إسلام ويب

مكة هي بلد الله وحرمه، من حق كل مسلم أن يقيم فيها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال، ولعظم شأن الحرم فإنه يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل، والبيت الحرام قدسه الله وعظمه، ووأجب على عباده تعميره وصيانته وتطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين فيه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن ما زلنا مع سورة الحج المكية المدنية، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:25-29].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25]، تذكرون أن قريشاً صدت وصرفت رسول الله وألفاً وأربعمائة معتمر وصلوا للحديبية عن المسجد الحرام، وقد تمت تلك المعاهدة واعتمروا من العام المقبل، لكنهم بالفعل قد صدوا عن سبيل الله، بل قد صدوا الكثيرين عن سبيل الله، ومازال الكافرون يصدون عن سبيل الله إلى اليوم، وسبيل الله هو الإسلام، وبالتالي فكل من يصرف إنساناً عن الإسلام فقد صده وصرفه، وكل من يدعو إلى الكفر والعلمانية والشرك والكفر هو والله ليصد عن سبيل الله تعالى.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج:25]، بعضهم يرى أن هذه الواو مزيدة، ولا نقول بالزيادة في كتاب الله تعالى، بل هي معطوفة على الكفر، أي: كفروا وصدوا عن سبيل الله، والخبر هو هلكوا وخسروا، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25]، هلكوا وخسروا، إذ كيف لا يهلكون ولا يخسرون ومصيرهم جهنم عالم الشقاء يخلدون فيها أبداً؟!

ومن هنا يحذر العقلاء أن يكفروا بما أمر الله بالإيمان به، إذ يجب عليهم أن يصدقوا ولا يكذبوا، وأن يؤمنوا ولا يكفروا، أما الصد عن سبيل الله بأي سبب من الأسباب فصاحبه عرضة لسخط الله وغضبه، وهناك طرق كثيرة يضعونها لفتنة الناس وصرفهم عن الإسلام، وهم والله لصادون عن سبيل الله، والمسجد الحرام الذي هو في مكة المكرمة، فالمسجد الحرام معروف، إذ إنه داخل مكة، وقد كانوا يمنعون المسلمين أو المؤمنين من دخول المسجد الحرام إذا جاءوا من المدينة أو من بلد آخر، بل قد يقتلونهم ويصدونهم.

وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ [الحج:25]، أي: المقيم فيه، وَالْبَادِ [الحج:25]، وهو الذي يأتي من البر من بعيد، فالمسجد الحرام جعله الله لعباده على حد سواء، فلا فرق بين المقيم النازل بمكة وبين من يأتي معتمراً أو حاجاً، فقد جعلناه للناس أبيضهم وأسودهم سواء، فالعاكف فيه والباد على حد سواء، وقد كانوا يصدون الناس عن المسجد الحرام، ومن الجائز أن يوجد اليوم من يصد فيصرف الناس عن الحج أو العمرة بأنواع من الأباطيل والترهات والادعاءات، فنعوذ بالله من ذلك، بل الآية تتطلب منا أن يكون لنا مكاتب للدعوة للحج والعمرة، وذلك تشجيعاً للناس على ذلك.

وقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ [الحج:25]، من أراد يريد، إذا رغب وأحب، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [الحج:25]، فالباء هنا مزيدة لتقوية الكلام، وأصل الكلام: ومن يرد فيه إلحاداً، أي: ميلاً بالظلم والعياذ بالله، نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وهذه الآية عند عامة أهل العلم تفيد أن من أضمر شيئاً من الشر في نفسه لأن يفعله في الحرم أو في مكة، ولو كان في عدن أو في أي مكان، فإنه مؤاخذ به، فمثلاً لو أنك بالمدينة أو بالقاهرة أو بعدن وأضمرت وعزمت على أن تأتي مكة وتفعل شيئاً من الباطل، فإنك تؤاخذ عليه وإن لم تفعله، فضلاً عمن كان في داخل مكة.

