إسلام ويب

زيادة في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن سلك طريق الأنبياء من المصلحين والدعاة، يخبرنا الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام كيف أعلن كلمة التوحيد بين ظهراني عباد الأصنام؛ حيث لا مساومة على توحيد الله، ولا مداهنة على حساب العقيدة، فأمر قومه بأن يوحدوا الله وأن يخصوه بالعبادة دون سواه، لأنه الخالق الرازق، وأمّا تلك الأوثان التي صنعها الأفّاكون، فهي جمادات لا ترزق ولا تخلق ولا تدبر، فكيف تعبد إذاً وتتخذ أنداداً لله عز وجل الذي تُرفع إليه الحاجات، ويستغاث به حال الكربات، وإليه مرجع الخلق بعد الممات، فالواجب على العباد شكر من أسدى النعمة وتوحيد من خلق الأمة.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وما زلنا مع آيات سورة العنكبوت المكية المدنية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:16-18].

ما زلنا مع سورة العنكبوت ومع الآيات التي تدارسناها بالأمس، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس عرفنا من هو إبراهيم؟ من هو الأب الرحيم؟ من هو خليل الرحمن؟

إبراهيم بن آزر، أبو الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ها نحن معه وهو يواجه قومه المشركين الكافرين، الذين كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله ورسوله إبراهيم، وكفروا بالله وشرعه وعبادته.

ماذا قال تعالى؟ قال: وَإِبْرَاهِيمَ [العنكبوت:16]، أي: قص واذكر يا رسولنا إبراهيم وما جرى له وما تم له مع قومه حتى تتحمل أنت ما تلاقيه من الشدة والقساوة من المشركين في مكة، فالآيات من باب تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات حتى يبلغ دين الله.

معنى قوله تعالى: (إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه)

قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت:16] وهم: البابليون عبدة الأصنام والأوثان المشركون.

ماذا قال لهم؟ اعْبُدُوا اللَّهَ [العنكبوت:16]. ما معنى اعبدوه؟

أي: أطيعوه فيما يأمركم باعتقاده وفعله وقوله، وفيما ينهاكم عنه من معتقدات باطلة وأقوال سيئة وأعمال فاسدة، إذ سعادتكم منوطة بهذه العبادة في الدنيا والآخرة.

اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16]، اتقوه ولا تخرجوا عن طاعته، ولا تفسقوا عن أمره!

خافوه، واخشوا عقابه وعذابه؛ وذلك بفعل ما يأمركم بفعله، وترك ما ينهاكم عن تركه، إذ الله تعالى يتقى بماذا؟

بطاعته، لا بالحصون ولا بالأسوار ولا بالجيوش.

بم يتقى الله؟ بطاعته، بوجود خوف في القلب يحمل صاحبه على طاعة الله حتى لا يعصيه ولا يخرج عن طاعته.

اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16]، ثم قال لهم معللاً: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]، عبادتكم لله تعالى، تقواكم لله تعالى خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]، حقاً هي خير لهم؛ لأن علة وجودهم أن يعبدوا الله، وما خلقهم الله إلا لعبادته، فإذا عبدوه أعزهم.. أكرمهم.. أسعدهم.. طيبهم.. طهرهم.. ثم أماتهم ورفعهم إليه صالحين.

اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ [العنكبوت:16] أي: العبادة والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16].

من لا يعرف الله لا يعبده حق عبادته

فهذه لطيفة في باب العلم: من لا يعلم ولا يعرف لا يعبد!

ثقوا في أن الذي ما عرف الله معرفة يقينية -أثمرت له قلباً خاشعاً، خائفاً، راغباً، راهباً- ما يستطيع أن يعبد الله.

الذي لا يعرف الله لا يستطيع أن يتقيه إلا بعد معرفته.

كيف نعرف الله؟

نعرف الله كما بينا، بكتابين عظيمين: الكتاب الأول: القرآن الكريم.

