إسلام ويب

يذكر الله عز وجل بني إسرائيل بما امتن عليهم وعلى البشرية من انقاذ آبائهم ممن كانوا مع نوح من الغرق، ثم أمرهم باتباع ما جاءهم به موسى عليه السلام، وأخبرهم أنه قضى عليهم أن يفسدوا في الأرض فيسلط عليهم من يجوس خلال ديارهم، ثم يعود ربنا فيرزقهم الأموال ويجعل لهم ذرية كثيرة، ولكنهم يعودون لسالف طباعهم فيسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، جزاء طغيانهم وتكبرهم.

تفسير قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة الإسراء، فهيا بنا نصغي لنستمع تلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:2-6].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2].

سبق هذه الآية عطاء الله وإفضاله وإنعامه على هذه الأمة، حيث أسرى بنبيها ورسولها من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى الملكوت الأعلى، فشاهد ما كان يعلمه بواسطة الوحي بأم عينيه، وقد سبق ذكر ما تم من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى وفي الجنة والنار معاً.

فالله عز وجل لما قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وعلل لذلك فقال: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] كعجائب قدرتنا في الملكوت الأعلى إِنَّه هُوَ [الإسراء:1] أي: الله السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

تاريخ موسى عليه السلام مع بني إسرائيل

قال: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]، من موسى؟ موسى أحد أنبياء بني إسرائيل، وقد لقيه رسولنا في المعراج في السماء السادسة، وهو الذي جعل الرسول يتردد على الله يطلب منه التخفيف؛ إذ فرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة مبدئياً، ثم ما زال موسى ينصح لرسولنا صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الله التخفيف حتى بقيت خمس صلوات وأجرها أجر خمسين، والحمد لله رب العالمين.

موسى وبالعبرية (موشي) ومنه موشي ديان -عليه لعائن الرحمن- وسمي موسى وموشي؛ لأنه وجد بين الماء والشجر، مو شي: الماء والشجر.

وسر ذلك: أن فرعون مصر -عليه لعائن الله- نصح له رجال السياسة الماديون بأن يتحفظ من بني إسرائيل بالإناث ويقتل الأطفال؛ لأن بني إسرائيل تواجدوا في مصر؛ وسبب تواجدهم هو ما علمتم، أنه لما حدث الذي حدث بين يعقوب وأبنائه وقد طلبوا من أبيهم أن يسمح لهم بيوسف الذي رأى تلك الرؤيا العجب.. رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له، حينها إخوة يوسف أصابهم الغم والهم، كيف يفضلهم يوسف ويعلو فوقهم، ويصبح أبوهم لا ينظر إلا إلى يوسف؟ فكادوا تلك المكرة، وخرجوا به لحجة اللهو واللعب، وإذا بهم يلقوه في الجب.

والشاهد عندنا: أن يوسف مكن الله له من الديار المصرية، وأصبح الملك، ثم جاء يعقوب وذريته ونزلوا بالديار المصرية، فسكن بنو إسرائيل هناك، فلما سكن بنو إسرائيل وحكم يوسف، ولعلهم بعض أحفاده أو أولاده، فالسياسيون قالوا لفرعون: هذا الشعب مختار ممتاز ولهم ماضٍ، إذاً: فقرر أن يقتل الأطفال الذكران ويبقي على الإناث.

اتخذ هذا القرار على أن هذه الدولة يخشى أن تسقط على أيدي هذا الشعب؛ لأن له أصلاً وله مكانة، فكان يقتل البنين الذكران ويبقي الإناث للخدمة والعمل، ثم بعد سنين قالوا: قلت اليد العاملة يا فرعون، لو تقلل من ذبح الأولاد وتتركهم سنة بعد سنة، فسنة يعفى عنهم يعيشون وسنة يقتلون؛ لأن اليد العاملة قلت؛ فشاء الله أن السنة التي فيها العفو ولد فيها هارون أخو موسى عليه السلام، والسنة التي فيها يقتل المواليد ولد فيها موسى، ودبر الله عز وجل لنجاته، فأوحى إلى أم موسى: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، ما إن وضعته حتى أرضعته اللبأ، ووضعته في ذلك الصندوق، وأمرت أن تلقى به في النيل، وإذا بالمياه تحمله حتى دخل في حديقة الملك حول القصر، وإذا بالخدمات من بالنساء يشاهدن الصندوق يقلبه الماء، ففتحوه فوجدوا فيه غلاماً صغيراً، فلهذا سموه: موشي، حيث وجد بين الماء والشجر.