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ [الحج:25]، أي: في الحرم، بِإِلْحَادٍ [الحج:25]، أي: ميلاً عن الحق إلى الباطل، بِظُلْمٍ [الحج:25]، واعتداء، نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، في أيما بلد تنوي الشر ثم لم تفعله لا تؤاخذ عليه، كأن هممت أن تضرب فلاناً ثم ما ضربته لا يكتب عليك شيئاً، إلا في مكة إذا هممت أن تفعل باطلاً أو منكراً أو شراً فيها وأنت خارجها، فإنك تؤاخذ عليه وإن لم تفعله.

ولهذا على العبد ألا ينوي شراً في بلد الله تعالى، وألا يسمح لخاطر باطل أن يخطر في قلبه على أهل مكة، ولكن مع الأسف فأهل مكة يأتون أحداثاً جساماً ومنكراً كبيراً، إذ إنهم يزاولون ويتعاطون آثاماً عظاماً وهم في ذلك البلد المقدس، ووالله لأن يرحل أحدهم ليسكن جدة أو الطائف أو الرياض خير من أن يبقى في مكة ويعمل دشاً على سطحه فيشاهد العاهرات والماجنين، ويكفي هذه الآية الكريمة: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، أي: الموجع يكون في الدنيا، وفي الآخرة يكون أشد والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت...)

قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26].

ثم قال تعالى مخاطباً رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ [الحج:26]، أي: اذكر يا رسولنا! وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]، اعلموا أن البيت الحرام هو أول بيت بني في الأرض، وذلك لما أهبط الله تعالى آدم وحواء إلى الأرض أصابتهما وحشة لا نظير لها، ولا نستطيع أن نتصور ذلك، فقد كانا في عالم الملائكة فهبطا إلى الأرض التي لا أحد فيها، فأذهب الله وحشتهما بأن بنا لهما البيت العتيق بمكة، فكان آدم يأتيه ليذهب الوحشة عن نفسه ويسأل ربه حاجته بين يديه.

فقول ربنا تعالى: واذكر يا رسولنا! َإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]؛ لأن البيت فقط قد جرفته السيول والطوفان وما بقي له وجود، ولكن بقي أثره، فلما أراد الله أن يجدد بناءه بعث بإبراهيم من أرض القدس فجاء وسكن مكة بـهاجر وأنجبت إسماعيل وتقدمت به السن، وأصبح شاباً، فبنا البيت مع أبيه، ومعنى: بوأناه: أي: أنزلناه مكان البيت، فجاء به من الشام وأنزله مكانه، والبيت كان في وادٍ من الأودية والجبال حوله.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] وقلنا له، وأوصيناه وحذرناه: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]، أي: من الشرك والشركاء، وصغير الشرك هو قول الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( قل: ما شاء الله وحده، ما زدت أن جعلتني لله نداً؟ ) ، فالحلف بغير الله اعملوا أنه والله لمن الشرك؛ لأنك عظمت مخلوقاً من مخلوقات الله بتعظيم الربوبية فحلفت به، إذ لا يحلف إلا بالمعظم الذي يعظم، ولا أعظم من الله تعالى، أما الدعاء وطلب الحاجة من ميت أو من جان أو من غائب فهذه من مظاهر الشرك العظمى، وذلك كأن تقول: يا سيدي فلان! يا رسول الله! مما يفعله الجهال والعوام.

ثم لو تأملنا أدنى تأمل: لما نقول: يا سيدي أحمد! أو يا سيدي عبد القادر! هل يسمع صوتي؟ والله ما يسمع ولا يدري عني شيئاً، إن كان من أهل الجنة ففي عليين، وإن كان من أهل النار ففي سجين، فمن يبلغه عني أني أدعوه؟ وثانياً: هل يمكن أن يمد يده ويعطيني ما طلبت؟! والله ما يمد يده ولا يقدر على شيء من ذلك، فلماذا يُسأل إذاً؟ لعب وإضاعة، بله صرف عن الله حتى لا يدعى الله تعالى، وهذا من عمل الشيطان، أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]، من الشرك يا إبراهيم!

وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26]، به، وَالْقَائِمِينَ [الحج:26]، للصلاة فيه، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، في الصلاة فيه، فطهره من الأنجاس والأرجاس، وهي نوعان: رجس ونجس حسي، وذلك كالبول والدم والغائط والأوساخ، ومعنوي، وذلك كالظلم والشرك والكفر فيه، ولذا فطهر هذا البيت من هذه الأرجاس ومن هذه الأنجاس، أي: طهر بيتي للطائفين والقائمين في الصلاة، والركع، أي: الراكعين، والسجد، أي: الساجدين، فطهر لهم هذا البيت من كل ما يؤذيهم، من أوساخ أو أنجاس أو أذى، وذلك كالشرك والكفر والظلم والاعتداء عليهم.

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج...)

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].

ثانياً: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]، الصحيح من الروايات: أن حجر إسماعيل هو ذاك الذي بناه إسماعيل وسكن فيه، وهو في شمال البيت، وأما المقام الذي نصلي وراءه ركعتين، فهو مكان حجر كان يقف فوقه إبراهيم ويواصل بناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة والطين.

ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن للناس بالحج، فقال: أي رب! من يسمعني؟ فقال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فطلع إلى جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس! إن ربكم يأمركم أن تحجوا بيته فحجوا، فما من كائن من ذكر أو أنثى في الأصلاب أو في الأرحام إلا وسمع هذا النداء، فمن قال: لبيك اللهم لبيك حج مرة واحدة، ومن كرر وقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك اللهم لبيك، فبقدر ما كرر يحج، وأسهل مما قالوا: أليست الأرواح في الملكوت الأعلى؟ إن هذه الروح جاء بها الملك، والأرواح موجودة عند الله عز وجل، ولما أخذها من صلب آدم واستنطقها نطقت وأبقاها في مكان فهي فيه، ويأتي صاحب الروح فيأخذها وينفخها في الجسم، والشاهد عندنا في قول ربنا لإبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]، ويُقرأ: (بالحِجِّ)، والصواب: بِالْحَجِّ [الحج:27].

يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، يعني: مشاة لا رجالاً بمعنى: ذكوراً، ويبقى الإناث ما يأتين، وإنما جمع: راجل وهو الماشي، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، والضامر هو البعير الذي قلَّ طعامه وشرابه وأصيب بالضعف والهزال؛ لأنهم كانوا يمشون من تبوك أو من مكان بعيد فلا يعجزون ولا يضعفون، حتى من جدة إذا جاءوا بالباخرة فإنهم يركبون الإبل.

وهنا لطيفة: يقول بعض أهل العلم: أهل البحر ليس عليهم حج؛ لأن الله ما ذكر هذا، وإنما قال فقط: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، فقالوا: مشاة أو على الإبل، والصواب: أنهم سواء، سواء كانوا يأتون من الشرق أو من الغرب، إذ إنهم ينزلون في البر فيركبون الإبل أو يأتون مشاة على كل حال.

ولطيفة أخرى وهي: أن حج الماشي على رجليه أفضل من حج الراكب على بعيره أو سيارته بلا خلاف؛ لأن الله قدم المشاة فقال: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، من الشرق والغرب والشمال، وإن ركبوا البحر ونزلوا في البر فإنهم يأتون مشاة، فلماذا هذا الإتيان؟ وما الحاجة إليه؟

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ...)

قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، وهذه المنافع هي: أولاً: تطهير ذنوبهم، وثانياً: تكفير سيئاتهم، وثالثاً: زيادة حسناتهم، ورابعاً: قد يكتسبون علماً ومعرفة، إذ كانوا يتبادلون العلم في الحج، فما كان الشرقي يصل إلى الغربي والعكس إلا في الحج، فإذا اجتمعوا في الحج تبادلوا العلم والتجارة، فهذا قد يبيع بضاعة حملها من بلاده، أو يشتري أخرى ليحملها إلى دياره، ولا حرج في كل ذلك، إذ اللفظ عام، لِيَشْهَدُوا [الحج:28]، أي: ما ينفعهم، مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، أولاً.

وثانياً: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، والأيام المعلومات هي أيام الحج الأربعة، أي: العيد وثلاثة أيام بعده، وكلها أيام ذكر، إذ إنهم يرمون الحجارة فيقولون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وكذلك يذكرون اسم الله على ذبح البعير أو البقرة أو الشاة فيقولون: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك.

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، فما هي بهيمة الأنعام؟ الإبل والبقر والغنم، والغنم فيه ماعز وضأن، ولا فرق بينهما، وتسمى بهيمة لأنها لا تنطق.