كلام من هذا؟ اقرأه، استمع إلى من يقرأه يحدثك عن الله فتعرف الله بأسمائه وصفاته، وتعرف جلاله وكماله وعلمه ورحمته، فيمتلئ قلبك بحبه والخوف منه.

الكتاب الثاني: كتاب الكون: ارفع رأسك إلى السماء وانظر، من سماها؟ من رفعها؟

انظر إلى الكواكب من أوجدها؟!

انظر إلى هذا الكون من أوجده؟

وعندي نظرة لطيفة عجيبة! أنتم أيها المستمعون الجالسون أجناس متنوعة، لا يوجد اثنان لا يميز بينهما أبداً، فلا إله إلا الله!

والله لو كان هذا الخلق من غير خلق الله لاختلطت البشرية وما فرق بين شخص وآخر، هذا يدخل على بيت هذا وعلى بيت هذا، فسبحان الله لكل إنسان عينان.. أنف.. منخران.. شفتان.. جسم، ولا يمكن أن يكون أحد كالآخر.

هذه عندي أعظم آية تدل على وجود الله.. على علم الله.. على قدرة الله.. على رحمة الله.. على لطف الله..

على أنه لا إله إلا الله.

وقد قال: وَمِنْ آيَاتِهِ [الروم:22] أي: العلامات الدالة على وجوده وعلمه وقدرته ماذا؟ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22].

تدخل للسوق به آلاف.. تدخل للجيش فيه عشرات الآلاف فلا تجد اثنين لا يفرق بينهما!

سبحان الله العظيم! كيف يتم هذا؟ أي آية أعظم من هذه الآية؟

لو كانت البشرية تخلق وتتماثل ما ينتظم الكون أبداً، فهذا يدخل على بيت هذا ويقول: هذا بيتي، وأم تقول: هذا ابني. وزوجة تقول: هذا زوجي.. كيف تنتظم الحياة؟! فقط بهذا الاختلاف.

اختلاف الألسن أسهل من اختلاف الألوان، ومع هذا فإننا نعجب كيف ينطق هذا وينطق هذا بألفاظ مختلفة تدل على معان واحدة.

من فعل هذا؟ صناع؟ فلاسفة؟ أطباء، حكماء، من ؟ لا إله إلا الله.

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]، لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15]، أما الجاهلين فلا يعرفون.

وهذا إبراهيم يذكر هذا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16].

وهنا نعرف أن البشرية كلها تعيش في ظلمات الجهل إلا من شاء الله، ولا نكرب ولا نحزن على غير المسلمين، لكن المسلمين يجب أن يكونوا علماء نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً، وليس شرطاً أبداً أن يلازموا المدارس والمعاهد أبدا.

تعليمنا هو في حلق الذكر، ما بين المغرب والعشاء.. أهل القرية يوقفون العمل الساعة السادسة!

الفلاح يلقي المسحاة من يده.. النجار يلقي المنجرة من يده!

صاحب التجارة يغلق باب تجارته، يتوضئون ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم.. إلى المسجد الجامع.. يصلون المغرب كما صلينا، ويجتمعون كما اجتمعنا، ويجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، ليلة آية من كتاب الله، يتلوها المعلم ويرددها عشر دقائق ويحفظها كل الحاضرين من نساء ورجال، ربع ساعة يشرح لهم معناها، ويضع أيديهم على المطلوب منها، فيعودون إلى بيوتهم مزودين بالأنوار الإلهية، وفي اليوم التالي يجلسون جلوسهم الأول مع حديث من أحاديث رسول الله، يتلوه المعلم ويردده عشر دقائق، فيحفظه النساء والرجال، ثم ربع ساعة يشرح لهم معنى الحديث وما هو المطلوب، فيضع أيديهم على المطلوب فيلتزمون به.

وهكذا يوماً آية ويوماً حديثاً طول العام، هل يبقى بينهم جاهل بالله؟ والله ما يبقى.

هل يبقى بينهم من لا يعرف محاب الله ومساخطه؟ والله ما يبقى.

