إسلام ويب

إن ليونس عليه السلام وقومه نبأ عظيم، فقد مكث يونس عليه السلام في قومه زمناً يدعوهم إلى الله العزيز الحميد، فلما رأى إعراضهم ولمس كفرهم وضلالهم آيس منهم وتركهم، فابتلاه الله عز وجل بأن التقمه الحوت، فلبث في بطنه يدعو ربه ويسبحه ويستغفره، ثم أخرجه ربه برحمته من بطن الحوت وأرجعه إلى قومه فوجدهم قد آمنوا لرب العالمين، وذلك تدبير الغفور الرحيم.

تحسر على انصراف المسلمين عن الاجتماع لمدارسة القرآن

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي، وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

والحمد لله أن وفقنا لدراسة كتاب الله، لقد حرم هذه الدراسة ملايين المسلمين في قرون عديدة، منعوهم منها وحرموها عليهم، وجعلوا القرآن يقرأ على الموتى لا أقل ولا أكثر، إذ قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، إذا فسرت الآية وأصبت فأنت مخطئ، أي: مذنب، وخطؤه كفر، فألزموا المسلمين وكمموهم، ما أصبح يجتمع ثلاثة على آية يتدارسونها من كتاب الله، فماذا يصنعون بالقرآن؟

قالوا: اقرءوه على الموتى، إذا مات الميت يستدعون أهل القرآن ثلاث ليال أو سبع ليال بحسب غنى الميت وفقره، يقرءون القرآن ويعطونهم المال، ويطعمونهم، هذا هو القرآن، والقرآن روح، والله! إنه لروح ولا حياة بدون روح، والقرآن نور، والله! إنه لنور، ولا هداية بدون نور، واقرءوا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

وقد أفاقت الأمة وعادت إلى الطريق، ولكن هل هي تجتمع في بيوت الله كل ليلة على كتاب الله؟ من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، المفروض والمطلوب للإنقاذ والنجاة أنه إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، وتطهر المؤمنون والمؤمنات، وأتوا بيوت ربهم يصلون المغرب أولاً، ثم يجلسون، النساء وراء، والرجال أمام، يجلسون لعالم بالكتاب والسنة، فليلة آية من كتاب الله وليلة سنة من سنن رسول الله، وذلك طول العام، وعلى مدى الحياة.

واليهود والنصارى إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المقاهي والملاهي والمقاصف والمراقص يلهون ويلعبون؛ لأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون، أما أهل القرآن الأحياء فكيف يعمون؟! كيف يجهلون؟! والله الذي لا إله غيره! لا نجاة لهذه الأمة مما هي فيه وما هو متوقع لها إلا أن تعود إلى الكتاب والسنة فقط؛ لأن اجتماع أهل القرية كل ليلة في مسجد جامع بنسائهم وأطفالهم ورجالهم يتعلمون الكتاب والحكمة، فتمضي سنة لا يبقى بينهم من يزني أو يطلب حراماً أو يشرب محرماً أو يمد يده للسرقة أو يسب أو يشتم مؤمناً، والله! لا يبقى، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، من يرد على الله؟ أما الجهلة بالله فكيف يهتدون؟ كيف يستقيمون؟

تفسير قوله تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ...)

وها نحن مع سورة يونس بن متى عليه السلام، ونودعها ونحن في آخر آياتها، سورة يونس بن متى مكية نزلت بمكة، والسور المكية تعالج العقيدة، أهم أركانها التوحيد: لا إله إلا الله، والنبوة: محمد رسول الله، والبعث الآخر وما يتم فيه من الجزاء إما بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم، وذاك الجزاء هو ثمرة هذا العمل، فالناس ما بين مؤمن وكافر، وبار وفاجر، ومستقيم ومعوج، والجزاء يكون كذلك، أهل الإيمان والتقوى في دار النعيم، وأهل الكفر والشرك والفجور في دار البوار في جهنم والعياذ بالله، حقائق ثابتة أكثر من ثبوت الشمس.

وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:98-100].

إسلام قوم يونس بعد معاينة أمارات العذاب

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس:98]، ما المراد بالقرية؟ هذه قرية يونس بن متى، وتسمى: نينوى، وهي من جهة العراق والشام، قريبة من الموصل، هذه القرية سكانها الآشوريون واليهود، والمراد من القرية: المدينة، اصطلاح القرآن شيء، واصطلاح الجغرافيين الخابطين شيء آخر، القرية: المدينة الجامعة للدولة والأمة، والقري: هو الجمع، ويكفينا أم القرى مكة.

