إسلام ويب

إن الذي يتفكر في حال من مضوا يعلم يقيناً أن مصيرهم إما إلى نار تلظى أو إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والله عز وجل قد بين لنا كلا الطريقين، فمن أراد أن يكون مصيره الجنة فالطريق واضح ولكنه شاق، ومن أراد أن يكون مصيره النار فالطريق أيضاً واضح وسهل، فالجنة قد حفت بالمكاره والنار بالذي النفس تشتهي.

ضرورة التفكر فيمن مضوا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.

وبعــد:

مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد أن صلى الناس العيد -وكان في وفد، وهو على بغلته، وكان أميراً للمؤمنين- على مقبرة فقال للوزراء وللحشم والخدم: انتظروا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى المقبرة، فذهب إلى المقبرة ووقف عندها وأخذ ينظر إلى القبور، إلى الذين مضوا من الناس، فقال رحمه الله:

أتيت القبور فناديتها >>>>>فأين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبرٌ >>>>>وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناسٍ مضوا >>>>>أما لك فيما مضى معتبر

تروح وتغدو بنات الثرى >>>>>فتمحوا محاسن تلك الصور

فجثا على ركبتيه وأخذ يبكي رحمه الله.

أما تعتبر أيها الأخ! أناسٌ مضوا، كم من قريبٍ لك سمعت خبره فإذا هو قد قضى، وكم من صاحبٍ لك كان يضحك ويمشي ويلعب .. كان يبني الآمال، وكان يحلم أنه سوف يتزوج ويبني ويحصل على الأموال، وسوف يسافر، وينجب، ويفعل ... ويفعل ... ولكن الموت كان أسرع من هذا، قضى حياته ولم يكمل أعماله وأشغاله في الدنيا، ألا تعتبر؟!

سوف نتكلم بهذه الكلمات أيها الأخ العزيز! وحاول أن تصبر معي، فإنك بإذن الله في مجلسٍ من مجالس الرحمن، وفي روضة من رياض الجنان، فاستمع واصبر لعل الله عز وجل أن ينفعك بهذه الكلمات، وما يدريك لعلنا أن نقوم من هذا المجلس فيقال: (قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) وما يدريك لعل الله يطلع علينا في هذا المجلس فيغفر لجميعنا حتى من أتى لحاجة، فتقول الملائكة: (يا رب إن فيهم فلاناً إنما أتى لحاجة، فيقول الله عز وجل: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) ولو كان لحاجة.

أين المصير؟!

انظر إلى الناس من حولك: هذا يعلب ويلهو، وهذا يصلي ويسجد ويركع، هذا يذهب ويسافر للزنا وللخنا، وهذا يسافر للعمرة وللجهاد، وهذا يجمع المال لينفقه في المعاصي، وهذا يجمعه لينفقه في الطاعات.

أين المصير؟!

التذكير بالذنوب يوم القيامة

إنه يوم الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] سوف نبدأ معكم -هذه الليلة- في جلسة نتكلم فيها عن المصير، مصير مَنْ؟ مصير الناس جميعاً، المؤمن والفاجر، المسلم والكافر، سوف نتكلم عن مصيرهما في هذه الدقائق باختصارٍ شديد، واسمع وسل نفسك أي المصيرين تختار؟

أخي العزيز: سل نفسك ماذا تريد، هذا المصير أو ذاك؟ في أي الفريقين تريد أن تكون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]؟

يأتي ذلك العبد المذنب الفاجر الذي أمضى ليله ونهاره في المعاصي، يستمع إلى الأذان فيولي، يدعوه ربه للزكاة فيمنع ويجمع، يأمره الله عز وجل بالطاعة، بالذكر بالصلاة بالعبادة بالصيام فيصد ويولي، طالما أتاه رجلٌ صالح، فقال: يا أخي! اتقِ الله، وأعطاه شريطاً، وأهداه كتاباً، وزاره ونصحه ووعظه، لكنه أدبر واستكبر وأصر على المعاصي.

