إسلام ويب

إن المؤمنين الصادقين يجب عليهم الثبات عند لقاء عدوهم، وقد أمرهم الله عز وجل أن يلتزموا طاعة الله ورسوله حال الحرب، وعدم التنازع؛ لما في ذلك من إضعافهم وإلحاق الهزيمة بهم، ثم يعرفهم سبحانه بحال عدوهم، وأنهم خرجوا من ديارهم بطراً وكبراً ورياء وسمعة، وإنما استمعوا لصوت الشيطان الذي غرهم، وزين لهم قوتهم، حتى آل أمرهم إلى الهزيمة المنكرة، وكان منتهى عملهم الخزي والبوار في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم واليومين بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن ما زلنا مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الخمس، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها متأملين متفكرين فيها، ثم بعد ذلك نتدارسها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:45-49].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، اذكروا أن غزوة بدر هي أولى الغزوات في الإسلام، وقد سبقتها سرية واحدة قادها عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم، وفائدة ذلك: أن نعلم كيف علمهم الله جل جلاله في هذه الآيات الكريمة كيف يقاتلون أعدائهم وينتصرون عليهم؟ فناداهم بعنوان الإيمان فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:45]، وقد تكرر قولنا في هذا: وهو أن المؤمن حي يسمع النداء ويجيب، فلهذا ما قال: يا أيها الناس! أو يا أيها الأصحاب! وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:45]، إذ هم الأحياء كامل الحياة.

إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً [الأنفال:45]، والفئة هي الجماعة المقاتلة، وهذا اللفظ لا يطلق في الغالب إلا على المقاتلين، ولعله مأخوذ من فاء يفيء إليه إذا رجع، فهم إذاً اجتمعوا ورجع بعضهم إلى بعض وكونوا جماعة أو فئة، إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً [الأنفال:45]، وقطعاً هي فئة كافرة ومشركة تريد حربكم وقتالكم، فماذا تصنعون؟

قال: فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، وهذا أول أمر من تعاليم القتال الناجح والمنتصر أصحابه، فأولاً: الثبات، فلا تتزعزعوا ولا تتراجعوا ولا تعطوهم أدباركم وتتولوا، ولكن الثبات كالجبال الراسية، إذ لا يحل أبداً لمقاتل من المؤمنين أن يهرب وأن يعطي العدو دبره، والثبات في المعركة يعني عدم الانهزام والفرار، فهذا أول واجب من تعاليم الجهاد في سبيل الله تعالى.

ثانياً: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال:45]، سبحان الله! الذكر أثناء القتال والمعركة دائرة والأرواح تزهق؟! إي نعم، ومن هنا اعلموا أن ترك الذكر هو الخروج عن آداب الإسلام والإيمان، فإذا كان الله لم يعذر زكريا في الذكر وذلك حين منعه أن يتكلم بأية كلمة، ويتعامل مع أهله بالإشارة والرمز، إلا الذكر فيذكر الله عز وجل، فكذلك لم يعذر الله عز وجل المقاتلين المواجهين للعدو والحرب دائرة في ترك الذكر، ولهذا لا يترك ذكر الله في أي موطن وفي أي حال اللهم إلا في حال التبرز والتغوط وأنت في المرحاض؛ لأن ذكر الله صلة تربط العبد بربه فينجو ويسلم ويقوى ويسعد، لكن هذا الذكر في المعركة يكون سراً بين العبد وربه، فيذكر العبد إيمانه به ولقائه بين يديه، ويذكر أن هذا القتال إنما هو في سبيله، فيقول العبد: سبحان الله، أو الحمد لله، أو الله أكبر، اللهم إلا عند التحام المعركة فإنهم بصوت واحد مرفوع يقولون: الله أكبر، إذ بهذه الكلمة تنهار قوى العدو ويتزعزع، وبعد ذلك الذكر بالقلب واللسان فقط لا برفع الصوت أبداً.

وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال:45]، وليست لحظات وتسكت، وإنما اذكروا الله كثيراً ليعدكم بذلك إلى الفلاح، وهو النجاح والفوز بانتصاركم على عدوكم، وبذلك يكون انتصار دينكم، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

إذاً: أولاً: الثبات، فلا انهزام لا فرار ولا إدبار، وإنما إقبال فقط، وثانياً: قول: الله أكبر عند الهجوم على العدو، ومن العجيب أنه في أفغانستان في بداية القتال كان أحد الإخوان له فئة قوية فئة وأراناها في مكان ما، وقد أمرهم أن يهجموا على العدو، وذلك صورياً فقط، وكبروا: الله أكبر، والله كانت في قلوبنا كالصاعقة، ولها دوي ليس له حد، وبالتالي إذا كنت أمام عدو كافر وكبرت فإنه والله ينهار وينهزم، والله أكبر حقاً وصدقاً، فلا أكبر من الله، فمن يقوى على حرب الله وحرب أوليائه؟ الله أكبر!

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...)

قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

ثالثاً: من تعاليم الجهاد: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:46]، ويدخل في هذا القائد الذي يقود المعركة، فيجب أن يطاع تمام الطاعة ويحرم الخروج عنه؛ لأن الخروج عنه تفتت وتحلل وانهزام، ففي أيام كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد، وبعد وفاته من تولى قيادة معركة فإنه يجب أن يطاع بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَطِيعُوا اللَّهَ [الأنفال:46]، في هذه الأوامر فنمتثلها، أي: الثبات، والذكر، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:46]، في الأمر والنهي لا سيما في خوض المعركة.

رابعاً: وَلا تَنَازَعُوا [الأنفال:46]، والتنازع كل يريد أن ينتزع القضية له ويدعي أنه على الحق، وأن فلاناً ليس على الحق، وهذا التنازع محرم، إذ لا يجوز بين المسلمين في السجن فضلاً أن يكون في الحرب، إذ لو تنازع الجيش في قضية من القضايا انقسم، وإذا انقسم تحلل وهلك، ولذا لابد من الوفاق والاتفاق والتجمع، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46]، من يرد على الله تعالى؟ لا أحد، والله ما تنازع جيش إلا وفشل، فإذا تنازعتم فهذا يقول: نقاتل من هنا، وهذا يقول: لا، بل من هنا، وهذا يقول: لماذا؟ وهذا يقول كذا، فقد فشلوا والله، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46]، والفشل هو الضعف والانهيار والسقوط الذي يتسبب عن التنازع والخلاف، ثم قال تعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، أي: تفشلوا وتذهب ريحكم، وريحهم هي قوتهم الدافعة، ومن المعلوم أن الريح تقتلع الأشجار والبيوت، بل وتهدم الجدران، فكذلك قوة الجيش كقوة الريح.

ومن اللطائف: لما تقف في طريق ما وتأتي سيارة مسرعة تكاد أن تسقط وتقع على الأرض، وهذا معنى قوله تعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، فريح السيارة ريح قوي، وكذلك المؤمنون إذا كانوا صفاً واحداً أو كتلة واحدة فلهم ريح كالعاصف من الريح، وإذا اختلفوا فقدوا هذه الريح وذهب ريحهم ونصرتهم وكمالهم.

وَلا تَنَازَعُوا [الأنفال:46]، أي: أيها المجاهدون! فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46]، أي: يترتب على ذلك النزاع الفشل والانهيار والضعف وذهاب الريح، وعند ذلك تصبحون منهزمين لا يبالي بكم العدو أدنى مبالاة.

خامساً: وَاصْبِرُوا [الأنفال:46]، والصبر في المعركة يعني الثبات بمقومات الصبر وهو ذكر الله وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحرمة النزاع، وعليه فاصبروا على هذه التعاليم القتالية الجهادية ولا تفرطوا في شيء منها أبداً، واعلموا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ومن كان الله معه لن ينكسر ولن ينهزم، ومن لم يكن الله معه والله لانكسر وانهزم.