ومن ثم تتجلى الأنوار، فلا يبقى في القرية كذاب ولا سراق ولا مجرم ولا لص ولا.. ولا..؛ لأنهم طابوا وطهروا.

وما يكون في القرية يكون في حي المدينة.. المدينة ذات الأحياء، كل حي يجتمع أهله من المغرب إلى العشاء طول العام كاجتماعنا هذا، يتعلمون الكتاب والسنة، لأن عندنا من هم جالسون في هذه الحلقة ووالله ما يعرفون الألف من الباء ولا يكتبون، فلو يعملون بما قلنا والله لأصبحوا علماء، لا يقف أمامهم عالم يرد عليهم، يسمعون ويطبقون ويحفظون، وهم تجار في تجاراتهم أو صناع في مصانعهم.

فقط ساعة ونصف يقضيها في المسجد، فكيف يتعلم المؤمنون؟ درسنا هذه القضية وبكينا واشتكينا زمان، وألفنا كتاباً سميناه: (كتاب المسجد وبيت المسلم)، فيه ثلاثمائة وستون آية وحديث على مدار السنة، ليلة آية وليلة حديث، ليلة آية وليلة حديث، ووزعناه في العالم الإسلامي، ووضعنا جائزة ثلاثين ألفاً إذا وجدنا قرية اجتمعوا عليه طول العام نقدم لهم جائزة بثلاثين ألف ريال، ونزورهم ونزور ديارهم لنراهم، ومع هذا لم يحصل شيء، ونحن نشاهد الخبث والنتن والعفن بأنواعه: الجهل، الشرك، الكفر، الفساد، الظلم.. كل هذه ثمار الجهل ونتائج الجهل، هذا إبراهيم مع قومه، يقول: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]، أما إذا لم تعلموا فلن تنتفعوا بما أقول لكم، ما تنفعكم العبادة وأنتم جاهلون بمن تعبدونه.

تفسير قوله تعالى: (إنما تعبدون من دون الله أوثاناً...)

ثم قال لهم: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا [العنكبوت:17]، وبالأمس قلنا: الأوثان: جمع وثن، تمثال من حجر.

وأما الصنم فهو من ذهب أو فضة أو نحاس، يصنعونه من ذهب أو فضة، والوثن من الحجر والحصى وما إلى ذلك.

ماذا قال لهم: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [العنكبوت:17] ماذا؟ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17] تكذبون وتسمون هذه الأصنام آلهة، وتدعونها وتعكفون حولها، وتحلفون بها، وتدعون أنها ترزقكم وأنها تحفظكم وأنها وأنها، وهي مجرد كذب كذبتموه، وهو والله كذلك.

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [العنكبوت:17] ماذا؟ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17] وكذباً، وتقولون: هذا الله أو مع الله يدعى.. يدعى مع الله؟!!

معنى قوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً)

ثم قال لهم: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا [العنكبوت:17]، إبراهيم الحكيم عرف أن حاجة الإنسان إلى الرزق حاجة ضرورية.. حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والكساء والمأوى ضرورية، وهؤلاء ما عبدوا الأصنام إلا من أجل الخوف من الجوع والعري؛ يعبدون هذه الأصنام ويدعونها من أجل أن يحصلوا على القوت اللازم في الحياة، وهو الواقع، فقال لهم: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا [العنكبوت:17]، والله ما يملكون رزقاً.

هل يأمرون السماء أن تمطر فتمطر؟!

هل يأمرون الأرض أن تنبت النباتات..؟!

هل يأمرون الحيوانات أن تتوالد..؟!

هل يأمرون الحيوان أن يوجد فيها لبن..؟!

لا.. لا.. لا، والله لا يملكون رزقاً، وإنما يملكه الله فقط.

يا من تعبدون الآلهة من أجل الرزق اعلموا أنهم لا يملكون لكم رزقاً، بل هم أصنام وأحجار فكيف تملك الرزق؟

من أين يأتيها؟ ولكن الجهل المركب، والعمى والتقليد جعلهم لا يفكرون هذا التفكير أبداً.. ما يملكون لكم رزقاً.