يلقى الله عز وجل يوم القيام، فيقول له الرب تبارك وتعالى: عبدي! ألم أصح لك جسدك؟ ألم أسقك من الماء البارد؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر يوم أن ذهبت في تلك الليلة وواعدتها ولقيتها ففعلت ما فعلت؟ أتذكر تلك الليلة التي دخلت فيها في البيت وفتحت التلفاز ونظرت، أتحسب أنني لم أكن أراك أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [التوبة:78] عبدي! ألم تذكر ذلك الموقف الذي أهداك ذلك الرجل الصالح شريطاً أو كتاباً، أو نصحك أو بلغك أو وعظك، فصددت واستهزأت واستكبرت وأصررت على المعاصي، أتذكر كذا .. أتذكر كذا؟

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] وأنت تقول: رب أبصرت، رب أيقنت، نعم إن هذا لهو الحق، يا رب رأيت النار ورأيت الجنة، يا رب إن هذا لهو الحق المبين، أرجعني أعمل صالحاً غير الذي كنت أعمل، ولكن هل ينفعه الندم؟ وهل تنفعه الحسرة؟ كلا. وإنما يعض على كلتا يديه ويقول: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28].

عذاب النار

الآن يبدأ المصير، والآن تبدأ الجلسة، والآن استمع وتخيل، وإياك إياك عبد الله أن تتواكل على رحمة الله وتنسى أن الله شديد العذاب، يقال له -والله عز وجل ينظر إليه ويكلمه-: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32] سلسلة كل حلقة منها كحديد الدنيا، تدخل هذه السلسلة في منخره وتخرج من دبره، ثم يجر على وجهه إلى جهنم، فلما يقترب منها ينظر إلى الملائكة تستقبله في النار، فتقول له الملائكة: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ [الزمر:71] فتذكر هذا المجلس، وتذكر هذه الكلمات -التي أنت تسمعها الآن- إن لم يوفقك الله للتوبة.

يدخل النار الفاجر فماذا يرى فيها وقد فتحت أبوابها؟

أول ما يدخلها يجدها سوداء مظلمة، لا يستطيع أن يرى فيها شيئاً، نارٌ سوداء والعياذ بالله إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33] إذا دخلها الفاجر يتذكر ذنوبه في الدنيا، ما نفعته تلك المرأة! أين أمواله التي كان يجمعها؟ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] ما نفعه ذلك الجاه! أين منصبه؟ أين خدمه؟ أين حرسه؟ أين ذلك المنزل الذي كان لطالما ترك الصلاة لأجله؟ كان يجلس في البيت فيؤذن المؤذن فيستمر في تنظيفه وتلميعه وترتيبه، فينسى ذكر الله والصلاة، هل نفعه البيت؟ أم نفعته تلك الأرصدة التي كان يعدها عداً؟ المسكين يحسب أن ماله أخلده! أم تنفعه تلك المرأة التي كان يتبعها ويلحقها ويركض خلفها، وينسى ذكر الله والصلاة والعبادة وقيام الليل والدعاء؟

نسي كل هذا، ثم أول ما يرى جهنم يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ [الفجر:23] يتذكر ماذا؟ ذنوبه في الدنيا وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23] يتذكر يوم كان أمام الناس صالح، أما إذا جلس لوحده في البيت يفعل ما يفعل، كلما خلا بمحارم الله انتهكها، لا يرده عن ذلك شيء، إنما كان يعبد الناس لا يعبد الله، كان إذا صلى يرائي، وإذا تصدق يرائي، وإذا حج يرائي، وإذا اعتمر يرائي، وإذا صام يرائي، كل أفعاله رياءٌ في رياء، فإذا اختلى بمحارم الله انتهكها، الآن يبدأ مصيره، إذا دخل النار -أعاذنا الله وإياكم منها- ماذا يجد في النار؟ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] يرى أصحابه في النار، من هم؟ الذين كانوا يصدونه عن الذكر وعن الصلاة.

وعندما قرر في يوم من الأيام التوبة وعزم عليها، وقال: إني تبت الآن، وقال: يا رب عوداً إليك، هذا عهد جديد بيني وبينك فلما ذهب إلى الصلاة ناداه صاحبه فقال: يا فلان عندنا سهرة! يا فلان تعال معنا نسافر! تقول له: أصلي، يقول لك: تصلي وأنت الآن شباب! لا تضحك على نفسك، لا تتعقد ولا تتزمت، تعال معنا وتشبب، قال: أريد أن أذهب إلى الصالحين، قال: إنهم معقدون، إنهم إرهابيون، إنهم متشددون، تعال معنا نتمتع بالحياة.

