إسلام ويب

التكذيب بالدين وسلب أموال اليتيم ومنع الماعون عن الناس كلها صفات المكذبين المعرضين الذين توعدهم الله بالويل وهو الهلاك في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، وإذا انضم معها ترك الصلاة أو الرياء فيها فقد اجتمع الشر وحاق العذاب.

بين يدي سورة الماعون

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الماعون.

وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:1-7].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة أولها مكي وآخرها مدني. أي: مزدوجة، الثلاث الآيات الأولى مكية محضة، وأربع آيات مدنية محضة، فهي مكية مدنية.

والسورة آيها: سبع آيات.

تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين)

قال تعالى وهو يخاطب مصطفاه صلى الله عليه وسلم ورسوله، فيقول: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون:1].

ما المراد من الدين هنا؟ وما هو الجزاء؟ وما الذي ينتظر من يكذب بالبعث الآخر، وما يتم فيه وما يحصل من حساب ثم جزاء إما بالنعيم المقيم، وإما بالعذاب الأليم نتيجة العمل الدنيوي، إذ هو إما إيمان وأعمال صالحة، أو شرك وكفر ومعاصٍ؟

يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون:1] تعجب من هذا الشخص! والآية وإن كانت في الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ومجموعة من أكابر مجرمي قريش، لكنها هداية إلهية إلى يوم القيامة.

يوجد هذا النوع من الناس في ديارنا نحن المسلمون.. يوجد من يكذب بالدين، يسخر إذا قلت له: تذكر يوم القيامة.. أما تخاف الله؟ أما تخشى الحساب والعقاب؟ يضحك، وما أكثر هذا النوع بين المسلمين اليوم.

تفسير قوله تعالى: (فذلك الذي يدع اليتيم)

قال تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:2] إن أردت أن تعرفه نرشدك: الذي تراه يتكبر ويتجبر ويطغى ويسلب اليتامى والضعفة حقوقهم ويستهين بهم ولا يحسب لهم حساباً؛ هذا والله لمكذب بالدين، إذ لو كان مؤمناً بالجزاء كيف يعتدي على الضعفة من اليتامى فيأخذ أموالهم ويتكبر عليهم وقد يؤذيهم ويضربهم؟!

إن ذلك يدل على أنه لا يؤمن بشيء اسمه حساب وجزاء بعد نهاية هذه الدنيا.

إذاً: من أراد أن يعرف الذي يكذب بالدين فلينظر إلى سلوكه.. فلان لا يؤمن بيوم القيامة بدليل أنه يذبح في الناس، والذي يذبح الناس لا يؤمن بيوم القيامة. لا.

الذي يعلق المسجون من رجليه ويدلي رأسه ويطفئ السيجارة في عينه ويقول: هذا ليس وطنياً. هذا لا يؤمن بيوم القيامة.

عجب هذا القرآن! يعطيك صورة بموجبها تعرف المكذبين بالدين وذلك من سلوكهم الدال عليهم: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:2] والدع: هو الدفع. يدفعه عن حقه.. ينهبه ويسلبه حقه وقد يكون هذا ابن أخيه، وقد يكون أخاً صغيراً له مات أبوهم وترك يتامى، فهؤلاء الظلمة يهينونهم ولا يعترفون بحقوقهم.

تفسير قوله تعالى: (ولا يحض على طعام المسكين)

قال تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:3] لا يحض نفسه ويحثها على أن يتصدق أو يحسن أو يسد جوعة جائع، أو يكسو عار، ولا يدعو الآخرين من إخوانه ومعاشريه ومواطنيه إلى فعل شيء من إكرام اليتامى. هذه علامة على أنه لا يؤمن بيوم القيامة.

وَلا يَحُضُّ [الماعون:3] أي: يحث عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:3]. يوجد مساكين في بلاد كثيرة وفي ظروف كثيرة.. تأتي ظروف لا يشبع المرء في اليوم إلا مرة، وقد عشنا زمناً لا نأكل إلا مرة في النهار.

