إسلام ويب

الأخلاق السيئة والخصال الذميمة تورد صاحبها موارد الهلكة، فتحمله على الظلم والعدوان، ومن أسوأ الخصال خصلتا الكبر والحسد، وهما الخصلتان اللتان بهما أخرج إبليس من الجنان، فقد استنكف عن السجود لآدم بأمر الله عز وجل، فاستحق الطرد والإبعاد، وعند ذلك استنظر ربه البقاء إلى يوم المعاد، ليغوي من قدر له من العباد، فالحذر الحذر من خطواته، والتحرز من وسوسته ونزغاته.

المواضيع التي عالجتها السور المكية

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:75-88].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، الآية.

وأعيد إلى أذهانكم أن السور المكية التي نزلت بمكة تعمل على إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، يصبح صاحبها حياً كامل الحياة، يسمع ويبصر، وينطق ويعطي ويأخذ، ويذهب ويجيء، وفاقد هذه الحياة ميت، ولا أدل على ذلك من أن أهل الذمة في ديار المسلمين لا يؤمرون بصلاة ولا صيام، ولا زكاة ولا حج ولا جهاد؛ وذلك لأنهم موتى، فإن نفخ في أحدهم الروح وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فقد حيا، ويؤمر بالاغتسال على الفور، ويدعى إلى الصلاة، ويؤمر بالصيام، وغيرها من شرائع الدين؛ وذلك لكمال حياته، وأما وهو ميت فلا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف. ‏

أعظم أركان الإيمان

أعظم أركان الإيمان التي بها تكون الحياة حقاً هي: التوحيد، والنبوة، والبعث الآخر. فيغترف أنه لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا الله، وأن يؤمن برسالة محمد رسول الله، وأن يسير وراءه، وأن يحبه أكثر من نفسه، وأن يطيعه في أمره ونهيه، وأن يؤمن بالبعث الآخر يوم القيامة، وما يجري فيه من الحساب والجزاء، والإيمان بيوم الدين هو الذي يساعد الإنسان على الطاعة ويقويه على العمل الصالح، والذي لا يؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه، والحساب على عمله والجزاء به فهو ميت، وهو شر الخلق وشر البرية، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أي: الخليقة. ولنصغي مستمعين إلى ما في هذه الآيات من تقرير النبوة المحمدية، وأنه لا إله إلا الله، وأن البعث الآخر حق، والجزاء فيه لا بد منه.

تفسير قوله تعالى: (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لمن خلقت بيدي ...)

قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ [ص:75]! القائل هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، فقد قال لإبليس: يا إبليس! بعدما أبلسه، أي: أيئسه من الخير، فانمسح منه بالكلية، فلا يوجد فيه خير أبداً، ولهذا قيل فيه: إبليس، وأبلس بمعنى: أيس من الخير.

وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]؟ أي: أي شيء منعك أن تسجد لآدم، وقد خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، وهو عبدي، وأمرتك بالسجود له، وأمرت الملائكة كلهم بالسجود له، فسجدوا كلهم في السماء والأرض. فأي شيء منعك؟ وحقاً لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه وأصبح بشراً أمر الملائكة في السماء والأرض أن يسجدوا له، فسجدوا سجود تحية، لا سجود عبادة، بل العبادة لمن أمر فأُطيع، وأما المسجود عنده وإليه فهو من باب إكرام الله تعالى له فقط. وقد ذكرت أننا نسجد لله تعالى خلف مقام إبراهيم بعد الطواف، وليست تلك عبادة للمقام، وإنما العبادة لله الذي أمرنا بقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. لكن المقام الذي هو الحجر لما قدم من الخير وصنع من المعروف اعترف الله له بذلك، وأمر عباده أن يسجدوا عنده؛ إذ كان هذا الحجر كأنه هو الذي ساعد إبراهيم على إكمال البيت، فإن إبراهيم كان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، فلما ارتفع البناء جيء بهذا المقام يعلو فوقه، حتى أكمل البناء، فمن ثم أكرمه الله بالصلاة عنده.

وقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فيه إثبات اليدين لله، ولنعلم ولنعتقد أن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وأن سمعه وبصره ويده ليست كهذه المخلوقات أبداً، ولن تكون مثلها أبداً؛ لأنه خالقها، فنؤمن بيدي الله، ولكن نبرئ الله أن تكون يده كيد فلان أو فلان، وإن خطر ببالك هذا فانزعه تماماً من نفسك، وآمن بما أخبر تعالى به عن نفسه.

ثم قال له موبخاً مؤدباً: أَسْتَكْبَرْتَ [ص:75]؟ أي: يا إبليس! أحملك الكبر على ألا تسجد؟ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص:75]؟ أي: أم أنك من أصحاب المقامات العالية والدرجات الرفيعة التي لا تنزل إلى هذا المستوى وتسجد لآدم، ووالله ما منعه إلا الكبر فقط.

تفسير قوله تعالى: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)

قال تعالى: قَالَ ، أي: إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص:76]، أي: أنا خير من آدم، فأنا مخلوق من النار وهو مخلوق من الطين، فأنا أفضل، وهذا القياس فاسد، والقياس مشروع عند الفقهاء والعلماء وأولي الفكر، ولكن ما كل قياس يقبل، بل يجب أن يكون قياساً صحيحاً نافعاً، وهذا قياس فاسد؛ لأن الطين ينبت أنواع الفواكه والخضار والمطاعم كلها، والنار تحرق، وليس الذي يحرق كالذي يحيي.

وقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، أذكركم بأن مادة الخلق ثلاثة: أولاً النور، وهو مادة خلق الملائكة، فهم مخلوقون من نور.

ثانياً: النار، وهي مادة خلق الجن على كثرتهم، فهم بالمليارات، فأصل خلقهم من النار.

ثالثاً: الطين، وهي أصل خلق البشرية.

تفسير قوله تعالى: (قال فاخرج منها فإنك رجيم)

قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77]، أي: اخرج من الجنة؛ فقد كان في الجنة مع الملائكة يعبد ربه، فأمر الله بأن يطرد منها

وقوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77]، أي: مرجوم مطرود بعيداً، فما دخلها بعد ذلك قط.

وهنا لطيفة علمية، وهي: كيف استطاع إبليس أن يصل إلى آدم وهو في الجنة، مع أنه قد خرج منها، ويوسوس له ويغره ويخدعه حتى أكل من الشجرة، وأبعد من الجنة؟ الروايات الإسرائيلية وغيرها تقول أموراً كثيرة، منها: أنه دخل في حية. والآن بعدما ظهرت هذه العجائب في الكون أصبح الإيمان بهذا شيئاً عادياً، فإنك قد تكون في بيتك ومع ذلك تتكلم مع آخر في بيت آخر، وقد تكون في المدينة المنورة ومع ذلك تتكلم مع آخر في المغرب العربي. إذاً: فلا مانع أن يكون آدم في الجنة وإبليس خارج الجنة، ومع ذلك وسوس له وغرر به وخدعه.

تفسير قوله تعالى: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين)

قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]. معنى لعنتي: أي: طردي وبعدي لك من الخير إلى يوم القيامة، فلا يرى خيراً أبداً، فهو في كل الأحوال ملعون، وها هم المؤمنون يلعنونه في كل حياتهم، كما في سورة الناس وغيرها من السور.

وقوله: إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]، المراد بيوم الدين هو يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب.

تفسير قوله تعالى: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون)

قال تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]، أي: ما دمت قد طردتني وأيئستني وأشقيتني إذاً فأنظرني وأمهلني حياً بينهم، أفعل الأعاجيب ببني آدم الذين بسببهم هلكت وشقيت.