هذه القرية المسماة بنينوى فيها سكان من اليهود والآشوريين، وفجروا وفسقوا وخرجوا عن طاعة الله، وانتشر فيهم الشرك والبدع والضلالات، فأرسل الله تعالى إليهم نبيه ورسوله يونس بن متى عليه السلام، وهو من أنبياء بني إسرائيل، فلما جاءهم دعاهم إلى الله لأن يتخلوا عن الفجور والشر والفساد، وأن يعبدوا لله وحده، فضحكوا وسخروا؛ لأنهم تشبعوا بالباطل والشر، وتضلعوا، والشخص إذا فسق وفجر وتوغل يضحك ويسخر من الدعوة إلى الله، فما كان منه إلا أن توعدهم بالعذاب الأليم، عذاب الخزي في الدنيا قبل الآخرة، وخرج بالليل هارباً من ديارهم بدون إذن من ربه، فما وفق في هذا، ما استأذن، وقومه ما إن شاهدوه حتى قالوا: الآن ينزل العذاب؛ لأنهم يعرفون صدقه وما يخبر به وكيف يتم كما هو، فعلموا أن العذاب قد ينزل، وقد تكون لاحت لهم بعض العلامات، فما كان منهم إلا أن فرقوا بين النساء والأطفال، بين الحيوانات ذكرانها وإناثها صغارها وكبارها، وضجوا كلهم ضجة واحدة: يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت، ارفع عنا العذاب، فرفع الله تعالى عنهم العذاب، وبودي أن تحفظوا هذه الدعوة عندما تصابون بالكرب أو بالغم أو الهم، ومن هو الذي يخلو من ذلك، فيفزع إلى الله بهذه الدعوة: يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت ارفع عنا العذاب أو اكشف عنا الضر؛ حسب حالك وما أنت فيه، يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت فارفع عنا العذاب، وما زالوا يصرخون بها والمدينة كلها تبكي وتصرخ حتى تقشع العذاب وزال.

ذكر ما كان من يونس عليه السلام بعد إعراض قومه

أما يونس عليه السلام فقد سافر، ووجد سفينة في الطريق على شاطئ البحر الأحمر أو بحر القلزم، فركب، فلما ركب السفينة وانطلقت في عرض البحر قال ربانها: إن الحمل ثقيل معشر الركاب، فستغرقون كلكم أو واحد منكم، لا بد من تخفيف حملة السفينة. فقالوا إذاً: من يتبرع بنفسه؟ لا أحد. إذاً: القرعة والاستهام، فاستهموا فوقعت القرعة على يونس بن متى، فأخذوه من يديه ورجليه فألقوه في البحر، فصدر أمر الله تعالى إلى سمكة من أعظم السمك ففتحت فاها فدخل مع الماء في بطنها، وأصبح في ثلاث ظلمات، وعرف أنه أذنب فأخذ يردد: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، ما زال يرددها حتى استجاب الله تعالى له، وأمر السمكة أن تقذف به على شاطئ البحر، ولما خرج إلى الأرض وقد نضج لحمه من حرارة باطن الحوت أمر الله شجرة تسمى عندنا: الدباء المدنية، فقامت فكانت كالمستوصف العجيب، وإلى الآن ورقها ناعم، فلا يقع الذباب ولا البعوض عليها، وسخر الله تعالى له غزالة تنحدر من بعيد فتقف عليه فترضعه، واستمر في هذا المستشفى الرباني حتى شفي، وعاد إلى قومه ففرحوا وهللوا وكبروا وهلل هو وكبر مثلهم، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة اليقطين -واليقطين: الدباء-: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:139]، شهادة بأنه رسول الله، وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:139-148]، هذا كلام الله، من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرف هذا؟ لم ما عرفه العرب كلهم؟ هذا وحي الله عز وجل، هذا تقرير أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس:98]، فهلا كانت قرية آمنت، والآية تهز أهل مكة وتحركهم، تقول: آمنوا، أسلموا، صدقوا قبل أن تنزل بكم الكوارث ويحل بكم الخزي والعار، فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا [يونس:98]، اللهم إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ [يونس:98] في الخيرات والبركات إلى آجالهم، هذه هي المدينة الوحيدة التي آمن أهلها عن آخرهم قبل أن ينزل بهم العذاب، ونجاهم الله عز وجل، أما عاد، أما ثمود، أما مدين فقد أصروا على الكفر والعناد والشرك والباطل حتى نزل العذاب فلم يبق منهم أحداً، إلا من آمن وخرج مع نبي الله هارباً.

