إسلام ويب

من سنة الله في الأمم أنه إذا أخرج قوم رسولهم مكرهاً فإنه ينتقم منهم ويعجل لهم العذاب في الدنيا فيهلكهم، وقد بين الله هذا الأمر لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبشره بأنه لن يتوفاه حتى يقر عينه بالنصر على أعدائه، ورؤيته لدين الله يدخل كل بيت من بيوتهم، ثم أمره بالاستمساك بما أنزل إليه من الكتاب والذكر، ويأمر المؤمنين بذلك فإنهم مسئولون عنه يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فها نحن مع هذه الآيات من سورة الزخرف المكية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ * وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:41-45].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [الزخرف:41] أي: نذهبك من مكة ونخرجك منها، فإن هم أخرجوك منها وآذوك وقتلوك فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف:41] فسوف ننتقم منهم.

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ [الزخرف:43] أي: من مكة يا رسولنا بواسطتهم حيث آذوك وأضروك، أو حاولوا قتلك وأخرجوك؛ فإننا سننتقم منهم، ولكن الله شاء فخرج رسوله من مكة بدون اضطرار لذلك، خرج بنفسه من مكة، لكن لو أخرجوه أو قتلوه لكان الله عز وجل ينتقم منهم.

ومع هذا فقد انتقم الله من أولئك الطغاة الجبابرة في مكة فقتلوا عن آخرهم في غزوة بدر، وتحقق ما ذكر تعالى، فكل أولئك المتشددين الطغاة الذين آذوا رسول الله أهلكهم الله وماتوا على الكفر في بدر حتى لا يسعدوا ولا يدخلوا الجنة.

وقوله تعالى: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:42] أو نرينك يا رسولنا الذي وعدناهم بهزيمتهم وإهلاكهم، فإنا مقتدرون على ذلك، وقد أهلكهم الله في بدر.

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك ...)

ثم قال تعالى بعد هذا: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] فاستمسك يا رسولنا، بمعنى: اشدد التمسك بما أوحينا إليك من توحيد الله عز وجل وعبادته وحده دون من سواه، وطاعته عز وجل فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، وأمته تابعة له، فما من مؤمن إلا وهو مأمور بأن يستمسك بالذي أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو القرآن الكريم الحاوي للشريعة بكاملها من عقائد، وعبادات، وأحكام، وآداب، وأخلاق.

هذا أمر الله لرسوله، فبعدما طمأنه بأنهم لن يضروه، ولو ضروه بأي ضرر لانتقم الله منهم وهو على ذلك قدير، بعد ذلك أمره بأن يستمسك بالقرآن الكريم؛ إذ قوله: بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] الذي أوحي إلى رسولنا هو القرآن العظيم، أوحاه الله إليه فكان جبريل يأتي بالعشر آيات، بالعشرين آية، بالآية، حتى اكتمل الكتاب في ظرف ثلاث وعشرين سنة.

فاستمسك بهذا القرآن الكريم عقيدة وعبادة وآداباً وأخلاقاً وأحكاماً، لا بد من هذا، وأمته مطالبة بهذا، والله! إنا لمطالبون بالاستمساك بحبل الله، بالصراط المستقيم، بالدين الإسلامي، بما فيه من عقائد وعبادات وآداب وأخلاق وشرائع وأحكام.

الصراط المستقيم الذي يستمسك به المؤمنون

ثم قال تعالى له: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، بشرى زفها إليه: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43] ألا وهو الدين الإسلامي، هذا الذي نسأل الله في كل ركعة من ركعاتنا أن يهدينا إليه الصراط المستقيم، هو دين الله الإسلام.

إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، فهي بشرى للرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه على الحق، وأنه على الطريق المنجي المسعد بفضل الله ورحمته.

