إسلام ويب

يوجه الله عز وجل خطابه إلى أهل مكة مخبراً إياهم أنه كما أنزل على موسى التوراة، وجعلها فرقاناً بين الحق الذي جاء من عند الله، وبين الباطل الذي كان يفتريه فرعون، فهو أيضاً أنزل على محمد القرآن، وهو كتاب مبارك لا تنقضي عجائبه، ولا يحاط بأسراره، وهو هدى لمن اهتدى، وشفاء لمن استشفى به، ثم ينكر عليهم سبحانه إيمانهم بكتاب اليهود، حيث كانوا يسألونهم عما فيه، بينما كفروا بالقرآن وهو كتابهم الذي فيه ذكرهم وشرفهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:48-50]. ‏

دخول يوسف عليه السلام إلى مصر

نبي الله ورسوله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام تمت له حادثة من أصعب الأحداث، وهي: أن ولده يوسف عليه السلام رأى رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء وحي، فقص تلك الرؤيا على والده يعقوب عليه السلام، فأعلمه أنها رؤية صالحة، وحذره من أن يقصها أو يحدث بها إخوته؛ خوفاً عليه.

وتجري المقادير والأقضية الإلهية، وينكل بيوسف، ويرمى في بئر من قبل إخوته الحاسدين، ثم يباع كعبد من العبيد، فيشتريه مصري، ويصبح في بيته. وتتم له أحداث ذكرت في سورة يوسف، منها: أنه ولاه أمر البلاد والعباد، وأسند إليه الملك. وقد كان يعقوب عليه السلام له أولاد يذهبون يتجرون، يستوردون البضائع ويوردونها، فشاء الله تعالى أن يعثر عليهم يوسف عليه السلام، ويأخذ أحد إخوانهم، ويدعي أنه سرق، وكان القضاء يحكم بقتل السارق أو بسجنه، وتجري الأيام ويوسف الحاكم العام في مصر، ويأتي أبوه وإخوته، فينزلون معه في الديار المصرية، ثم توالدوا حتى أصبحوا فرقة كبيرة في الديار المصرية.

رؤيا فرعون لذهاب ملكه على يد واحد من بني إسرائيل

بعد هذه الأحداث الطويلة رأى فرعون رؤيا، فعبرها له رجاله بأن دولته وسلطانه يزولان على يد بني إسرائيل، فمن ثم أخذ ينكل ببني إسرائيل ويعذبهم، وأصدر أمراً جائراً عجباً، وهو ذبح الذكور عندما يولدون، فكانوا يبعثون إلى المرأة عند ولادتها، فإن ولدت أنثى تركوها لها، وإن ولدت ذكراً ذبحوه، أو دفنوه في الأرض، وطالت الأيام وتململ رجال البلاد، وقالوا: الآن اليد العاملة تنتهي، ففكر يا رئيسنا! في الحل، فقضى بأن يعفى عن المواليد سنة، ولا يعفى عنهم سنة أخرى.

ملخص قصة موسى عليه السلام من الولادة إلى النبوة

ولد هارون في سنة العفو عن ذبح الأولاد بتدبير الله عز وجل، وفي السنة التي بعدها ولد موسى، فاحتارت أمة ماذا تفعل، فأوحى الله تعالى إليها، وعلمها وألقى في روعها أنها إذا وضعته تلفه في خرقة، وتضعه في صندوق من خشب، وترمي به في النيل، ففعلت، وأيقنت بما ألقي إليها. فذهب ذلك المولود في ذلك التابوت، ودخل في قصر أو حديقة القصر قصر فرعون، فأتت النساء أو البنات يلعبن في الماء فعثرن على الصندوق، فأخذنه ففتحنه، فإذا فيه موسى عليه السلام الغلام الطري النقي الطاهر. ومن ثم سمي بموشي، لأنه وجد ماشياً بين الماء والشجر، وما زال بنو إسرائيل إلى اليوم يسمون موشي، ومنهم موشي دايان ، وقد مات عليه لعائن الله من سنوات.

فسمي موسى موشي لأنه وجد بين الماء والشجر.

