إسلام ويب

من فرط جهل الكافرين وضلالتهم أنهم اتخذوا لهم آلهة من دون الله، يعبدونها بأنواع العبادات ليكونوا لهم شفعاء عند الله عز وجل، فهؤلاء الآلهة سيكفرون بعبادتهم ويكونون خصوماً لهم بين يدي الله، ولا عجب من مسارعة هؤلاء الكافرين في الباطل والشر والفساد؛ لأنهم قد سلط عليهم شياطين الجن والإنس تحثهم على ذلك وتحملهم عليه.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً)

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

هانحن مع سورة مريم عليها السلام، وها نحن مع هذه الآيات نسمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:77-87].

سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا...) إلى قوله تعالى: (ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً)

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:80]، هذه الآيات الأربع نزلت في العاص بن وائل المكنى بـأبي عمرو ، وسبب نزولها أن هناك عبداً صالحاً مؤمناً تقياً، ألا وهو خباب بن الأرت وكان قيناً أي: حداداً في مكة، فاشتغل للعاص أشغالاً وما أعطاه ثمنها، فجاء يطالبه، قال: لن أعطيك درهماً حتى تكفر بمحمد، فقال له خباب بن الأرت : يوم تموت وتبعث حياً ثم تعطيني، أي: يوم تموت وتبعث حياً يومها سآخذ حقي، وهو كذلك. فقال: وإذا مت وبعثت هل سيكون لي مال وولد حتى أعطيك؟!

فقال: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، وأعطيك يومئذٍ ما لك علي، فأنزل الله تعالى قوله: أَفَرَأَيْتَ [مريم:77] أي: يا رسولنا! الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا [مريم:77] أي: كفر بالقرآن الكريم وما يحوي من الشرائع والأحكام، وما يدعو إليه من التوحيد، وما يقر من نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما فيه من الهداية، أي: كفر بآياتنا الواضحة البينة، وتنكر لها وجحدها الطاغية العاص بن وائل وقال متبجحاً: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، إذا مت وبعثت سأعطى المال والولد، كما عندي اليوم عندي غداً، اغتراراً وانخداعاً، قال: ما دمت أنا الآن أملك المال والولد وأنتم لا تملكون شيئاً. إذاً: إذا بعثنا نكون أكثر مالاً وولداً، وهذه عبارته بالحرف الواحد، وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77].

فرد تعالى الله تعالى بقوله: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مريم:78]، أي: كيف علم هذا؟ هل نظر إلى اللوح المحفوظ؟ وهل علم علماً خاصاً؟ فكيف عرف أنه سيكون له المال والولد، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:78] أي: هل واعده الله بأن يعطيه، اللهم لا ذا ولا ذاك.

ثم قال تعالى: كَلَّا [مريم:79]، أي: لا علم الغيب ولا عرف ولا واعده الله بشيء.

سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [مريم:79]، أي: ما يقول من هذا التبجح، وهذا الباطل، وهذا الكفر، وهذا الكلام الفاسد، سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم:79] أي: ونزيده، سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم:79]، فليقل ما شاء أن يقول، وليقل الكفر، وليقل كذا: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم:79]، مقابل شدة الكفر والباطل والشر والفساد.

وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مريم:80]، أي: الذي يقوله وهو المال والولد والمتاع، نحن نرثه، وسيجد نفسه لا مال له ولا ولد بل فرداً.

وَنَرِثُهُ [مريم:80]، أي: الذي سيرثه هو الله، ولن يبقي له ولداً أو مالاً يوم القيامة.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، تبجحاً وكلاماً باطلاً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مريم:78] حتى عرف هذا، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:78] ووعده الله وأعطاه هذا؟

الجواب: كَلَّا [مريم:79]، لا لا.. أبداً. إذاً: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [مريم:79]، من هذا الكلام الباطل وهذا الكفر والكذب، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مريم:79-80]، الذي (لَأُوتَيَنَّ)، ما نبقي له مال ولا ولد ونبعثه حافياً عارياً وحده ومن ثم يتم العذاب ونقمة الله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معنى الآيات

هذه الآيات في العاص نسمع شرحها من الكتاب: [ يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معجباً له: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا [مريم:77]، أي: كذب بالوحي، وما يدعو له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى بـأبي عمرو بن العاص . وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، قال هذا لـخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغاراً له -واحتقاراً- لأنه قين أي: حداد، وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد، فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال له العاص إذا أنا مت ثم بعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك، فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عز وجل: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مريم:78]، فعرف أن له يوم القيامة مالاً وولداً، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:78]، بذلك بأن سيعطيه مالاً وولداً يوم القيامة كَلَّا [مريم:79]، لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهداً. وقوله تعالى: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ [مريم:79]، من الكذب والافتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم:79] -نضاعف له العذاب- وقوله تعالى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:80]، أي: ونسلبه ما يقول من المال والولد حتى يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد، ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فرداً لا مال ولا ولد ].