وقوله: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]، يوم البعث هو النفخة الثانية، فالنفخة الأولى: نفخة الفناء وموت كل حي. والنفخة الثانية: نفخة البعث من القبور. فطلب من ربه أن يبقيه حياً حتى يبعث مع الناس، ولا يموت قبل ذلك أبداً.

تفسير قوله تعالى: (قال فإنك من المنظرين*إلى يوم الوقت المعلوم)

قال تعالى: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [ص:80]، أي: من الممهلين.

قال تعالى: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص:81]، أي: ليس إلى يوم يبعثون، ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم ينفخ إسرافيل نفخة الفناء، فيصعق كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان، فسأحييك إلى هذه النفخة تفعل ما شئت وما قدرت. أما إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79] فلا؛ لأنه يريد أن يبقى حياً دائماً، لا يموت أبداً إلى يوم البعث. فسيحييه الله إلى النفخة الأولى نفخة الفناء، وبينها وبين النفخة الثانية التي هي نفخة البعث أربعون سنة.

تفسير قوله تعالى: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين)

قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. فأقسم بعزة الله، وهذا مشروع عندنا، فلك أن نقسم بعزة الله، وبجلاله وبكماله، وبحياته وبقدرته؛ إذ لا يمين إلا بالله، ولا يجوز لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير الله، وللمؤمن أن يحلف بأسماء الله أو بصفاته، كما أقسم إبليس بعزة الله، والذين يحلفون بالنبي أو بالكعبة والقبلة أو بالطعام يجب عليهم أن يتوبوا قبل أن يموتوا، ومن يجري على لسانه الحلف بغير الله وهو لا يعنيه ولا يريده لكن اعتاده حتى أصبح يقول: والنبي كما هو حال كثير من المصريين فعليه أن يقول: لا إله إلا الله. وقد جاءني إلى هنا أحدهم فحلف بالنبي، فقلت له: لا تحلف بالنبي، فقال: والنبي ما أعود؛ وذلك لأنها ثابتة في لسانه. فمن كان يحلف بشيء واستقر في ذهنه وما استطاع أن يتخلص منه فالواجب عليه أن يقول: لا إله إلا الله، فإنها تمحو ذلك. فمن قال: والنبي أو والكعبة فليقل: لا إله إلا الله تمح ذلك. وقد كانوا في الجاهلية يحلفون باللات والعزى ومناة؛ لكون الواحد منهم عاش خمسين سنة يحلف بذلك، ولما يسلم من قريب كان إذا أراد أن يحلف قال: واللات أو والعزى، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله ) تمحها. ولا نشك أن من المسلمين من اعتاد الحلف بغير الله، والحل الوحيد هو أن يجتهد ألا يحلف بغير الله، فإن خرج منه يمين بغير الله فليقل: لا إله إلا الله؛ تمح ذلك الأثر، وينمحي ذلك الإثم.

تفسير قوله تعالى: (إلا عبادك منهم المخلصين)

قال تعالى: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83]، أي: إلا الذين استخلصتهم يا رب! لخدمتك وطاعتك، وعبادتك وولايتك، فهؤلاء لن أقدر عليهم. فالذين استخلصهم الله له ليعبدوه وحده ولا يشركوا به سواه وليطيعوه في أمره ونهيه لا يقوى الشيطان على إضلالهم وإفسادهم. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الذين استخلصتهم دون الناس لعبادتك وطاعتك، لا المخلصين الذين أخلصوا، ولكن الذين استخلصهم الله.

تفسير قوله تعالى: (قال فالحق والحق أقول)

قال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84]، أي: قال الرب تبارك وتعالى: أنا الحق، فالحق هنا خبر المبتدأ المحذوف. وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84]. ولا أقول غير الحق. وهذه اليمين عظيمة.

