إسلام ويب

بين الله عز وجل في كتابه حال أهل الكتاب، وأن منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح ومنهم الفاسد، فأثنى سبحانه وتعالى على صالحيهم، ذاكراً عنهم أنهم يقرءون آيات الله أثناء صلاتهم بالليل، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في فعل ما يرضي الله عز وجل عنهم، ويجتنبون ما نهاهم عنه سبحانه، وأن ما يفعلونه من الخير لن يجحدوه، وإنما يجازون عليه يوم القيامة.

قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الكريمات، والسورة كما علمتم هي سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات المباركات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].

شرح الكلمات

قال: [ قوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] أي: غير متساوين ]، ليسوا على مستوى واحد، من هم؟ أهل الكتاب من اليهود والنصارى[ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.

وقوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:113]: أي: يقرءون القرآن ] إذ آيات الله هي كتابه وهؤلاء دخلوا في الإسلام وأعلنوا إسلامهم وأصبحوا أهلاً لأن يثني الجبار تعالى عليهم.

[ وقوله: آنَاءَ اللَّيْلِ [آل عمران:113] أي: ساعات الليل، والآناء جمع أنى أو إنى ] بمعنى: الوقت، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: وقته؛ لأن الطمَّاعين والراغبين في شم رائحة النبوة، إذا قال: الغداء عندنا غداً يأتون من الضحى! فيؤذون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا تأتوا إلا وقت وضع السفرة والإقبال على الأكل، والشاهد عندنا: الآناء، وهي جمع إنى أو أنى، يعني: ساعات الليل.

[ وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]أي: يصلون ].

وذُكِر السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، إذ إن أعظم أجزاء الصلاة هو السجود، أما القيام فكل الناس يقومون، وأما الركوع فالآن يركعون لإخوانهم وعظمائهم، أما أن يعفر وجهه في التراب فهذا لن يفعله إلا مؤمن، وعليه فأطلق لفظ السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، وإن كنا نحن الآن نسجد على الفرش والزرابي، وكان المؤمنون الأوائل يسجدون هنا على التراب والحصا، ويضطر أحدهم إلى أن يُبعد الحصا بيده مرةً ولا بأس، ويخرجون وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، ولا بأس أن نسجد على الزرابي المبثوثة، لكن فقط يجب أن نحمد الله عزوجل، وأن نشكره على ذلك.

[ وقوله: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبتدرونها خشية الفوات ]، فإذا دعا داعي الخير أسرعوا، وإذا نادى منادي: حي على الجهاد، بادروا، وإذا نادى منادي: ابذلوا الصدقات، بادروا، فالمهم أنهم يبتدرون لقوة إيمانهم، َيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114].

[ وقوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران:115] أي: فلن يجحدوه ]، ما يجحدون ذلك الخير الذي يسارعون إليه، بل يثابون عليه ويجزون به، ولذلك قال: [ بل يعترف لهم به ويجزون به وافياً ]؛ لأن الله شكور حليم، والشكور: ما يكفر حقوق الناس ولا أعمالهم الصالحة، بل يذكرها ويسجلها ويثيبهم عليها.

فهل تذكرون هذه المعاني في هذه الآيات الكريمات: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115]، وما دام عليماً بهم فسوف يجزيهم.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات:

من أهل الكتاب من يعبدون الله ويتلون آياته

بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب، وأنهم فريقان: مؤمن صالح، وكافر فاسد -في الآيات السابقة- ذكر هنا في هذا الآيات الثلاث: أن أهل الكتاب ليسوا سواء، أي: غير متساوين في الحال -والمآل أيضاً- وأثنى على أهل الصلاح منهم، فقال جل ذكره: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] أي: على الإيمان الحق، والدين الصحيح ]، مِن أقام العود إذا قوَّمه، فما مالوا ولا انحرفوا في عقائدهم وفي عباداتهم، وإنما قائمين على الحق والدين الصحيح، ثم قال: [ وهم الذين أسلموا ] قلوبهم ووجوههم لله رب العالمين، إذ شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحبوا الله ورسوله والمؤمنين، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المكر، ويكفي ما ذَكر تعالى في صفاتهم.