ثم إذا دخل إلى النار رأى صاحبه قد سبقه إليها كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا [الأعراف:38] الآن اجتمعوا كلهم في النار، ماذا يطلبون؟ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا [الأعراف:38] يا رب! هذا الذي أضلني، يا رب! لطالما كنت أريد التوبة فصدني عنها، يا رب! كلما أردت التوجه إليك صدني ومنعني وأغراني بالمعاصي، يا رب..! يا رب..! قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:38].

فيرد الله عز وجل عليهم جميعاً: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38] كل واحد منكم سوف نزيده الضعف في العذاب لماذا صددت عن ذكر الله؟! فصاحبك ما ربطك؟ وما قيدك؟ وما منعك من الصلاة؟ وما كان له عليك من سلطان إلا أن دعاك فاستجبت له أيها الضال الكافر! لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38] ، وإذا دخل أهل النار النار يحترقون فيها كَلَّا إِنَّهَا لَظَى [المعارج:15].

يا عبد الله! يا من أغرته الملاهي! يا من أغرته الأغاني! يا من كان طوال حياته يجمل وجهه! يتزين أمام المرآة! ويذهب إلى دولٍ كثيرة يطلب الصحة والعافية! يا من كان يجمع المال ويعده عداً، أتعرف ماذا يأكل أهل النار؟ أم ماذا يشرب أهل النار؟ أم كيف يعيش أهل النار؟

عبد الله: إياك إياك أن تكون موقناً أنك لست من أهلها، إن الرجل العاقل هو الذي يخاف من النار ويخاف أن يقع فيها.

أما لباسهم فقد قال الله عز وجل عنه: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ [إبراهيم:50] نحاس مذاب، أرأيت النحاس المذاب كيف يكون حاراً لا تستطيع أن تضع يدك عليه؟ إنهم يلبسونه لبساً فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19].

أما الفرش: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41] ينامون على النار، ويلبسون النار، فماذا فوقهم؟ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أتريد ظلاً؟ أتريد برداً؟ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر:16] النار من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، النار يلبسونها لبساً.

أما طعامهم فيخبر الله عنه بقوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:74] أما الطعام فإنه النار نعوذ بالله، قال بعض السلف: "إن عذاب الجوع في النار يعدل عذاب النار كله" يجوعون فيطلبون الطعام فيعطيهم الله عز وجل طعاماً أتعرف ما هو؟ يا من أغراه طعام الدنيا فأكل الحرام وقد أغناه الله بالحلال! يا من كان لا يكفيه طعام الدنيا، فيأكل من هذا، ويتلذذ بهذا، حتى وصل إلى الحرام فبدأ يأكل منه! أتعرف ما عقوبة أهل النار وماذا يأكلون؟ يأكلون من الزقوم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) كيف بمن يكون طعامه؟!

عبد الله: إن الأمر حقيقة، لا تظن أن الأمر هزل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40].. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:14].

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43-44] يأكلونها، أتعرف ما الذي يحصل بعدها؟ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] إذا أكلوا الزقوم فإن البطون تغلي كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:46] ثم خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] يدفع دفعاً، ويسحب سحباً إلى وسط الجحيم، ثم بعد هذا ماذا؟ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:48] ثم بعد هذا ماذا؟ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] كنت عزيزاً في الدنيا، كنت في الدنيا إن دخلت مجلساً قام الناس لك، وإذا مررت في مكان هابك الناس، وسلموا عليك ولم يستطع أحدٌ أن يتكلم في مجلسك؛ لأنك أنت العزيز الكريم، والآن ذق إنك كنت في الدنيا تتكبر على الناس وتتفاخر عليهم، أما اليوم فذق إنك أنت العزيز الكريم.

