إسلام ويب

قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأدلة واضحة قوية، وبين حاجة العالم إليها لا سيما العرب، ثم بين سبحانه ما واجه به المشركون النبوة والنبي، وما مارسوه من التعنت والمجادلة بالباطل، وكفرانهم بهذه النبوة كما سبق وأن كفروا بنبوة موسى عليه السلام، وما حملهم على ذلك إلا اتباع الهوى والباطل.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:48-51].

تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإلهي

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لما قرر تعالى في الآيات السابقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأثبت رسالته بالنقل والعقل، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48]، أي: كفار قريش، أهل مكة ومن وراءهم من العجم، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48]، ألا وهو القرآن الكريم، الدين الإسلامي، النبوة المحمدية، قَالُوا [القصص:48]، حتى لا يؤمنوا ولا يهتدوا ولا يأخذوا بدين الله تعالى، لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى من قبل [القصص:48]؟ أي: لماذا لم يعط محمد مثل ما أعطي موسى من المعجزات كالعصا واليد وغيرها من المعجزات الخارقة للعادة؟ وقالوا هذا تنصلاً حتى لا يؤمنوا، وذلك لما بهرتهم النصوص وأعجزتهم واضطرتهم إلى أن يؤمنوا بأن محمداً رسول الله، وبالتالي لجئوا وهربوا إلى هذا المهرب، فقالوا: لو كان رسولاً فلمَ لا يُعطى كما أعطي موسى من قبل كاليد والعصا والمعجزات والآيات السبع الباقية؟ قالوا هذا حتى لا يؤمنوا، حتى لا يدخلوا في الإسلام، إذ إنهم لا يريدون أن يعبدوا الله وحده، وإنما مصرون على عبادة الأصنام والأوثان، وهذا إخبار الله تعالى عنهم.

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48]، أي: من عند الرب تبارك وتعالى، وهو الدين الإسلامي والقرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم حامل راية الإسلام، قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى [القصص:48]، من قبل، أي: لماذا ما أعطي محمد المعجزات الخارقة للعادة كالتي أوتيها موسى؟ لأنهم قد بلغهم عما أوتي موسى من المعجزات، والآيات قد بينت أن موسى قد أعطي العصا واليد وسبع آيات أخرى، وقالوا هذا القول حتى لا يسلموا، ما يريدون أن يقبلوا بالإسلام، وبالتالي فيبحثون عن المخرج، وفعلاً ظنوا أن هذا هو المخرج، فقالوا: لماذا يدعي النبوة ولم يعط مثل ما أعطي موسى من المعجزات؟ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطي ألف معجزة لا معجزة واحدة.

كفر المشركين بما جاء به موسى عليه السلام من قبل

ثم قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48]؟ والله لقد كفروا بما أوتي موسى من قبل، وذلك لأنهم قد اتصلوا باليهود بالمدينة، إذ إنهم قد بعثوا وفداً لهم وسألوا اليهود عن محمد صلى الله عليه وسلم هل هو حقاً رسول الله؟ هل هو نبي الله؟ فأجاب اليهود بأنه رسول ونبي لله تعالى، وصفاته كاملة وواضحة في التوراة على أنه رسول الله، ورجعوا بالخبر، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48]؟ والله لقد كفروا وكذبوا بما جاء به موسى من قبل، وسبب هذا هو عدم إقبالهم على الحق ورضاهم به، وهذه هي طبيعة الإنسان، إذ إنه إذا ما رضي بالحق يأتي من كل باب، ويدفع من كل شبهة، ولكن الله يفضحهم.

