إسلام ويب

موسى عليه السلام هو كليم الرحمن جل وعلا، وقصته عليه السلام مع فرعون وجنوده من جانب ومع بني إسرائيل من جانب آخر من أعجب العجب، فقد كانت أول حياته ربيباً في بيت فرعون وتحت ناظريه، فلما بعث بالنبوة والرسالة سأل ربه أن يشد أزره بأخيه هارون وزيراً ونبياً، فكان ذلك له، فخرجا من مصر ببني إسرائيل فراراً بهم من فرعون وجنوده.

نشأة موسى عليه السلام في بيت فرعون

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

ها نحن مع سورة مريم عليها السلام، وها نحن مع هذه الآيات نسمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:51-53].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم ونفسي بأن موسى عليه السلام هو نبي بني إسرائيل، وهو الذي أنزل الله عليه التوراة، وجاء بيان حياته في القرآن أكثر من غيره من الأنبياء، وجاءت مفصلة في مواطن كثيرة.

وخلاصة ما نسمع: أن يوسف عليه السلام هو الذي نبأه الله وأرسله إلى قوم مصر وديارها، حيث نزل إخوته هناك ووالده وعاش يدعو إلى الله.. إلى توحيده.. إلى عبادته.. ولما هلك -كما قال تعالى- انتكس القوم وأشركوا بالله وعبدوا غير الله عز وجل، ومن ثَمَّ -كما علمتم أن رجال السياسة وهم في كل زمان ومكان يقولون: يجتهدون فيصيبون ويخطئون-، قالوا للملك فرعون: هذا الشعب الإسرائيلي لا يؤمن جانبه، وأن يوماً من الأيام سيطالبون بالحكم ليحكمون؛ لأن الدولة كانت لهم، وهم أهل لذلك.

فقال فرعون: فما الرأي؟

قالوا: نقتل الأطفال ونبقي على النساء -أي البنات-، فكان كلما حملت إسرائيلية يبلغون المستشفى الخاص بالولادة، ويقول: فلانة حبلى وستلد في يوم كذا، فيأتي الإسعاف وتأتي الطبيبة والممرضة ويشهدون الوضع، فإن وجدوا المولود طفلاً ذبحوه، وإن وجدوه طفلة تركوها لأمها، على أن الذكور يخشى منهم في المستقبل، وأما البنات فهن خادمات لا ضرر منهن.

ومضت فترة من الزمن -الله يعلمها- وقالوا: اليد العاملة قلَّت، فأشاروا على فرعون بأن يبقي على الأولاد عاماً بعد عام، أي: عام يذبحون المواليد الذكور، وعام يتركونهم حتى يوجد من يشد حزم هذه البلاد، وقد كانوا يستخدمون بني إسرائيل؛ لأنهم لاجئون عندهم، وليسوا من أهل البلاد، ومن تدبير الله العزيز الحكيم جعل ولادة هارون عليه السلام في السنة التي كان فيها العفو، ولهذا هارون أكبر من موسى بسنتين، فعاش هارون ومن ثم جاءت السنة الثانية التي فيها القتل فحملت أم موسى عليهما السلام بموسى، فأوحى الله تعالى إليها -أي: علمها بطريق خفي كما علم مريم وغيرها-: إذا وضعته اجعليه في صندوق من خشب وألقه في اليم، فأعدت الصندوق وهيأته حتى تلد، وما إن ولدت بموسى وضعته في التابوت وقالت لأخته: ألقه في اليم في نهر النيل -وهذا مذكور في كتاب الله عز وجل-، فعبث به الماء وأدخله إلى الحديقة التي هي لآل فرعون أي: أزواجه وذريته، فعثر عليه هناك، ومن ثَمَّ سمي بموشي أي: بين الماء والشجر -وموشي ديان تسمعون به عليه لعائن الله-، والآن اليهود لا يسمون موسى عليه السلام بموسى، وإنما يسمونه موشي؛ لأنه وجد بين الماء والشجر.

ومن تدبير العزيز العليم أيضاً أن الجواري عثرن على موسى داخل الحديقة فتعجبن وفتحن الصندوق، فكان كل من ينظر إليه يدخل حبه في قلبه، قال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فما إن كان يراه رجل أو امرأة إلا ويكاد يدخله في قلبه.

وكذلك من تدبير الله عز وجل أن موسى رفض أن يرضع أو يمتص ثدي أي امرأة، فقد أتوا إليه بنساء الوزراء ونساء الأغنياء وأقارب الملك حتى يرضع منهن.