يجوعون فيأكلون طعاماً، واسمع إلى هذا الطعام لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6] نباتٌ فيه شوك، يأكلونه، أتعرف ماذا يحدث لهم؟ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:13] تغص به الحلوق، فلا يستطيع أن يخرجه ولا أن يبتلعه، فيطلب من الله عز وجل الماء وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] أردت الماء؟ تُعطى الماء ولو كنت من أهل النار، فلما يقترب من الماء تسقط فروة رأسه من شدة حره -الأمر حقيقة- يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].

عبد الله: هل لا زلت مستمراً على الأغاني؟! أبعد هذا لا زلت تصر على ترك الصلاة؟! أبعد ما سمعت من عذاب أهل النار لا زلت تصد عن ذكر الله؟! إن أنت إلا في غرور، إي والله إنك في غفلة، توشك أن تكون ميتاً.

استمع أيضاً إلى عذاب أهل النار ولعلك إلى الآن لم تستجب، وإلى الآن لم يرق القلب، وإلى الآن المسكين يظن أنه يقوى على عذاب النار.

أما إن سألت عن أهل النار وعما يحصل لهم من عذاب؟ إنهم في النار ينظرون إلى أهل الجنة يتنعمون، وهو في النار يقول الله عز وجل له: انظر هذا مكانك في الجنة؛ ليزداد حسرة على حسرة وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ:33] كل هذا الحر وكل هذه النار وكل هذا الجحيم، ومع هذا توضع الأغلال في عنقه، يشوى في النار كما يشوى الجراد والسمك، أرأيت كيف يشوى على النار؟ (ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم).

أسمعت عن صرخات أهل النار؟

يقول تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] ربي أرجعني إلى الدنيا، والله لن آكل درهماً ربا، سوف آمر زوجتي وبناتي بالحجاب، وأؤدي زكاة مالي، ولن أتخلف عن صلاة الفجر يوماً واحداً، يا رب أرجعني إلى الدنيا وسوف ... وسوف ... فيرد الله عز وجل عليه: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].

فهم في النار قد أنهكهم حرها ولهيبها، وباتوا من الجوع والعطش يأكلون -أجاركم الله- من صديد أهل النار، إن جلودهم تتشقق فيخرج منها الصديد فيأكلونه قبل أن تحرقهم النار كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:15-16] أتعرف ما معنى: نزاعة للشوى؟ ينفصل الجلد واللحم عن العظم من شدة حرها كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] إلى متى؟ هل يخف العذاب في النار؟ لا. ولكن يقول الله: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً [النبأ:30].

ثم ينظرون إلى مالك خازن النار ويقولون له: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] يا مالك! نتمنى أن نكون تراباً في النار يا مالك! نريد الموت.

يا مسكين! ما طلب الله عز وجل منك شيئاً، وإنما أراد منك خمس صلوات في اليوم والليلة فأبيت إلا النار! ما أراد الله عز وجل منك إلا جزءاً يسيراً من المال تؤدي به زكاة مالك فأبيت إلا النار، ما طلب الله منك شيئاً، أحل لك النعم كلها وحرم عليك بعضها، أحل لك النكاح فأبيت إلا الزنا، أحل لك جميع أنواع الشرب والمشروبات فأبيت إلا الخمر أن تشربها، ما طلب الله عز وجل منك شيئاً لكنك أبيت إلا النار.

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] فيرد عليهم مالك بعد ألف سنة فيقول لهم: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] إنكم ماكثون في هذه النار، والسبب: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ [الزخرف:78] أتذكرون ذاك اليوم في ذلك المجلس؟ أتذكرون تلك الخطبة؟ أتذكر ذلك الشريط الذي استمعت إليه؟ أتذكر ذلك المجلس الذي جلسته وحدثك به رجلٌ صالح؟ أتذكر صاحبك الذي مات فلم تتعظ؟ أتذكر يا فلان؟! لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78].

