إسلام ويب

من حكمة الله عز وجل ورحمته بعباده أن قدر مقادير الأشياء بميزان، وجعلها تسير وفق نظام لا ينخرم، وجدول زمني لا ينحرف، ومن ذلك تقديره لحركة الشمس والقمر والأفلاك، وتعاقب الليل والنهار، وما في ذلك من المنافع الدنيوية التي تعود على البشر، في إحصاء الأيام، وضبط الشهور والأعوام.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة يونس المكية المباركة الميمونة، وقد علمنا أنها -كغيرها وكأخواتها من المكيات- تعالج العقيدة: التوحيد، إثبات النبوة، تقرير المعاد والجزاء فيه على الكسب في هذه الحياة.

وها نحن مع هاتين الآيتين، فهيا بنا نستمع تلاوتهما مجودة مرتلة، ثم نتدارسهما إن شاء الله تعالى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:5-6]. اللهم اجعلنا منهم.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس:5].

قوله تعالى: هُوَ [يونس:5]، أي: الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، الذي يجب الإيمان به، والإيمان بتوحيده، وأنه لا إله إلا هو، كما يجب الإيمان بكل ما أمر عباده أن يؤمنوا به من الغيب والشهادة، لا سيما الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر ونظامه، هو لا غيره، لا اللات ولا العزى ولا مناة ولا عيسى ولا مريم ولا العزير ولا موسى، أين غير الله يشارك الله في الكون والخلق؟ بل هو وحده المتفرد بذلك.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً [يونس:5]، من خلق الشمس؟ هل أمهاتنا وآباؤنا؟ هل أجدادنا الساميون؟ من خلق الشمس؟ إنه الله تعالى. لتطأطئ البشرية رأسها وتقول: الله.

وجاء العلمانيون والملحدون والبلاشفة يتخبطون وعجزوا أن يثبتوا خالقاً غير الله عز وجل، هُوَ [يونس:5] لا سواه الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً [يونس:5]، هذه الشمس من أكبر النعم، دعنا من مادة الحرارة فيها وما تفيد به الخلق، لكن كونها تضيء الكون، لو كانت الحياة كلها ظلاماً فكيف سنعيش؟ فضوء الشمس هو ضوء هذه الأكوان، وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس:5]، والنور ليس هو الضياء، هو أقل مستوى منه، فهو ينير الأرض إذا لاح وظهر، ولكن الشمس تضيء الكون كله.

معنى قوله تعالى: (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب)

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس:5]، ومنازل القمر ثمان وعشرون منزلة، ينتقل من منزلة إلى أخرى بالثانية وبالدقيقة، ويبقى يومان قد يظهر فيهما المحاق وقد لا يظهر، وهما التاسع والعشرون والثلاثون، فمن قدر هذه المنازل وأنزله فيها بهذه الطريقة، هل أيدي البشر؟ فكيف يجحد الله تعالى؟!

ومن أجل ماذا فعل الله هذا؟ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، لنعرف السنين، يقال: كم سنة في عمرك يا هذا، كم عشت، لكم سنة استأجرت هذا المنزل؟ لولا القمر فهل سنعرف السنة ونعرف الزمان كيف هو؟ دائماً هو لون واحد تطلع فيه الشمس وتغيب، لكن القمر قدره منازل لعلة ولحكمة من أعظم الحكم: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، والحساب ما هو؟ تأجير، استئجار، بيع، شراء، كيف نعرف الحساب لولا القمر نعرف به الشهور؟

ثم هذه الشهور القمرية هي شهور العبادة والطاعة، وفزنا بها وفقدها الملاحدة والعلمانيون، فها نحن نصوم رمضان في الصيف ونصومه في الشتاء وفي الربيع والخريف؛ لأنه يدور بدوران العام، وفي الحج نحج في الشتاء ونحج في الصيف، وهكذا نعمة الله عز وجل تتجلى في منازل القمر، وأن هذه العبادات مرتبطة بالقمر لا في الشمس: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5].

معنى قوله تعالى: (ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)

ثم قال تعالى: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس:5]، لا لهواً ولا باطلاً ولا عبثاً، بل أحق به الحق، أي: من أجل مصالح البشرية والعباد، ما يخلق شيئاً عبثاً أبداً، بل ليحق به الحق ويبطل به الباطل.

إذاً: فكيف يكفر الكافرون ويجحد الجاحدون وهذه الآيات بين أعينهم؟ ما خلق الله القمر والشمس والضياء والنور إلا لحكم عالية، لمصالح البشرية وهدايتها وفوائدها، فكيف لا تشكر ربها على ذلك، ويا عجباً كيف تكفره؟!

مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس:5]، ثم قال تعالى: يُفَصِّلُ الآيَاتِ [يونس:5] ويبينها كما تسمعون، آياته مبينة مفصلة، من فصلها؟ هو، من أجل ماذا؟ من أجل هداية عباده، ولكن حصل الانتفاع بها في الذين يعلمون؛ إذ قال تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].

أهمية العلم بالله تعالى في القيام بعبادته

ولهذا نعود إلى تقرير تلك الحقيقة، وهي أن العالم حي والجاهل ميت، العالم يعي ويفهم ويعرف ويأخذ ويعطي، والجاهل مغمور في ظلمة جهله لا قيمة له ولا وزن، ومعنى هذا أنه يجب على البشرية أن تتعلم، ومبدأ العلم هو أن نعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته معرفة تملأ قلوبنا نوراً وأبصارنا نوراً وألسنتنا ومنطقنا نوراً، فكيف نعرف الله؟

نعرفه بهذه الآيات التي نصبها دالة عليه هادية إليه تعرف به، انظر فقط إلى وجودك أنت، قبل كذا سنة ما كنت موجوداً فكيف وجدت؟ وعما قريب ترحل، فإلى أين تذهب؟ من فعل بك هذا؟ أمك أم أبوك؟ انظر إلى سمعك كيف تسمع، كيف تبصر، كيف تنطق؟ من فعل هذا؟ إن الذي فعل هذا عليم حكيم، عزيز قدير، يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد، رب عظيم، والذين يعلمون هم الذين ينتفعون بهذه الآيات وبتفاصيلها في هذا الكتاب الكريم: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].

ثاني معرفة: أن تعرف ما وعد الله به أولياءه وما توعد به أعداءه.

ثالث معرفة: أن يحمل ذلك الإيمان وتلك المعرفة على أن تطلب محاب الله وتتعرف عليها لتقوم بها؛ طلباً لحب الله عز وجل، فتعرف ما أحل وما حرم، وما أمر به وما نهى عنه، وهذا ينتجه لك إيمانك ومعرفتك به وبما عنده وما لديه: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، وهذا فيه ذم للجاهلين، وما هبطت أمة الإسلام إلا بعد أن جهلوها وأبعدوها عن نور الكتاب والسنة فضلت فهي حيرى تتخبط، ومع هذا ما عرفنا بعد، والله! لا نجاة من المحن، لا نجاة من الفتن، لا نجاة من البلاء والشقاء في الدنيا قبل الآخرة إلا بالعودة والرجوع الصادق إلى الكتاب والسنة حتى يبقى كل مؤمن ومؤمنة على علم بربه ومحابه ومكارهه، ولكن ما زلنا غافلين معرضين.

تفسير قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون)

دلالة اختلاف الليل والنهار على وحدانية الله تعالى

ثم قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [يونس:6]، مختلفان: هذا ليل، وسيجيء نهار، واختلافهما حيث يجيء الأول ويأتي بعده الثاني، واختلافهما من حيث إن هذا طويل وهذا قصير، يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل، فالآن النهار أطول من الليل، جزء من الليل دخل في النهار، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61]، من يقوى على اختلاف الليل والنهار؟ أتستطيع ذلك الأصنام، أتستطيع العقول الفهوم والأفكار والحمقى والضلال أن يولجوا الليل في النهار ويولجوا النهار في الليل؟ أو يوقفوا إدخال هذا في هذا، أو يتركوا الليل دائماً والنهار دائماً؟ من يقوى على هذا؟ لا أحد يقوى على ذلك سوى الله تعالى، فهيا نسأل عنه حتى نعرفه، إنه الله رب السماوات والأرض، منزل الكتاب، ومرسل الرسل، والموحي بكتابه وشرعه إلى رسله، له مائة اسم إلا اسماً، وهم لا يعرفون من أسماء الله شيئاً.

دلالة الخلق المبثوث في الأكوان على وحدانية الله تعالى

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:6]، هيا ننظر إلى الكواكب التي تدور في السماء، وما فوق السماء من خلق لا يعلمه إلا الله، ننظر فقط إلى المخلوقات في الأرض من الحيوانات على اختلافها وتنوعها، من النباتات والأشجار، من المياه والأحجار، من الإنس والجان؛ هذه المخلوقات من خلقها؟ هل روسيا أو اليهود؟ لم يبق إلا أن نقول: الله.

إذاً: لا يعبد إلا الله، ومن عبد غير الله فقد جهل وأخطأ وضل وهلك وخسر الخسران الأبدي، هيا نعبد الله، وكيف نعبده، أي: كيف نطيعه؟

نكون أذلاء بين يديه، محبين له، محبين لما يحبه، لا بد من معرفة هذه العبادة التي نعبده بها، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف كيف يعبد الله حتى يؤلهه ويوحده.