والوالدة -رحمة الله عليها- قالت لأخته: تتبعي أخبار أخيكِ داخل المدينة، فتتبعت أخته أخباره فعلمت أنه هو الذي وجد في الحديقة وهو الذي رفض الرضاع من أية امرأة، قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فقالوا: هذه إذاً منهم، فقالت: بل سمعتكم في حاجة إلى من يرضعه وعندنا امرأة سترضعه، وما إن جاءوا بأمه حتى كاد يدخل في قلبها رضع منها، فأصبحت أمه مرضعة بالمال، وهذا من تدبير العزيز الكريم أن رد الله إليها ولدها، قال تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:7-8]، وبالفعل التقطوه، ولو عرفوه لذبحوه، لكن لا بد وأن يكون عدواً لهم وحزناً، قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13].

ومن الأحداث التي تمت أنه لما بدأ موسى يحبو كالأطفال كان فرعون قاعداً، وإذا به أراد أن يقف أمسك بلحية فرعون وجذبها، فتطير فرعون وقال: هذا هو، وغضب واستشار رجاله، فقالوا: هذا هو، فتوسطت امرأة فرعون آسية بنت مزاحم عليها ألف سلام، وكانت مؤمنة خفية الإيمان، وقالت له: امتحنه يا سيد، أي: اختبره لتعرف هل كان يريد أذيتك أم لا، فإنه طفل صغير.

تقول الرواية وهي حق: جاءوا بصحن فيه تمر وآخر فيه جمر وقدموه لموسى، فأراد الله أن يتناول الجمرة فألقاها في فيه فكان بذلك فيه لكنة، وعندما هيأه الله قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]، أي: أثر الحريق في فمه فأصبح حديثه فيه لكنة، وليس فيه فصاحة.

إذاً: ويعيش موسى في دار فرعون وحدث في بعض الأيام وهو على فرسه أن رأى قبطياً وإسرائيلياً يقتتلان، فاستغاث الإسرائيلي بموسى؛ لأنه ابن الملك ليخلصه فخلصه، وتمضي الأيام فيرى ذلك الذي خلصه موسى يتقاتل مع قبطي آخر، ولما هم موسى أن يخلصه قال له القبطي: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ [القصص:19]، فالأول لكمه موسى بيده فقتله، وبعدها بدأت المخابرات والجواسيس يبحثون عن القاتل هذا.

مشروعية الهجرة وبيان فضلها

إذاً: وتمضي الأيام -وهذا تدبير العزيز الحكيم الذي دبَّر لنا حياتنا ووجودنا، وها نحن نتكلم باسمه في بيته-، فيرى موسى عليه السلام رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه من هو من شيعته، ولما همَّ موسى ليخلص من هو من شيعته، قال له الآخر: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:19]، إذاً: وبدأت الحكومة تبحث عن هذا القاتل، فعلم موسى بأن قوم فرعون قد علموا أنه هو القاتل، فقيل له: اخرج من هذه الديار، قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، وبالفعل خرج من الديار المصرية متجهاً نحو الشرق، فذهب إلى مدين وفي أثناء مروره في طريقه وجد شجرة تحتها ظل فاستظل بها وجلس، وإذا ببئر يسقي منه أرباب الأغنام والمواشي مواشيهم الرعاة وهو جالس، وإذا به يشاهد فتاتين يؤخران غنمهما بعيداً، أي: ينتظران حتى يفرغ المكان ليسقيان غنمهما فتألم، فهذا يأتي ويسقي وهذا وهذا..، والبنتان منتظرات، فقام فدفع غطاء البئر عنهما وسقى لهما، ثم رجع إلى الظل كما كان، فذهبت الفتاتان إلى والدهما شعيب عليه السلام وقصتا القصة عليه، فقال: ائتوني به، قال تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، وقوله تعالى: تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، أي: تمشي على الاستحياء بكامله، ومعنى هذا أنهما عندما كانتا أمامه وتأتي الريح فتكشف عن بعض جسمها فتقولان: أمامنا ونحن وراءك، فإنه عندما تأتي الريح قد تكشف عن بعض جسم الفتاة، فقالتا: إذاً امش وراءنا ونحن نمشي أمامك، وبالحجر نرشدك إلى الطريق، ولهذا أثنت عليه تلك الفتاة لما خطبها ليتزوجها، فقالت لأبيها: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، أي: عندما أراد أبيها أن يستأجره لرعي الغنم.