ثم كان من تدبير الله عز وجل أنه كلما قدمت له مرضع ليرضع يرفض رفضاً رضعها، ولم يرضع إلا اللبن الأول الذي ولد قبله، ثم ألقته أمه في اليم، فكان كلما جيء له بامرأة حسناء نقية نظيفة طاهرة ذات رائحة طيبة وقدمت له ثديها يرفض ذلك، كما قال تعالى في هذا: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. وهذه الفتاة هي أخت يوسف، وكانت قد بعثتها أمها تتحسس في البلاد وتتجسس؛ علها تعثر عن أخيها، فقالت بعد ما علمت أنه رفض النساء كلهن: فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. فاستنطقوها وقالوا: كيف عرفت أنهم ناصحون؟ وشكوا أن تكون أمه، ولكن دفعهم الله، وأخذت أخاها إلى أمها وأرضعته، كما قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13]. ثم بعد ذلك لما فطم وانتهى من الرضاعة عادوا به إلى فرعون.

ومن الأحداث التي وردت: أنه وفرعون جالس أراد أن يقوم على رجليه، فأخذ بلحية فرعون وقام، فغضب لذلك فرعون، وتشاءم من أخذه بليحته، وأراد قتله، فشفعت زوجة فرعون للغلام، وقالت: لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]. وقالت: امتحنه واختبره. فأتى بإناء فيه لبن أو تمر، وآخر فيه جمر، ووضعه بين يديه، حتى إذا أخذ التمر ورفض الجمر دل ذلك على علمه وبصيرته، وأنه يريد كذا، فشاء الله تعالى أن يلقي بيده على الجمرة، ويلقيها في فمه، فيصاب بلكنة في لسانه. فكانت اللكنة التي في فمه سببها: أنه أخذ جمرة، ورمى بها في فمه، وقد قال لله تعالى يوم أن أرسله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ [طه:27-30].

وكان موسى عليه السلام يكبر ويشب، وكان مهيأً من صباه، ولما كان شاباً قبل أن ينبأ وقبل أن يرسل مر بإسرائيلي وقبطي يتقاتلان، فاستغاث به الإسرائيلي؛ ليخلصه من قبضة القبطي، فلكمه موسى فمات، فلما مات أعلمت الحكومة بذلك، وهرب موسى بعد أن أعلم بأنهم يريدونه، ومن ثم خرج عليه السلام متجهاً شرقاً إلى ديار مدين. ومن ثم نبئ، وأرسله الله تعالى إلى فرعون وملئه.

فعاش عشر سنوات في أرض مدين مع نبي الله شعيب يرعى غنمه له، وبعد ما أكمل العشر السنين أخذ أهله وأولاده ومشى متجهاً إلى أرض مصر؛ لأن والدته هناك، وفي الطريق نبأه الله وأرسله، وبعثه رسولاً إلى فرعون.

وهذه الأحداث كلها في سورة القصص وغيرها مفصلة تفصيلاً. وأنزل الله عليه التوراة، وهي كتاب عظيم، حوى بيان العقيدة والآداب والأخلاق، بعد الحلال والحرام والعبادات. وقد أسمى الله هذا الكتاب بالتوراة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]. وقد أشار إلى هذا في هذه الآية الكريمة، إذا يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [الأنبياء:48].

معنى الفرقان

الفرقان هو: الذي يفرق بين الحق والباطل. والتوراة والإنجيل والقرآن كلها فارقة بين الحق والباطل.

والفرقان كذلك: انتصار أهل التوحيد وخذلان أهل الشرك والعياذ بالله، ولهذا نزل في حرب بدر كلمة الفرقان، قال تعالى: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41] ... الآية. فالفرقان هو: القوة الفارقة بين الحق والباطل. فمن أعطي عقلاً سليماً صحيحاً بحيث لا يلتبس عليه ولا يختلط الحق بالباطل، ولا الخير بالشر، ولا المعروف بالمنكر فقد أوتي فرقاناً.