إذاً: فابتغوا عند الله الرزق، اطلبوا الرزق عند الله، فهو الذي يرزقكم، أما هذه الأصنام والأحجار والتماثيل والآلهة المدعاة الباطلة والله ما تملك رزقاً ولا ضراً ولا نفعاً.

إذاً: فاطلبوا الرزق من أين؟ من الله. قولوا: يا ألله، رزقك يا ألله، احرث الأرض وقل: ارزقني يا رب؛ تنبت لك البر والشعير.

استجلب الغنم والبقر وادع الله، تحلب لك اللبن وتوجد لك الولد، إذ الله هو خالق كل شيء وبيده كل شيء.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17]. نعمه عليكم.

ذكر ما يكون به الشكر

وهنا معاشر المستمعين هل نحن من الشاكرين؟

قد نقول: نحن من العابدين، والشاكرين؟ الشاكر ذاك الذي لا يأكل لقمة إلا ويقول: الحمد لله!

لا يلبس ثوباً إلا ويقول: الحمد لله!

لا يركب سيارة أو دابة إلا ويقول: الحمد لله!

لا يفرغ من طعام ولا شراب إلا قال: الحمد لله!

لا يلبس ثوبه إلا قال: الحمد لله.

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني وسقاني وكساني هذا الثوب ولو شاء لأعراني ).

والشكر -عباد الله- يكون:

أولاً: بالاعتراف لله بالنعمة، سواء نعمة السمع أو البصر أو العقل أو الدينار أو الدرهم أو الأمن أو الراحة.

الاعتراف بالقلب أن هذه النعمة من الله، هو واهبها ومعطيها، ولا يملكها سواه.

ثانياً: حمد الله وشكره باللسان.

ثالثاً: شكره بالجوارح.. بطاعته.

رابعاً: أن نصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله بها علينا.

ذلك هو الشكر المطلوب، فاللهم اجعلنا من الشاكرين.

ثم قال لهم: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17] أي: آلاءه وإنعاماته عليكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]، ذكرهم بالحياة الثانية.. بالعودة من جديد للجزاء لا للعمل.

سر الوجود والحياة

وهنا لطيفة علمية في الدرس: دائماً نقول وبلغوا: لو تسأل فيلسوفاً أوروبياً.. أمريكياً.. يابانياً.. وتقول له: ما السر في هذا الوجود؟!

إذا كان عندك علم أو حكمة أو بصيرة: لم أوجد الموجد هذا الكون؟

والله لا يعرف شيئاً أبداً.

لكن اسأل أحداً من أهل القرآن والسنة النبوية: لم خلق الله هذا الكون؟ يقول لك: خلقه من أجل أن يعبد فيه، خلقه من أجل أن يذكر ويشكر، واقرءوا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

إذاً: ما خلق الله هذا العالم كالعمارة أو النزل وأوجد الآدميين فيه إلا من أجل أن يذكر ويشكر، والله ليس إلا هذا.

سر هذه الحياة وعلة وجودها: من أجل أن يذكر الله فيها ويشكر.

وسر الحياة الثانية.. لم أوجدها؟ لم أوجد الحياة الآخرة والمعروفة بالدار الآخرة قبل الأولى؟

الحكمة فيها -والله- هي الجزاء على الكسب في هذه الدنيا فقط لا حرث ولا زرع هنا ولا ولا، ما هو إلا الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فمن آمن وعمل صالحاً واستقام على عبادة الله يسكنه الجنة دار السلام، ومن أشرك وكفر وأعرض وفسق وفجر يدخله النار دار البوار.

عرفتم هذه الحقيقة؟ والله إنها لحقيقة علمية ثابتة ثبوت الشمس والقمر، ما خلق الله هذه الحياة إلا ليعبد فيها، فلهذا من عبده جازاه بجواره في دار السلام فوق السماوات السبع، ومن كفر به وأشرك به أدخله أسفل الكون، أسفل سافلين في عذاب لا ينتهي.