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ... ويكونون عليهم ضداً)

قال تعالى: وَاتَّخَذُوا [مريم:81]، أي: المشركون الكافرون، وبالذات طغاة ومشركي مكة، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم:81] أي: يعبدونها وهي أصنامهم: هبل، اللات، العزى، منات، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم:81]، يعبدونها بدلاً من أن يعبدوا خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم والذي بيده حياتهم وموتهم وسعادتهم وشقاؤهم، والذي يعطيهم ويمنع لا يعبدونه، فيعبدون أصناماً وأحجاراً؛ ليكونوا لهم عزاً ونصراً في الدنيا والآخرة، فيتبجحون بآلهتهم وأنها ستنصرهم في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: كَلَّا [مريم:82] أي: ليس كما يقولون ولا كما يزعمون.

لطيفة: ذكر القرطبي أن (كلا) لا توجد في النصف الأول من القرآن قط، وبدايتها من سورة مريم إلى آخر القرآن، وذكرت في ثلاث وثلاثين موضع، بداية من سورة مريم إلى وَالْفَجْرِ [الفجر:1]، وهي بمعنى حقاً، وبمعنى: لا لا.. بحسب السياق.

قال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم:81]، يا للعجب! وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم:81]، كيف تعزهم الأصنام والأحجار؟! كيف تنصرهم على الجبار؟! كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ [مريم:82] يوم القيامة، والله ليتبرءون! وهذا عيسى بن مريم، عبده البلايين من النصارى والله ليتبرأ منهم، ويقول: ما أمرتهم بعبادتي ولا أذنت لهم في ذلك، وإنما افتروا وكذبوا علي، وكذلك الأصنام والأحجار وكل ما عبد من دون الله يتبرءون يوم القيامة من عابديهم، فالحجارة ينطقها الله ويكفرون بعبادتهم ويجحدونها وينكرونها عليهم، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:82]، أي: أصنامهم وأحجارهم آلتهم التي عبدوها من الأنبياء، من الملائكة الكل يصبحون في عرصات القيامة ضداً عليهم؛ لأنهم ما أمروهم بعبادتهم ولا أذنوا فيها.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)

ثم قال تعالى يخاطب رسوله ونحن معه إن شاء الله إن كنا عقلاء: أَلَمْ تَرَ [مريم:83]، يا رسولنا، أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، تزحلهم وتدفعهم إلى الباطل وإلى الشر، والشياطين هنا شياطين الإنس والجن، الذين كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالنبوة المحمدية والشريعة الإسلامية، وهؤلاء الكفار أو الفساق والفجار الشياطين تؤزهم إلى الكفر والفسق والظلم والشر والفساد كما أخبر الله، هل الكفار العلمانيين المشركون الكفار يتقون الله، فلا يزنون، ولا يكذبون، ولا يفجرون؟

والله ما كان؛ لأن الشياطين تؤزهم وتدفعهم دفعاً إلى الشر والباطل والفساد، وانظر العاص بن وائل كيف يقف هذه المواقف مدفوعاً، الشياطين تؤزه أزاً وتدفعه دفعاً، وهذه سنة الله باقية إلى يوم القيامة.

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ [مريم:83]، خلقهم الله ويرسلهم الله، حسب سنته في خلقه، شياطين الإنس والجن أرسلناهم على الكافرين وهم الذين كذبوا بتوحيد الله، وهم الذين أنكروا رسالة محمد وهو خاتم النبيين، وهم الذين أنكروا الدار الآخرة وما يجري فيها من جزاء على الصالحات والطالحات؛ فهو كافر، ومن كذب الله ورسوله فيما أخبر به فهو كافر جاحد معاند، وهؤلاء تزج بهم الشياطين إلى المعاصي زجاً، وما بيننا من عرف الكفار في أمريكا، في أوروبا، في الصين في الروس، يصدق القرآن بهذا.. يقول: آمنت بالله، تدفعهم الشياطين إلى المعاصي بصورة عجب، أما وجدت أندية اللواط في أوروبا في أكبر من هذا شيء؟ في مسخ أكبر من هذا المسخ؟ من أباح الربا؟ من أباح الزنا؟ ألم يوجد دور البغاء في بيوتهم وكذا.. صدق الله العظيم.

