إسلام ويب

كفى بالموت واعظاً .. حول هذا الموضوع تكلم الشيخ حفظه الله؛ مبيناً أن الموت حقيقة لابد منها، ثم تكلم عن مواقف من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لنأخذ العبرة والعظة منها، موضحاً الفرق بين الحسنة والسيئة وذاكراً بعض الصور لهما، وفي الأخير ذكر أنه لابد من الاستعداد للموت بالأعمال الصالحات.

حقيقة الموت

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون! إن الموت حق، وإن الدنيا إلى زوال، وإن اللحظات التي تمر الآن، والدقائق التي تمضي تقربنا إلى آجالنا، والله عز وجل قبل أن ينادي الناس لصلاة الجمعة، وقبل أن يأمرهم أن يذهبوا إلى خطبة الجمعة وإلى صلاتها واستماع الذكر فيها، أمرهم أن يتذكروا قضية الموت، فقال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8] مهما فررت ومهما هربت .. سل الأموات: هل كلكم مات مريضاً؟ هل كلكم مات كبيراً؟ هل كلهم مات بسبب أم أن كثيراً من الأموات مات هكذا؟ إنه لم يكن مريضاً، لم يكن كبيراً، لم يكن شيخاً، لم يمت بسبب إنما مات فجأة، كما قال الله جل وعلا: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ولو كنت في المستشفى، أو بين الأطباء، أو بين الأحباب، ولو كانت عندك الأماني والأحلام.. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء:78].

مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته

في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة مرض أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، فسقط على الفراش، فجاء أهله وأحبابه يمرضونه ويجلسون عند رأسه؛ فاستأذن زوجاته أن يبيت عند أحب الناس إليه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فجلس عندها تمرضه، وربما سُكِبَ الماء عليه لتخفض درجة الحرارة عنده صلى الله عليه وسلم، فأصيب بالحمى الشديدة، حتى قيل له: إنك تمرض لا كالناس. قال: نعم. أمرض لا كمرضكم، ثم أمر الصحابة أن يجعلوا أبا بكر يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) فلما صلى أبو بكر بالناس فتح النبي صلى الله عليه وسلم الستار، ولم يكن بينه وبين المسجد إلا ستار، ففتحه ونظر إلى أصحابه وهم يصلون خلف الصديق رضي الله عنه؛ فابتسم وفرح وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) لا يرضون إلا بـأبي بكر رضي الله عنه، هي إمامة في الصلاة لكنها الإمامة والخلافة، وقيادة الأمة.

ويرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى فراشة، وتمر الأيام، ويخيم على المدينة حزن شديد .. أين رسولهم؟ أين نبيهم؟ أين حبيبهم؟ أين قائدهم؟ ما باله لا يصلي بنا؟ ما الذي ألم به؟ ما الذي جرى له؟ وتمر الأيام فيزداد كربه، فتدخل عليه فاطمة -رضي الله عنها- فتبكي وتقول: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! فيقول لها: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم).

وفي أيامه الأخيرة يذهب إلى البقيع قبل أن يشتد به المرض، ويستغفر لأموات المسلمين .. لم يبقَ إلا هذه الأيام وهذه السويعات، يذهب إلى المقبرة فينظر إليه أحد الصحابة في الليل فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خيرني بين البقاء في الدنيا والملك وبين لقاء ربي والجنة. فقال الصحابي: يا رسول الله! اختر البقاء في الدنيا والملك، قال: لا. بل اخترت لقاء ربي والجنة).

وقبل أن يشتد به المرض قال في آخر خطبة له بين الصحابة: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله) فسكت الصحابة، وإذا بأحدهم يبكي وينفجر بالبكاء؛ فينظر الصحابة فإذا هو أبو بكر ، علم أن المخير هو رسول الله، خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار النبي عليه الصلاة والسلام لقاء الله عز وجل.