وهنا لطيفة قد ذكرها الشيخ رشيد رضا تغمده الله برحمته في تفسيره المنار فقال: اشتعل نار حرب بين الأتراك والبلقان، فصدر أمر من القيادة إلى الجيش التركي الإسلامي بمنع الأذان والصلاة! فأصيبوا بهزيمة لا نظير لها، فلما عرفوا هزيمتهم خرج القادة بعمائهم الخضر على رؤوسهم وهم يقولون الأذان، فانتصروا مرة أخرى بعد الانكسار الأول، فكانت هذه تجربة عملية في الميدان، ولهذا لو كان لجيوشنا الإسلامية زيها وأذانها وتعاليم ربها والله ما انكسرنا يوماً ولا انهزمنا، لا أمام اليهود ولا أمام البلشفة والصليبية الحمراء، وهذا هو الواقع.

أعيد عليكم ما تضمنه النداء الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً [الأنفال:45] ، والفئة هي الجماعة المقاتلة، فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، فلا تزعزع ولا تتحرك، وإنما كالجبال الراسيات، وهذا أولاً.

وثانياً: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال:45]، بألسنتكم وقلوبكم، وذلك لأنها طاقة لا نظير لها يستمدها العبد من ربه عز وجل، وما دام العبد يذكر الله فإنه يذكر لقائه وأمره ومحبته له، فلا يتزعزع أبداً، ولا يتألم لجوع ولا لتعب ولا لسهر ولا لقتال ولا لشيء ما، وقد عرفنا أن الذكر عند الهجوم على العدو يكون بصوت واحد: الله أكبر، ثم يبقى الذكر مستمراً بالقلب واللسان، ثم قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:46]، وقد قلنا: أطيعوا القيادة التي تقودكم، إذ لا تأمرك إلا بما فيه مصلحة للمعركة ولانتصار للمؤمنين، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ماذا يترتب على الخلاف؟ الفشل والهزيمة وذهاب القوة والريح، ثم قال تعالى: وَاصْبِرُوا [الأنفال:46]، أي: على هذه التعاليم الأربعة كما هي، واعلموا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ومن كان الله معه لا يفشل ولا ينهزم أبداً.

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ...)

قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47].

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:47]، من هؤلاء؟ هؤلاء جيش أبي جهل القائد المهزوم، فقد خرج مع رجاله من مكة بألف مقاتل، وقد خرجوا من ديارهم -مكة-بطراً، والبطر هو منع الحق وأذية المؤمنين، ورئاء الناس، يعني: المباهاة والفخر، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:47]، أي: عن الدين الإسلامي، فيصدون كل من أراد الإسلام والالتحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم في المدينة، فيصرفونه صرفاً قوياً، وبالتالي فلا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء في هذه الصفات.

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الأنفال:47]، للعنترية والطغيان وللتدمير والقتل، إذ هذا لا يصح من المؤمنين أبداً، ولا من أجل المباهاة والفخر ورئاء الناس وأننا أقوياء، ولكن نخرج من أجل تحقيق كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبهذه النية التي خرجوا بها كان ذلك سبب هزيمتهم ودمارهم وخرابهم، ولذا لا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم في جهادكم وفي قتالكم، كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47]، فيتعنترون ويدبرون والله قد أحاط بهم علماً ومعرفة وهم بين يديه، إن شاء أوقفهم، وإن شاء دمرهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم...)

قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [الأنفال:48]، أي: واذكروا أيها المؤمنون! إذ زين الشيطان لهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس أعمالهم، وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48]، وذلك أنه جاء عدو الله إبليس في صورة رجل من أقوياء رجال بني بكر وهو سراقة بن مالك بن جعشم، وبنو بكر كانت بينهم وبين قريش مقتلة ودماء، فجاء الشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، أي: من أعداء قريش، وذلك ليعينهم ويطمئنهم أن عدوهم لن يأتي من خلفهم لينتقم منهم أو يحتل بلادهم، إذ كانت قريش تتوقع أن العدو سينصب عليها ويخلفها في ديارها، فجاء الشيطان في صورة رجل من رجالات ذلك العدو ليطمئنهم، وقال: إني جار لكم، أي: أنصركم وأقف إلى جنبكم وأؤيدكم.

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [الأنفال:48]، ما هي هذه الأعمال؟ قتال المؤمنين وصدهم عن سبيل الله وصرفهم عن الإسلام، وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ [الأنفال:48]، فقاتلوا محمداً ورجاله، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48]، والجار هو من يحميك وينصرك ويقف إلى جنبك، فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ [الأنفال:48]، أي: فلما تراءت جماعة المؤمنين وجماعة الكافرين وجهاً لوجه، ودقت ساعة الالتحام، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [الأنفال:48]، أي: انهزم وجري هارباً، وقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال:48]، يا معشر جيش أبي جهل! لماذا؟ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ [الأنفال:48]، وقد رأى جبريل عليه السلام وهو يقود صف الملائكة، إذ الجن والملائكة متقاربان في الأصل، فهذا من النار وهذا من النور، ولهذا يرى بعضهم بعضاً، وليسوا كالبشر، وعلى كل ما إن رآه حتى فر منهزماً ورجع إلى الوراء ونكص على عقبيه وهو يقول: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال:48]، يا معشر قريش! إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الأنفال:48]، ولعله قد خطر في باله أنها الساعة التي أنظره الله إليها، إذ قال تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [الأعراف:15]، فقال: هذه ساعة هلاكي، ومن الجائز أنه كذب وهو كذوب، إذ لو يخاف الله ما يدعو إلى الفاحشة والباطل والمنكر، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].

تفسير قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ...)

قال تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ [الأنفال:49]، أي: اذكروا أيها المؤمنون! هؤلاء المنافقين الذين كانوا في المدينة، إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال:49]، أي: أنهم مؤمنون لكنهم ضعفاء الإيمان، إذ في قلوبهم شك وريب، فليس هو نفاق كامل ولا إيمان كامل، وهؤلاء لما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة فقط والمدينة فيها ألوف، أخذوا يهزئون ويسخرون ويقولون: كيف يقاتلون الكفار؟! كيف يقاتلون أهل مكة؟! إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49]، أي: غرهم وخدعهم إسلامهم ودينهم، فخرجوا ليموتوا على أيدي قريش، وهذه تسمى بالشائعة والإشاعة، وقد أشاعوها عندما خرج الرسول مع المؤمنين إلى بدر، فذكرهم الله أيضاً بهذه بالذات في المدينة، فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال:49]، أي: مرض النفاق، فهم مؤمنون لكنهم ضعاف الإيمان، غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49]، أي: خدعهم وهم خرجوا ليموتوا على أيدي قريش.

ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49]، فالمؤمنون خرجوا متوكلين على الله وهم أقلية فنصرهم الله؛ لأن الله عزيز غالب لا يمانع فيما يريده، حكيم يعطي النصر من يستحقه، ويضع الشيء في موضعه.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

أسمعكم الآيات مرة أخرى فتأملوا! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ [الأنفال:45-48]، أي: واذكروا، وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [الأنفال:48]، وهو قتال المؤمنين، وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48]، فمن هو هذا؟ هذا أبو مرة، هذا عدو الله إبليس، فقد جاء في صورة سراقة بن جعشم، فماذا قال لهم؟ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ [الأنفال:48]، أي: فئة المؤمنين وفئة الكافرين، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [الأنفال:48]، هارباً، وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الأنفال:48]، لماذا؟ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ [الأنفال:48]، فقد شاهد جبريل والملائكة، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].