تفسير قوله تعالى: (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً)

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [مريم:83-84]، لا تستعجل العذاب العاجل عليهم، دعهم يزيدون، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [مريم:84]، ما تدعو الله أن يهلكهم، دعهم ليزدادوا ظلماً وباطلاً وشراً وفساد؛ حتى يتم العذاب الكامل لهم، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [مريم:84] أي: لا تستعجل بالدعاء بهلاكهم الآن، إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، ونحصي لهم ونحسب لهم ونجزيهم ونهيئ لهم عداً، فلا تحتفل بأمرهم ولا تبالي بكفرهم.

تفسير قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)

ثم قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85]، اللهم اجعلنا من المتقين.. اللهم اجعلنا من المتقين.. اللهم اجعلنا من المتقين.. وَفْدًا [مريم:85] أي: على نجائب وركائب.. ورحائل الذهب والفضة والزبرجد.

أولاً: تبعث الخليقة في ساعة واحدة في نفخة الصور نفخة البعث. بعد ذلك خمسين ألف سنة في يوم واحد، بعد ذلك يفصلون أهل النار إلى ساحة جهنم، وأهل الجنة يجتازون الصراط إلى الجنة، وبعد ذلك تهيأ لهم ركائب ونجائب من إبل خلقها الله لهم، رحائلها من الذهب يدخلون بها الجنة، فتتلقاهم الملائكة عند أبواب الجنة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ [مريم:85] أي: ذاهبون إلى جنته دار السلام، وَفْدًا [مريم:85] فـ(الوفد) في لسان العرب لا بد من ركائب يركبونها ويفدون عليها، والآن ما نستعجل دعونا الله تعالى بأن يجعلنا من المتقين، ولن يكفي هذا الدعاء وحده إذا لم نطلب التقوى، فلابد من التقوى في صدق وندعو الله فيستجيب، أما نعرض عن تقواه ولا نبالي بمعاصيه ونسأله التقوى ما يجوز، كالمستهزئ.

بلغوا أنه: لا تتم تقوى الله لعبد ولا لأمة إلا إذا عرف ما يحب الله وما يكره الله، وهذه أول خطوة.

ثانياً: أن يفعل محاب الله كما أمر الله أن يفعلها، وأن يتجنب مناهي الله كما أمر الله أن ننهيها، ومن ثم أصبح تقياً، أما جاهل لا يعرف الله ولا يحبه ولا يرهبه ولا يعرف ما يحب ولا ما يكره كيف يتقيه؟!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، وهذا الفرض؛ لأنه من المستحيل أن تتقي الله وأنت ما تعرف ما يغضبه ولا ما يرضيه فكيف تتقيه؟ أنت لما تعرف أن هذا الحيوان يأكل بسمه تتقيه، أليس كذلك؟ ولما تعرف أن عند الباب لصاً في يديه سيف يريد أن يضربك تتقيه، فلابد للمؤمن والمؤمنة من معرفة ما يحب الله من الاعتقادات ومن الأقوال والكلمات ومن الأفعال ومن الصفات، وهناك صفات لا يحبها الله، وهي: التبختر والتكبر في المشية، فمنقوص صاحبها؛ لأن الله يكره ذلك، فلابد من معرفة محاب الله، أي: ما يحبه الله ففرضه على عباده وألزمهم به، وواعدهم الجنة به، وهذه المحاب بعضها عقائد وإيمان، وبعضها كلمات تقال، وبعضها أفعال ينهض بها ويؤديها كالصلاة والجهاد، والمنهيات التي نهى عنها وتوعد عليها وضع لها حدود يجب أن تعرف ابتداءً من الشرك إلى الزنا.. إلى الكذب.. إلى الباطل.. إلى الغيبة.. إلى النميمة فلابد من هذا، ما نخدع أنفسنا ونقول: نتقي ونحن ما عرفنا كيف نتقي، فكلما نتعلم مسألة يحبها الله نطبقها على الفور ونشد عليها، وكلما نعرف أن الله يكره كلمة أو نظرة على الفور نكرها لكره الله تعالى لها، ونبتعد عنها يوماً بعد يوم، عام بعد عام، وإذا بنا عاملين متقين بررة؛ حتى نكون ممن يحشرون إلى الله وفداً على نجائب ورحائل من ذهب وفضة.

