إسلام ويب

إن يوم الفصل الذي يستبعده المجرمون قد حدد الله وقته واستأثر بعلمه، حتى إذا حانت ساعته أمر إسرافيل فنفخ في بوقه، فلا تسأل عن السماء وتشققها؛ ولا عن الجبال وسيرها، ولا عن الجحيم وحرها، حيث يساق إليها أهل الطغيان، الذين كانوا لا يخشون نقمة الملك الديان، فيمكثون فيها أطول الأزمان، وإذا ما استغاثوا وطلبوا الخروج، صب عليهم من العذاب المزيد.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

ها نحن الليلة مع سورة النبأ: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1] المكية، وآياتها أربعون آية.

وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:29-30].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ:17] ما يوم الفصل هذا؟ وماذا يفصل فيه؟

إنه والله ليوم القيامة، ويفصل فيه بين المسلمين والكافرين.. بين الظالمين والمظلومين.. بين المشركين والموحدين، فأهل الإيمان وصالح الأعمال، أصحاب النفوس الزكية الطيبة الطاهرة يقدمون إلى الجنة دار النعيم، وأهل الشرك والفسق والفجور والنفوس الخبيثة المنتنة يقادون إلى الجحيم، هذا هو يوم الفصل، ووالله إنه لفصل عظيم، فالبشرية مليارات والجن مثلهم، فمن كانوا مؤمنين صالحين أدخلهم الله الجنة ليخلدوا فيها أبداً، لا يعرفون موتاً ولا مرضاً ولا كبراً ولا.. ولا، خالدين فيها أبداً، أما أهل الفسق والفجور والكفر والشرك يقادون إلى جهنم -من الإنس والجن- والعياذ بالله.

هكذا يخبر تعالى فيقول: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ:17] أي: يوم وقت محدد -والله- باللحظة، ليس بالساعة والدقيقة، متى تقوم الساعة؟ لم تدق الساعة؟ والله لميقات محدد بالثانية.

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً)

قال تعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ:18].

يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [النبأ:18] والصور هو البوق الذي تنفخ فيه في الجيوش وغيرها، وينفخ فيه ملك اسمه إسرافيل نفخة واحدة، فتقوم البشرية كلها وقفة واحدة، وهذه هي نفخة القيام من القبور، نفخة البعث، أما نفخة الفناء والموت فهي في الدنيا، وهي نفخة واحدة لا تبقي بعدها على وجه الأرض من حي لا ذكراً ولا أنثى، فالكل يموتون ويصعقون.

وقد علمنا من طريق الوحي الإلهي أن الله عز وجل أوجد في كل إنسان عُظيّم صغير في آخر خرزات ظهره، يقال له: عجب الذنب، هذا العظيم لا يفنى أبداً، والبشرية كلها تنبت من هذا العظيم الصغير كما ينبت الزرع، وتكمل أجسادها وتنتظم، ثم ينفخ إسرافيل أرواحنا من فيه، فتدخل كل روح في جسدها قائمة لله رب العالمين.

فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ:18] أمماً.. شعوباً.. جماعات.. أحزاب، كما كانوا في الدنيا متحابين متعاونين.

أَفْوَاجًا [النبأ:18] جمع فوج.

تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبواباً * وسيرت الجبال فكانت سراباً)

قال تعالى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ:19].

وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ [النبأ:19] وفتِّحت السماء فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ:19] أبواب والملائكة ينزلون كلهم إلى أرض الحساب والجزاء.

ثم قال تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ:20] تحللت.. تبخرت كالسراب.. ذاك الذي كأنه مطر وليس بمطر، ذابت الجبال، تغير الكون كله، فلا سماء ولا أرض.

تفسير قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصاداً ...)

ثم قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21].

جَهَنَّمَ [النبأ:21] جهنم عالم الشقاء، النار ذات الدركات السبع، كل دركة منها تسمى جهنم كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21] ترصد الكافرين والمشركين والفاسقين والفاجرين، ترصدهم لينزلون عليها ويدخلون فيها، ليس لهم مكان غير ذاك المكان.