اشتد المرض، وظل أبو بكر يصلي بالناس ثلاثة أيام، ثم جاءت الساعات الأخيرة، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وأبى إلا أن يموت ورأسه في حضن عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فوضع رأسه في حجرها لما ألم به المرض، واشتد به الكرب، وضاقت به الدنيا لم تضق به إلا ورأسه عند عائشة رضي الله عنها، ودخل أخوها عبد الرحمن فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك، قالت عائشة: (فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فأخذت السواك فقضمته وطيبته ثم دفعته إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فاستاك به، ثم نظر إلى السماء، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم لفظ الشهادة، ثم فاضت روحه الطيبة إلى بارئها).

موقف الصحابة من نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

مات النبي.. مات الرسول.. ذهب الحبيب.. إنها أعظم مصيبة على وجه الأرض، كيف لا وهو أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا؟ مات عليه الصلاة والسلام ووضعته عائشة على الفراش وغطته، وانتشر الخبر بين الصحابة، فإذا بالصحابة بين مصدق ومكذب، أما عمر فلحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قال: [من زعم أن محمداً قد مات فلأضربنه بهذا السيف، إن محمداً ما مات، بل ذهب يناجي ربه كما وعد الله عز وجل موسى وسيرجع] والصحابة لا يدرون ولا يعرفون هل مات حقاً أم لم يمت؟ فسمع أبو بكر بالخبر، فأسرع إلى بيت ابنته عائشة فاستأذن ودخل؛ فلما رآه قد غطي بالفراش أزال الغطاء عن وجهه ثم قبله بين عينيه، ثم قال: [طبت حياً وميتاً -يا رسول الله- والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخرى] يقبله أبو بكر، ويتذكر أياماً قام فيها على الصفا يقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يتذكر أياماً وهو يطوف حول الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنماً.. يتذكر أياماً كان يقودهم في المعارك وفي الجهاد في سبيل الله، ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يتذكر أياماً يبكي النبي صلى الله عليه وسلم بين أيديهم وهو يعظهم، فتذرف العيون، وتدمع القلوب .. يتذكر أياماً يجلس النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحك الصحابة ويبتسم عليه الصلاة والسلام .. يتذكر أياماً يسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الصبيان، ويمسح على رأس الأيتام، ويجلس مع الوفود يعلمهم دين الله عز وجل .. أين هذا الرسول الذي كلما ألمت بنا المصائب ذهبنا إليه وجلسنا عنده يعلمنا ويفهمنا ويجيبنا إذا سألناه أو استفتيناه.. أين هذا النبي؟

لقد غادر الحياة الدنيا، فدمعت عينا أبي بكر، وخرج إلى الناس وهم بين مصدق ومكذب ومذهول ومتعجب! هل هذا الخبر صحيح أم لا؟ نظر إلى عمر وهو يهدد الناس، فقال: يا عمر! اجلس، وعمر لا يسمع الكلام ولا يعلم ما الخبر، كان يقول: [من زعم أن محمداً قد مات ضربته بهذا السيف] فقال: يا عمر! اجلس، فلم يجلس، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، فاجتمع الناس عنده لا يجتمعون عند غيره رضي الله عنه، فجلس الناس فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] يقول الصحابة: كأننا أول مرة في حياتنا سمعنا هذه الآية، وكأننا ما سمعناها من قبل، فردد الصحابة بين الناس: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]].

ومن هول الصدمة ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وليلتين لم يدفن، والناس يصلون عليه ويستغفرون له ويتشاورون: ماذا نصنع؟ غاب القائد.. غاب القدوة.. غاب الحبيب، ثم دفن، فقال أنس: [لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنار في المدينة كل شيء، ولما مات أظلم في المدينة كل شيء] تقول ابنته فاطمة وهي تبكي: كيف استطعتم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله؟ كيف فعلتموها؟ كيف دفنتموه؟ قال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

من كان يظن أنه سيخلد في هذه الدنيا فليعلم أن أحب الناس إلى الله قد مات، وأن أفضل خلق الله قد مات، فلن يبقى في الدنيا أحد: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] أيظن أولئك الذين يجمعون الأموال، ويكدسون الأرصدة، ولا يبالون بالأموال أهي من حلال أم من حرام الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:2-3] لا تظن -يا عبد الله- أن الأموال تبعدك من الموت، وأن الرياضة تبعدك من الموت! نعم. نحن نبذل الأسباب، ولكن الموت حق لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38] .. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً[ل عمران:145].

الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة

اعلم -يا عبد الله- أن من الناس -والعياذ بالله- من يموت ولكنه على سوء ختام، فهذا رجل مات وهو يشتم ربه جل وعلا، أصيب بمرض فاشتد به المرض فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: ربي هو ذا يظلمني! أرأيت؟! يسب ربه قبل أن يموت، وصاح وهو يقولها: ربي هو ذا يظلمني!

ومنهم من تأتيه البشارة في الدنيا قبل الآخرة، يموت وهو يسبح الله، ومنهم من يموت وهو يصلي، ومنهم من يموت وهو ساجد، ومنهم من يموت وهو يقرأ القرآن كـعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي مات وهو يقرأ قول الله عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ثم خرجت روحه.

أسمعت بـهارون الرشيد؟ هارون الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وعمل من الصالحات الكثير والكثير، ومات وهو يبكي ويقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28] ماذا استفدت من أموالي؟ ماذا استفدت من هذه الثروات؟

مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].

بل اسمع -يا عبد الله- إلى بشر قد ماتوا وهم يتعاطون المخدرات، يقول لي أحد رجال الداخلية: لما اقتحمنا الشقة وكسرنا الباب وجدت رجلاً قد مات قبل أيام وقد تعفنت رائحته، وامتلأت الحشرات والدود في جسمه، مات قبل أيام ولم يصلِ عليه أحد، مات قبل أيام ولم يستغفر له أحد، مات قبل أيام ولم يشعر به أحد، يقول: الغريب أنني وجدته على هيئة سجود وأمامه إبر المخدرات.. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] هل أنت منهم أم لست منهم؟ كأنني أراك تظن أنك لست منهم، كأنني أراك تعمل عملاً وتظن أنك لست بميت، ونحن في الحقيقة أموات ولسنا بأحياء، ألم يقل الله لنبيه ولصحابته وهم أحياء: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] فمالي أراك لا تستعد لقبرك لا بشيء من قيام الليل، ولا بصيام النهار، ولا بقراءة القرآن، ولا بالباقيات الصالحات .. أين الباقيات الصالحات؟ أين قولك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وذكرك لله جل وعلا؟ مالي أراك كأنك مخلد في الدنيا وكأنك تعيش حياة من لا يموت؟! اسمع إلى نبي الله سليمان كان جالساً بجانبه رجل، فدخل عليهم رجل ثالث، فلما دخل الرجل الثالث أخذ ينظر إلى صاحب سليمان نظراً محدقاً مفزعاً، فخاف صاحب سليمان، فلما خرج الرجل الثالث قال صاحب سليمان: يا نبي الله! من هذا الذي دخل؟ قال: لم تسأل؟ قال: رأيته ينظر إلي نظراً مخيفاً. قال: هذا ملك الموت. قال: يا نبي الله! احملني إلى أي بلد بعيدة فإني أخاف منه -وقد سخر الله له الريح والجن- فحمله إلى بلاد بعيدة في أقصى الدنيا، فلما نزل في تلك البلاد قبض ملك الموت روحه، فرجع ملك الموت إلى سليمان، فقال سليمان عليه السلام: يا ملك الموت! أخبرني عن قصة هذا الرجل. قال ملك الموت: هذا قصته عجيبة! قال: وما عجبها؟ قال: هذا رجل أمرني ربي أن أقبض روحه بعد لحظات في بلاد بعيدة، فوجدته عندك فتعجبت، وقلت: كيف يأمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد البعيدة وهو جالس عندك؟! فعجبت من أمره وقلت: أمر الله لا يتخلف، فذهبت إلى تلك البلاد البعيدة فوجدته ينتظرني!! قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الاستعداد للموت