لا ملجأ من الله إلا إليه، ليست هناك رحمة إلا رحمة الله، ليس لهم إلا الله فيلجئون إليه، ويدعون الله وهم في النار، فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ [المؤمنون:106] الآن تعترف، الآن لا ينفع الندم، فلطالما طلب منك الصالحون أن تلتزم وتهتدي ولكنك كنت تصر وتستكبر وتعاند، ثم الآن تعترف: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ [المؤمنون:106] ماذا تريدون؟ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] أعطوا الله العهود والمواثيق، ووعدوا الله عز وجل: يا رب أخرجنا من النار فإن عدنا إلى ذنبٍ واحد فإنا ظالمون، يا رب أرجعنا إلى الدنيا فإن عصيناك معصية واحدة ولو كانت صغيرة إنا ظالمون، ما هي الإجابة؟ ماذا تتوقعون أن يرد الله عز جل عليهم؟ ماذا تظنون أن الله عز وجل يجيبهم وهم يحترقون في النار، وهم يصطلون بحرها ونارها وسمومها وجحيمها وزقومها، والغسلين والغساق، ماذا تتوقعون أن يجيبهم الله عز وجل بعد قولهم؟ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] تأتي الإجابة بقوله سبحانه وتعالى: اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] وبعد هذا لا ينطقون، بعد هذا يعلمون أنه خلود فلا موت، خلودٌ يا عبد الله!

هل لك أن تتصور ولو لدقائق ما معنى خلود في هذه الحياة؟ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى [الأعلى:13] أتظن أنك تستطيع أن تتحمل ذلك الحر؟ أم ذلك الجحيم؟ أم تلك النار؟ إن فروج الزواني لتسيل بالدم والقيح فيأكله أهل النار، إن في الجحيم عذابٌ والله لو نتخيله لا يستطيع أحدنا أن ينام الليل، إن أهل النار ليبكون ثم يبكون ثم يبكون فتنقطع الدموع فيبكون الدم؛ من شدة حسرتهم ومن الندم الذي يصيبهم.

عبد الله: هذا مصير مَنْ؟ مصير أهل الأغاني والطرب، مصير الذين صدوا عن الصلاة وعن ذكر الله، مصير الذين ألهتهم الحياة الدنيا، وغرتهم زخارفها وزينتها.

صفات الجنة وأهلها

أما ذلك العبد الصالح -وأسأل الله أن يهديك لتكون صالحاً- الذي إن أذن المؤذن لصلاة الفجر وقال: الصلاة خيرٌ من النوم، وثب من فراشه وذهب إلى الصلاة وصلى وذكر الله.

ذلك العبد الصالح لو كانت عنده من الأعمال ما عنده واستمع إلى (حي على الصلاة) رمى كل ما في يديه، ثم ذهب إلى المسجد يؤدي فريضة الله.

ذلك العبد الصالح الذي إن جلس لوحده في البيت واختلى بمعصية من معاصي الله اتقى الله وصد وابتعد عن معاصي الله.

ذلك العبد الصالح الذي إن جلس في مجلس يدار فيه منكر أنكره فإن لم يستطع خرج من ذلك المجلس.

ذلك العبد الصالح ما تسمع منه إلا كل خير، إن نطق فبذكر الله، أو بغير معصية الله، ذلك العبد الصالح الذي أشغلته طاعة الله، وأشغلته محبة الله، ملأت قلبه طاعة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، ذلك العبد الصالح ما مصيره؟

يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله تبارك وتعالى له -وادع الله أن تكون من أولئك-: (عبدي أتذكر ذنب كذا؟ -ومن من الناس لا يعصي الله- أتذكر ذنب كذا؟ فيقول: أي ربي هلكت، فيقول الله عز وجل له -لأنه تاب منها في الدنيا- سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يأخذ صحيفته بيمينه فيولي إلى الناس فيقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]).

أيها الناس: في المحشر، اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] ماذا تجدون؟ إنها الصلاة، وذكر الله، والصدقة، والدعاء، والصيام، والعمرة، والجهاد.

ماذا ترون؟ كل خير، إنها التوبة والاستغفار، إنه التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار.

ماذا ترون؟ صلاة الضحى، وصلاة الوتر، والرواتب، والسنن، والنوافل.

ماذا ترون؟ الدعوة إلى الله، وطلب العلم ونشره.

ماذا ترون؟ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19].