ولموسى قصصه في القرآن الكريم في عدة سور، وهي آيات تتجلى في تدبيره وهو العليم الحكيم.

ساد موسى بني إسرائيل، وخرج بهم من مصر في طريقهم إلى أرض القدس، وشاء الله أن يقبض هناك ويتوفى وأخوه هارون كذلك؛ لأنهم -أي: قوم موسى- عصوا فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة.. أربعون سنة وهم تائهون في صحراء سيناء، فمات موسى ومات هارون، وتولى بني إسرائيل يوشع بن نون، وجاءت الآيات تبين هذا، وانتصر على العمالقة، وتكونت أول دولة لبني إسرائيل بعد دولة يوسف، وكانت هذه أكبر دولة لبني إسرائيل.

وحكموا بالعدل وعبدوا الله عز وجل وسادوا، وكانوا خير ما يكون البشر، ثم بمرور الأيام والأعوام فسقوا وفجروا وعطلوا شرع الله؛ لأن بأيديهم التوراة أنزلها الله على موسى، فسلط الله عليهم البابليون فدمروهم وعذبوهم وسادوهم و.. و.. إلى آخر ذلك.

ثم تمضي القرون والأعوام ويجمع الله كلمتهم بحسب رغبتهم؛ فعينوا طالوت عليهم، فطلبوا ذلك من نبيهم، وقاتلوا جالوت وانتصروا عليه، وساد في ذلك داود؛ إذ هو الذي انتصر على جالوت ، وكانت لهم أعظم دولة على عهد داود وسليمان، ثم بعد مرور الأعوام فسقوا وفجروا، وعطلوا الشريعة، وتكالبوا على الدنيا كما هي أوضاع البشر.

فسلط الله عليهم بختنصر فسادهم ومزقهم. وهذه المرة الثانية، وبقوا مشردين، ثم عفا الله عنهم بعد فترة من الزمان، وتكونت لهم دولة، ثم عادوا إلى الفسق والفجور فسلط عليهم الرومان، وجاء الإسلام وهم تحت سيادة الرومان، إلا ما كان ممن هاجروا إلى الجزيرة هروباً من سلطة الرومان عليهم، وطلباً في النبوة الجديدة التي ينتظرونها.

هذه حال بني إسرائيل، وهم إلى الآن كما تعرفونهم.

هداية التوراة لبني إسرائيل

قال تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]، موسى بن عمران عليه السلام، والمراد من الكتاب هنا؟ التوراة، وقرئ (الكتب) بمعنى الكتاب أي: مكتوب؛ إذ في التوراة ألف سورة.

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء:2]، أي: وجعلنا التوراة هدىً.. سبيل هداية لبني إسرائيل، وجعلنا موسى أيضاً هدى لبني إسرائيل؛ إذ موسى يهدي والتوراة تهدي، لكنها هداية لمن يرغب فيها، ولمن يطلبها، ولمن يسأل عنها، أما المعرضون الذين يلوون رءوسهم، ويعرضون بصدورهم لا يهتدون أبداً.

هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء:2] من أجل ماذا؟ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء:2]، أي: من أجل أن يعبدوا الله وحده، ولا يفوضوا أمرهم إلى غير الله، ولا يعتمدوا على غير الله، ولا يعولوا على غير الله في أي شأن من شئونهم.

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء:2] حفيظاً شريكاً رقيباً تعتمدون عليه؛ إذ الإنسان إذا توكل على شخص أسند إليه أمره: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء:2] أي: من دون الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)

قال تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3]، يا ذرية من حملنا مع نوح! وهذا يشمل البشرية كلها عربهم وعجمهم، الأولين والآخرين؛ إذ ما منا إلا وهو من ذرية نوح.

علمتم أن نوحاً عليه السلام عاش يدعو إلى ربه ألف سنة إلا خمسين عاماً -تسعمائة وخمسين سنة- وعندنا في القرآن سورة تسمى: سورة نوح. بينت حاله مع قومه، ألف سنة إلا خمسين عاماً وهم معرضون، يجادلون، يعاندون، يسبون، يشتمون، يفعلون الأعاجيب، مصرون على الشرك.