وهذا الخليل يقول لقومه: وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ [العنكبوت:17] لا إلى غيره تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].

معاشر المؤمنين! نحن الراجعون إلى الله!

هل منكم من يقول: لا لا لا؟!

الذين نصلي عليهم بعد كل صلاة رجعوا أو ما رجعوا؟ رجعوا!

هل شرفهم ومكانتهم منعتهم؟ لابد وأن يرجعوا إلى الله، وإليه ترجعون أحببتم أم كرهتم.

إذاً: فمادمنا موقنين بأننا راجعون إلى الله فيجب أن نعمل بما يزكي نفوسنا ويطهرها حتى يرضى عنا ويدخلنا الجنة مع أوليائه.

لا تلهنا الشهوات والأطماع والمفاسد والشرور وتصرفنا عن ذكر الله وعبادته وطاعته ونتعرض لغضب الله وسخطه.

إذاً: ذكرهم بالحياة الآخرة فقال: و إِلَيْهِ [العنكبوت:17] لا إلى غيره تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]، أي: بعد موتكم.

تفسير قوله تعالى: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ...)

ثم قال تعالى لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد! قل لقريش والعرب والأبيض والأسود اليوم: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت:18].

قص عليهم هذه القصة العجيبة، وقل لهم: إن تكذبوا بما سمعتم فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت:18] عاد وثمود والمؤتفكات ولوط وفرعون.

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18]، الرسول لا يطالب أبداً بشيء إلا بالبيان الواضح.

والرسول: من أرسله الله سواء كان نبياً ورسولاً، أو كان داعياً إلى الله، فالدعاة إلى الله مهمتهم أن يبينوا ويوضحوا فقط، يبلغوا رسالة الله واضحة بينة، أما هداية الخلق فليست لهم أبداً، فهذا إبراهيم.. ونوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا نيف وثمانين نسمة.

إذاً: وإن تكذبوا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تؤمنوا به ولا بلقائنا ولا بشرعنا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18].

هو ليس بملزم بهداية الناس وإصلاحهم أبداً، بل هو ملزم فقط بأن يبين الطريق ويوضحه بالبيان الكافي فقط، أما أن يوجد الإيمان في قلوب الناس فليس له قدرة على ذلك، هذا بيد الله: وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

معاشر المستمعين! بلغوا دعوة الله في بيوتكم.. مع إخوانكم.. مع جيرانكم وعلموهم أنكم فقط تبلغون، وأما الهداية فبيد الله من شاء الله هداه ومن شاء أضله.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات: من هداية هذه الآيات:

أولاً: وجوب عبادة الله وتقواه طلباً للنجاة من الخسران في الدارين ].

من هداية هذه الآيات المباركة الثلاث، أولاً: وجوب عبادة الله، ووجوب طاعة الله، ووجوب تقوى الله.

من أجل ماذا؟ من أجل النجاة من عذاب النار والخلد في الجنة، إذ لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا إذا آمن واستقام.. آمن وعبد الله بما شرع له من أنواع العبادات، إذ تلك العبادات مهمتها تزكية النفس وتطهيرها، فإذا زكت النفس وطابت وطهرت فصاحبها أهل للجنة، واقرءوا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال أفلح، ومن دساها وخبثها بالشرك والكفر والمعاصي خسر.

[ ثانياً: بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية ].

من هداية الآيات: وجوب عبادة الله بما شرع، فالله لا يعبد إلا بما تعبد به عباده.

وجوب عبادة الله بما شرع، وبطلان عبادة غير الله سواء كان غير الله ملكاً من الملائكة أو رسولاً من الرسل أو نبياً من الأنبياء، أو ولياً من الأولياء، فعبادة غير الله لا تقبل ولا تصح أبداً، وصاحبها من الخالدين في جهنم.

وهنا يوجد بيننا عوام: اعلموا يرحمكم الله! أنه لا يجوز أبداً أن تحلف بغير الله.