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ....)

ثم قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، هذه الجملة تقال لرسول الله الحزين المتألم الذي بذل كل طاقاته وكل جهوده من أجل أن يؤمن أهل مكة من قريش، فما آمنوا، ثلاث عشرة سنة والمؤمنون قليل، ثلاث عشرة سنة وهو يبكي ليل نهار، فيسليه الله عز وجل ويصبره ويعزيه ويقول له: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ [يونس:99] يا رسولنا لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، لو أراد الله أن يؤمنوا فهل سيخرجون عن طاعة الله وهو الذي إن قال: كن للشيء كان؟! لو قال: آمنوا أمر تكوين لآمنوا أجمعون، ولكنه يأمر أمر التشريع لا أمر التكوين، لماذا؟ لأن هذه الحياة لها سر، ولها حكمة، ما وجدت إلا لتلك الحكمة وذلك السر، أراد الله أن يذكر ويشكر، فأوجد هذا العالم، وأوجد هذه البشرية، ثم كتب في كتاب المقادير أن من أطاعه وعبده فزكت نفسه يدخله دار السلام، ومن عصاه وفجر وخبثت نفسه يدخله دار البوار.

وكانت الرسل ترسل والكتب تنزل، والناس أحرار فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ليس هناك إكراه أبداً على الإيمان، ولا يكره أحد أحداً على الإيمان، وإنما يأمره فقط وينهى، والرسول كم حاول مع أبي طالب أن يسلم؟ وعند وفاته واحتضاره قال: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله )، ما قالها، فمن ثم اقرءوا قول الله عز وجل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، ما هو شأنك هذا، ما أنت بأهل لذلك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أَفَأَنْتَ [يونس:99] يا رسولنا تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا [يونس:99]؟ ما تستطيع، القلوب بيد الله عز وجل، وكتاب المقادير مضى، هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار، فأهل الجنة يسرعون إلى الإيمان بمجرد دعوة فيؤمنون ويستقيمون، وأهل النار تعرض عليهم الدعوة وتلازمهم وتصيح في وجوهم فما يؤمنون؛ لأنه مكتوب عليهم أنهم من أهل جهنم، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)

ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس:100]، ليس من شأن أي نفس شريف، وضيع، غني، فقير، في الأولين، في الآخرين، في مكة، في باريس، ما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا أذن الله لها بذلك.

إذاً: فهيا نطلب الإيمان منه ما دام لا إيمان إلا بإذنه، هيا نرفع أكفنا إليه: اللهم آمنا وأمنا يا رب العالمين.

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ [يونس:100]، العذاب الوسخ، على من؟ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100]، من هم الذين لا يعقلون؟ الذين ينغمسون في الزنا واللواط والفجور والخمر والحشيش وعقوق الوالدين وترك الصلاة، أهؤلاء عقلاء؟ هل رأيت عاقلاً يأتي إلى حوض كله بول وعذرة ويغمس نفسه فيه؟ أهذا يفعله أحد؟!

فوالله! للذي يرمي نفسه في الزنا أقبح من ذاك الذي يرمي نفسه في العذرة؛ لأن البول ما يتعلق بقلبه وروحه، بل جسمه فقط يتسخ فينظفه ويغسله، ولكن إذا فجر أو كفر أو أشرك وتلطخت نفسه فمن يغسلها؟ ما هي اليد التي تغسلها، اللهم إلا الله، وذلك بأن يتوب إلى الله، يرجع رجوع الصدق بالبكاء وذرف الدموع، وقيام الليل وصيام النهار، حتى يزول ذلك الأثر السيئ.