والغريب من الأحداث الكونية: أنه لما هبطت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من علياء سمائها، وسادها الجهل، وعمها الشرك والباطل، وسلط الله عليها الكفار فسادوها وحكموها، في قرية من قرانا وجد فيها ما كان يعبده قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر وود وسواع، والله في القرية التي وجدت أنا فيها.

وعبدت القباب من إندونيسيا إلى الدار البيضاء، وما تركت عبادتها بالفعل إلا يوم حكم عبد العزيز وطهر الحجاز، وأصبح الناس يشاهدون طهارة الحجاز من الشرك بالله، القباب تعبد، الذبائح، النذور، العكوف حولها، سبعة أيام وهم عاكفون حول القبر.

فلما أراد الله عز وجل أن يهلكهم لإصرارهم على الشرك والكفر والعناد، أمر نبيه ورسوله ومصطفاه نوحاً عليه السلام أن يصنع سفينة، ليحمل فيها المؤمنين، ثم بعد ذلك يأتي الطوفان من السماء ومن الأرض، واقرءوا: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:10-15].

حمل معه أولاده: يافث وسام وحام، والعالم كله منهم، حام أبو الحبش، يافث أبو الروم، سام أبو العرب، هذا نوح عليه السلام جاهد في الله حق جهاده، حوالي ألف سنة، وكانت النهاية أن قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:26-28].

فأنجاه الله: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:41-43] وهذا هو كنعان الذي هلك مع الهالكين.

وقال نوح: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، أنت وعدتني أن تنجيني وأهلي وهذا من أهلي، قال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] لماذا؟ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، فلهذا الكافر ولو كان أباك أو ابنك أو امرأتك أو أمك.. لا تحبه ولا تنظر إليه أبداً إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46].

ورست السفينة في مكان ما، ونزل نوح وأولاده ومعهم بعض النساء، وانتشرت ذريتهم في الأرض.

فنحن إذاً ذرية نوح أو لا؟ هاهو الرحمن نادانا بقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3]، يا أولاد من حملناهم مع نوح على أول سفينة عرفتها البشرية، وجبريل هو الذي يعلمه.

الائتساء بنوح في الشكر

قال تعالى: يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] اعبدوا الله وأطيعوه، امتثلوا أوامره، اجتنبوا نواهيه، اعبدوه وحده، تخلوا عن الشرك به، ابتعدوا عن الكفر، إنكم أبناء عبد شكور، ائتسوا بأبيكم، اقتدوا بوالدكم نوح: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3].

الشكور: كثير الشكر، والشكر كما علمتم الاعتراف بالنعمة بالقلب، وترجمتها باللسان، بكلمة: الحمد لله، ثم صرفها فيما من أجله أعطاها الله.

مرة ثانية: ما هو الشكر الذي أوجبه الله علينا؟

الشكر: أولاً: الاعتراف بالنعمة في قلبك أن هذا الماء الذي تشربه من الله، أن هذا الطعام الذي تأكله من الله، أن هذا الثوب الذي تلبسه من الله، أن هذا السكن الذي تأوي إليه من الله، اعتراف وترجم ذلك بقولك: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

ورووا عن نوح عليه السلام أنه كان إذا أكل يقول: (الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لجوعني)، أراد أن يشرب وشرب: ( الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني)، أراد أن ينتعل: (الحمد لله الذي حذاني ولو شاء لأحفاني)، وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم فتعلمنا منه ما شاء الله، والله ما نأكل ولا نشرب ولا نركب ولا نلبس إلا و: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

كان إذا أراد أن يلبس الثوب يقول: ( الحمد لله الذي كساني هذه الثياب ولو شاء لأعراني )، في البيت: ( الحمد لله الذي آواني وكفاني، فكم ممن لا كافي له ولا مأوى إلا الله )، يركب السيارة الدابة يضع رجله اليمنى عليها: أولاً: ( بسم الله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون )، وهكذا يستيقظ يحمد الله، ينام يحمد الله، وبذلك يكون عبداً شكوراً: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، عبداً لمن؟ للدنيا.. للشهوات.. للأهواء؟ عبداً للرحمن عز وجل، عبداً لله، قانتاً، خاضعاً ذالاً له عز وجل، لا يعبد إلا الله ولا يعترف بألوهية سوى ألوهية الله، إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، هذه الدعوة موجهة إلينا أو لا؟

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] اعبدوا الله واشكروه، اقتدوا بأبيكم وجدكم، إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، فكونوا عباداً شاكرين، فلا تكبر ولا غطرسة ولا علو، ولا ضلال ولا جهل، ولكن إذعان وإسلام لله عز وجل، وطاعة له في أمره ونهيه، تنجو كما نجا نوح.