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43] لو كنت تعيش على باطل أو خرافة أو ضلالة كما يعيش اليهود والنصارى لكان لك أن تأسف وتكرب وتحزن، أما وأنك تعيش على صراط مستقيم بالذي أوحي إليك من كتاب الله وما فيه من عبادات وعقائد وآداب وأخلاق فلا.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)

ثم قال تعالى: وَإِنَّهُ [الزخرف:44] أي: القرآن الكريم لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، ومعنى ذكر لك أي: شرف لك وشرف لقومك، ولا أقول: قومه هم قريش فقط، كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعبد الله تعالى بما شرع من عباداته هو من قوم محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن شرف له.

وَإِنَّهُ [الزخرف:44] أي: القرآن الكريم لَذِكْرٌ لَكَ [الزخرف:44] أي: شرف، رفع قيمتك وأعلى قدرك إلى مقام ما يصله غيرك، وذكر لقومك، وقومك عزوا وكملوا وسعدوا بالقرآن الكريم، لولا القرآن ما كان لقومه شرف أبداً، لكن بالقرآن شرفوا وعظموا وكملوا وسادوا.

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [الزخرف:44] يا رسولنا وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، ولا نحصر القوم في قريش، فقوم الرسول صلى الله عليه وسلم من بعث إليهم وفيهم وآمنوا به واتبعوا ما جاء به، فهم قومه والقرآن شرف لهم.

وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، وسوف يسألكم ربكم يوم القيامة عما فرطتم في كتابه، وسوف تسألون عن هذا القرآن العظيم، عن هذا الشرف كيف أضعتموه وحولتموه إلى الموتى، وعطلتم أحكام الله فيه، فلم تحكموا القرآن ولم تطبقوه لا في حلال ولا في حرام، لا في دماء ولا في حدود، والله! لنسألن عن هذا يوم القيامة.

وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44] يوم القيامة، ما دام أن القرآن شرف لرسولنا وشرف لنا فلم نفرط فيه؟ يجب أن نحفظ آيه، ويجب أن نؤمن بما فيه، وأن نطبق أحكامه وآدابه وأخلاقه؛ لأنه شرفنا وبه شرفنا وكملنا، فإذا أعرضنا عنه هبطنا.

وسبحان الله! علم الله أن هذه الأمة ستهبط وستتخلى عن القرآن وتبتعد عنه، فقال: وسوف تسألون عن تفريطكم وإضاعتكم لكتاب الله وعدم تطبيقكم لشرع الله فيه، فهذه لطيفة تحلف عليها بالله تعالى.

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] نعم شرف لك ولقومك، لكن إن أنتم تلوتموه مؤمنين به، وطبقتم شرائع الله التي يحويها، والعبادات التي بينها، وإلا فسوف تسألون إن أنتم أضعتموه، وقد أضعنا القرآن الكريم من قرون، وسوف يسألنا الله عن ذلك.

هكذا يقول تعالى: وَإِنَّهُ [الزخرف:44] أي: القرآن العظيم لَذِكْرٌ [الزخرف:44] أي: لشرف لك يا رسولنا وشرف لقومك أيضاً. وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44] يا عباد الله عن هذا القرآن الكريم، هل حفظتم آيه؟ هل طبقتم أحكامه؟ هل اجتمعتم على دراسته؟ والجواب معلوم.

تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)

ثم قال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: يا رسولنا! اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا، وما قال: واسأل من أرسلنا قبلك، بل قال: (من قبلك).

وهنا فسّرت الآية بوجهين:

الوجه الأول الذي هو الصواب والمراد: أن يسأل من آمن من اليهود ومن آمن من النصارى، الذين دخلوا في الإسلام من اليهود ومن النصارى يسألهم: هل الله عز وجل أذن لعباده أن يعبدوا معه غيره؟ اسأل أهل الكتاب، اسأل من أرسلنا من قبلك: أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]؟ والله! ما كان وما جعل ذلك.

إذاً: فالرسول الكريم يسأل المؤمنين من أهل الكتاب من اليهود والنصارى: هل في التوراة جواز عبادة غير الله؟ هل الإنجيل فيه إذن بعبادة غير الله؟ الجواب: لا أبداً.

