إسلام ويب

الناس أمام الأوامر الشرعية على ثلاثة أصناف: فمنهم الظالم لنفسه بأنواع الظلم، بدءاً بالشرك بالله وانتهاء بترك الواجبات وفعل المحرمات، ومنهم المقتصد الذي يؤدي الواجبات ويجتنب المحرمات ولا يزيد على ذلك، ومنهم السابق بالخيرات، الذي يؤدي الواجبات ويضيف إليها النوافل والمستحبات، ويجتنب المحرمات ويجتنب معها المكروهات.

تفسير قوله تعالى: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق...)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن الليلة مع سورة فاطر المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

بسم الله الرحمن الرحيم: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:31-35].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ [فاطر:31] وهذا كلام الله تعالى وجهه إلى رسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يخبره بهذا الخبر العظيم، وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [فاطر:31] الذي هو القرآن العظيم هُوَ الْحَقُّ [فاطر:31] إنه كتاب الله حق مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31] أي: مما تقدم عنه وسبقه من كتب الله كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى وعيسى، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31] أي: لما سبق أن أنزلناه من الكتب على أنبيائنا ورسلنا.

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [فاطر:31] أي: يا رسولنا هُوَ الْحَقُّ [فاطر:31] القرآن العظيم حق يحمل الحق، ويبين الحق ويهدي إلى الحق، فهو الحق.

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31] القرآن العظيم ما كذّب التوراة أو الإنجيل، ولم ينكر أبداً ما أوحاه الله إلى رسله من قبله، فالقرآن مصدق لتلك الكتب كلها، إلا أن تلك الكتب دخلها النقص والزيادة والتبديل والتغيير، فنسخها الله بالقرآن الكريم، وأوقف وأبطل العمل بها لما فيه من الضلال والفساد، وهذا تدبير الله، ويدل على ذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر:31]، أي: إن الله تعالى بعباده لخبير بأحوالهم عليم بأمورهم، بصير بحياتهم وأحوالهم، فلذا لما علم ما في الكتب السابقة وما داخلها من الزيادة والنقصان، وبطل العمل به، أبطله ونسخه وأوحى بالكتاب الحق القرآن الكريم.

إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر:31] أي: مطلع على أحوالهم، عليم بأمورهم، عرف أنهم لو استعملوا التوراة والإنجيل لن يفلحوا ولا ينجحوا؛ لما زادوا فيها ونقصوا منها وقدموا وأخروا، فما أصبحت صالحة لهداية الخلق أبداً، فلذا نسخها وأبطل العمل بها ومنعه، وأنزل الكتاب العظيم القرآن الحكيم.

تفسير قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا...)

ثم قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وهذه الجملة من كلام الله بشرى لهذه الأمة المحمدية، على شرط أن تعبد الله وحده بما شرع، وعلى شرط ألا تشرك في عبادة ربها، وعلى شرط أن تعمل بهذا الكتاب.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] أي: من عبادنا المسلمون، المؤمنون، وهم الذين ورثهم الله القرآن الكريم، وهذا القرآن الذي حوى واشتمل على كل ما في الكتب الأولى مما هو حق وخير وهداية.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] أي: أورثنا هذا القرآن الكريم المؤمنون المسلمون، عرباً كانوا أو عجماً، في الأولين أو في الآخرين.

اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] اصطفينا: أي: اخترناهم واصطفيناهم.

وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآداباً وأخلاقاً وقضاء وحكماً

ثم قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] والآية -وإن كانت عامة في أمة الإسلام- تتناول أهل القرآن بصورة خاصة، فحفظة كتاب الله ثلاثة أصناف: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.

والمعنى العام يا معشر المستمعين والمستمعات! إن هذه الأمة اصطفاها الله، وأنزل عليها كتابه القرآن الكريم بعدما ضمنه كل ما في الكتب السابقة من هداية، وعلم وعبادة ومعرفة، أورثه هذه الأمة فانقسمت إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الظالم لنفسه، والظالم لنفسه -كما علمتم- الذي يصب عليها أوضار الذنوب والآثام، ولم يقل: الظالم لربه، فإن الظالم لربه هو الذي يعبد مع الله غيره وهو المشرك، وهو الذي يأخذ حق الله ويعطيه لعباده، وهذا ظالم لله وظالم لعباد الله، فهو يسلب أموالهم، وينتهك أعراضهم، ويهين كرامتهم، وهذا ظالم للناس، واللفظ في الآية: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32]، فلو قال: ظالم لنا لكان من المشركين الكافرين، ولو قال: ظالم لغيره لكان يظلم الناس بسفك دمائهم وأكل أموالهم، لكن قال: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32]، ويكون ظالم لنفسه بأن يرتكب الذنوب والآثام، ويصب عليها تلك الذنوب والآثام فيكون قد ظلمها.