معنى قوله تعالى: (قالوا سحران تظاهرا)

فماذا قالوا؟ قَالُوا سِحْرَانِ [القصص:48]، أي: موسى ومحمد، وفي قراءة سبعية: (ساحران تظاهرا)، أي: تعاونا فقط، أو ما جاءا به هو السحر، وقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48]، أي: بالتوراة والإنجيل والزبور وعيسى والفرقان ومحمد صلى الله عليه وسلم، فلا نؤمن بشيء من ذلك، وإنما اتركونا على ما نحن عليه من عبادة الأصنام، وهذه هي الشهوات والأهواء والأطماع والتقليد الأعمى، إذ من لم يرد الله هدايته ما يهتدي أبداً، وهذا هو طبع الإنسان، قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ [القصص:48]، منهما، كَافِرُونَ [القصص:48]، فلا نصدق موسى ولا هارون ولا عيسى ولا محمد صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ [القصص:48]، منهم، كَافِرُونَ [القصص:48]، لا نصدق ولا نؤمن ولا نتبع، وهؤلاء هم كفار قريش في مكة، لكن شاء الله أن يؤمن أكثرهم ويدخل في رحمة الله تعالى، بينما أقليتهم ذهبوا إلى جهنم وبئس المصير.

تفسير قوله تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه...)

تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك

ثم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، أنا، إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49]، أي: جيئونا بكتاب كالتوراة يحمل الهدى والنور، أو كالقرآن الكريم يحمل الهدى والنور أتبعه، قل لهم يا رسولنا! فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى [القصص:49]، أي: من التوراة والإنجيل، أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49]، من أين لهم أن يأتوا بكتاب؟ يوحى إليهم؟! الكتاب هو القرآن الكريم وقد رفضوه، والكتاب هو التوراة وقد كذبوا بما فيها والعياذ بالله تعالى.

وقد سمعتم كيف كان يعاني رسول الله ويقاسي، إذ إنهم قالوا له: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48]، قل لهم يا رسولنا! فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [القصص:49]، كالتوراة أو كالإنجيل أو كالقرآن على أن يكون هو أهدى من التوراة والإنجيل، أي: أكثر هداية إلى الحق والكمال والسعادة والفوز في الدنيا والآخرة، أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، فلمَ أنتم لا تتبعون؟ لو جاءني كتاب من عند الله فأنا مستعد أن أتبعه، وهذا هو شأن المؤمن، أما المصر على الكفر والعناد والعياذ بالله ما يستجيب، إذ لو تقدم له الكتاب فإنه يسخر ويضحك، وهذا واضح فينا وبيننا، إذ المعاندون والمكابرون لا يقبلون الدليل أبداً، بل يرفضونه، وهذه هي طبيعة الإنسان إذا هبط.

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى منهما [القصص:49]، أي: من التوراة والقرآن، أَتَّبِعْهُ [القصص:49]، وأعمل به، إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49]، فيما تقولون فهاتوا هذا الكتاب، ما عندكم؟ إذاً هذا كتاب الله القرآن الكريم فلم ترفضونه وتبتعدون عنه؟!

تفسير قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم...)

اتباع الأهواء مانع من قبول الحق

ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، أنت قل لهم: هاتوا الكتاب أتبعه إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا قطعاً ولن يستجيبوا فمن أين لهم أن يأتوا بكتاب كالتوراة أو كالقرآن؟ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، إذ لا يتبعون عقولهم، ومعلوم أن العقل له قيمته، لكن لو كانوا يتبعون عقولهم والله لآمنوا وأسلموا، إذ هم في حاجة إلى الدين وإلى الإسلام، لكن هم منغمسون في الخبث والباطل، فجاءهم الحق فعموا عنه، وجاءتهم الأنوار فهربوا منها، فأين العقول؟ يتبعون أهواءهم وشهواتهم، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50]، يا رسولنا! فَاعْلَمْ [القصص:50]، يا رسولنا! أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، لا عقولهم.

ثم اسمع هذا الخبر الإلهي، إذ يقول الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ [القصص:50]، أي: لا أضل ممن يتبع هواه، بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، أي: لا تجد ضالاً في الضلال الحقيقي كالذي يعرض عن كتاب الله عز وجل، ويتبع هواه وما تمليه شهواته وشياطينه عليه، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى [القصص:50]، ونور، مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، عز وجل.

بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية

وأخيراً: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، وهذا هو التوقيع النهائي، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، والله العظيم كما أخبر الله أن الظالم المتوغل في الظلم والخبث والشر والفساد ما يهتدي أبداً، إذ ما قال تعالى: إن الله لا يهدي القوم ظالمين، وإنما قال: الظَّالِمِينَ [القصص:50]، أي: المتوغلين في الظلم والمبعدين فيه، فهيهات هيهات أن يرجعوا، وذلك كالذي يريد أن يسافر إلى الشام فيتجه جنوباً سنة كاملة وهو ماشٍ، فكيف يرجع؟! إن ضلاله بعيد والعياذ بالله.