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ [يونس:100] على من؟ يصبه على من؟ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100]، الذي ما يعقل بأنه مخلوق مربوب، وأن له قطعاً خالقاً رباً ثم لا يذكره ولا يعبده أهذا عاقل؟

والمثال الذي بينته أوضح من هذا، ذو العقل ذاك الذي يعقل نفسه دون المهالك، دون المعاطب، دون الشر والمفاسد، صاحب العقل، والعقل مأخوذ من عقال البعير، فإن كان لك عقل فعقلك يعقلك دون الذنوب والآثام، ولا يسمح لك بأن تتورط وتتوسخ فتنتن وتعفن بعدما كانت نظيفاً طيباً طاهراً، ولكن لا يعقلون، فعلى من يصب الله الرجس؟ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100].

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

أعيد تلاوة الآيات فتأملوا يا دارسي القرآن الكريم: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ [يونس:98] بالحياة الطيبة إِلَى حِينٍ [يونس:98] آجالهم، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ [يونس:99] يا رسول الله، أيها المستمع والسامع، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، ولكن جعل الإيمان يعرض على النفوس فمن قبله واستقام أسعده، ومن رفضه وتركه أشقاه وأخزاه، امتحان وابتلاء، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، ليس من حقك هذا يا رسول الله، قلت لكم: أبو طالب عمه كان على فراش الموت، فقال له: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )، فقال: هو على ملة عبد المطلب، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآيات تذهب حزنه وألمه.

فما على الداعي إلا أن يصبر على الدعوة، لا يكرب ولا يحزن، ولا يقل: ما استجاب الناس لي، ما قبلوا دعوتي ويرفضها ويهرب كما هرب يونس وهو نبي ورسول، يجب أن يثبت حتى الموت وهو يدعو إلى الله عز وجل، ولا يحزن ولا يكرب، وإذا أصابه كرب أو حزن فليرجع إلى هذه الآيات ليعالج بها نفسه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:100]، نعوذ بالله من الذين لا يعقلون، كيف نخالطهم أو نجالسهم أو نعايشهم وهم لا عقول لهم؟ يأكلون الباطل ويشربون الحرام، ويفعلون الجرائم، هؤلاء هل لهم عقول؟

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

إليكم هداية الآيات المستنبطة من هذه الآيات الثلاث فتأملوا.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ [يونس:98]، يحث قريشاً وأهل مكة على ذلك: فهلا آمنوا كما آمن قوم يونس؟

[ ثانياً: قبول التوبة قبل معاينة العذاب ]، قبول التوبة قبل مشاهدة العذاب، فقد كنا مع فرعون لما غرق وغرغر قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، قال جبريل: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]، وأبو القاسم صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي قال: ( تقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فقوم يونس فهموا أن خروج نبيهم وشروده سوف يسبب هلاكهم فأعلنوا عن توبتهم نساءً ورجالاً قبل مشاهدة العذاب.

قال: [ قبول التوبة قبل معاينة العذاب، ورؤية العلامات لا تمنع من التوبة ]، مجرد علامات كالمرض الشديد هذا ما هو حقيقة رؤيته ملك الموت، ولا يمنع المريض مرضاً شديداً أن يتوب، لكن إذا غرغرت وشاهد ملك الموت أغلق باب التوبة.

[ ثالثاً: إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبداً ]، إذا أراد شيئاً وقال له: كن؛ فلا بد أن يكون، سماء كان أو أرضاً أو ما كان، [ وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف ]، أما أمرنا بأن نقيم الصلاة؟ وهذا تشريع، وفينا من لا يصلي، ومعنى هذا: أن إرادة الله نوعان: إرادة تكوينية، وهي التي إذا أراد الشيء وطلبه فيكون ولا بد، وإرادة تشريعية امتحانية ابتلائية يبتلي عباده فيقول: أطيعوني تسعدوا، وإن تعصوني تشقوا، ويبين لهم طريق السعادة وطريق الشقاء، يبين لهم ما يفعلون وما يتركون، فإن ركبوا أنفسهم وتركوا ما أمرهم وفعلوا ما نهاهم عذبهم وأشقاهم.

قال: [ إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبداً، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف ]، ها هي أمة الإسلام مأمورة بترك الزنا والربا والخمر والكذب، وها هي تفعله إلا من رحم الله، إلا من نجى الله عز وجل.

[ رابعاً: لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه، فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا؛ لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلاً وقضى به ]، لا بد أن يتم، فيستمرون على كفرهم باختيارهم وإرادتهم.

والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة يونس (31) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net