إذاً: في تلك الظروف بالذات لا يحض الناس ولا يحثهم ولا يفعله هو، فلا يطعم المساكين، ولو كان يؤمن بالجزاء يوم القيامة وأن الحسنة بعشر أمثالها، وأن الله يجزي على العمل الصالح كان سيسابق في الخيرات وينافس فيها، ويظهر ذلك في عمله، ولكن ما دام أنه لا يؤمن بالدين والجزاء ويوم القيامة يستهين ويحتقر الضعفة ولا يبالي بالمساكين سواء ماتوا من الجوع أو شبعوا.. هذا مظهر من مظاهر عدم الإيمان عنده.

وهذا في أيديكم! تستطيع أن تعرف جارك أو أخاك أو مواطنك في أي مكان!

تستطيع أن تعرف كفره من إيمانه وذلك من خلال سلوكه؛ لأن الله أعطى هذه العلامات للرسول ولم يقل: هي خاصة بـالوليد بن المغيرة ولا العاص بن وائل ، بل قال: الذي وصفه كذا وكذا.

إذاً: الذي يؤمن بالجزاء الأخروي يحاسب نفسه حتى على الأنفاس!

يوضع في كفه ريال واحد حرام فلا يبيت ليلته حتى يرده إلى صاحبه!

يقول كلمة سوء يؤذي بها مؤمناً فلا يستطيع إلا أن يطلب العفو والمسامحة!

فكيف بالذي لا يبالي بالفقراء والمساكين واليتامى عاشوا أم ماتوا؟! لا إيمان له إذ الإيمان نور، صاحبه يميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنافع والضار، والذي لا إيمان له لا نور له، ولا يميز ولا يفرق.

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:2-3] انتهت الآيات المكية.

تفسير قوله تعالى: (فويل للمصلين)

ثم قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] أي: فبناءً على ما علمت من صفتين عرفتهما للمكذبين بالدين كذلك أريك مكذبين بالدين آخرين لكنهم يتزيون بزي المسلمين والمؤمنين وهم المنافقون.

لقد علمتم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي لأصحابه صوراً في قلوبهم لا في جيوبهم يميزون بها بين المؤمن الحق والمؤمن الكاذب، فيقول صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ) ويعدد لهم.

ومرة أخرى يقول: ( ثلاث من كن فيه كان منافقاً: إذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب ) يعطيهم ويزودهم بهذه المعارف؛ لأن المجتمع خليط، فيعرفون المنافقين من سلوكهم لا من وجوههم وثيابهم، فالثياب والوجوه واحدة، لكن يعرف المنافق وهو يعيش بيننا بأنه يحافظ على جسمه ومادته. إذاً: يتزيا بزي الإسلام.

قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] وكلمة (ويل) تدل على العذاب والهلاك، ولكنها هنا واد في جهنم.. جهنم تستعيذ منه، وهو عبارة عن قيوح ودماء وأوساخ تتجمع وتصبح وادياً لأهل النار يشربون ويأكلون من هذا.. وهو الغسلين.

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] من هم؟ الحمد لله أنه ما قال: فويل للمقيمي الصلاة بل قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] وشرح حالهم وبين واقعهم فنظرنا إليهم وعرفناهم.

تفسير قوله تعالى: (الذين هم عن صلاتهم ساهون)

ثم قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5] وهو من يلعب الكيرم والورق ويضحك.. ويلهو حتى إذا كادت الشمس تغرب يقول: لم أصل العصر، فيقوم ينقرها كنقر الغراب لا يخشع فيها ولا يطمئن ولا.. ولا.

قالت العلماء: الحمد لله الذي قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ [الماعون:4-5] إذ لو قال: (في صلاتهم) لدخلنا معهم. فالحمد لله! هذا الحرف جميل جداً.

لو قال: (فويل للمصلين الذين هم في صلاتهم ساهون) ما منا إلا ويسهو. لكن قال: عَنْ صَلاتِهِمْ [الماعون:5] يسهون عنها.. مشغولين بأعمالهم.. بتجاراتهم.. بمزارعهم.. لا يصليها إلا عند نهاية الوقت.

وكيف يصليها والشمس تكاد تغيب؟ يصليها صلاة لا تصح ولا يقبل منها شيء، فما اطمأن في قراءة ولا ركوع ولا سجود ولا.. وهذه علامة على أنه لا يؤمن بالآخرة، ما صدق الرسول والله في الوعد والوعيد يوم القيامة؛ لأنه كافر، مشرك، منافق.. فقط الظروف ألزمتهم أن يتظاهروا بالإسلام؛ خشية أن يقال: هؤلاء كفار، أجلوهم وإلا اقتلوهم فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] هذه صفة.