وانتهى إلى شعيب عليه السلام وعنده فتاتان ترعيان الغنم، فقالت إحداهن: يا أبت! استأجر هذا لرعي الغنم ونستريح نحن، فهذا رجل صالح و.. و..، وهو كذلك، فاستأجره على أن تكون الأجرة مهر الزواج، فقد استأجره لمدة ثمان سنوات أو عشر سنين، قال تعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:27-28]، فتزوجها وأصبحت زوجته وأنجبت أولاداً.

ويروى: أن العصا التي كان موسى بها يرعى الغنم هي عصا آدم، ولا عجب أن يتوارثها الأنبياء نبياً بعد نبي، من شيث إلى نوح عليهما السلام، فأعطاه العصا ورعى الغنم، ولما اكتملت المدة عزم موسى على أن يأتي إلى ديار مصر حيث والدته وإخوانه وأهله، فحينها قد نسوا حادثة القتل ومرت عليها سنين وأراد أن يعود، ومشى متجهاً صوب مصر عائداً من أرض مدين، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29].

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً)

قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [مريم:52].

أولاً: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى [مريم:51] والمراد بالكتاب هنا: القرآن العظيم، أي: اذكر في الكتاب العزيز الذي رفعك الله به وأعزك يا رسولنا، كما ذكرت إبراهيم وذكرت مريم وزكريا ويحيى؛ اذكر موسى وأخاه هارون.

فضيلة الإخلاص لله تعالى

قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى [مريم:51] لماذا يذكره؟ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا [مريم:51]، (مخلِصاً) قراءة سبعية -وهو والله لمخلَص ومخلِص-، والمخلِص الذي لا يعبد إلا الله، ولا يتحرك حركة إلا لله، وقد بينا هذا وهو واجبنا.

فالمرأة عندما تطبخ الطعام لأولادها وزوجها يجب أن تطبخ ذلك لله، والرجل لما يأتي بالطعام أو بالتمر لأسرته يريد بذلك وجه الله، والذي يقوم ويهدم هذا الجدار خوفاً من أن يسقط عليه يهدمه لله، والذي يقيم هذا الجدار من أجل أن يستقر أو يسكن فيه هو وأولاده من أجل الله، وهذه الحقيقة وإن جهلها العالم الإسلامي لكنها هي التي في قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فكل أعمال موسى كان مخلِصاً فيها لله، لا ينظر إلى غير الله، وهذا كونه (مخلِصاً) والله لمخلص! وكونه (مخلَصاً) استخلصه الله واصطفاه، فهو مصطفى ومختار ومجتبى، واستخلصه من عباده كلهم واجتباه فهو مخلص.

تقرير أن كل رسول نبي

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، (رسولاً نبياً)، ولعل السجع وإلا كان نبياً قبل أن يكون رسولاً، وهنا قاعدة علمية في باب التوحيد -عرفناها والحمد لله-: فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وما من رسول إلا وينبأ أولاً ويعلم ويخبَّر ثم يرسل، فموسى عليه السلام نبئ أولاً وعرف وعلم ثم أرسل إلى فرعون وقومه.

فكل رسول نبي وما كل نبي رسولاً، ومن هنا عرفنا أيضاً ما قال أهل العلم، إذ قالوا: إن عدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً على عدة قوم طالوت، وعلى عدة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بدر، فقوم طالوت الذين قاتلوا جالوت وانتصروا بإذن الله كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر، والآلاف التي خرجت معهم رجعت وفشلت، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا معه إلى بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر صحابياً.

أما الأنبياء فيقول العلماء: كانوا مائة وأربع وعشرين ألف نبياً -والله أعلم بذلك-، ويشهد لهذا الحديث الصحيح في بني إسرائيل: كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم ويقيمون أسواقهم في المساء كأن شيئاً لم يحدث؛ لكثرة الأنبياء، وإلا كيف يقتل في اليوم سبعين نبياً؟!

تفسير قوله تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيَّا)

قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [مريم:52]، وقال أيضاً: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29] وهذا الطور هو جبل بين مصر وأرض مدين في أرض سيناء، ويقول ابن جرير الطبري : هذا اليُمْن ليس أن للجبل يُمْن وشمال ويسار، هذا بالنسبة إلى موسى من جهة يمينه، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52] بالنسبة إليه هو، وهو كذلك.

وهذا الطور هو في أرض سيناء، قال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2] أي: أقسم الله به.

إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى

قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] أي: في هذا الجبل عند شجرة مباركة، وجاء في آية القصص: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] أي: يا موسى! إني أنا الله رب العالمين، فناداه ربه وأسمعه كلامه كفاحاً بلا واسطة، وقال تعالى في سورة الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:142-143].