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:6] من كائنات على اختلافها وعظمتها وتنوعها، ولننظر فقط إلى الشمس، فهي أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة، وعد الحصى في الجبال وفي الأودية ولن تعد الكواكب في السماء، فما هذا الخلق؟!

انتفاع المتقين بهداية الآيات الكونية

آيات بينات واضحات هاديات، لكن تهدي المتقين، أما الفجرة فلا تهديهم، أما الظالمون، أما الفاسقون فهم عميان لا يبصرون ولا يشاهدون، يعيش أحدهم ألف سنة ما يفكر في الحوت كيف خلق، ومن خلقه؟ ولم خلقه؟ ما يفكر في نخلة لم تطلع وتثمر؟ من فعل هذا؟ أبداً لا يفكر؛ لأنه كافر فكيف يتقي؟ أما المتقون فهم المؤمنون العالمون، فالمتقي هو المؤمن العالم بمحاب الله ومكارهه، وبذلك اتقاه.

آمن به فخافه وخاف عقابه، وطلب لقاءه ومودته، وعرف ما يحب وما يكره، ففعل محبوب الله وترك مكروهه، فبذلك اتقى سخط الله وعذابه وعقابه، فكان من المتقين.

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:6] في هذا كله لَآيَاتٍ [يونس:6] جمع آية، أي: علامة تدل على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن لقاء الله حق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الحساب والجزاء حق، وأن فناء هذه الدنيا حق.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

نسمعكم شرح هذه الآيات كلها لتزدادوا علماً ومعرفة، وتأملوا، وقبلها أسمعكم الآيات:

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:3-6].

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ معنى الآيات:

هذه الآيات في تقرير الألوهية ] ألوهية الله [ بعد تقرير الوحي وإثباته في الآيتين السابقتين ] من أول السورة، [ فقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ [يونس:3] هذا إخبار منه تعالى أنه عز وجل هو رب أولئك المشركين به آلهة أصناماً يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئاً، أما الله فإنه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه؛ إذ لم تكن يومئذ أياماً كأيام الدنيا هذه، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر أمر السماء والأرض، هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه.

وقوله تعالى: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3] أي: وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له، فكيف -إذاً- تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟

وقوله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [يونس:3] أي: هذا الموصوف بهذه الصفات المعرَّف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق، فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات ]، اعبدوه [ تكملوا وتسعدوا.

وقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس:3] هو توبيخ للمشركين، يقول لهم: لم لا تتعظون بعد سماع الحق؟

وقوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [يونس:4] أي: بعد موتكم، جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [يونس:4] تقرير لمبدأ البعث الآخر، أي: إلى الله تعالى ربكم الحق مرجعكم بعد موتكم جميعاً؛ إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه.

وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ [يونس:4] أي: بالعدل ]، هذا الكلام [ بيان لعلة الحياة بعد الموت؛ إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل، فلذا كان البعث واجباً حتماً لا بد منه ولا معنى لإنكاره؛ لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ [يونس:4] أي: ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته، وَعَذَابٌ أَلِيمٌ [يونس:4] أي: موجع، هذا إخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة، وهو علة أيضاً للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء، وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحي، إذ على هذه القضايا تدور السور المكية كلها.

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً [يونس:5] أي: ذات ضياء، وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5] أي: ذا نور، وقدر القمر منازل وهي ثمان وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر، فعل ذلك لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، فتعرفون عدد السنوات والشهور والأيام والساعات؛ إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك، فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه، فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له.

وقوله تعالى: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس:5] أي: لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثاً فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك، بل ما خلق ذلك إلا بالحق، أي: من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه، وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضاً.

وقوله: يُفَصِّلُ الآيَاتِ [يونس:5] أي: هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5] إذ هم الذين ينتفعون به، أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان.

وقوله تعالى في الآية الأخيرة: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [يونس:6] أي: بالطول والقصر والضياء والظلام، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:6] من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار، وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال ووهاد لَآيَاتٍ [يونس:6] أي: علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق، وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه، فيُعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته والخشية منه غاية الرهبة والخشية، ويذكر فلا يُنسى ويشكر فلا يُكفر ويطاع فلا يُعصى.

وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6] خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته ]، خصهم بذلك [ لأنهم هم الذين حقاً يبصرون ذلك ويشاهدونه؛ لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم، أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئاً والعياذ بالله تعالى ].

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ هداية الآيات

من هداية الآيات:

أولاً: تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق ] ولا إله غيره.

[ ثانياً: تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.

ثالثاً: بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما ] لصالح البشر.

[ رابعاً: مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين ]، دلت الآية على جواز تعلم علم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين.

[ خامساً: فضل العلم والتقوى وفضل أهلهما من المؤمنين ].

نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، أي: من العلماء والمتقين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة يونس (3) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net