنك لن تنال ما تحب إلا بترك ما تشتهي، ولا تدرك ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره.. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فالقصد داعية الرشد، والرشد دليل التوفيق، والتوفيق طريق السعادة وقوام الدين، والقصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصِّن من الذنوب.. وأحسن الظن بربك تستقم حالك، فبحسن الظن تحصل القوة والطمأنينة، ولا تحمل على يومك هم غدك، فكل يوم مرهون بوظيفته، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع، وإن لغدٍ أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك وثقل عليك حتى تعرض عنه وتفرط فيه.

عزة النفس

احفظ نفسك عن كل دنية، ولا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً، واليسير من الله أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وَكُلْ من عند الله، واؤمر بالمعروف تكن من أهله، واصحب الأخيار تكن منهم، ويعينونك على أمر الله، ولقد قال عزّ وجلَّ شأنه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

الدعاء وأثره

ثم قبل ذلك وبعده، اعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك بالدعاء وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يقنطك من الرحمة، بل جعل التوبة من الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة وحسنتك عشراً، بل ضاعفها أضعافاً كثيرة.

وإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم بنجواك، تفضي إليه بحوائجك، وتشكو إليه همومك، وتسأله كشف كربك، وتستعين به على إنجاز أمورك، فاستفتح بالدعاء أبواب نعمته، واستمطر بالسؤال شآبيب رحمته، ولا تستبطئ الإجابة، فإن العطية على قدر النية، وربما أخر عنك الإجابة ليكن أعظم للأجر وأجزل للعطاء، وربما صرف عنك من الشر بدعائك ما لا تعلمه، وساق لك ما هو خير لك مما لا تعلمه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

منزلة العلماء والصالحين

الحمد لله خلق الخلق وأنشأهم فأحسن الإنشاء، وأعطى وأنعم فأجزل في العطاء، أحمده سبحانه وأشكره، له الخلق والأمر وبيده التقدير والتدبير، يعلي قدر من يشاء ويخفض ويؤخر كما يشاء، اصطفى المرسلين والأنبياء، ورفع درجات أهل الإيمان والعلماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالربوبية والألوهية والصفات والأسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله.. خير من وطئ الحصى، وأشرف من نزل البيداء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله السادة الأولياء، وأصحابه الكرام النجباء، نالوا بصحبته المنازل العلى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على طريق الحق واهتدى.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: العلماء بعلومهم، والحكماء بحكَمِهم، والصالحون بوصاياهم، هم -بإذن الله- نجوم هادية لمن سار في الليالي المظلمة، ودفة محكمة لمن خاض عباب البحار الموحشة، وغيث مدرار يأتي على الأرض الهامدة، فتهتز وتربو ثم تنبت من كل زوج بهيج.. ومن أجل هذا فما كان حديثاً يفترى، ولا فتوناً يتردد، تلك السير الرائعة والتراجم الماتعة، التي تبين وتنبئ عن حياة أهل العلم والفضل من أئمة الهدى وأعلام السلف .. علماء ربانيون، وأئمة متقون ينفع الله بهم ويبارك في علومهم.. يبلغون الدين أحسن بلاغ، ويحفظون الأمة -بإذن الله- من الضياع.. هم المرجع في العلوم والحكم، وحسن المواعظ، ولزوم السنة والسير على نهج السلف الصالح ، فهم هداة ينيرون السبيل للسالكين.. تنقضي أعمارهم، وتمر حياتهم على هذه الدنيا مرور الغيث الهامع، فتخضر الأرض وتنبت وتثمر، فيحمد الوارد والصادر، ويسجل التاريخ حديثهم للرواة، ويحفظ أيامهم وسيرهم نبراساً للدعاة.. فهم -بتوفيق الله- الحديث الحسن لمن وعاه.. اشتغلوا بالعلم وتحصيله وتحقيقه وتفصيله.. الواحد منهم أمة لما جمع الله فيهم من خصال الرجال، وضم من محاسن الأقوال والأفعال، فكانوا مضرب المثال ومحط الرحال.

العلماء هم منائر الأرض ومنابرها، وهم نجومها وزينتها.. نجوم إذا انطمست ضل السائرون طريقهم، وكواكب إذا تهاوت التبست على الحيارى مسالكهم.

أثنى الله عليهم ورفع مقامهم ونوه بذكره فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

وخصهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالفضل الأسنى في أحاديث شتى، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.. والحافظ ابن القيم رحمه الله يقول: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والماء، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء، بنص الكتاب العزيز كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] وأولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء.

وبموتهم وانطفاء أنوارهم تنتقص الأرض من أطرافها، كما ذكر ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: [[خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها ]].

فرفع الله في عليين منازلهم، وأحسن في الدارين مثوبتهم، وأجزل لهم أجرهم، وحفظ أثرهم وآثارهم، وعوض المسلمين بفقدهم خيراً.

حفظ الله تعالى لدينه بالعلماء

ولكن مما يعزي نفوس أهل الإسلام في فقد علمائهم والأسى على فراقهم؛ أن الله سبحانه بفضله ورحمته قد حفظ على هذه الأمة دينها، وحفظ لها كتابها، فالفضل الإلهي والفيض الرباني ليس مقصوراً على بعض العباد دون بعض، ولا محصوراً في زمن دون زمن، فلا يخلو زمن وعصر من علماء يقيمهم في كل فترة من الزمن، أئمة عدولاً من كل خلف، أمناء مخلصين، علماء مصلحين، بصراء ناصحين.. ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يدعون إلى الهدى، ويذبون عن الحمى، ويصبرون على الأذى.. فليس حفظ دين الله مقصوراً على حفظه في بطون الصحف والكتب، ولكنه بإيجاد من يبين للناس في كل وقت وعند كل حاجة، فالله سبحانه له المنة والفضل، يتفضل على الخلف كما تفضل على السلف .

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا للعلماء فضلهم، واقدروهم قدرهم، واحفظوا لهم مكانتهم.

ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد إمام الحنفاء وسيد الأنبياء، فقد أمركم بذلك ربكم فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطبيين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.. اللهم وانصر عبادك المؤمنين.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , من جوامع المواعظ في فقد العلماء للشيخ : صالح بن حميد

https://audio.islamweb.net