ثم يجتمع مع أصحابه في المحشر فيقول الله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73] يجتمعون على أبواب الجنة، ماذا ينظرون؟ بل ماذا ينتظرون؟ ينتظرون نبيهم أفضل البشر يخرج من بينهم، ليفتح لهم باب الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب وما يدريك لعلك تكون منهم؟ ما يدريك لعلك تكون من أول زمرة وأول فوجٍ يدخل الجنة؟

يأتي أفضلهم إلى باب الجنة وله حلقة فيأخذ بها ويطرق باب الجنة، والناس ينتظرون، إنهم يتشوقون، إنهم يتلهفون، إن ريحها تخرج منها من مسيرة سنوات طوال، ينظرون يريدون أن يدخلوها، فيفتح فيستفتح فيقول له الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فتفتح أبوابها، الله أكبر! ثم ماذا ترى؟

ترى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39] وجوه مستبشرة، ضاحكة فرحة، فإذا بباب الجنة يفتح، وإذا بالملائكة تنادي بالأسماء: أين فلان ليأتي من باب الريان؟ لأنه أكثر من الصيام أين فلان ليأتي من باب الصلاة؟ لأنه أكثر من الصلاة، وذاك أكثر من الصدقة، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الصدقة؟ وذاك جاهد في سبيل الله، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الجهاد؟ وبعضهم ينادى من بابين، الله أكبر! يختار أي البابين يدخل، وبعضهم من ثلاثة، وبعضهم من أربعة، وبعضهم من ينادى من أبواب الجنة كلها؟ أين فلان ليدخل من هذا الباب؟ أتعرف؟ أسمعت أن: (ما بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عاماً) تمشي من الطرف الأول للباب فلا تصل إلى الطرف الثاني إلا بعد أربعين عاماً وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض، مزدحم بالناس، تخيل نفسك وقد أمر بك إلى الجنة، وأتيت إلى بابها، ووطأت قدماً فيها، فماذا ترى؟

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:20] تنسى هموم الدنيا كلها، أين تعب الصلاة؟ أم أين تعب الجهاد؟ أم أين تعب الصيام؟ والصدقة والنفقة؟ أين التعب كله؟ ذهب، بقيت الآن اللذة والسعادة، يدخل بقدم لا يأمن العقوبة، فإذا دخلت القدم الأخرى ودخل الجنة ماذا يرى؟!

أما الأرض فبيضاء، أما إذا نظر إلى العلو فليس فيها شمس، كيف يرى الناس، أم كيف ينظرون؟ يأتي نورٌ من قبل عرش الرحمن، فيفيض على أهل الجنة نوراً.

يدخلون الجنة فإذا الأرض بيضاء، تحت رجله ماذا يرى؟ حصباؤها اللؤلؤ، الياقوت، والزعفران تحت رجله يطأها بقدميه، يدخل في الجنة إلى أين يذهب؟ هل يعرف منزله؟ يعرف منزله أفضل مما كان يعرف منزله في الدنيا، يركض إلى منزله وقصره في الجنة، أتظنه كقصور الدنيا؟ لا. لبنة من فضة، والأخرى من ذهب، ثم من فضة، والأخرى من ذهب، وتخيل منظرها ليس كذهب الدنيا ولا كفضة الدنيا.

يمر في الطريق ماذا يرى؟ يرى أنهاراً مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15] أتحسب أن أنهار الجنة أخاديد كالدنيا؟ لا، إن نهر الجنة يسكب على الجنة سكباً وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31] لا يجري في أخاديد بل يجري على الجنة هكذا، نهر من ماء غير آسن لا يتغير طعمه وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ [محمد:15] الله أكبر! هل لك أن تتصور نهراً من لبن؟ يجري ذلك النهر، وإذا أردت أن تشرب فاشرب، إذا أردت أن تغرف منه فاغرف منه ما شئت فإن هذا اللبن لا يتغير طعمه.

ثم وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] يا من استبدل خمر الجنة بخمر الدنيا، يا من استبدل الحلال بالحرام، أذكرك وأخبرك أن في الجنة يجري الخمر فيها جرياً، لذة للشاربين، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة:19] يشربون من خمر الجنة ما شاءوا، أتستطيع أن تتخيل هذا؟

بل أزيدك نهراً رابعاً وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15] هل تتخيل نهراً من عسل يجري؟ الله أكبر! الله أكبر! لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].

