إسلام ويب

إن محادة الله عز وجل ورسوله عاقبتها وخيمة، فقد توعد الله من يحاده ورسوله بالكبت والذلة في الدنيا، وينتظره في الآخرة عذاب مهين، والله سبحانه محيط بأحوال عباده مطلع على أقوالهم وأفعالهم، ويعلم المصلح منهم من المفسد، حتى إنه مطلع على ما يتناجى به المتناجون منهم وما يسرونه من خير أو شر، أو حق أو باطل، فهو سبحانه المستحق لأن يخشى، والمستحق سبحانه لأن يستحيا منه حق الحياء.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم...)

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:5-7].

وعيد الله بالكبت والذل والهوان لكل من يحاد الله ورسوله

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:5]، هذا خبر إلهي عظيم، والمحادة تعني المعاداة والمشاقة والمفارقة، وهؤلاء مصيرهم والعياذ بالله شر مصير، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:5]، فالله يحب كذا وهم يحبون كذا، والله يكره كذا وهم يكرهون كذا، والله يقنن كذا وهم يقننون كذا، والله يشرع كذا وهم يشرعون كذا.

وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، أي: أهلكوا وأذلوا وأهينوا كما أهين وأذل الذين من قبلهم من الأمم السابقة، والآيات تكاد أن تقول: إنني أعني أهل مكة الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وألجئوه إلى الهجرة والخروج من مكة، وهاهم يتجمعون ويتكتلون ليأتوا في حرب الخندق والعياذ بالله تعالى، إلا أن اللفظ عام، أعني: كل من يحاد الله ورسوله فهو هالك وذليل ومهان في الدنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، أي: من الأمم السابقة، إذ إنها حاربت رسل الله وأنبياءه فأهلكهم الله عز وجل، فأين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين فرعون؟ وأين مدين؟ أهلكهم الله تعالى؛ لأنهم وقفوا ضد دعوة الله وحاربوا رسوله وحادوه وعادوه.

إخبار الله بأنه أنزل آيات بينات واضحات على رسوله صلى الله عليه وسلم

ثم قال تعالى: وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [المجادلة:5]، أي: واضحة تدل على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، وأن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ومعنى بينات: أنها بينت الحق من الباطل، والخير من الشر، والطهر من الخبث، وهم معرضون عنها لا يتدارسونها ولا يجتمعون عليها ولا يقرءونها؛ وبالتالي يا ويلهم! والحال أن الله قد أنزل آيات بينات، فكل آية تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، وأن الجزاء فيه حق، أبعد هذا يعرضون ويحادون ويشاقون ويعاندون ويكابرون؟ يا ويل من يحاد الله ورسوله ويحب ما لا يحب الله ورسوله، ويعمل ما لا يقول الله ورسوله بعمله.

الوعيد الشديد للكافرين في الآخرة

ثم قال تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:5]، وهذه قاعدة عامة، أي: لكل كافر عذاب يهينه ويذله ويخزيه، وأكثره في الدنيا والآخرة، وَلِلْكَافِرِينَ [المجادلة:5]، أي: بشرع الله وكتابه، وبنبوة رسول الله وبتوحيد الله وبلقاء الله يوم القيامة، فهؤلاء لهم عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:5]، وهذا هو جزاء الكافرين، فنتوب إلى الله ونرجع إليه ونؤمن بما أمرنا أن نؤمن به، ونعمل بما أمرنا بعمله، ونترك ما نهانا عن عمله، وهكذا تطول حياتنا على هذا النمط حتى نقرع باب الجنة دار السلام؛ لأن الإسلام طريق، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فنقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت الحرام، ونرابط في سبيل الله، ونجاهد إن جاء الجهاد، ونحل ما أحل الله، ونحرم ما حرم الله، حتى النظرة المحرمة، إذ لا نفتح أعيننا إلى الحرام، وذلك حتى لا نكون مع المحادين والمعاندين والمحاربين لله ورسوله، فالله يأمر بكذا وهم يفعلون كذا، والله ينهى عن كذا وهم يفعلون كذا، وهذه هي المحادة والمعاندة والمعاداة والمكابرة والعياذ بالله، وقد أهلك الله من قبلهم وسيهلكهم.

تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا...)

قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6].

إخبار الله ببعث الخلائق يوم القيامة ومجازاتهم على أعمالهم

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [المجادلة:6]، أي: يوم أن يبعثهم الله من قبورهم يقع العذاب الكامل والتام عليهم، يعذبون العذاب الأليم، ولذلك والله ليبعثهم من قبورهم أحياء بعد موتهم وفنائهم وانتهاء حياتهم، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [المجادلة:6]، فلا يتخلف منهم والله أحد أبداً، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [المجادلة:6]، معشر المستمعين! هل فهمتم معنى يبعثهم؟ أين هم حتى يبعثهم؟ هم في قبورهم، إذ تنزل عليهم الأرواح فيحيون ويبعثهم من قبورهم أحياء ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً.

ثم قال تعالى: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [المجادلة:6]، أي: يطلعهم ويخبرهم عن كل عمل عملوه، والله عز وجل عليم بأعمالهم كلها، إذ هو خالقها وخالقهم، وقد كتبها في كتاب المقادير قبل أن تكون، وهي مكتوبة في كتاب الكرام الكاتبين، فينبئهم بما عملوا ويحاسبهم على ذلك ويجزيهم به.

معنى قوله تعالى: (أحصاه الله ونسوه)

أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، أي: جمعه وعده وعرفه وذكره وهم قد نسوه، ولذا قد تعيش خمسين أو ستين سنة فلا تذكر كل أعمالك، لكن الله ما ينسى منها عملاً أبداً، إذ إن كل أعمالنا مسجلة في كتاب المقادير قبل وجودنا، ومسجلة أيضاً في الكتب التي تكتبها الكرام الكاتبين، ونحن قد ننسى، لكن الله عز وجل لا ينسى ذلك أبداً.

إحاطة علم الله وشهوده لكل شيء

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، فالآن الله شهيد على حلقتنا هذه والله العظيم، فلا نتكلم بكلمة إلا والله شاهد، ولا نمش حركة إلا والله شاهد، إذ نحن بين يديه كإبرة بين يديك، بل العوالم كلها بين يديه وهو معهم يسمعهم ويراهم، وهو سبحانه وتعالى شهيد في الأرض وفي السماء، حاضر لا يخفى عليه شيء.

ولذا فهذه الآيات هي التي توجد الخشية في قلب المؤمن فيرق قلبه ويلين، وتذهب القساوة والشدة والعنف من قلبه، ويصبح حقاً عبد الله ووليه، أما أصحاب قساة القلوب وظلمة النفوس والعياذ بالله فجزاؤهم العذاب المهين.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض...)

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].

بيان سعة علم الله الشامل لكل شيء

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، أي: ألم ينته هذا إلى علمك يا رسولنا؟! والله لقد انتهى إلى علمه، لكن هذا من باب تقريع الآخرين المعرضين الناسين المتكبرين، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، وذلك من الذرة إلى المجرة، إذ لا يخفى عليه شيء وهو على عرشه بائن من خلقه، إذ الملكوت كله بين يديه، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، فيجب أن نعلم هذا ولا نجهله، ويجب أن نعرفه ولا نتركه أبداً، وذلك لأننا إذا عرفنا هذا لا نستطيع أن نعصي الله أبداً، إذ إن الذين يعصون الله هم الجاهلون الغافلون أصحاب القلوب القاسية والنفوس المظلمة.