والمراد بالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أبرز ذلك عبادة غير الله تعالى، ولذلك فإن الله خلقنا -واذكروا هذا- وخلق هذا الكون كدار الضيافة لنا، وأوجدنا فيها من أجل أن نذكره ونشكره والله العظيم، وأوجد الدار الآخرة فننتقل إليها واحداً بعد واحد، وذلك من أجل أن يجزي العاملين على عملهم، لكن الإنسان بدل أن يعبد الله عبد حجراً أو صنماً أو إنساناً أو جاناً أو شيطاناً، ومن ثم ترك عبادة الذي خلقنا من أجل أن نعبده! فأي ظلم أفظع من هذا الظلم؟ ولهذا جاء في القرآن الكريم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، إذ كيف تدعو من لا يسمع دعاءك؟ كيف تتقرب وتتملق وتتزلف إلى ميت لا يستجيب لك؟ كيف تضع أو تصنع صنماً وتعكف حوله؟ أين يذهب بعقلك؟ إن الشرك أفظع أنواع الظلم، ولهذا قال لقمان الحكيم في وصيته لولده: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ولعل الأبناء والإخوة ما فهموا عظم الشرك؟ قد قلت لكم: أنت مخلوق، والله قد أطعمك وسقاك، وحفظك ورعاك، وكل ذلك من أجل أن تعبده بذكره وشكره، فإذا تركت عبادته وذكره وشكره والتفت إلى مخلوق مثلك أو إلى صنم لتعبده فهذا من أفظع الظلم والعياذ بالله

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، أي: الظالمين المتوغلين في الظلم، وهذه حقيقة علمية عقلية، وذلك أن الشخص إذا لازم الباطل واستمر على فعله زمناً طويلاً فإنه يستحيل أن يعدل ويرجع عنه، فمثلاً: شخص تعوَّد خلال عشرين سنة على التدخين، فإنه لا يستطيع أن يترك التدخين؛ لأنه توغل فيه، أو شخص ابتلي بالربا أو بالزنا أو بالقمار، وفعل ذلك كثيراً، بل وطالت المدة، فإنه لا يستطيع أن يرجع، أو شخص ألِف التلفاز والشاشة بين يديه طول العام، فإنه لا يستطيع أن يتركها ويتخلى عنها، ومن هنا يجب أن نتوب إلى الله على الفور من كل ذنب حتى لا يتوغل ذلك في نفوسنا ونعجز عن طرده، فإن أذنبنا ذنباً نقول: نستغفر الله ونتوب إليه، فيزول ذلك الأثر، أما أن نذنب ثم نذنب ثم نذنب فسيصبح ذلك طبيعة من طبائعنا، وخلق من أخلاقنا، وعادة من عاداتنا، وهذا قد دل عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، أي: المتوغلين في الظلم العاملين فيه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون)

ثم قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، وهذا القول هو قول الله تعالى، أي: كتابه القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، فهذه كلها أقوال الله تعالى، وقد وصلها إليهم ووصلتهم، وهي تحمل المعاني وتبين الهدى، وتبين الترغيب والترهيب، والقصص والأعاجيب، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، لكن للأسف أبوا، فالذي يسمع القرآن الكريم من أوله إلى آخره كيف لا يؤمن؟ كيف لا يسلم؟ كيف لا يهتدي؟ كيف لا يتوب؟ إن القرآن قصص عجب، وفيه الترغيب والترهيب العجب، وفيه بيان الهداية والضلال، وفيه بيان الحق والباطل، وفيه بيان الخير والشر، وكل هذا واضح بين يدي هذا العبد، فكيف لا يهتدي هذا المخلوق؟!

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، فيرجعون إلى الله ويتوبون إليه ويعبدونه وحده ويتركون عبادة سواه، لكن الله لا يهدي القوم الظالمين، إذ قد توغلوا في الظلم وعملوا سنين طويلة في الشرك والكفر والفساد، وبالتالي فلا يرجعون إلا من شاء الله تعالى.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

إليكم شرح الآيات من الكتاب أيضاً.