تفسير قوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين)

قال تعالى: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85]. فيا أيها الذين يتبعون إبليس ويجرون وراءه، فيحسن لهم الزنا والربا، فيزنون ويرابون، ويحسن لهم الأباطيل والكذب والخداع، فيخدعون ويكذبون، هذا وعيد الرحمن لكم الذي يقول فيه: وعزتي وجلالي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85]، أي: من أبيض وأسود، وعربي وعجمي، وجني وإنسي، في العهد الأول أو في العهد الآخر. فهيا بنا نطرد إبليس من بيننا، ولا نسمع لنداه، ولا نجيب دعاه، فإذا دعانا إلى ما حرم الله نعرض، وإذا دعانا إلى ترك واجب نعرض، ونلعنه لنصبح حقاً لسنا من أوليائه، والذين يستجيبون له يغرقهم في الذنوب والآثام؛ حتى يكونوا إخوة له في جهنم؛ إذ هو يريد أن يدخل معه البشر كلهم في جهنم، لأنهم السبب في هلاكه،

وهذه الآيات والتي سبقتها كلها تقرر أن محمداً رسول الله؛ إذ لو لم يكن رسول الله فلن يحدثنا عن السماء وما جرى فيها، فهو إنما حدثنا بهذه المواقف لكونه رسول الله يوحى إليه.

تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)

قال تعالى: قُلْ ، أي: يا رسولنا! لهؤلاء المشركين في مكة مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، أي: ما طلبت منكم بهذه الدعوة بأن أكون سيدكم، أو تكونوا خدماً لي، أو تكون أموالكم لي أبداً، فلا أريد منكم ديناراً ولا درهماً.

وقوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، أي: لها، بل أنا أتلقى الوحي من ربي وربكم، وخالقي وخالقكم، ولست ممن يدعون العلم وهم ليسوا بعلماء..

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين)

قال تعالى: إِنْ هُوَ [ص:87] أي: القرآن العظيم.

وقوله: إِلَّا ذِكْرٌ [ص:87]، أي: فليس بسحر ولا بشعر أبداً، وذلك لأنهم قالوا عن النبي: ساحر وشاعر، وغير ذلك.

وقوله: لِلْعَالَمِينَ [ص:87]، أي: أبيضهم وأسودهم، ومؤمنهم وكافرهم، وما من إنسان يسمع القرآن ويتأمله إلا ويسلم، وقل أن يسمع إنسان القرآن ويفهم معناه ويكفر، فهو ذكرى للعالمين إلى يوم الدين. ولهذا يبعدون عن سماعه، ويغلقون آذانهم حتى لا يسمعوه، فترى أحدهم يجلس فإذا تحدث مؤمن بآية قام ونهض من المكان، ولو سمع لتسرب القرآن إلى قلبه وهداه الله، وقد قالوا رسمياً وأعلنتها دولتهم في مكة: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ [فصلت:26]، أي: معشر المواطنين! وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، أي: إذا كان محمد يقرأ أو أحد من أصحابه فصيحوا وضجوا؛ حتى لا يسمع القرآن أحد.

تفسير قوله تعالى: (ولتعلمن نبأه بعد حين)

قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]، أي: والله وعزة الله وجلاله لتعلمن خبره العظيم وما دعا إليه وما طالب به من عبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسوله بعد حين، وتم لهم ذلك، فالذين صرعوا في بدر عرفوا الحقيقة، والذين هلكوا يوم الفتح عرفوا ذلك، وكذلك الذين ماتوا، فما إن تخرج روح الميت حتى يعرف الحقيقة، ويعرف أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات] الآن مع هداية الآيات:

[ من هداية هذه الآيات:

أولاً: ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما ] وقد حمل إبليس الحسد والكبر على ألا يسجد لآدم، فأدى به ذلك إلى اللعن والطرد من رحمة الله وإلى جهنم. إذاً: فلنجاهد أنفسنا، ولا نسمح أبداً لهذا الخلق أن يستقر فيها، ولنكن متواضعين متطامنين، ولتكن هذه حياتنا بلا كبر ولا حسد. فإن أعطى الله أحدنا مالاً قال: هذا فضل الله، وإن أعطاه علماً قال: هذا فضل الله، وإن أعطاه جمالاً قال: هذا فضل الله، ولنحمد الله عز وجل على ما وهب، ولا نحسد الموهوب، ومن أعظم الذنوب وأشدها الكبر والحسد، ويكفي أنهما تسببا في طرد إبليس ولعنه.