تفسير قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً)

قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4]، هذا الكتاب كتاب القضاء والقدر.. كتاب المقادير، وهو كتاب التوراة. هذه الأحداث موجودة في التوراة، كيف موجودة في التوراة؟ أليست موجودة في القرآن عندنا؟ هذه الأمة لما أعرضت أما أصابها الله بما هو موجود في القرآن؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، فالمصائب التي أصابت أمة الإسلام موجودة في القرآن، إعراضها إدبارها إقبالها على الدنيا؛ على الأطماع والشهوات والأوساخ، هي التي حبطت بها.. موجودة في الكتاب.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ [الإسراء:4] حكمنا وعلمناهم، من هم بنو إسرائيل؟

كما قدمنا، إسرائيل هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، إبراهيم الجد، إسحاق ولده، يعقوب حفيده، يعقوب هو إسرائيل، وهي بمعنى: عبد الرحمن أو عبد الله؛ لأن إيل اسم الإله، وعبد الجزء الأول، كميكائيل وإسرافيل بمعنى: عبد الله وعبد الرحمن، أولاد يعقوب: هم بنو إسرائيل؛ إذ ولد اثني عشر ولداً وبارك الله فيهم، وأصبح كل رجل أبواً لقبيلة، فبنو إسرائيل إلى اليوم من أولاد يعقوب.

فقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4]، كتاب المقادير، وفي التوراة أيضاً موجود هذا، قضينا إلى بني إسرائيل أي شيء؟ قال: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4]، لا بد وأن يتم هذا لكم وفيكم، قضى الله هذا.

لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4]، وتم هذا والله بالحرف الواحد، المرة الأولى: سلط الله عليهم البابليين لما فسدوا وطغوا، وقائدهم كان جالوت.

الثانية: سلط عليهم بختنصر .

الثالثة: وعدهم بخير، عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]، فرحمهم وتكونت لهم دولة في فلسطين، ثم فسقوا وفجروا وسلط الله عليهم الرومان، فتمت لهم العاقبة المرة.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4].

معاشر المستمعين! بم يكون الفساد في الأرض؟

أولاً: بأن تنصرف القلوب عن ربها وتعبد غيره، وتقبل على ذلك الغير؛ تؤلهه وتقدسه وتعظمه؛ متوسلة به بزعمها إلى الله، وهذا هو الشرك.

الفساد في الأرض بعد الشرك والكفر هو الخروج عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات التي تعبد الله بها البشرية هذه العبادات تركها إهمالها.. العبث بها.. عدم الاحترام لها، والله لفساد في الأرض، ما حرمه الله عز وجل ونهى عنه إلا لما فيه من الضرر والشر والفساد والإقبال عليه، وفعله والله لفساد في الأرض.

على سبيل المثال: البلاد الإسلامية التي تصنع الخمر وتبيعها وتشربها أصلحت في الأرض أو أفسدت؟ أفسدت، البلاد التي تبيح القمار في المقاهي والأسواق وفي كل مكان، هذا فساد أو عدل؟ هذا فساد، الأمة التي تبيح الزنا ولا تبالِ بمن زنا أو ترك، ما أفسدت؟ أفسدت في الأرض.

الأمة التي تعلن عن الربا وتبيحه وتستعمله وتأكل وتعيش عليه أفسدت أو لا؟ والله أفسدت.

والخلاصة: تعاليم الله عز وجل قوانينه بعضها يجب فعله، وبعضها يجب تركه، فإذا أهمل الناس هذه القوانين فعبثوا بها فتركوا الواجب، وفعلوا الحرام، أفسدوا في الأرض بذنوبهم.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ [الإسراء:4] وعزتنا وجلالنا: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4]، والعلو الكبير ما هو؟ يعني: طلعوا للسماء؟ لا. بل الكبرياء والغطرسة والتعالي والتجبر والأذية والظلم.