بيان أن الله مطلع على المتناجين مهما قل عددهم أو كثر

ثم قال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ [المجادلة:7]، أي: اثنين، وَلا أَكْثَرَ [المجادلة:7]، أي: ما فوق الستة والسبعة إلى ملايين، إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، فلا يوجد اثنين يسر بعضهم إلى بعض الحديث ويخفيه، أو ثلاثة في مكان ما يتسارون الحديث، أو أربعة أو خمسة أو عشرة إلا والله يسمعهم ويراهم، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ [المجادلة:7]، والنجوى بمعنى التناجي، وهي المسارة بالحديث في الخفاء، وهذه الآية نزلت وبعض المنافقين يتسارون بنفاقهم ويتصلون باليهود في المدينة ويتعاونون معهم على شتم المؤمنين وسبهم وانتقادهم، ففضحهم الله عز وجل، إذ والله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، وَلا أَدْنَى [المجادلة:7]، أي: ولا أقل من ذلك الاثنين أو أكثر، إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض أو في الجبال، فيجب أن نؤمن بهذه الحقيقة، وأن نعرفها ولا ننساها، فالله معنا فنستحي أن نقول كلمة يكرهها، ونخجل أن نقول كلمة ما يحبها، وهو -كما علمتم- على عرشه بائن من خلقه، والخليقة كلها بين يديه سبحانه وتعالى، واقرءوا إن شئتم قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ [الزمر:67]، أي: سبع سموات مطوية كالورقة في يده، فلهذا والله إنه لمعنا يسمع ويرى، ويقدر على أن يعطينا أو يمنعنا، يعذبنا أو يرحمنا، وبالتالي لو يذكر العبد هذا وما ينساه ما يقع في معصية الله أبداً، لكنه الجهل وعدم العلم أو الكفر والضلال الذي رمى بالبشرية في أتون الجحيم والعياذ بالله تعالى، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ [المجادلة:7]، فلماذا الثالث؟ لأن الاثنين إذا اختلفا فكيف يرجح جانب الآخر؟ وكذلك الأربعة إذا اختلفوا فالخامس بينهم يرجح الجانب الآخر، وكذلك الستة لما يكون بينهم السابع فإنه يرجح الجانب الذي يريدونه، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ [المجادلة:7]، الله جل جلاله، سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، في البر أو في البحر.

معنى قوله تعالى: (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة)

ثم قال تعالى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [المجادلة:7]، من خير أو شر، قل أو كثر، أي: في هذه الحياة الدنيا ينبئهم به يوم القيامة ويحاسبهم عليه ويجزيهم به، إذ هذه الدار دار عمل، والدار الآخرة دار جزاء، فيا عباد الله! افهموا هذا، إن داركم هذه دار عمل لا دار جزاء، والدار الآخرة دار جزاء لا دار عمل أبداً.

مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]، لما تكون مع أخويك تتسارون الحديث اعلموا أن الله معكم يسمعكم ويراكم، بل كأنه بذاته معكم وذاته فوق عرشه، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، ما في مكان ما يوجد فيه الله بعلمه وقدرته نختفي فيه، فمن كان على الأرض أو في السماء أو في غيرها فلا بد علمه بين يدي الله عز وجل، وسيجزيه على عمله، قال تعالى: وقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].

مرة أخرى: معاشر المستمعين! خذوا هذه الحقيقة ولا تنسوها: إننا خلقنا للعمل، فلا كسل ولا نوم ولا عبث ولا راحة في هذه الدنيا، إذ إنها دار عمل، والدار الآخرة دار الجزاء لا عمل فيها، فلا صلاة ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا زرع ولا بناء ولا هدم، إذ ليس هناك إلا الجزاء، وذلك إما بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم فقط، أما الدنيا فدار عمل فاعملوا، فإن كان العمل ذكراً لله وشكراً له وطاعة لله ورسوله بفعل الأوامر وترك النواهي كان الجزاء الجنة دار النعيم، وإن كان العمل شركاً وفسقاً وفجوراً وغشاً وكذباً وخيانة والنفس مظلمة منتنة عفنة؛ فالجزاء يوم القيامة النار والعياذ بالله، بل ليس يوم القيامة فقط، إذ إن العبد سيشاهد العذاب قبل القبر يشاهد ويذوقه، فيجب ألا ننسى هذا أبداً، والله يقول: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7]، أي: أن الله سينبئنا بأعمالنا يوم القيامة لا في الدنيا؛ لأن هذه الدار دار عمل لا دار جزاء، بينما يوم القيامة هي دار الجزاء، فيعلمنا ما عملنا ويجزينا على أعمالنا، فما كان خيراً فالجزاء رضاه والجنة، وما كان شراً فالنار وسخطه والعياذ بالله تعالى.

معنى قوله تعالى: (إن الله بكل شيء عليم)

ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، والله إن الله عليم بكل شيء في الكائنات فلا يخفى عليه من أمرنا شيئاً، فهيا بنا نلصق هذه في قلوبنا ولا ننزعها، ومن ثَمَّ نراقب الله طول حياتنا، وعند ذلك لا نقوى على معصية الله تعالى، وعند ذلك لا نقدر على الخروج عن طاعته وقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا تعلم أنها معه، وبالتالي كيف نعصي الله عز وجل ونخرج عن طاعته؟!