ومعنى هذا: أن أهل التوحيد أهل لا إله إلا الله بحق، الذين لا يعبدون إلا الله، إنهم لو ظلموا أنفسهم كأن ارتكبوا زنا أو محرماً، قد يعذبهم الله وقد يغفر لهم، ولكن مصيرهم إلى الجنة، والله! إن منتهاهم لإلى الجنة.

بيان أقسام عباد الله في الطاعات والأعمال

مرة ثانية: للظلم ثلاثة أنواع:

أولاً: ظلم العبد لربه، ويكون بأخذ حق الله ويعطيه لغيره، فالعبادة حق الله مقابل أنه خلقنا ورزقنا، فإذا أعطيناها لنبي أو ملك أو فلان أو فلان نكون ظلمنا ربنا، قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وهذا ظلم ما بعده ظلم.

ثانياً: ظالم لنفسه، وهذا الذي يرتكب الذنوب والآثام، فيصبها على نفسه فهو ظالم لها لتصبح خفيفة منتنة، ظالم لغيره يسلب أموال الناس أو يسفك دماءهم أو ينتهك أعراضهم، فالظلمة ثلاثة: ظالم لربه والعياذ بالله، وظالم لنفسه، وظالم لعباد الله.

والآية تعني الظالم لنفسه بارتكاب بعض الذنوب والآثام وهو من أهل الجنة، قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] أي: ورثناه من اصطفينا من عبادنا واخترناهم، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32] أي: الذي يرتكب الذنوب والآثام.

وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر:32] الاقتصاد: أن يأتي بالأوامر والتكاليف كما هي ويجتنب المحرمات كما هي، وما ينافس في الصالحات ولا يسابق في الخيرات، أي: مقتصد يؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات فقط، وليس عنده صيام نافلة ولا صدقة نافلة ولا رباط ولا جهاد، فقط يؤدي الواجبات كما هي، وهذا هو المقتصد.

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله تعالى وتوفيقه وهدايته ورحمته، فهو يؤدي الواجبات كافة ويتجنب المحرمات كلها وينافس في الخيرات في الصيام والصلاة النوافل.

إذاً: أصناف هذه الأمة ثلاثة:

ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32] لا لغيره ولا لله ربه، بل ظالم لنفسه يغشى الذنوب والآثام.

وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر:32] أي: المعتدل، يؤدي الواجبات التي أوجبها الله كما هي، ويتجنب ويبتعد عن المحرمات كما حرمها الله، وهذا قصده وهذا ما عنده، وليس عنده نوافل وفضائل أعمال.

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] أي: يكثر من النوافل، الناس يصلون الفرائض سبع عشرة ركعة، وهو يصلي سبعين ركعة مثلاً، والناس يصومون رمضان وهو يصوم شعبان ورجب معه مثلاً.

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، أي: ذلك هو الفضل الإلهي الذي وهبهم إياه وهو فضل كبير.

معاشر المستمعين! الآيات الكريمة تبشر أمة الإسلام عرباً وعجماً، في الأولين والآخرين بأن الله أورثهم هذا الكتاب القرآن العظيم، واصطفاهم لذلك فانقسموا ثلاثة أقسام: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32].

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها...)

ثم بين تعالى ما لهم عنده فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33] جنات: بساتين يدخلونها، وسميت الجنة جنة كما سمي الجنان جنان؛ لأن الأشجار تغطي وتستر وتجن.

جَنَّاتُ عَدْنٍ [فاطر:33] أي: إقامة أبدية لا خروج منها أبداً.

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا [فاطر:33] أي: يحليهم الله بواسطة ملائكته بأسورة من الذهب واللؤلؤ في أيديهم وفي أذرعتهم في أماكن الوضوء.

وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر:33] لباسهم: أي: ثيابهم حرير. اللهم اجعلنا منهم.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن...)

قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] وأهل الجنة أهل النعيم، والمسلمون هم المؤمنون الصادقون منهم -ونحن إن شاء الله منهم-، فكل مؤمن صادق الإيمان ناج من فتنة الشرك الذي يوقع فيها إبليس ليحرمهم من الجنة، فقد قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32] لا لربه؛ ليخرج المشرك بالله الذي يصرف عبادة الله إلى غير الله.

واحذروا يا معشر المستمعين! أن تعبدوا مع ربكم سواه، لا بالدعاء ولا بالنداء ولا بالاستغاثة، ولا بالذبح ولا بالنذر، ولا بالتبرك والتمسح.. ولا.. ولا..، بل تعلقوا بربكم ولا تنظروا إلى غيره؛ لتكونوا موحدين من خيرة هذه الأمة، فالموحد لو ظلم نفسه وزنى -مثلاً-، أو قال باطل أو ارتكب محرماً لا يخلد في النار أبداً، بل يدخل الجنة.

فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر:32] والمقتصدون هم المعتدلون الذين يؤدون الفرائض كما هي، فريضة الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج.. كل الفرائض، ويجتنبون كبائر الذنوب المحرمات، وهؤلاء هم المقتصدون، اقتصدوا في العبادة، فقاموا بالواجب فقط، وتركوا المستحب والنافلة.

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] وهذا هو الذي يتنفل فيزيد على الصلاة نوافل، وعلى الصدقات والزكاة نوافل، وعن الحج مرة واحدة نوافل.. وهكذا دائماً في الخيرات يعمل، وهذه هي الأصناف الثلاثة.

قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، وأي فضل أعظم من هذا وأكبر منه، وبينه بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33] وقيل في (جنة عدن) بمعنى إقامة دائمة، ومنه عدن في بلاد العرب سموها بلاد دائمة أبدية، أي دائمة قائمة وهي الجنة.

يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33] بعد خروجهم من قبورهم، وبعد دخول أرواحهم في أجسادهم، فيحشرون في ساحة واحدة ويقضي الله بينهم ويدخلهم الجنة.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا [فاطر:33] أي: يحليهم الله بواسطة ملائكته، قال: أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا [فاطر:33] والسوار الذي يكون في اليد، والجمع: أساور، واللؤلؤ جمع لؤلؤة بيضاء، في اليد مواضع الوضوء من الأصابع إلى المرفق، مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا [فاطر:33]، لا قطن ولا صوف ولا.. ولا..، ولكنه الحرير.

ثم قال تعالى مخبراً عنهم، وقالوا لما أنعم الله عليهم، ونزلوا الجنة وتنعموا فيها، لا بد وأن يحمدوا الله ويشكروه وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]، فأهل الجنة لا يحزنون؛ لأنه لا مرض ولا فقر ولا موت ولا ولا، والحزن له أسباب، وأسباب الحزن لا توجد في الجنة أبداً؛ إذ كل ما تشتهيه يحضر بين يديك، فقط اسأل فتعطى، قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، فقط قل: سبحانك اللهم يحضر ما تريد، وهذه الكلمة احفظوها وقولها في الجنة إن شاء الله، فإن ظمئت، جعت، أحببت شيء قل: سبحانك اللهم، يحضر ذلك بين يديك، قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10] لا تقل: يا ملك خذ الصحون، أو يا ملك خذ كذا، بل قل فقط: الحمد لله رب العالمين، فيرفع كل شيء من بين يديك، وهذه أعجب آية في سورة يونس، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10] نعيم الجنة في ثلاث كلمات.

قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] أي: حمدوا الله وأثنوا عليه، وشكروه على أنه أذهب عنهم الحزن لماذا؟ قالوا: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ [فاطر:34] فغفر ذنوبنا، شَكُورٌ [فاطر:34] لعباده طاعاتهم وصالح أعمالهم، فلهذا غفر لنا وشكر لنا أعمالنا وأدخلنا الجنة، فوصفوه بالوصف اللائق بالله وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] وعللوا فقالوا: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34] غفور شاهدوا كيف غفر ذنوبهم، فما منا إلا وله ذنب فغفر الذنوب، ثم شكر لهم أعمالهم وأثابهم عليها وجزاهم بها، وهذا هو الشكر على العمل، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34].