ثم يذهب إلى قصره فيرى عند القصر خيمة من لؤلؤة مجوفة، أتظنها كهذه الحجرة؟

لا. بل طولها في السماء ستون ميلاً، هل تظن أنك ترى آخرها؟ يدخلها صاحبها فإذا به يرى فيها أهلون، أتعرف صفتهم؟ أتعرف صفة زوجته؟ يعطى قوة مائة رجل، يجامع في اليوم الواحد مائة مرة ولا يتعب.

قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين السماء والأرض- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:36] مهما تطأهن فإنهن أبكارا عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37] متحببات لأزواجهن متساويات في الأعمار عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37] لمن؟ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:38] لأصحاب الصلاة، والصيام، وذكر الله، وقيام الليل، والجهاد في سبيل الله، ودين الله لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:38-40] إذا رأيت ساقها -وسوف أخبرك عن ساقها بلا حياء؛ لأنه أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام- ترى مخ ساقها من وراء اللحم، ما أرقه، وما ألطفه، وما أنعمه، ترى العظم من وراء اللحم، أتظن كيف يكون شكلها؟ أم كيف يكون جمالها؟

يروى: أنه يجامع الحور فإذا به في لحظة يبزغ نورٌ عظيمٌ من فوقه يظن أنه الرحمن، فيقول: ما هذا؟ فتقول له امرأة وتنظر إليه فتقول: أما كان لنا فيك دولة؟ أي: أما اكتفيت بهذه فتأتي إلينا فتجامعنا، فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] فيجامعها فإذا به بعد لحظات يبزغ نورٌ عظيم فيقول: ما هذا؟ فتقول امرأةٌ ثالثة: أما كان لنا فيك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] على فرش من حرير، يلبسون الحرير، ينامون على الفرش، ويتكئون عليها، خدمهم كاللؤلؤ المنثور، ينامون على الأرائك.

يشتهي ثمار الجنة، وفاكهة مما يتخيرون، لا يقوم من مكانه ليقطف الثمار، بل تأتي الثمار إليه وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:14] تأتي الثمار فيقطفها، كُلْ ما شئت، واشرب ما شئت، وتمتع بما شئت، ثم وهو في ذلك النعيم يأتيهم منادىٍ فيقول: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ تريدون نعيماً غير هذا؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف ربنا عن الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وينسون به نعيم الجنة كله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

الصدق في التوبة

أيها الأخ العزيز: هل تفكرت في هذا المصير؟ سل نفسك أي الطريقين تختار؟ وأي الطريقين تريد أن تسير فيه؟ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] بادر نفسك بالتوبة، ولا تقل: سوف أتوب من الغد، وما تدري فلعلك لا تدرك الغد، إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء.

أخي العزيز: لا تقل يا رب تبت إليك ولا زلت مصراً على المعاصي، وعقدت في قلبك أن ترجع إليها، فإنك تستهزئ على الله، لا تقل: يا ربِ تبت إليك ولا زلت تحتفظ بالمعاصي في البيت، ولا زالت أموالك في بنوك الربا، ولا زلت تفعل المعاصي وتقول: يا رب أستغفرك وأتوب إليك، قال الله عز وجل وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في غزوة مؤتة يحمل الراية بيده اليمنى -انظروا إلى أولئك النفر الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل- فإذا بها تقطع -لو كنت مكانه ماذا تفعل- ثم مسكها بيده اليسرى، ولسان حاله: أموت وتقطع يدي ولا تسقط راية الإسلام.

فلما حملها بيده اليسرى قطعت يده اليسرى، فأصبح بلا يدين، وماذا تظنه فاعلاً؟ مسك الراية بعضديه وضمهما على الراية، فإذا بالرماح تكسر على ظهره، وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول:

يا حبذا الجنة واقترابها >>>>>طيبة وباردٌ شرابها

والرومُ رومٌ قد دنى عذابها >>>>>كافرة بعيدةٌ أنسابها

وفاضت روحه إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد طار في الجنة).

أقول هذا القول، وأصلِّ وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وجزاكم الله خيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أين المصير؟ للشيخ : نبيل العوضي

https://audio.islamweb.net