تفسير قوله تعالى: (الذين هم يراءون)

ثم قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون:6] في أعمالهم فلا يقدمونها لله، فقط لأجل الناس، إذا صلى.. إذا صام.. إذا أعطى.. إذا جاهد همه أن يقال: يصلي أو يجاهد أو يعطي.

لم؟ لأنه لا يؤمن بالآخرة ولا بالجزاء، فقط يعيش بين المسلمين حتى لا يعرفوه كافراً بينهم، فيتستر لئلا يضربونه أو يطردونه. إذاً: لا بد وأن يرائي.. يريهم أعماله اتقاءً للأذى.

وهنا المراءاة والرياء سماها النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر: ( إياكم والشرك الأصغر ) (إياكم): أي: احذروا الشرك الأصغر ( قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء ) أن تصلي أو تتصدق أو تأمر بالمعروف أو تنهى عن منكر أو كذا من الأعمال الصالحة من أجل أن يقال: فلان فعل، أو من أجل أن يراك الناس. فهذه الحالقة.

ولكن من الجائز.. من الواقع أنك تريد بصلاتك وجه الله.. بصدقتك وجه الله.. بعملك وجه الله، لكن يطلع عليك بعض الأفراد أو بعض الناس فيثنون عليك خيراً فتفرح، فهل هذا ينقص من أجرك؟

الجواب: لا. والحمد لله. أفتى بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لك أجران، لكن على شرط: أنك ابتداءً لا تريد إلا وجه الله، فإذا اطلع على عملك الصالح وأثني عليك فتلك حسنة من الله.

أما الرياء والمرائي فيعمل هذا من أجل أن يشكر، أو من أجل ألا يذم.. يغض الطرف عن الله بالمرة؛ إذ من الناس من يتصدق حتى لا يقال: فلان بخيل.. هو ما تصدق لوجه الله بل من أجل ألا يقال: إنه بخيل.

إذاً: يا عبد الله! يا أمة الله! لما تريد العمل لا تنظر إلا إلى الله، مولاك طلب منك، أمرك أن تفعل والجزاء عليه ومن عنده، وإن عرض عارض وأثني عليك وشكرت -كما يقولون- وحصل لك فرح في نفسك، فهذا من فضل الله تعالى، وليس عليك شيء.

تفسير قوله تعالى: (ويمنعون الماعون)

قال تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] الآن الماعون كالسيارات! تقول له: يا عبد الله! من فضلك أريد السيارة أمشي بها إلى جدة فيأبى.

حتى النار تقول له: أعطني قبس النار -وهي ليست هينة.. ليس كل واحد يملك الكبريت- فيرفض ويعتذر.

جاءك ضيف وليس عندك فراش فتقول للزوجة: اطلبي فلانة تعطيك السجادة نجلس عليها.. هذه هي المواعين، ويتعاون بها المؤمنون فيما بينهم.

أما المنافقون فتسأله.. تقرع الباب فيقول لك: والله مع الأسف ما عندنا، انكسرت.. يتلذذ بحرمانك، لا سطل ولا قدوم ولا منجل ولا مسحاة ولا ولا ولا.. حتى الحمار.. تقول له: أريد أن أركب عليه للسوق فقط، فيقول لك: الحمار مريض. إذاً هذه علامة بارزة.

وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7] لأنهم لا يحبون المؤمنين، ولا يريدون أن يكملوا ولا أن يسعدوا، فهم أعداء خلص لهم، لكن أجبرتهم الظروف -كما يقولون- أن يعيشوا بينهم.

كيف يفعلون؟ يقولون القضية سهلة: يقول لك: يا فلان! من فضلك أعطنا القدر؟ فتقول: مع الأسف انخرق. أو تقول: والله الآن عليه اللحم.

إذاً: هذه صفات المنافقين استعيذوا بالله منهم، وكونوا من المؤمنين الصادقين، جعلنا الله وإياكم منهم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الماعون للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net