وقد قلنا غير ما مرة: ليس شرطاً أن تحمل القرطاس والقلم، قد تتعلم وتحب والله وتحب ما يحب وما في يدك قلم أبداً، كأصحاب رسول الله كم واحد كان يكتب منهم ويقرأ؟ واحد إلى مائة، كيف أصبحوا عالمين؟

قال عبد الله بن عباس : كنت أقف على باب العالم من الصحابة كـعلي أو كـعمر تأتي الرياح تغمرني في التراب وأنام على العتبة وأنا أنتظر متى يخرج علي أو عمر أو فلان، أما أن يعيش فلان ولا يسأل أبداً: هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ هل هذا حلال أم حرام؟ هل هذا يحبه الله أو يكرهه؟

ولهذا ما زلت أقول: اللهم اشهد على أهل القرية.. على أهل الحي.. يجب أن يجتمعوا في بيوت ربهم كل ليلة وطول العام بين المغرب والعشاء؛ لأنه وقت راحة وليس وقت عمل في الدنيا كلها، ويتلقون الكتاب والحكمة، فلن تبقى خرافة ولا ضلال ولا جهل ولا شرك ولا باطل ولا حسد ولا بغضاء ولا شنعاء ولا.. ولا.. سيطيبون ويطهرون، وبدون هذا الطريق لا يمكن أن يتم هذا العلم، والواقع شاهد، فيتعلمون في المدارس ولا يعبدون الله بما تعلموا، والذي يجلس في المسجد ليتعلم يعبد الله به، فكيف يجلس ويعلم ولا يعمل؟ والله ما كان؛ لأن الإرادة هي التي جاءت به ليتعلم ويعبد الله، أما نطلب العلم في المدرسة للوظيفة والدنيا كما هو واقع العالم الإسلامي، هل أهلها أتقياء بررة؟

تفسير قوله تعالى: (ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً)

قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85-86]، المتقين يحشرهم على ركائب ونجائب إلى الرحمن وفداً، الصالحون على نجائب الإبل، والكافرون يساقون بالعصا إلى النار، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86]، أي: يردونها.

تفسير قوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)

ثم قال تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ [مريم:87] أي: أهل الموقف كله لا يشفعون لغيرهم، فلا يستطيعون الشفاعة لهم، إلا فقط للموحدين، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] وهم أهل (لا إله إلا الله).

وهنا: المتقون أولياء الله، وأهل الجنة يشفع الله تعالى بعضهم في بعض، يشفعوا علي بن أبي طالب في فلان ليرفع من قدر علي ولينجي فلان، تجري الشفاعة بين أهل الجنة بين المؤمنين، فيكرم الله من شاء أن يكرم ويقول: اشفع في فلان وفلان أو في بني فلان.

ثانياً: شفاعة تنالهم وهم متأهلون لها لكن ما وصلوا إلى درجة أن يدخلوا الجنة بدون شفاعة، فيشفع الله فيهم من شاء من عباده.

أما الكافرون فلا شفاعة لهم، دليله قوله: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ [مريم:87] اللهم؛ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] ما العهد الذي بيننا وبين الله؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله ألا وهو الإسلام، فأهل لا إله إلا الله، أهل التوحيد، الذين عبدوا الله ووحدوه إذا أذنبوا ذنوباً كبائر ودخلوا النار لهم عهد من الله أن يخرجهم من النار، هذا عهده، ويقيناً أن أهل التوحيد إذا دخلوا النار بالفسق والفجور واستوجبوا العذاب ودخلوا النار وحرقوا فيها يخرجهم الله بهذا العهد: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] وعهدهم أنهم كانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قطعاً وعبدوا الله لكن زلت أقدامهم فوقعوا في ذنوب هوت بهم في جهنم، يشفع الله فيهم من يشاء ويخرجهم من النار.