إِنَّ جَهَنَّمَ [النبأ:21] هذا الخبر من أخبر به؟ أليس الله؟ بلى.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21] لمن؟ لِلْطَّاغِينَ مَآبًا [النبأ:22] تعرفون الطاغين؟ هل تشعرون بالطغيان؟ إنه مجاوزة العدل، والذين يعبدون غير الله -والله- طغوا وتجبروا وتكبروا، كيف يعبدون غير الله عز وجل؟ والذين يظلمون الناس ويأكلون أموالهم وينتهكون أعراضهم ويقضون على حرماتهم والله طغوا، كل من خرج عن الصراط المستقيم الذي هو دين الله الإسلام طاغية تجاوز الحد.

تزكية النفس وتطهيرها

قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا [النبأ:21-22] يئيبون إليها ويرجعون، ما لهم من مآب إلا جهنم. لماذا؟ لأن أنفسهم خبيثة منتنة عفنة كأرواح الشياطين.

ما سبب خبثها؟ إنه عدم عبادة الله، من لم يعبد الله لا تزكو نفسه فلا تطيب ولا تطهر؛ لأن هذه العبادات أدوات تزكية للنفس وتطهيرها، مثلها مثل الماء والصابون للأبدان، فمن عبد الله بما شرع وأدى العبادة على وجهها -والله- تزكو نفسه وتطيب، وتطهر روحه، ومن أعرض وعبث ولم يؤد العبادة كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لنفسه خبيثة منتنة عفنة، ولا ننسى الحكم الإلهي الذي نذكركم به: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، إن زكيت نفسك أفلحت، وإن دسيتها هكلت!!

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] والحمد لله! أنزل الله كتابه وبعث رسوله وبين لنا كل ما يزكي نفوسنا فنعمله ونعتقده، وكل ما يخبثها فنتركه ونجتنبه، ولا يهلك على الله إلا هالك.

تفسير قوله تعالى: (لابثين فيها أحقاباً)

ثم قال تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].

لابِثِينَ فِيهَا [النبأ:23] أي: في جهنم أَحْقَابًا [النبأ:23] ليس حقباً واحداً وإنما أحقاب لا تنتهي، والحقب في لسان العرب ثمانون سنة، كل سنة كم يوماً فيها؟ ثلاثمائة وستون يوماً، ويوم القيامة بألف سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج:47] إذاً: الحقب ثمانون سنة، والسنة فيها ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم من الآخرة يعدل ألف يوم من الدنيا، فأين إذاً يخرجون؟!

لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] متتالية، مع العلم أن أهل التوحيد، أهل الإيمان الصحيح الصادق إن زلت أقدامهم ووقعوا في جريمة وماتوا عليها فهم في جهنم، لكن يلبثون حقباً ثم يخرجون، لا يخلدون في جهنم، فلا يخلد فيها إلا الكافر المشرك، أما أهل الإيمان والتوحيد إن زلت أقدامهم وفعلوا معصية وماتوا عليها بدون توبة يدخلون النار، ولكن يخرجهم الله بشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لابِثِينَ [النبأ:23] أي: مقيمين فِيهَا [النبأ:23] أي: في جهنم أَحْقَابًا [النبأ:23] ليس حقباً واحداً.

تفسير قوله تعالى: (لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً * إلا حميماً وغساقاً)

ثم قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا [النبأ:24] البرد في لغة أهل القرآن: النوم، أي: لا ينامون فيها ولا يأكلون ولا يشربون، والله ما ينامون؛ لأنه من نام استراح، الآن في الدنيا لما ننام نستريح، لكن في النار ليس هناك نوم أبداً.

لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا [النبأ:24] أي: نوماً وَلا شَرَابًا [النبأ:24] كيفما كان نوع الشراب أبداً إلا أن يكون زقوماً وحميماً.

ومن ثم قال تعالى: إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا [النبأ:25] هذا هو الشراب الموجود: الحميم الحار المحرق من الماء، والغساق فيه معان ويدل عليه ألفاظ. والخلاصة: أوساخ أهل النار من القيح والصديد و.. هي التي تتجمع ويشربونها ويأكلونها.