ثم قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وهنا فقهياً: أن من وجب عليه دم في تركه واجباً من الواجبات فإنه يذبحه ولا يحل له أن يأكل منه شيئاً، ومن ذبح للتمتع بالهدي متطوعاً فله أن يأكل ما شاء ويتصدق بما يشاء، وإنما فقط قوله: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28]، خاص بالهدي، أما ما كان واجباً، كأن ترك طواف القدوم، فإنه يذبح شاة ولا يأكل منها، أو ما أحرم أو ما تجرد من ثيابه، فإنه يجب عليه دم ولا يأكل منه، وهذا الأكل فقط مما هو هدي مهدي في مكة أو في منى، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، أي: الشديد الفقر.

تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم...)

ثم قال تعالى لهم: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]، فأولاً: يرمون جمرة العقبة، ثم يذبحون وينحرون، وبعد ذلك يغتسلون ويتنظفون بقلم أظافرهم وتحسين شعورهم ولباسهم اللباس النظيف الجيد؛ لأنهم كانوا محرمين شهراً وعشرة أيام، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، فمن كان عليه نذر نذره لله في مكة أو في منى فإنه يوفي بنذره، إذ كانوا في الزمن الأول ينذرون، لكن الآن ما سمعنا من ينذر فيقول: لله علي أن أذبح في هذا الحج شاة أو بعيراً!

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وهو طواف الإفاضة، فأولاً: رمي جمرة العقبة، وثانياً: الذبح والنحر، وثالثاً: إسقاط التفث وإبعاده بالنظافة والتطيب، ورابعاً: طواف الإفاضة، فهذا هو الترتيب كما علمتم، ويصح التقديم والتأخير للضرورة فقط.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

نسمعكم الآيات مرة أخرى فتأملوا يرحمكم الله! إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25]، ما جزاؤهم؟ الخسران والهلاك، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ [الحج:25]، أي: في الحرم، بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وقد عرفتم أننا لا نرتكب إثماً أبداً في مكة بحال من الأحوال، لا بالهم ولا بالتفكير ولا بالفعل، ومن لم يستطع فلا يدخل مكة، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] يكون في الدنيا وفي الآخرة.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، فما المراد بالقائمين؟ المصلون؛ لأن المصلي إما قائم أو راكع أو ساجد، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]، بمعنى: أعلن وأعلمهم، يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، وقد جاءوا ليشهدوا منافع لهم، والله ليس في حاجة إلى حجهم ولا اعتمارهم، ولكن ليشهدوا منافع لهم دنيوية وأخروية، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:28-29].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

والآن مع هداية الآيات. ‏

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات: أولاً: التنديد بالكفر والصد عن سبيل الله ]، فيا ويل من يكفر! ويا ويل من يحمل الناس على الكفر ويصرفهم عن الإسلام بأي وسيلة من الوسائل! قال: [ التنديد بالكفر والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك ].

قال: [ ثانياً: مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال ]، وقد كانت مكة على عهد رسول الله وعهد أبي بكر وعهد عمر تقريباً، لا يمنع أحد من الدخول إلى بيته، فالحاج والمعتمر يدخل في أي بيت، ولا يحل لواحد أن يجعل باباً على بيته أبداً، وإنما الأبواب مفتوحة، وقد حدث أنه عهد عمر وجد شخص وضع باباً على داره فاستدعاه عمر وقال له: لم جعلت باباً على بيتك؟ فقال: إنما وضعته حتى لا يسرق مال الحجاج، ومعنى هذا: أنه من كان له سكن في مكة فليسكن فيه الحجاج والمعتمرين مجاناً، ووالله لهو خير له من أن يتقاضى أجراً.

قال: [ ثالثاً: عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل ]، وقد بينت لكم ذلك، وقلت: لو تنوي شراً في المدينة ولا تفعله، فإنك لن تحاسب عليه حتى تفعله، بينما إذا نويت شراً في مكة فإنك مؤاخذ عليه بهذا النص الكريم ولو لم تفعله، وذلك تقديساً واحتراماً لهذا البلد المقدس.