[ ثانياً: مشروعية القياس إن كان قياساً صحيحاً، وبيان أخطار القياس الفاسد ] فيجوز القياس بين أمر وأمر، لكن على شرط أن يكون القياس صالحاً نافعاً غير ضار، وأن يكون الذي يقيس على علم وبصيرة، وقياس إبليس فاسد، لأنه قال: آدم خلق من طين وخلقت من نار، ولن أسجد له؛ لأني خلقت من أفضل مما خلق منه. ولو تأمل لوجد أن الطين أفضل من النار؛ فإن النار تدمر وتحرق وتميت، والطين يحيي وينبت.

[ ثالثاً: مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه ] دل على هذا قول الله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82]. فإن فيها مشروعية الحلف بصفات الله تعالى، فإن إبليس قال: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82]. والعز وصف لله، ولكن لا ينبغي أن نحلف بغير الله أبداً ولو تقطع ألسنتنا.

[ رابعاً: بيان أن من كتب الله سعادتهم لا يقوى الشيطان على إغوائهم وإضلالهم ] فمن كتب الله سعادته في الأزل في كتاب المقادير فلن يقوى الشيطان على إضلاله وإفساده؛ لأن الله استخلصه له؛ ليكون في جواره في الملكوت الأعلى، فهو يحفظه من إبليس، فلا يستطيع أن يضله أو يفتنه أبداً.

[ خامساً: لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين ] فلا يحل لأحد أن يقول: إذا أردت أن أفتيك فأعطني كذا من الريالات، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ويا من يعرف الحق! إذا سئلت عنه فأجب وبينه، ولا تجحده ولا ترد من سألك عنه، ولا تقل: لا بد من منصب، أو مال، والحمد لله أنه لا يوجد عالم من علماء المسلمين يقول: أعطني كذا لأفتيك في كذا.

[ سادساً: ذم التكلّف المفضي إلى الكذب والتقول على الله والرسول والمؤمنين ] وقد ذم الشرع التكلّف والتصنع بدون علم، وقد يحاول البعض أن يصير عالماً وهو لم يصر بعد، فيفتي بدون علم، وأحسن ما يقول من سئل عن مالا يعلم: الله أعلم. فلا تتكلف، وتبدأ تبحث عن الأدلة وأنت عاجز عنها، ولكن قل: الله أعلم.

قال الشيخ في النهر غفر الله ولنا ولوالدينا أجمعين: [ التكلف: معالجة الكلفة، وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله؛ لعدم قدرته على ذلك، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سئل عما لا يعلم فليقل: لا أعلم ولا يتكلف، فإن قوله: لا أعلم علم ] وما دام أنه قال: الله أعلم فقد علم أنه لا يعلم، وأن الله أعلم منه [ وروي أن للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه ] فهو يحاول أن يعلو من هو فوقه أو أشرف منه [ ويتعاطى ما لا ينال ] أي: يحاول أن يعمل شيئاً فلا يحصل منه على شيء، فاعمل ما تستطيع تحقيقه والحصول عليه، وإلا كان عملك لهواً وعبثاً [ ويقول ما لا يعلم ] كأن يقول: حصل كذا وكذا وهو لا يعلم، فيكون قد كذب وافترى، والعياذ بالله.

[ سابعاً: ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل ] وقد عرفوا ذلك في بدر، وعرفوه في فتح مكة، وعرفوه في فتح الإسلام، وعرفوا أن الله أرسل رسوله بالحق، وأنه هو النبي الرسول.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة ص (10) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net