إسلام ويب

إن الصلاة هي أعظم صلة بين العبد وربه كما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي مفتاح لكل خير، ومفرجة لكل هم، وكاشفة لكل غم، إنها مفزع الخائفين وقربى للوجلين، وبرهان ونور للعاصين التائبين. وقيام الليل فضله عظيم .. فأين المشمرون؟!

مكانة الصلاة في الدين

الحمد لله أوجد الكائنات فأبدعها صنعاً، وأحكمها خلقاً، وهدى عباده النجدين، فأسعد فريقاً وفريقاً أشقى، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه بما هو أهله، لم يزل للشكر مستحقاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعبداً ورقاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله هو الأخشى لربه والأتقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المقدمين فضلاً وسبقاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن نصر دين الله حقاً وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتقوا الله رحمكم الله، وتقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، توددوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدىً، ومن خاف اليوم أمن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا.

أيها المسلمون: القارئون للتاريخ والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية، وأغزرها دماً، وأشدها دماراً.

إن من المفارقات العجيبة والمقارنات اللافتة أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكور ما يعيشه العالم كله من تقدم مادي له منجزاتٌ خيرة، وآثار نافعة، في الاتصالات والمواصلات والآلات والتقنيات، والصحة والتعليم، وأسباب المعيشة في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كل هذا النفع المشهود يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوة ووحشية، غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير! ولكن يزول العجب وترتفع الغرابة إذا استرجع المسلم قول الله عز وجل: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهلوا حقيقة مهمتهم، شرعوا لأنفسهم واستبدوا في أحكامهم وعتوا عتواً كبيراً، لقد كدوا ذكاءهم وسخروا علومهم ووظفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف.

إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يبذل على وجه هذه الأرض في هذه الميادين لو بذل أقل من نصفه في الأدب مع الله وتوقيره، وابتغاء مرضاته، لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعاً، ولأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كثيراً منهم كذبوا وظلموا وآذوا وأفسدوا وأوقدوا حروباً، وأشعلوا صراعات، وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية، واستضعفوا أمماً، واستنقصوا حقوقاً، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا قوارع.

إن أهل الإسلام وهم في هذا الشهر المبارك ليعلنون أن باب الصلاح والإصلاح يكمن في صلاح القلوب، وارتباطها بعلام الغيوب، طريق الإصلاح والصلاح لا يكون ولن يكون إلا بالخضوع التام لله الواحد القهار؛ عبادةً، وتذللاً، وانقياداً، وتسليماً.

العبادة في الإسلام ذات مدلولٍ واسع، إيمانٌ صادق، وعمل صالح: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

ثم بعد ذلك امتلاك الحياة، والأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، وتسخير ذلك في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، وليكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة.

أيها الإخوة المسلمون: الإنسان ضعيف لا قوة له إلا حين يتصل بربه، الإنسان تواجهه قوى الشر، وتثقل عليه المقاومة بين دفع الشهوات، وإغراءات مطامع يثقل عليه مجاهدة الطغيان، وتطول به الجادة، وتبعد عليه الشقة، ليس له في هذه الأمواج العاتية، ولا مفزع من التيارات الجارفة، إلا الاعتصام بالله واللياذ بجنابه.

أيها المسلمون: إن مناسبة الزمان الشريف الذي يعيشه المسلمون هذه الأيام تستدعي الحديث عن أهم العبادات في الإسلام، وأعظمها اعتصاماً بالله سبحانه، تلكم هي العبادة التي يفزع إليها نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر،وقرة عينه إذا ضاقت عليه المسالك.

الصلاة مورد النبع الذي لا يغيب، والكنز الذي يغري ويقني ويفيض، حين تستحكم الأمور، ويشتد هدير الحياة: (يا بلال ! أقم الصلاة أرحنا بها ).

الصلاة: هي عمود الإسلام، وهي بإذن الله مفزع التائبين، وملجأ الخائفين، ونور المتعبدين، وبضاعة المتاجرين، تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتزيل حجب الغفلات بأبكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها، ومن كان أقوى إيماناً كان أحسن صلاةً، وأقبل قنوتاً، وأعظم يقيناً.

جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر منها فليستكثر ) أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

فضل صلاة الليل

عباد الله: وتأتي صلاة الليل والتهجد في الأسحار ليتجلى هذا الاتصال بالله العلي الأعلى في صورة من التعبد بهية بهيجة، فقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة صلاة الليل ) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولقد حكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ من أهل العلم، والقدوة الأولى والأسوة العظمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان ) مخرجٌ في الصحيحين .

أما في رمضان فكان يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، وإذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد المئزر: (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وربنا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول: (أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له؟ من الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟ )، وفي حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ) بل إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة في صلاة الليل يحيى بها بإذن الله ميت القلوب، وتشحن بها فاتر الهمم، قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفيراً للسيئات، ومطردة للداء عن الحسد، وفي الحديث:(عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ).

كلام السلف في قيام الليل

يقول وهب بن منبه رحمه الله: [[قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة ]].

ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[من أحب أن يهون الله عليه طول الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ]].

إنهم عباد الرحمن: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] انتزعوا نفوسهم من وثر الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون.. غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] عبادٌ لله قانتون متقون: قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذتها.

يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: [[أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ]].

ولما حضرت ابن عمر رضي الله عنهما الوفاة قال: [[ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل ]] قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي خيوطه ومنحه، والأنس به، والتعرض لنفحاته، والخلوة إليه، الله أكبر! ما طاب لهم المنام، لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المطلع يوم النشور، يوم يبعث ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله: [[ما سهر الليل بالطاعة منافق ]].

عباد لله صالحون: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] لقد تعددت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم، وتنوعت غاياتهم، والليل هو منهلهم وموردهم: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] فهذا محبٌ يتنعم بالمناجاة، وذلك محسنٌ يزداد في الدرجات، ويسارع في الخيرات، ويجد في المنافسات، وآخر خائف يتضرع في طلب العفو، ويبكي على الخطيئة والذنب، وراجٍ يلح في سؤاله ويصر على مطلوبه، وعاصٍ مقصر يطلب النجاة، ويعتذر عن التقصير وسوء العمل، كلهم يدعون ربهم، ويرجونه خوفاً وطمعاً، فأنعم عليهم مولاهم فأعطاهم واستخلصهم واصطفاهم، وقليلٌ ما هم، اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين بالصلاة والقرآن والذكر والصوم، تلكم هي همم القوم، وتأملوا هذه الآية العظيمة: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:26-27].

الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة فصغار الهمم، صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة: وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27] وفي هذا يقول بعض السلف : [[كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل، ويلهو بالنهار ]] أما كثيرٌ من أبناء هذا العصر فلهوهم قد استغرق الليل والنهار، نعوذ بالله من الخذلان.

طاعة الله بالنهار تعين على القيام له بالليل

أيها الإخوة والأحبة: بضعف النفوس عن قيام الليل تقسو القلوب، وتجف الدموع، وتستحكم الغفلة.

ذكر رجلٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: مازال نائماً حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذاك رجل بال الشيطان في أذنه }متفق عليه.

إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاهين، من لم يكن له وردٌ من الليل فقد فرط في حق نفسه تفريطاً كبيراً، وأهمل إهمالاً عظيماً، أي حرمانٍ أعظم ممن تتهيأ له مناجاة مولاه، والخلوة به ثم لا يبادر ولا يبالي؟! ما منعه إلا التهاون والكسل، وما حرمه إلا النوم وضعف الهمة، ناهيك بأقوامٍ يسهرون على ما حرم الله، ويقطعون ليلهم في معاصي الله، ويهلكون ساعاتهم بانتهاك حرمات الله، فشتان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان.

روى البيهقي في سننه الكبرى بسندٍ صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبغض كل جعظري جواض، سخاب في الأسواق، جيفة في الليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة } لقد عشتم حتى رأيتم أجيالاً من المسلمين تقطع ليلها وتسهر على العبث واللهو في قنواتٍ ماجنة، وغناءٍ ساقط، وتمتعٍ هابط، لماذا تشكو بعض البيوت من ضعف الهمم عن قيام الليل؟ وتخلو منازل من المتهجدين المتعبدين؟

قيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [[ما نستطيع قيام الليل، قال: أقعدتكم ذنوبكم ]] وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لي في ذلك دواء؟ فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل.