تفسير قوله تعالى: (جزاءً وفاقاً)

ثم بين تعالى سبب ذلك في قوله تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26] جزاء موافق، ليس فيه ظلم ولا اعتداء ولا.. ولا، فهي أنفس خبيثة لا يلائمها إلا هذا الأكل والشرب، ولو كانت طيبة طاهرة لكانت في الجنة لا في غساق.. فلا نوم ولا طعام ولا شراب إلا في الجنة وما فيها من النعيم المقيم، أما هؤلاء فجزاؤهم موافق لخبث نفوسهم التي خبثت بالشرك والكفر والذنوب والآثام.

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا لا يرجون حساباً * وكذبوا بآياتنا كذاباً)

قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا [النبأ:27] إن سألت: لم يا رب هذا جزاؤهم؟ أخبرك بعلة ذلك وهي: أنهم كانوا في الدنيا لا يرجون حساباً، ولا يخافون ولا يأملون ولا يؤمنون. وأنتم أيها المؤمنون ألا تخافون الحساب؟ بلى. فأنت لا تستطيع أن تأخذ فلساً ظلماً أو عدواناً، تخاف الحساب، وهم لا يخافون الحساب أبداً، ولا يؤمنون به، ما كانوا يرجون أن يحاسبهم الله وأن يجزيهم أبداً؛ لأنهم كافرون بالدار الآخرة، بيوم القيامة، وكفرهم بيوم القيامة هو الذي غمسهم في هذه الأوضار والأوساخ والذنوب والآثام، أما من آمن بأنه سيبعث حياً وسيسأل عن عمله -والله- يستقيم حتى يموت، لكن من كفر -والعياذ بالله- بالدار الآخرة تمزق وهلك.

ثم قال تعالى: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ:28] أكبر كذب التكذيب بآيات الله القرآنية، وآيات الله في الكون كلها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث والدار الآخرة حق، فهذه الآيات لا ينظرون إليها، ولا يفكرون فيها، ثم قالوا عن آيات القرآن: سحر وشعر وقول مجنون!!

تفسير قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه كتاباً)

ثم قال تعالى في بيان ذلك: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ:29] كل شيء من أعمالكم أيها المؤمنون والكافرون أحصيناه إحصاءً كاملاً، والله لا تغيب حسنة ولا سيئة.

وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ:29] كتاب المقادير فيه كل حركات الكون وسكناته، قبل أن يخلق الله الكون، فقد جاء في الحديث: ( خلق الله القلم وقال: اكتب. فقال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )، فلهذا لا تقل: أنا ممكن يجهلونني، أو لا يعرفون أني مؤمن صالح فيدخلونني النار، أو يكون الحساب ليس وافياً، فلا يحاسبوني على صيامي أو صلاتي، فكل شيء في كتاب الله: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ:29].

تفسير قوله تعالى: (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً)

أخيراً يقول تعالى لهم: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30].

قال أبو برزة رضي الله عنه: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30] ) قولوا: الحمد لله على أننا مؤمنون مسلمون، الحمد لله على إيماننا وإسلامنا، اللهم لك الحمد على هذه النعمة.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين ].

من هداية الآيات الكريمة التي تدارسناها: التنديد بالطغيان -والعياذ بالله- وأهله. نبرأ إلى الله من الطغيان كيفما كان، لا بالشرك والكفر، ولا بالفسق والفجور، ولا بالظلم وعدم الاعتدال.

[ ثانياً: التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به ].

من هداية الآيات: التنديد بالمكذبين بالبعث والدار الآخرة ويوم القيامة؛ إذ ذكر الله تعالى مصيرهم وما هم عليه في جهنم.

[ ثالثاً: أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها ].

من هداية الآيات: أعمال العباد مؤمنين وكافرين كلها محصاة مسجلة محدودة وسيجزون بها، ليس هناك عمل ينسى لك أبداً، أو لا تحاسب عليه أو لا تجزى به، فكل أعمال العباد صالحها وفاسدها محصاة في كتاب وسوف يجزون بها، فاجعلوا أعمالكم صالحة.

[ رابعاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها ].

من هداية الآيات: تقرير عقيدة البعث والجزاء، أي: الإيمان بيوم القيامة بذكر الأحداث التي تتم فيه، وقد عرضها تعالى علينا الآن.

[ خامساً ] وأخيراً: [ أبدية العذاب في الدار الآخرة وعدم إمكان نهايته ].

نعم. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30] عذاب الآخرة ليس له نهاية أبداً.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة النبأ (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net