أما أهل الشرك أهل الكفر فلا شفاعة أبداً، بل يخلدون في العذاب بلا نهاية.

هكذا يقول تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:86-87]، فهيا نتخذ عند الرحمن عهداً، لا إله إلا الله ونعبد الله ولا نعبد سواه، محمد رسول الله ونعبد الله بما يبين رسول الله وما يشرع.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الآيات من الكتاب:

معنى الآيات

قال: [ يخبر تعالى -مشدداً- مندداً بالمشركين فيقول: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم:81] ] يا للعجب! أو يا للأسف! أو كيف يكون هذا؟!

[ أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات ] وراجع عباد الأصنام والأحجار وتشاهد هذا اليوم.

[ لِيَكُونُوا لَهُمْ [مريم:81] في نظرهم الفاسد؛ عِزًّا [مريم:81] أي: شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يُهانون.

كَلَّا [مريم:82] أي: ليس الأمر كما يظنون.

سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ [مريم:82] وذلك يوم القيامة، حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم.

وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:82] أي: خصوماً، ومن ذلك قولهم: وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [يونس:28] وقولهم: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] ] فلم يعترف عيسى ولا عزير ولا الولي ولا عبد القادر بمن عبدوهم.

[ وقوله تعالى في الآية الثانية: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] يقول تعالى لرسوله: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا! أنا أرسلنا الشياطين -أي: شياطين الجن والإنس- على الكافرين بنا وبآياتنا وبرسولنا وبلقائنا تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] أي: تحركهم بشدة نحو الشهوات والجرائم والمفاسد ] والله كما أخبر تعالى.

[ وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجاً كبيراً. أي: فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد، ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم، إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84] .

وقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ [مريم:85] أي: أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85]، والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته، وتوحيده، ومحبته، وخشيته، وطاعة رسوله، ومحبته.

نحشرهم وَفْدًا [مريم:85] أي: راكبين على النجائب من النوق عليها رحال الذهب إلى الرحمن، إلى جوار الرحمن عز وجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسلام.

وقوله تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86] أي: ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي -نسوقهم- مشاة على أرجلهم عطاشاً، يُساقون سوق البهائم إلى جهنم، وبئس الورد المورود جهنم.

وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها -خبثوها- لا يملكون الشفاعة يوم القيامة، لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين، ولا يشفع لهم أحد أبداً، لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات؛ يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراماً له، أو يشفع فيه غيره إكراماً للشافع أيضاً وإنعاماً على المشفوع له.

كما أن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين راجين ربهم يملكون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم، فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم ]، فالحمد لله على أننا من أهل لا إله إلا الله.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: الكشف عن نفسيات الكافرين لاسيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان، فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم ]، إي نعم وإلى الآن.

[ ثانياً: تقرير البعث والحساب والجزاء ]، قطعاً ليس هناك غير ذلك.

[ ثالثاً: مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم ]، ليس أهل النار عذابهم واحد، بل يتفاوت ما بين السماء والأرض، فأهل الكفر مع الظلم أشد من أهل الكفر فقط، أهل الكفر والإجرام وكذا أشد من أهل الكفر مطلقاً، وهكذا.

[ تقرير معنى آية: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] ] إي نعم.

[ براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزياً لهم وإحقاقاً للعذاب عليهم ]، سواء ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو عباد أو حجار، المعبودون من دون الله كلهم يتبرءون من عابديهم يوم القيامة.. خزي من جهة وإحقاق للعذاب من جهة.

[ لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات ]، كما قدمنا لا عجب مما نسمع، فالآن في بلادنا ما تجد، في بلاد الكفر العجب في المسارعة إلى الشر والباطل والفساد والخبث.

قال: [ لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه ].

[ لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم؛ لأنهم كلما ازدادوا ظلماً ازداد عذابهم شدة يوم القيامة ].

هذه لطيفة: ما نستعجل العذاب للكفار والمجرمين، خلهم يزدادوا حتى يتم عذابهم الكامل يوم القيامة، إذ قال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [مريم:84].

قال: [ لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم؛ لأنهم كلما ازدادوا ظلماً ازداد عذابهم شدة يوم القيامة، إذ كل شيء محصىً عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.

رابعاً وأخيراً: بيان كرامة المتقين، ومهانة المجرمين ].

اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة مريم (14) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net