فاجتهد حفظك الله أن تصلي ما تيسر من الليل؛ اجتهد أن تصلي التراويح، تصلي ما تيسر من الليل، والقليل من صلاة الليل كثير، واصبر على ذلك وداوم عليه، فبالصبر والمداومة والإخلاص تنل من ربك التثبيت والمعونة، واعلم أن دقائق الليل غالية فلا ترخصها بالغفلة والتواني والتسويف، ومن أرخص الدقائق الغالية ثقلت عليه المغارم وضاقت عليه المسالك: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] ولا تنس -حفظك الله- أهلك فأيقظهم لا ليلتقوا حول مسلسلٍ هابط، أو منظرٍ خالع، ولكن ليقفوا بين يدي خالقهم تائبين منيبين يغسلون خطيئاتهم بدموعٍ نادمة، وقلوبٍ باكية، لعلها أن تمحو الذنوب، ففي الحديث: {رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء }.

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:15-17].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأمور التي تعين على قيام الليل

الحمد لله لا تغيض ينابيع فضله، فليس لإحسانه حد، ولا غنى لعباده عن كرمه وإنعامه، فليس لآلائه عد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسول، وأشرف عبد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه سارعوا في الخيرات وشمروا عن سواعد الجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاعلم رحمك الله وأرشدك لطاعته أن من الأسباب الميسرة لقيام الليل، والمعينة عليه؛ الإقبال على الله، وصدق التعلق به مع حسن الظن به سبحانه، وعظم الرجاء فيما عنده، والحرص على الابتعاد عن الذنوب؛ فالذنوب تقسي القلوب، وتقعد الهمم، وحسبك من طعامك لقيمات، فمن أكثر من الطعام ثقلت نفسه، وغلبه نومه، وقد قال وهب بن منبه رحمه الله: [[ليس أحب إلى الشيطان من الأكول النوام ]].

واحرص وفقك الله على سلامة القلب من الحقد والحسد، واجتناب البدع، ولزوم السنة والحرص عليها، وامتلاء القلب من الخوف من الله، مع قصر الأمل، ولتعلم أن أشرف البواعث وأعظمها حب الله ومناجاته، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب كتابه.

وقت صلاة الليل وكيفيتها

أما وقت صلاة الليل فهو ممتدٌ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ومن كل الليل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر ورده في السحر، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.

وفي المأثور من أحوال السلف منهم من يصلي الليل كله، ومنهم من يصلي نصفه، ومنهم ثلثه، ومنهم خمسه، ومنهم سدسه، ومنهم من يصلي ركعاتٍ معدوداتٍ ومن أيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

ومن الآداب التي ينبغي رعايتها في صلاة الليل وقيامه، أن يستفتح بركعتين خفيفتين، ثم يصلي ما كتب له مثنى مثنى يسلم بعد كل ركعتين، ويستحب أن يطيل القراءة والركوع والسجود، ويقرأ ويتدبر ويجتهد في الذكر والدعاء، ويكثر ولا يشق على نفسه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {عليكم بما تطيقون فوالله! لا يمل الله حتى تملوا، وسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة }.

وإن مما يحث الهمة ويبعث القوة أن تعلم أنك في أيامٍ فاضلة وأوقاتٍ شريفة في شهرٍ مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقيام الليل، وساحات التنافس للركع السجود، هذه الأيام من أرجى الأيام، فليست قيمة الأيام بساعاتها، ولا قدر الليالي بطولها وعددها، وإنما قيمة الأوقات بما تحمله من خيرٍ للبشر، وسعادة للنفوس.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله واغتنموا أوقاتكم وأروا الله من أنفسكم خيراً، وتعرضوا لنفحات ربكم: {أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام }.

ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمدٍٍ رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل حكيماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم أيد بالحق والتوفيق والتسديد والتأييد إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم أعز به دينك، وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين.

اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين ، وفي كشمير ، وفي الشيشان ، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين!

اللهم ربنا سبحانك وبحمدك لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم أيدهم وسددهم وثبت أقدامهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فأطعمهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم واجعل الذلة والصغار والهزيمة على أعدائهم، اللهم أنزل بهم بأسك ورجزك إله الحق!

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.

اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.

اللهم ارفع عن الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , رهبان الليل رجال الدنيا والآخرة للشيخ : صالح بن حميد

https://audio.islamweb.net