طلب موسى عليه السلام النبوة لأخيه

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى [الأنبياء:48] ابن عمران، وأخوه هارون بن عمران، وأمهما واحدة، فهما شقيقان، ولهذا ليس هناك اثنان من الإخوة وقفا موقف موسى وهارون، فموسى لم يطلب لأخيه فرساً ولا دولة ولا سلطاناً، وإنما طلب له النبوة، وهذا لم يحدث أبداً، وحدث على عهد موسى وهارون، قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:25-34]. فموسى سأل الله تعالى لأخيه هارون النبوة. والنبوة لا تطلب، فلو اجتمعت البشرية كلها يطلبون الله أن ينبئ شخصاً لم يرد أن ينبئه ما نبئه لدعائهم، ولكن شاء الله، فوافق دعاء موسى قضاء الله وقدره، إذ لما أرسله إلى فرعون قبل أن يمشي طلب الزاد، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] حتى أتمكن من حمل الرسالة وإبلاغها، فقد أسب وأشتم فاجعل الصدر واسعاً. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:27]. وهذه العقدة عرفتم أن سببها الجمرة التي ألقاها في فمه وهو طفل صغير. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:26-28]. لأنه سيتكلم ويدعو، ويخطب ويعظ ويذكر، فلابد من الفصاحة، ولابد من اللسان، فلذلك قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28].

ثم قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:29]. لا معيناً من جهة أخرى أو من قبيلة أخرى، بل أخي هارون، وذكر لذلك علة هذه الدعوة المباركة، فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]. فهذه الطلبات كلها مقابلها وجزاءها أن يسبحا الله ويذكرانه. وهذا ما علمناه وكررناه بالأمس، فقد قلنا: إن علة الحياة كلها الذكر والشكر، وسر الوجود: أن يذكر الله ويشكر. فعرف موسى هذا وقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]. إذا علم أن الله أمر بذلك، وأنه يحب ذكره، ويحب شكره. وهذه العبادات التي تقومون بها من الصلاة إلى الاعتمار .. إلى الرباط كلها والله ما خرجت عن كونها ذكراً لله وشكراً له عز وجل.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً [الأنبياء:48] الضياء: النور، فالتوراة فرقان وضياء ونور وذكر، فهذه الأربعة كلها في التوراة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. وهي في القرآن من باب أولى.

وبالأمس عرفنا أن القرآن يسمى بالذكر، التوراة ذكر أيضاً؛ إذ كل من قرأ كلام الله ذكر الله، وكل من استمع إلى القرآن وهو يريد الاستماع إلا ذكر الله في قلبه في ذلك الاستماع. والتوراة كالإنجيل كالفرقان، فالكل فرقان وضياء وذكر، ولكن لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. وقد عرفنا بالأمس أن الكافرين أموات، والمؤمنون أحياء.

إذاً: فالفرقان أو القرآن فيه الفرقان والضياء والذكر للمتقين فقط، وأما الفاجرين والفاسقين والكافرين، فلا يجدون ذلك، ولا يحصلون عليه؛ لأن قلوبهم منتكسة منصرفة، لا يصغون ولا يسمعون، ولا يسمع الصم الدعاء. ولكنه ذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]، أي: موعظة للمتقين.

معنى التقوى وبيان المتقين

المتقون ليسوا قبيلة من قبائل العرب، ولا جنس من أجناس البشر، ولا نوع من أنواع البشرية. والمتقون جمع متقٍ، فمتقٍ يجمع على متقين، والمتقي هو الذي يتقي الشيء، أي: يخافه ويرهبه، فإن كان برداً اتقاه بالثياب، وإن كان حراً بالمظلة على رأسه، وإن كان جوعاً بإحضار الطعام، وإن كان ذئباً أو لصاً بالسيف في يده، فالمتقي هو: الذي يتقي ما يضره، ويؤثر عليه حياته. والله عز وجل الغالب القاهر الذي يحيي ويميت، والذي يعز ويذل، وبيده ملكوت كل شيء يجب أن نتقيه؛ لعظمته وجلاله، وقوته وسلطانه، فيجب أن نتقي الله؛ لأن أرواحنا بيده، وحياتنا كاملة بيده، وموتنا إليه وبيده، فإذاً: يجب أن نتقي الله، وأن نكون من المتقين.

وقد بينا أن ما نخافه في الدنيا نتقيه بشيء يقابله، فأنت تتقي الشمس بجعل مظلة على رأسك، والبرد بلبس ثياباً غليظة تقيك منه، والعدو بأن تحمل السلاح في يدك تتقي به.