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ...)

قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا [الإسراء:5]، فإذا جاء وعد أولى المرتين، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5].

لطيفة ما قال: (بعثنا عليكم عبادنا) لا. فما هم أهل لأن يضيفهم إلى نفسه، فالكافر تقول فيه: عبد الله أو عبد الشيطان؟ لذا قال: عبادي الذين هيأتهم لضربكم، وما هم عبادي بل (عباد لي) أستخدمهم فقط، تقول: هذا عبدي وهذا عبد لي، إذا قلت: عبدي معناه أنك تحبه وأنه منك، وإذا قلت: عبد لي، أي: مهيئه فقط للعمل.

بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، والبأس هو ما يصيب المرء من والشقاء -والعياذ بالله- والضرب والقتل والتوجيع والسجن.. وما إلى ذلك، والشديد القوي: أقوياء في الحرب، بأسهم شديد.

بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ [الإسراء:5]، تتبعوهم، يبحثون عنهم ويقتلونهم في الأسواق والشوارع والأزقة وكل مكان.

فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء:5]، لكن هذا الوعد ظلمهم الله فيه؟ لا والله أبداً، أعلمهم أنهم إذا استقاموا على منهج الحق ومشوا على نوره لن يخسروا أبداً، ولن يكربوا، ولن يحزنوا، لكن إذا تكبروا وعلوا وآثروا شهواتهم وأطماعهم ودنياهم، وعدلوا عن شرع الله عز وجل يسلط عليهم حسب سنته من يذلهم ويهينهم.

وسلط عليهم جالوت أول مرة، ولما تابوا ورجعوا إلى الله حينئذ عادت لهم دولتهم -كما قدمنا- أعظم دولة في العالم، دولة سليمان حكم العالم بأسره في ذلك الزمان، فلما انتكسوا أكلوا وشربوا وهبطوا للنكاح والباطل -كما هي الأمم والشعوب- صفعهم الله صفعة أخرى، وسلط عليهم بختنصر من البابليين أيضاً.

هذا تدبير الله، فلهذا لا تقولوا: حرب عالمية، والله إنها لآتية، والله إنها لقريبة الوعد والوقت؛ لأن الدنيا خمت وتعفنت بالخبث والشر والفساد والكفر والضلال، إلى متى؟ والله مهملهم وحاشاه، فإنه يمهل ولكن لا يهمل أبداً، وإنما هي فقط الساعات والأيام والأعوام.

انظر الفترة هذه ما بين الأولى والثانية مع بني إسرائيل، ولكن تمت كلمة الله أو لا؟ وأبادهم الله مزقهم وشتتهم: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:5-6] على عهد سليمان وداود.

وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6]، ثم قال: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7].

هذا القرآن يجب أن يقرأ على المسلمين فقط اليوم لا على اليهود ولا غيرهم.. المسلمون المعرضون عن شرع الله.. المعطلون لكتابه.. المقبلون على الشهوات والأطماع والفساد، بعدما كانوا في علياء السماء نزلوا إلى هذا الحضيض من الأرض، فهم إما أن يرجعوا في صدق إلى الله ويجتمعوا في روضة الرسول، ويبايعون خليفة المسلمين، ويطبق شرع الله فيهم في الأربعة وعشرين ساعة -لقرب المواصلات- وترتقي راية لا إله إلا الله في العالم، وترتعد فرائص البشرية، ويسود الإسلام، وتنتشر الدعوة الإسلامية في العالم بأسره.

أو يستمرون على هذا التحزب والتعصب، والدويلات والأقاليم المهزومة، هكذا ليستمر الفسق والفجور والظلم والشر، والله ما تخطئهم: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

سئل أحدهم: أين ربك؟ قال: بالمرصاد، نظر إلى قول الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، الذي أهلك عاداً وفرعون ما زال هو هو ينتظر، فإما أن يرجع المسلمون رجعة صادقة إلى ربهم، وإما أن تدوسهم نعال أوروبا وأمريكا وبلاياها وخزاياها.

والله تعالى أسأل ألا يسلطهم علينا، اللهم آمين.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الإسراء (2) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net