وخلاصة القول معاشر المستمعين والمستمعات! لا بد من العمل الصالح، والعمل الصالح لا بد من معرفته قبل العمل به، فلهذا طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، إذ كيف تعرف ما يحب الله تعالى؟ وكيف تعرف ما يكره الله تعالى؟ نعم أنا مؤمن بأن الله يحب ويكره، لكن لا أعرف ما يحب ولا ما يكره، إذاً كيف أطيعه؟ كيف أعبده؟ كيف أتقرب إليه وأكون وليه؟ إذاً لا بد من معرفة ما يحب الله تعالى من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات، ولا بد من معرفة ما يكره الله من العقائد الفاسدة والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة الباطلة والصفات المذمومة، وهذا لا طريق له إلا بطلب العلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، فهيا نتقرب إلى الله لنصبح من أوليائه، لكن كيف نصنع؟ بماذا نبدأ؟ بعد أن قلنا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلنعمل، وذلك ما أحبه الله فلنعمله، وما كرهه فلنكرهه، ونواصل مسيرتنا إلى ساعة وفاتنا، ومن ثَمَّ أرواحنا إلى دار السلام، اللهم حقق لنا ذلك يا رحمن يا رحيم!

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

والآن مع هداية الآيات، قال الشارح: [ من هداية هذه الآيات: أولاً: وعيد الله الشديد بالإكبات والذل والهوان لكل من يحاد الله ورسوله ]، بيان أن عذاب الله ومقته لمن يحاده ويحاربه ويخرج عن طاعته ويفسق عن دينه وأمره. ومعنى يحاد الله، أي: يشاقه فلا يعمل بما يريد الله، ولا يترك ما يريد الله تعالى، وهذه المحادة والمشاقة والمعاداة جزاء صاحبها العذاب الأليم والعياذ بالله.

قال: [ ثانياً: إحاطة علم الله بكل شيء، وشهوده لكل شيء، وإحصاؤه لكل أعمال العباد، حال توجب مراقبة الله تعالى والخشية منه، والحياء منه أشد الحياء ]، من علم أن الله معه يراه ويسمع كلامه ويرى مشيه وقعوده وجلوسه، فإنه يستحي أن يعصي الله تعالى، إذ ما يقوى على معصية الله تعالى، والغافل الذي لا يذكر الله ولا يذكر أن الله معه يراه ويعلم ما يعمل، فهذا هو الذي يتورط في كل الذنوب، بل ويغشى كل المعاصي والعياذ بالله.

قال: [ ثالثاً: الإرشاد إلى أن التناجي للمشاورة في الخير ينبغي أن يكون عدد المتناجين ثلاثة أو خمسة أو سبعة؛ ليكون الواحد عدلاً مرجحاً للخلاف قاضياً فيه إذا اختلف اثنان لابد من واحد يرجح جانب الخلاف، وإذا اختلف أربعة لابد من خامس يرجح جانب الخلاف ]، من هداية هذه الآيات: إذا أردنا أن نتناجى في الخير فينبغي أن نكون ثلاثة فأكثر لا اثنين فقط، وذلك حتى يكون الثالث مرجحاً لجانب من الجوانب عند الخلاف، وكذلك إذا كنا أربعة فلا يكفي، بل ينبغي أن نكون خمسة، وأيضاً إذا كنا ستة ما ينبغي، بل لا بد أن نكون سبعة وهكذا، وهذا في المناجاة والمسارة بالخير، أما المناجاة بالشر والعياذ بالله فلعنة الله على أهلها وأصحابها هم أهل النار والعياذ بالله، لكن المناجاة -كما ذكرنا-والاختلاء ببعضنا لنفكر ولنقول ولنعمل الخير والهدى بين الناس، فهذه قد أدبنا الله كيف تكون؟ فإذا كنتم اثنين فأضيفوا الثالث، وإذا كنتم أربعة فأضيفوا الخامس، وإذا كنتم ستة فأضيفوا السابع حتى يترجح الصواب والحق الذي تريدونه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المجادلة (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net