والله عز وجل يجب أن يتقى؛ إذ أمرنا بذلك، وفرض علينا ذلك في غير ما آية من كتابه، فقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]. فقوله: اتَّقُوا اللَّهَ ، أي: خافوه واجعلوا بينكم وبينه وقاية تقيكم سخطه وعذابه.

وأكرر القول -إذ كلما تكرر القول استقر في النفس-: أن الله يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله، لا بالحصون ولا بالأسوار العالية، ولا بالطيران والجيوش، وإنما يتقى فقط بشيء واحد، وهو طاعته وطاعة رسوله، فمن أطاع الله تعالى فيما أمره به ونهاه عنه وأطاع رسوله في ذلك فهو متقٍ وفي عداد المتقين.

والمتقون هم: المطيعون لله وللرسول. وهؤلاء المتقون هم ورثة الجنة. والجنة والله تورث، وورثتها -يرحمكم الله- المتقون، ووالله لهم الوارثون لها، وهذا قوله عز وجل: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. فهو لما وصفها ووصف نعيمها وحورها وقصورها في الآيات قال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ [مريم:63]، بمعنى: نورّث مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. سواء كان أبيض .. أحمر .. أصفر .. عربي .. عجمي .. طويل .. قصير، فهذه الأوصاف لا قيمة لها أبداً إلا بتقوى الله عز وجل، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

فها نحن قد عرفنا من هم المتقون، ونحن منهم إن شاء الله، وفي القرآن ذكر لنا وضياء، وموعظة وطاعة.

تفسير قوله تعالى: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)

قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]. جاءنا بيان آخر للمتقين من عند رب العالمين، ولا يتعارض مع ما علمناه أبداً، ولكنه بيان جديد، فقد بينا أن المتقين هم: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء:49]، أي: يخافون ربهم بالغيب، وهم بعيدون عنه لا يرونه ولا يشاهدونه. فهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ [الأنبياء:49]، أي: يخافون ربهم. والذي أطاع الله وأطاع رسوله سبب طاعته هو الخوف والله، فقد خاف من عذاب الدنيا وشقاء الآخرة، فأطاع الله وأطاع الرسول.

فبين تعالى أن المتقين هم الذين يرثون الجنة، والذين ينجون من النار، والذين يجدون الموعظة والضياء والنور في الفرقان والتوراة، و الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء:49]. ولم ير أحد منا الله تعالى، ولا الملائكة رأوه، ولم يره حتى جبريل أو محمد أو موسى، والبشرية كلها ما رأت ربها، ولكنهم عرفوه بصفاته التي هي صفات الكمال والجلال والعظمة. وقد عرفنا الله بأننا مخلوقون له، وليس لنا من خالق إلا هو، فهو الذي أوجد هذا الكون بعد أن كان غير موجود، فالذي أوجده هو الله. وهذه الشهادات العلمية كلها شاهدة بهذا، وهي كافية. أنت إذا شهد اثنان لك أنهما شاهدا فلاناً في لندن ما تكذبهم، وإذا كانوا جماعة عشرة .. عشرين رجلاً وقالوا: كنا في لندن ووقع كذا والله ما تكذبهم، ولا تستطيع أن تكذبهم. إذاً: فكيف إذا شهدت الأكوان كلها بأنها مخلوقة، وأن لها خالقاً، وهو الله عز وجل.

شهادة الله لنفسه بالأولوهية

أما كونه الإله الأوحد الذي لا إله غيره ولا رب سواه فعندنا آية في كتاب الله تشهد بذلك، ونقول للعامي: إذا لم تستطع أن تعرف فآمن بشهادة الله عز وجل، إذ قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ [آل عمران:18]. فالله يخبر أنه علم، فقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18] أيضاً شهدوا وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] من الأنبياء والرسل شهدوا، فاشهد أنت بعد ذلك. وشهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو وشهادة الملائكة وشهادة الأنبياء وأولوا العلم كافية، وأنت إذا شهد اثنان تصدق، والقاضي إذا شهد عنده اثنان يعطي بها، الفطرة البشرية تقول هكذا، فكيف عندما يشهد الله وتشهد ملائكته وتشهد رسله وأنبيائه ولا تقبل شهادتهم؟!