قال: [ رابعاً: وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ]، فلو يسقط البيت فلا يحل للمسلمين أن يتركوه يوماً بلا بناء، وإنما على الفور يجب أن يبنوه، فهذا إبراهيم عليه السلام قد بناه مع ولده، قال: [ ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب، ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها ]، أي: وجوب احترامه وتعظيمه وتقديره حتى يكون مأمناً للطائفين والقائمين والساجدين.

قال: [ خامساً: مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج ]، وأخذنا هذا من أمر الله لإبراهيم أن يعلن وينادي على جبل أبي قبيس بالحج، فأنت أيضاً تعمل هذا وتنادي لا على جبل قبيس، وإنما في مكتب في بلدك للدعاية للحج.

قال: [ سادساً: جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج ]، أي: جواز الاتجار عندما يكون الإنسان مقيماً في مكة للحج، فله أن يأتي بسلعة من بلاده غير موجودة فيحج ويبيعها في مكة أو في عرفات أو في منى، أو يجد بضاعة صالحة وهو في الحج فيشتريها، وكل ذلك لنص الآية: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28].

قال: [ سابعاً: وجوب شكر الله تعالى ذكره ]، والذكر يكون باللسان، والشكر يكون بالجوارح.

قال: [ ثامناً: جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه ]، جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع لا مما يجب عليك فيه دم، وقد كما بينت لكم هذا.

قال: [ تاسعاً: وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي حمرة العقبة ]، وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة فيجب عليه أن يقصر أو يحلق، ثم بعد ذلك يذبح إن كان عليه، ثم يغتسل ويلبس ثيابه ويقصر شعره وينظف نفسه ويطوف طواف الإفاضة، وهذا هو الترتيب كما في الآية.

قال: [ عاشراً: وجوب الوفاء بالنذور الشرعية، أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء به ]، قال تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، فمن نذر لله نذراً فيجب أن يفي به، كأن قال أحدهم: لك علي يا رب أن أذبح سبعين بقرة، فيجب أن يوفي، أو قال: لك يا رب أن نصوم كل شهر ثلاثة أيام، وجب عليه أن توفي، أو قال: لله علي أن أكسوا خمسين عارياً أو أذبح كذا من الغنم، فالوفاء بالنذر واجب، وهو عبادة يثني الله على أصحابها فيقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، فمن نذرَ لله نذراً يتقرب به إليه ليرفع درجته ويغفر ذنوبه فليوفي به.

لكن الذين ينذرون للأموات كأيام الجهل والجهلة فيقول أحدهم: لك يا سيدي عبد القادر كذا، ولك يا فلان كذا، فهذا كله من الشرك الذي لا يحل فعله أبداً، ومن نذر يجب ألا يفعل، إذ النذر لغير الله شرك في عبادة الله تعالى، والنذر لله عبادة من العبادات تعبد الله بها عباده المؤمنين، ويرفع بها درجاتهم ويمحو بها سيئاتهم، أما أن تقول: لك يا سيدي فلان إذا تزوجت ابنتي أو نجح ولدي أن نفعل لك كذا وكذا، فهذا والله لشرك والعياذ بالله، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على هذا، والحمد لله فقد خف هذا بكثير، فقد كانت المرأة تمر بقبر في جبل فتقول: يا سيدي فلان! إذا تزوجت ابنتنا سأفعل لك كذا وكذا، وآخر يمر بقبر فيقول: إذا نجحت في هذه المزرعة سنفعل لك كذا وكذا يا سيدي فلان! ويجعلون لهم من النخيل والزيتون والشاة! فيشتري أحدهم مائة شاة ويقول: يا سيدي فلان! إذا نجحت في هذه فلك كذا وكذا من الغنم، وهذا كله نذر لغير الله تعالى، وهو شرك، والحمد لله فقد قل، بل قد انتهى في كثير من البلاد.

قال: [ الحادي عشر: تقرير طواف الإفاضة وبيان زمنه، وهو بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة ]، وقد دلت الآية على تقرير طواف الإفاضة وأنه ركن في الحج، وليس في ذلك خلاف، ويكون بعد رمي جمرة العقبة، وبعد الذبح والنحر، وبعد التحلل، ولو تركه حاج بطل حجه، والله تعالى نسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج (6) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net