تفسير قوله تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله...)

ثم قالوا: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ [فاطر:35] أي: الذي أحلنا وأنزلنا دار الإقامة الأبدية وهي الجنة، لا بجهادنا ورباطنا ولا بصلاتنا وصيامنا؛ إذ تلك الأعمال كلها لا تساوي نظرة في الجنة، بل أعمالك لمدة مائة سنة كالصيام والصلاة لا تساوي ساعة في الجنة، فلهذا قالوا: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:35]، ليس بجهادنا وصبرنا، وإن كان الجهاد والصبر سبب من الأسباب في دخول الجنة، ولكن لو تحاسب على أعمالك لن يساوي عملك شيئاً، فلهذا اعترفوا بالواقع.

الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ [فاطر:35] أي: تعب، فهم في الجنة لا يبنون ولا يحرثون ولا يزرعون، ولا يخيطون، فمن أين سيأتي التعب؟

لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35] واللغوب أيضاً ما يأتي بالتعب، ومن أنواع التعب، وأهل الجنة مستريحون استراحة أبدية، بلا عدد من السنين ولا سنين.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

قال تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [فاطر:31]، هذا خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحَقُّ [فاطر:31] أي: القرآن هو الحق، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر:31]، أي: القرآن مصدق لما في التوراة والإنجيل والكتب السابقة.

إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر:31]، فلهذا نسخ تلك الكتب وأنزل القرآن، وجمع فيه كل ما تحتاجه البشرية، فإنه خبير بصير.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] أي: المسلمين، فاحمدوا الله على أن اصطفاكم الله بالقرآن الكريم، ثم اصطفينا من عبادنا وهم ثلاثة أصناف:

قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، وقد بينا، فيجب ألا تنسوا أن الظالم هنا ليس المشرك الكافر أبداً، بل المشرك الكافر ظالم لربه، وهذا ظالم لنفسه فقط بالذنوب والآثام، وظالم لغيره الذي يؤذي الناس وينال من شرفهم أو كرامتهم، وهذا ظالم بارتكابه بعض الذنوب والآثام.

وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر:32] وهو ذاك الذي يؤدي الفرائض كما هي والواجبات ولا يغشى المحرمات ولا يقوم الليل ولا يصوم الخميس أو الإثنين ولا.. ولا..، بل يكتفي بالفرائض، وهذا هو المقتصد.

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] وهذا يزيد على الفرائض أضعاف أضعاف الخيرات.

وهؤلاء الثلاثة قال تعالى عنهم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر:33] وها هم ذا يحمدون الله، ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، فلولا أنه غفور ما دخلنا الجنة، وما منا إلا وأذنب.

(شكور) عبادة شكرها لنا وأدخلنا الجنة بها؛ لأنه غفور شكور.

وقال تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:35] ودار المقامة هي الجنة، فهي دار إقامة أبدية.

دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35]، (لغوب) نوع من أنواع التعب وآثاره.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

من هداية الآيات:

قال: [أولاً: وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآداباً وأخلاقاً وقضاء وحكماً].

وجوب العمل بالقرآن الكريم الذي اصطفانا الله، وذلك بأداء الواجبات كاملة واجتناب المحرمات كاملة، والمنافسة والمسابقة في الصالحات والخيرات.

[ثانياً: بيان شرف هذه الأمة وأنها المرحومة، فكل من دخل الإسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج].

بيان شرف هذه الأمة، فكل من دخل من الإسلام من العرب والعجم، والأولين والآخرين إلى قيام الساعة، فهو من أهل هذا النعيم المقيم.

[ ثالثاً وأخيراً: بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها].

بيان نعيم أهل الجنة، فلباسهم حرير، وأسورة من ذهب، ونعيم أهل الجنة دلت عليه هذه الآية: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35] فلا حزن فيها ولا خوف؛ لأنه لا موت ولا مرض ولا خوف فيها، فاللهم اجعلنا من أهلها.. اللهم اجعلنا ووالدينا والمؤمنون من أهلها.. اللهم اجعلنا ووالدينا والمؤمنين من أهلها، اللهم توفنا على ما توفيت الصالحين عليه؛ لنكون معهم في الجنة دار النعيم المقيم يا رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة فاطر (8) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net