فأقول للعامي: إذا لم تعرف الله فاقرأ هذه الآية، واعلم أن الله شهد لنفسه أنه لا إله إلا الله، فاشهد بشهادة الله، والملائكة أيضاً شهدوا بأنه لا إله إلا الله، فاقبل شهادتهم، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر والعلماء بالملايين كلهم يشهدون بهذا، وأنت تقول: لا؟ فأين عقلك؟ فهذه وحدها كافية.

من صفات المتقين: الخوف من يوم القيامة

قال تعالى: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]. وهذه الساعة التي هم منها خائفون مشفقون هي الساعة التي تنتهي فيها هذه الحياة، فقوله: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ [الأنبياء:49]، أي: من يوم القيامة مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]. لأنهم يؤمنون بالبعث الآخر، ويؤمنون بالدار الآخرة. فهم موقنون بأن هذه الحياة كما بدأت فسوف تنتهي، وهم يخافون من عذاب الآخرة، ومشفقون طول حياتهم، فلهذا لا يكذبون ولا يفجرون، ولا يتركون واجباً، بل هم مستقيمون كالملائكة في السماء، وسبب ذلك: إشفاقهم خوفهم من عذاب الله يوم القيامة. وهذا الخبر أخبر به الله جل جلاله وعظم سلطانه، فهو الذي قال: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ [الأنبياء:49]، أي: القيامة مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49] خائفون.

هؤلاء هم المتقون الذين يجدون في القرآن الذكر والموعظة والبرهان؛ لأن قلوبهم مستنيرة، وأرواحهم طاهرة زكية، فقد قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. فهو ذكر للمتقين، وهم الذين يخشون ربهم بالغيب أولاً، وهم من عذاب يوم الساعة مشفقون أي: خائفون.

تفسير قوله تعالى: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)

أخيراً يقول تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء:50]. وهذا الذكر المبارك الذي أنزلناه هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. وقال هنا: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء:50]. فقد أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله ومصطفاه، وقد أنزله من الملكوت الأعلى من فوق سدرة المنتهى من فوق عرش الرحمن، ونزل به الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50]؟ فيا للعجب كيف تنكرون؟ وكيف يكفر الكافرون؟

وأقول لكم وكتاب الله بين أيدينا: الكافر بمعنى: الجاحد.

وهناك من ينكر رسالة محمد، ويقول: لا أقول محمد رسول أبداً ولكن أقول: رجل وإنسان وعاقل.

وهذا الكتاب نزل على محمد، ووالله لا يوجد من يقول: نزل على فلان وفلان دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الكتاب العظيم القرن الكريم يشهد شهادة حق أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ووالله إنه لرسول الله، فقد أنزل عليه كتابه وهاهو بين أيدينا، حاوٍ للعلوم والمعارف والشرائع، والقوانين والآداب، والأخلاق والعلوم المشتملة على أخبار الملكوت الأعلى والغيب كله. فقد أنزل عليه هذا الكتاب، فلا يمكن أن يكون غير رسول الله.

وفي قوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ [الأنبياء:50] سمى القرآن ذكراً. وقد علمنا أنه والله ما من أحد يأخذ يقرأ من القرآن سورة .. سورتين إلا ذكر الله، وما من مستمع يستمع إلا ويذكر الله بقلبه لما يسمع كلام الله عز وجل، فهو ذكر أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم في ظرف ثلاث وعشرين سنة. أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50]؟ ونقول: لا يا ربنا! لا ننكر أبداً. والمنكرون هم الهالكون؛ لأنهم ينكرون كتاب الله وهو بين أيديهم، وأنت لا تستطيع أن تنكر خاتماً فقط، وتقول: هذا ما وجد ولا صنع، ولا تستطيع والله أن تنكر رسالة مكتوبة، وتقول: هذه ليست رسالة، وليست مكتوبة، وتنكر هذا القرآن العظيم الذي بين أيديك. وقد أنكروه للحفاظ على وثنيتهم، وعلى شهواتهم وأطماعهم، وعلى عنادهم وكبريائهم، وأبوا أن يسلموا، ولكن ما هي إلا سنيات وأسلموا ودخلوا في رحمة الله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معاني الآيات