ووجه آخر مشرق أيضاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الله له في بيت المقدس سبعين نبياً وسألهم عن هذه الحقيقة، فأجابوا بأن الله عز وجل لم يجعل لعباده آلهة يعبدونها معه أبداً من عهد آدم إلى عيسى عليهما السلام.

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف:44] عن ماذا؟ أَجَعَلْنَا [الزخرف:44] نحن رب العزة والجلال والكمال من دوننا آلهة؟ إذ الله هو الرحمن، آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]؟ أصناماً أو تماثيل أو رجالاً أو نساء، أو شهوات أو دنيا؟ ما جعل الله ذلك أبداً، لا معبود بحق إلا الله، لا إله إلا الله، من عهد آدم إلى عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

فعبادة هؤلاء المشركين لهذه الأصنام عبادة باطلة ما أذن الله بها ولا شرعها، وإنما الشياطين زينتها للناس فعبدوها.

هكذا يقول تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، من هم الذين يسألون؟ نحن، ماذا فعلنا بالقرآن؟ هل قرأناه؟ هل حفظناه؟ هل تدارسناه؟ هل عملنا بما فيه؟ هل علمناه وعلّمنا غيرنا؟ أم أضعناه وفرطنا فيه فلا تلاوة ولا عمل، فسوف نسأل ويجزي الله العاملين بعملهم.

وقوله: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف:45] هذا صفعة على وجوه الكفار والمشركين في قريش، لم تعبدون هذه الأصنام؟ هل أذن الله بعبادتها في كتاب من كتبه؟ اسألوا اليهود والنصارى، اسألوا: هل أذن الله أن يُعبد معه صنم أو حجر؟ والله! ما كان، ولكن وجه الخطاب لرسوله: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف:45]، وهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، ما منهم أحد أقر عبادة غير الله، بل كل رسول يحارب عبادة غير الله ويدعو إلى توحيد الله عز وجل.

ورسل الله لما جمعهم الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج سألهم رسول الله فأجابوا، ما أذن الله أن يعبد معه غيره أبداً.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

والآن مع هداية الآيات.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: من سنة الله في الأمم إذا أخرج الرسول قومه مكرهاً انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم ].

من سنة الله في الأمم السابقة أنه إذا أخرج الرسول قومه من بلده مكرهاً انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم، هذه سنة الله، ما من قوم أذوا رسولهم وأخرجوه مكرهاً من بلده إلا انتقم الله منهم، فلو أن قريشاً أخرجت الرسول صلى الله عليه وسلم مكرهاً على الخروج لانتقم الله منهم.

[ ثانياً: صدق وعد الله تعالى لرسوله؛ فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه ]، فما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة كافر أو عدو له، كلهم آمنوا وأسلموا.

فماذا قال تعالى في الآية؟ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41-42] واقتدر عليهم وأهلكهم.

[ ثالثاً: وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً ]؛ لأن الله تعالى قال: فَاسْتَمْسِكْ [الزخرف:43] يأمر رسوله وأمته معه، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43].

إذاً: دل هذا على وجوب التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية في العقيدة والعبادة والأحكام الشرعية.

[ رابعاً: شرف هذه الأمة بالقرآن، فإن أضاعته أضاعها الله وأذلها، وقد فعل ].

شرف هذه الأمة في كتاب الله عز وجل، فإن أعزته وقرأته وعملت به نجت وسعدت، وإن أهملته وأضاعته هلكت كما هو الواقع، وقد فعل الله تعالى بها ذلك، أما استعمرت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؟ من استعمرها؟ الكفار والفجار، بسبب إعراضها عن كتاب الله، أضاعت كتاب الله، حولته إلى الموتى وحرمت منه الأحياء، لم تجتمع عليه ولم تتله، ولم تعمل بما فيه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فسلط الله عليها من شاء أن يسلط.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الزخرف (7) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net