وهنا لطيفة: وهي أن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل قبل أن يدخل المعركة عندما انتهى إلى الديار المصرية:

أولاً: علَّمه كيف يقاتل العدو بالعصا واليد وينتصر عليه: ألق عصاك يا موسى فإذا هي تهتز كأنها جان، وأدخل يدك في جيبك وأخرجها تخرج بيضاء كأنها فلقة القمر، وهاتان آيتان عظيمتان تنتصر بهما بإذن الله على فرعون وملئه.

قال تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، أما بالنسبة إلى موقفه في جبل الطور تحت هذه الشجرة فوالله لكلمه الله كفاحاً وأسمعه كلامه، ومن ثَمَّ حنَّ واشتاقت نفسه أن يرى وجه ربه، إذ قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] أمامك، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ [الأعراف:143] أي: ما تخلخل وما تضعضع وما ذاب تستطيع أن تراني، وتجلى الرب للجبل فجعله دكاً، فما إن شاهد موسى الجبل يندك حتى أغمي عليه فصعق.

وهذه الصعقة -يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم- في النفخة الثالثة: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، وممن شاء الله ألا يصعق: موسى عليه السلام؛ إذ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( فكنت أول من أفيق أو أفاق وإذا بأخي موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الصور فلم يصعق )، لا أدري أأفاق قبلي أم لم يصعق، أي: جازاه الله بصعقة الطور التي أصابته، وهذا مجمع عليه.

وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] ذكر ابن جرير الطبري وأئمة التفسير: أن الله عز وجل أدناه منه حتى سمع صرير الأقلام، كما فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم يوم ما رفعه إلى السماء، إذ تجاوز محمد صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى حتى انتهى إلى مكان سمع فيه أقلام القضاء والقدر تصرصر، فقوله تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] هذا فهم أهل التفسير، أن الله قربه وأدناه حتى سمع صرير الأقلام، ولا يعجز الله شيء أبداً.

وإن قلنا: هذا تم له بعد أن التحق بالملكوت الأعلى فذاك شيء آخر، لكن هذا دال على أنه في هذه الأرض، وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] والنجي الذي يناجيك وتناجيه، أي: جعلناه نجياً يناجيه وناجيناه.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً)

قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ [مريم:53]، وهنا موسى عليه السلام عندما أمره الله أن يدخل المعركة قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32] فما من نبي ولا رسول سأل الله أن ينبئ فلاناً ويرسله إلا موسى، فقد دعا لأخيه أن يكون نبياً رسولاً فاستجاب الله عز وجل له، فأصبح هارون نبياً ورسولاً مع موسى عليه السلام.

بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى

قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] فهارون نبي ورسول، وبدأت الدعوة والصراع، وشاء الله عز وجل أن يعود موسى إلى جبل الطور؛ إذ واعده ربه أن ينزل عليه التوراة، واعده بثلاثين يوماً ثم أكملها بعشر وعاد وإذا ببني إسرائيل -والعياذ بالله تعالى- يعبدون العجل، وهذا كان بعدما انتصر موسى وبنو إسرائيل على الأقباط فرعون وملئه، إذ انهزم فرعون في المباراة هزيمة مرَّة وانكسر.

إذاً: وأمر موسى رجاله وقومه أن ينحازوا وأن يتهيئوا للخروج من تلك الديار، وأن يتجهوا نحو بيت المقدس، وتجمعوا ومشوا وهم أعزاء، وما إن شاهد فرعون خروجهم من الديار وكانوا قرابة ستمائة ألف نسمة حتى أعد جيشه وكانوا مائة ألف فارس على الخيول، ولما انتهى موسى ببني إسرائيل إلى البحر قالوا: يا موسى! إلى أين؟ هذا البحر أمامنا، فقال: امشوا ورائي، فلما وصل البحر ضربه موسى بوحي من الله تعالى إذ قال: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63] فضرب؛ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] أي: كالجبل ودخل بنو إسرائيل بنسائهم وأطفالهم ورجالهم يجتازون البحر، ووصل جيش فرعون ورجاله فوجدوا البحر كالطريق فدخلوا، ولما توغلوا في البحر وخرج بنو إسرائيل من الطرف الآخر من البحر ولم يبق أحد منهم، أطبق الله البحر على فرعون وملئه، فهلكوا عن آخرهم، اللهم إلا ما كان من جثة فرعون؛ فإن الماء رفعها حتى تبقى وتشاهد بين الناس، قال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92]، ولما كاد فرعون يغرق أسلم، فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، قال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92]، إذ قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فرد الله تعالى عليه بقوله: آلآنَ [يونس:91] أي: هل هذا الآن وقت الإسلام؟!