قال: [ معنى الآيات ] الآن سنقرأ شرح الآيات من الكتاب، فإليكم شرحها:

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمنا وإياكم: [ يخبر تعالى أنه آتى موسى وهارون الفرقان، أي: الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون ] التوراة [ وبين باطل فرعون، كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان ] إذ فرق الله بين الموحدين والمشركين، فقد أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين [ وآتاهما ] أي: موسى وهارون [ التوراة ضياء يستضاء بها في معرفة الحلال والحرام، والشرائع والأحكام. وَذِكْرًا [الأنبياء:48] ] أيضاً [ وموعظة للمتقين.

ووصف المتقين بصفتين:

الأولى: أنهم يخشون ربهم، أي يخافونه بالغيب، أي: وهم لا يرونه.

والثانية: أنهم مشفقون من الساعة، أي: مما يقع فيها من أهوال وعذاب.

وقوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ [الأنبياء:50] يشير إلى القرآن الكريم، ويصفه بالبركة، فبركته لا ترفع، فكل من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته، قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات ] وليس هناك بركة أعظم من هذه، فأيما مؤمن يقرأ آية إلا وله بكل حرف عشر حسنات.

وهذا القرآن [ لا تنقضي عجائبه ] أبداً [ ولا تكتنه أسراره، ولا تكتشف كل حقائقه، هدى لمن استهدى، وشفاء لمن استشفى ] فهو هدى لمن أراد الهداية، وشفاء لمن أراد الاستشفاء.

[ وقوله تعالى: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50]؟ يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود، إذ كانوا يسألونهم عما في كتابهم، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم، فيه ذكرهم وشرفهم ] فالعجب أنهم يسألون اليهود في المدينة ويقولون: اليهود أهل كتاب، وهم لا يؤمنون بكتابهم! وإنما هم له منكرون. وهذا هو طبع الإنسان إذا أخطأ الطريق، فهم لا يؤمنون بالتوراة والإنجيل، ومع ذلك يسألون أهل الكتاب، وأما القرآن فقالوا عنه: هذا سحر وشعر، وليس بكلام الله.

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات:

من هداية الآيات:

أولاً: إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه، ومحمد وأمته بإنزال التوراة على موسى، والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ] فمن فوائد هذه الآيات الثلاث: إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه، ومحمد وأمته. وهذه المنة والنعمة هي: إنزال التوراة على موسى، والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه نعمة، بل لا يوجد نعمة أعظم من القرآن أو التوراة.

[ ثانياً: بيان صفات المتقين ] وقد عرفناها [ وهم الذين يخشون ربهم بالغيب، فلا يعصونه ] لا [ بترك واجب، ولا بفعل محرم ] فالمتقون ليسوا البيض أو السود، ولا الطوال ولا القصار، ولا العرب ولا العجم، ولكنهم فقط الذين لا يعصون الله، لا بترك واجب ولا بفعل حرام [ وهم دائماً في إشفاق وخوف من يوم القيامة ] مع العبادة والطاعة. ففيهم مع هذا دائماً الشفقة والخوف من عذاب يوم القيامة، فهم يخشون أن يموتوا على سوء الخاتمة فيهلكوا.

[ ثالثاً: الإشادة ] والتنويه [ بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركاً ] فهو مبارك، والآن قد مضى ألف وأربعمائة سنة وتسعة عشر سنة على نزوله ووالله ما ضاع منه آية ولا حرف. فليس هناك بركة أكثر من هذه، فهي لا تبرح من الخير، وإلى الآن كل من يقرأ كلمة واحدة يعطى على كل حرف عشر حسنات، وإلى الآن كل من يقرأه ويتدبره والله يصبح عالماً عارفاً.

[ رابعاً: توبيخ وتقريع من يكفر بالقرآن، وينكر ما فيه من الهدى والنور ] والعياذ بالله. آمنا بالله وبكتابه، وآمنا بالله ورسوله، وآمنا بالله ولقائه.

ربنا توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنبياء (9) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net