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: الموت حق، وقل للأموات جميعاً إن كانوا يجيبون: هل منهم من قضى حاجته؟ هل منهم من أدرك آماله وأحلامه؟ هل منهم من حقق أمنياته؟ لا أظن هذا، بل أكثر الناس لو خرجوا من قبورهم لندموا على حياتهم.. على جلسة لم يذكروا الله فيها، فكيف بجلسة فيها حرام؟ كيف بسهرة فيها حرام؟ كيف بليلة حمراء يعاقرون الحرام، ويشربون الحرام، ويأكلون الحرام؟

تواعد ثلاثة نفر في ليلة حمراء يفعلون الفواحش -أجاركم الله- ويشربون الخمور، وفي الثلث الأخير من الليل قال أحد السكارى: سوف آتيكم بعشاء، وخرج بسيارته ولم يرجع، تأخر، فذهبوا في الثلث الأخير من الليل يبحثون عنه في الطرقات، يقول صاحبه: فوجدنا في ظلام الليل ناراً من بعيد فأسرعت باتجاه النار، فوجدت سيارة صاحبي تحترق قد أظلمت فيها النار، فجذبت صاحبي من بين النار، فأخذته وقد تفحم واحترق في الدنيا قبل أن يموت، فوضعته في سيارتي ولا يزال فيه نفس، ولا زالت به الروح، فأسرعت به إلى المستشفى .. ماذا صنع آخر حياته؟ لا تقل: آخر مرة أفعلها ثم أتوب، وهل تضمن أن الله يمهلك؟ لا تقل: هذا الربا آكله ثم أتوب، لا تقل: ألقاها وأواعدها وأنام معها ثم أتوب، هل تأمن مكر الله؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

يقول: وضعته في السيارة وأسرعت به إلى المستشفى، وفي الطريق سمعت صوتاً غريباً يخرج منه ويقول: كيف أجيبه؟ كيف ألقاه؟ بِمَ أرد عليه؟ إذا سألني ماذا أقول له؟ فقلت له: من تقصد؟ من تريد؟ قال لي: الله بماذا أجيبه؟ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100] كذاب، نعم. يكذب كلما قرر التوبة، وقديماً كان يتراجع عنها .. كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

أتعرفون كم مليون إنسان في الأرض يموت؟ أتعرفون ما السبب؟ يموت وهو مريض بمرض الإيدز، ملايين يموتون، وملايين مهددون بالموت، والمرض ينتشر أكثر وأكثر، بل سمعت رجلاً ما زنا في حياته إلا مرة واحدة، سولت له نفسه فسافر إلى بلد فارتكب الفاحشة، ثم رجع إلى بلده وربما استقام وبعد أيام اكتشفوا أنه يحمل مرض الإيدز .. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45] والمصيبة أن زوجته ملتزمة وصالحة، فحملت منه مرض الإيدز .. إنا لله وإنا إليه راجعون! إذا ما خاف الناس من عذاب الله ومن عذاب الآخرة ألا يخافون من عذاب الدنيا؟ ألا يخافون من ابتلاءات الدنيا.. من الفضيحة والعار والأمراض والفتن والبلاء؟ ألا يخاف آكل الربا؟ إن لم يخف أنه يدخل في نهر من دم في قبره ويخرج يوم القيامة مصروعاً كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ويعطى يوم القيامة رمحاً يُقال له: بارز ربك الآن .. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] يبارز من؟ بارز ربك الآن، إن لم يخف آكل الربا من هذا كله، ألا يخاف في دنياه أن يحاربه الله في أولاده .. في أطفاله .. في جسده .. في صحته .. ألا يخاف؟ ما بال الناس لا يخافون؟

نعم! إن رحمة الله واسعة، وباب التوبة مفتوح، والله يغفر كل ذنب إذا تاب الإنسان قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وقبل أن يصل الإنسان إلى الغرغرة؛ فإن الله يقبل التوبة .. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].. (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).

فلنسرع ولنقدم نجوانا بين يدي الله، ولنسرع إلى طاعة الله، ولنتب من ذنوبنا ومعاصينا؛ لعل الله أن يكفر عنا سيئاتنا.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم سدد رميهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم رص صفوفهم يا رب العالمين، اللهم عليك بأعدائنا وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.

اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين.

اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , كفى بالموت واعظاً للشيخ : نبيل العوضي

https://audio.islamweb.net