ومن هنا قاعدة علمية عقدية إسلامية: إن الله يقبل توبة العبد كيفما كان ذنبه: الشرك والكفر، القتل، إذا تاب العبد قبل أن تغرغر نفسه وتحشرج في الحلقوم تقبل توبته، فإذا وصلت الروح إلى الحنجرة فحينئذ لا توبة، ففرعون قال آمنت عندما عرف أنه سيغرق ولن ينجو، فأيما امرئ ذكر أو أنثى يتوب إلى الله في صدق بعد معرفة الله وحبه والخوف منه ويعلن عن توبته إلا ويقبل الله توبته ما لم يغرغر؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) وهذه الغرغرة صوت ضربنا له مثلاً: بطارية الراديو القديمة عندما يفصل التيار الكهربائي ينقص أي: تغرغر، والروح كالتيار الكهربائي أيضاً، فسبحان الله العظيم! فإذا غرغر فلا توبة، ففرعون غرغر.

إذاً: هكذا يقول تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] وبدأت الدعوة، ولما خرجوا من البحر ونجوا مروا بقرية على شاطئ البحر فوجدوا أهلها يعبدون الأحجار والتماثيل، وموسى عنده موعد مع ربه وعده ثلاثين يوماً، فقال لهارون: ابق أنت مع القوم وأنا سأذهب إلى ربي، إني على موعد معه، وسبب زيادة المواعدة عشرة أيام فوق الثلاثين يوماً؛ لأنه أكل واستاك.

فإذاً: أمر بأن ينتظر عشرة أيام أخرى فكانت أربعين يوماً، وهارون عليه السلام كان أضعف من موسى، فلما أقبل قومه على عبادة العجل الذي صنعه السامري -والعياذ بالله-، فقد كان السامري معهم، وشاهد جبريل على فرسه، وكلما رفع الفرس رجله نبتت النبات، فقال: إذاً هذا سر، نأخذ هذه التربة ونصنع منها حياة، وبالفعل أوحى إليه إبليس أن يصنع عجلاً من النحاس، فصنعه ونفخ فيه فأصبح له صوت وقال: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] قالوا: هذا هو إلهكم وموسى يبحث عنه فقط وما وجده، فهارون ما استطاع يفعل، فاعتذر لموسى وقال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:150-151]، إذاً: كانت زلة كبيرة فعلها بنو إسرائيل في غيبة موسى عليه السلام، ولما عاد موسى استقاموا ومشوا إلى فلسطين، لكن ابتلوا في الطريق فإنهم مقبلون على قتال قوم لا بد من جهادهم، فاعتذروا وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فما كان من الله عز وجل إلا أن كتب عليهم التيه يتيهون في تلك الأرض أربعون سنة، يمشون وينزلون فيجدون أنفسهم في مكانهم الذي كانوا فيه، وتوفي هارون وموسى في تلك الصحراء، ومر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبره ليلة الإسراء والمعراج فقال: ( لو كنت هناك لأريتكموه )، وقاد بني إسرائيل بعد ذلك يوشع بن نون فتى موسى.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: فضيلة الإخلاص، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهراً وباطناً ]، وعرفنا هذه الفضيلة من قوله تعالى: كَانَ مُخْلِصًا [مريم:51] قراءة سبعية، فأثنى عليه بالإخلاص، فالإخلاص فضيلة من أشد الفضائل، اللهم اجعلنا من المخلصين!

[ ثانياً: إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى ]، وهي أن الله يتكلم، وأن الله يناجي ويقرب من يشاء من عباده، وقد ناجى موسى وناجى محمد صلى الله عليه وسلم وقربهما؛ لأن الله قال: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52].

[ ثالثاً: بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى، إذ أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين باستجابة دعائه؛ بأن جعل أخاه هارون رسولاً نبياً ]، بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى، إذ أعطاه عطاءً ما لم يعطه أحداً من العالمين وذلك بقبول طلبه، فدعا ربه أن يجعل هارون نبياً فجعله نبياً ورسولاً.

[ رابعاً وأخيراً: تقرير أن كل رسول نبياً والعكس لا أي ]، والعكس لا أي: ليس كل نبي رسولاً كما علمتم، فكل نبي ليس برسول، وكل رسول نبي.

والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة مريم (8) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net