معنى الآيات

قال الشارح: [ معنى الآيات: لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح، وبين حاجة العالم إليها لاسيما العرب، وذكر أنه لولا كراهة قولهم: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47]، لما أرسل إليهم رسوله، ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة ]، أي: ما واجه به المشركون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: [ فقال عنهم: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [القصص:48]، أي: محمد النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى [القصص:48]، أي: من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته.

قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48]، وذلك أن قريشاً لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الأول عن مدى صحة ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة، وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال، فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنوا كفرهم بالتوراة وقالوا: التوراة والقرآن سِحْرَانِ [القصص:48]، تعاونا فلا تؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما، وقرئ: (ساحران)، أي: موسى ومحمد عليهما السلام فلا نؤمن بهما، هذا معنى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48]، أي: بكل منهما كافرون، فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمداً أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات؟! يا للعجب! أين يذهب بعقول المشركين؟!

وقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [القصص:49]، أي: قل يا رسولنا! لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن، فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [القصص:49]، أي: أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن أتبعه، إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.

وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50]، أي: بالإِتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة، ومن أين لهم ذلك؟ إنه المستحيل! إذاً: فاعلم أنهم إنما يتعبون أهواءهم فيما يقولون وما يدعون، فلا عقل ولا نقل عندهم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]؟! اللهم إنه لا أضل منه، والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش.

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملاً بالمعاصي، فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبداً.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، أي: لقد وصلنا، أي: لهؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا! أي: وصلنا لهم القول بأخبار الماضين، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء، وكذبوا كما كذب هؤلاء، وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ [القصص:51]، مبيناً واضحاً موصولاً أوله بآخره؛ رجاء أن يتذكروا فيذكروا، فيؤمنوا ويوحدوا، فينجوا من العذاب ويرجوا رحمة الله ودخول الجنة ].

هداية الآيات

قال الشارح: [ من هداية هذه الآيات: أولاً: بيان تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإِلهي ]، بيان تناقض كل من يرغب عن الهدى ويبتعد عنه إلى يوم الدين، وبيان تناقض المشركين عن الهدى بسبب رفضهم، وكل من يرفض دين الله عز وجل ويعرض عنه فإنه يتخبط في حيرته.

قال: [ ثانياً: بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك ]، بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله تعالى، فقد طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتوا بكتاب فما استطاعوا، إذ مستحيل أن ينزل الله عليهم كتاباً وقد أنزله على نبيهم من أجل هدايتهم وإسعادهم وإكمالهم فكفروا به وأعرضوا عنه، والآن لا يستطيعون أن يأتوا بكلمة فضلاً عن كتاب.

قال: [ ثالثاً: بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية ]، وهذه لا ننساها، أي: بيان سنة الله في المتوغلين في الظلم وفي الشر وفي الخبث وفي الفساد، إذ إنهم ما يهتدون أبداً، وهذه هي سنة الله تعالى، فلهذا نقول: فرض الله علينا التوبة العاجلة، أي: أن التوبة تجب على الفور، فإذا زلت القدم فقل: أستغفر الله، أو أكلت لقمة محرمة فقل: أتوب إلى الله، أما الاستمرار على المعصية فصاحبها ما يهتدي ولا يرجع، بل يصبح ذلك من أخلاقه ومن طباعه، ولا يستطيع أن يتوب أبداً، ودل على هذا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، أي: المتوغلين في الظلم الذين عاشوا فيه وما خرجوا منه.

قال: [ رابعاً: بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلاً مبيناً لهدايتهم، فله الحمد وله المنة، وعلى الكافرين اللعنة في جهنم ]، بيان أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله لأهل مكة والعرب والعجم والأولين والآخرين إلى يوم القيامة، فمن آمن واستقام واهتدى سعد وكمل في الدنيا والآخرة، ومن تكبر وأعرض وكفر وأشرك والعياذ بالله تعالى شقي في الدنيا والآخرة، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة القصص (11) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net