واذكروا أيضاً ما تم ورائكم في المدينة، فقال تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

والآن أسمعكم هداية هذه الآيات، إذ إن لكل آية هداية، فالقرآن هدى للناس، فكل آية تحمل هداية، وآيات القرآن -كما هو معلوم- ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تحمل هداية، هداية إلى أين؟ إلى معرفة الله وطاعته، ثم إلى دار السلام والنعيم المقيم، وعلى سبيل المثال: قوله تعالى: ق [ق:1]، حرف واحد، فمن أنزل هذه الكلمة؟ من قالها؟ والجواب: قالها الله تعالى، إذ ما ادعاها أحد، على من أنزلها؟ على شخص واحد، فمن هو هذا الشخص؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً فهذه الكلمة تدل على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله موجود، وهو عليم حكيم قوي قدير، وقد أوحاها إلى من اصطفاه واختاره، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فكل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مفتاح الدخول في الإسلام.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات: أولاً: بيان أسباب النصر وعوامله، ووجوب الأخذ بها في كل معركة، وهي: الثبات، وذكر الله تعالى، وطاعة الله ورسوله، وطاعة القيادة، وترك النزاع والخلاف، والصبر والإخلاص ]، وهذا كله مأخوذ من الآية الأولى.

قال: [ ثانياً: بيان عوامل الفشل والخيبة، وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار ]، ومن أمثلتنا التي عرفناها: لما أراد العرب أن يقاتلوا اليهود قالوا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها، عروبتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها، ودخلوا المعركة بهذا الاعتزاز والرياء فكانت هزيمة مرة، وإلى اليوم نتذوق مرارتها، إذ ما قرءوا القرآن وما اجتمعوا عليه، ولا عجب في ذلك، فالقرآن نقرأه على الموتى لا على الأحياء.

قال: [ ثانياً: بيان عوامل الفشل والخيبة، وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار ] بالقوة.

قال: [ ثالثاً: بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.

رابعاً: بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود القتال ونشوب الحرب.

خامساً: وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين ].

معاشر المستمعين! أقول: أين الجهاد الذي نكبر الله فيه ونثبت وننتصر؟ نسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتصبح أمة الإسلام أمة واحدة، ويومها إذا منعتنا دولة من الدول أن ننشر الإسلام فيها دخلنا بقوتنا.

إذاً: فما هو الواجب علينا الآن؟ الواجب هو ذكر الله بقلوبنا وألسنتنا ليل نهار، إذ هو الحصن الحصين الذي يحفظنا من الوقوع في المعاصي والآثام، فهيا بنا نجاهد أنفسنا، ونجاهد الشيطان عدونا فلا نسمح له أبداً أن يغوينا أو يوقعنا في مهالك الذنوب والآثام، إذ هذه فرصة متاحة لنا، وقد أراحنا الله فوضعنا السلاح، فهيا بنا نجاهد هذا العدو حتى نظهر فينا مظاهر الصدق والإيمان والصلاح، فلا تشاهد في ديارنا خبثاً ولا تسمع باطلاً ولا يعلن عن منكر، وكلنا كلمة واحدة، وبهذا نتهيأ لسعادة الدنيا والآخرة.

إن الجهاد الآن هو جهاد النفس، وجهاد الدنيا الغاوية، وجهاد الشيطان عليه لعائن الرحمن، وهذا الجهاد يجب أن نبذل فيه جهدنا وطاقتنا، وعلى الأقل نتخلى عن كبائر الذنوب والمعاصي، والحصن الحصين في ذكر الله رب العالمين، فحصنوا أنفسكم بذكر الله تعالى، فلا تفتر ألسنتنا ولا قلوبنا ذاكرة لله عز وجل، فالذكر هو الحصن الحصين الذي يحفظنا من الوقوع في النار، وأن يغضب علينا ربنا، والله تعالى أسأل أن يحقق لنا ذلك إنه قوي قدير.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنفال (13) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net