ومن حلف بغير الله أشرك، أشرك هذا المخلوق مع ربه في العظمة والجلال، إذ حلف بهذا الشخص وعظمه، أجله، أكبره، سواه بالله عز وجل، والرسول الكريم يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ). والله العظيم.

أشرك بماذا؟ رفع هذا المخلوق إلى منصب الربوبية، إذ لا يحلف إلا بالله عز وجل العظيم الجليل.

ثانياً: يوجد من إخوانكم، من يستغيث بغير الله ويدعو الأولياء: يا سيدي فلان، يا رسول الله، يا فاطمة ، يا رجال البلاد يا كذا..

هذه النداءات والله شرك محض، وصاحبها -إذا لم يتداركه الله ويموت على: لا إله إلا الله- خالد في جهنم، فلهذا نقول: إذا مرض أحدكم فلازموه ولقنوه كلمة: لا إله إلا الله، فإنه إن مات عليها وحدها دخل الجنة وإن دخل النار.

من مات وآخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، أما أن يموت، وهو يقول: يا ألله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي فلان!! بهذا الشرك والعياذ بالله، مع العلم أنك لو ناديت عبد القادر الجيلاني وأنت واقف على قبره ألف سنة والله ما يسمع صوتك ولا يستجيب لك، فكيف تدعوه؟!

معاشر الإخوان هذا الشرك ظاهر فينا وإن قل في هذه الأيام.. من خمسين سنة خف، لكن قبل ذلك العلماء كانوا يعبدون غير الله والعياذ بالله.

إذاً: فلا نحلف بغير الله، ولا ندعو ولا نستغيث بغير الله، ولا نعكف على قبر، ولا نتمرغ عليه، ولا نبني بناء على قبر، فإن قبور المؤمنين في البقيع تشاهدونها على عهد رسول الله إلى اليوم، لا قباب ولا أضرحة ولا ولا، والله تعالى أسأل أن يوفقنا جميعاً لأن نعيش على كلمة لا إله إلا الله.

[ ثالثاً: ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم، فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم، وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم ].

من هداية الآيات: اعلموا أنه ما عُبد غير الله إلا بسبب الجهل، وأن الذي يفجر ويفسق ويخرج عن طاعة الله إنما سبب ذلك والله الجهل بالله.. ما عرف، فلهذا كل مظاهر الفساد في المسلمين ناتجة عن الجهل فقط، فهيا نقاوم هذا الجهل ونحول الجهل إلى علم.

ولا طريق إلا ما علمتم، فقط أهل القرية يجتمعون في مسجدهم الجامع كل ليلة بنسائهم وأطفالهم ورجالهم طول العام كاجتماعنا هذا: ليلة آية، وليلة حديثاً!

أصحاب المدن في أحيائهم هكذا.. هذا هو الطريق الوحيد الذي به نعرف الله، وإذا عرفنا الله أحببناه ورهبناه وأطعناه، وإذا أطعنا الله اختفى الفسق والفجور والشر والظلم والشرك والكفر، وأصبحنا كالملائكة في السماء.

[ رابعاً: وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه، وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده ].

من هداية الآيات التي تدارسناها وهي ثلاث آيات؛ من هدايتها: وجوب شكر الله تعالى على آلائه وإنعامه، والشكر يكون بالاعتراف بالنعم لله عز وجل، لا أمك ولا أبوك ولا دولتك ولا.. هذا الفضل من الله، هكذا تعترف، ثم تحمد الله بلسانك وتشكره بجوارحك فتطيعه ولا تعصيه، هكذا يكون الشكر لله عز وجل.

[ خامساً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة ].

أخيراً: من هداية الآيات: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتحمل ويطيق ويصبر على أذى المشركين في مكة.

والآية لكل مؤمن يدعو إلى الله في بيته.. مع إخوانه.. يجب أن يذكر بالله وأن يعظ بالله، وأن وأن، ولا يكرب ولا يحزن، فالهداية بيد الله، من شاء هداه ومن شاء أضله، وما عليه إلا البلاغ.

وصلى الله على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة العنكبوت (5) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net