قال: [ وهم الذين أسلموا ] أي: دخلوا في الإسلام، قال: [ يتلون آيات الله: يقرأونها في صلاتهم، آناء الليل، أي: ساعات الليل، وذلك في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون ].

وأهل الكتاب ما كانوا يصلون صلاة العشاء قط، ولا كانوا يتهجدون ولا يعبدون الله بالليل، ويشهد لهذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر يوماً عن صلاة العشاء، فتململ الناس فخرج إليهم وأعلمهم: ( أنهم يصلون صلاة لا يصليها غيرهم في العالمين )، وهي صلاة العشاء، وفيها من الوعد ما تعلمون، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى البردين دخل الجنة )، والبردان: صلاة العصر وصلاة الصبح، فمن صلاهما صلاة حقيقة في وقتها، بأركانها، بخشوعها، وواضب عليها حتى مات، قطعاً دخل الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى العشاء فكأنما قام نصف الليل )، فالذي يصلي العشاء في وقتها مع جماعة المسلمين -يصليها صلاة تُقبل- فكأنما قام نصف الليل، وقال: ( ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله )؛ لأن العشاء وقتها يمكن لكل مؤمن أن يصليها، فما زال وقت النوم لم يدخل بعد، بينما لو نام على فراشه، فلا يوقظه إلا إيمان ورجاء في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى.

فوا أسفاه! واحسرتاه! ماذا أصاب المسلمين؟ من هم الذين يشهدون صلاة الصبح؟ ولا نسبة خمسين في المائة، بل ولا خمسة وثمانين، والعلة معروفة، إذ فتح عليهم اليهود باب اللهو والباطل، فانشغلوا بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام المختلفة والمتنوعة، يسهرون إلى نصف الليل، بل إلى ما وراء نصف الليل، فأنى لهم أن يقوموا آخر الليل؟! وفرح بهذا خصوم الإسلام، والمسلمون نائمون، ويعجبون إذا قيل: ما فائدة هذا التلفاز؟ ما فائدة هذا الفيديو في بيتك؟ ما فائدة هذا الدش أو الصحن الهوائي؟ أسألك بالله، علمنا، قل أي شيء، كم قررنا والله شاهد.

واسألوا صاحب هذا الدش، اسألوه بالله، هل يكتسب منه ريالاً واحداً في الليلة؟ هل يُعطون أموالاً سرية من أجل شرائها؟! والجواب: والله لا، هل يستفيد منه رقة قلبه، وازدياد إيمانه، وقوة بصيرتة؟! والله ما هو إلا العكس، هل يستفيد منه طاقة بدنية، فيقوى بدنه على العمل غداً في مزرعته أو دكانه أو في مصنعه؟! والله ما يزيده إلا انهزاماً وضعفاً، هل يزيده حباً في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى، والشوق إلى مواكب النبيين والصديقين؟ والله ما يفعل هذا، ولا يبعث على هذا أبداً، إذاً: فما هي النتيجة؟

النتيجة: أن يَغضب الملائكة فيخرجون من البيت، ويتركون البيت للشياطين، فإذا استولت الشياطين على البيت فكيف يفعلون بقلوب أهلها؟ يُقسونها، يصرفونها عن الله وذكره، وهذا الكلام مكرر ومعاد، فلم لا يبلغهم؟ أيام كنا مسلمين إذا حدث حادث، قبل أن نقدم عليه نأتي أهل العلم ونسأل: هل هذا يجوز لنا نحن المسلمين أن نقوله أو نفعله؟ فإن قال أهل العلم: هذا حرام، تركناه وأعرضنا عنه، ونصحنا كل مؤمن ومؤمنة حتى لا يفعله، لكن الآن كأن مستوانا العلمي ارتفع! وأصبح الناس كلهم علماء! وأصبحوا في غير حاجة إلى أن يسألوا!

وهنا أقول: من هم الذين قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]؟ بنو الأصفر؟ الأحباش؟ أشراف بنو تميم؟ إذاً فمن هم؟ تتجافى جنوبهم، أي: تتباعد أكتافهم عن المضاجع، إذ إنهم يقومون الليل، فهل الذي يقوم الليل يسهر مع زوجته وأولاده أمام عاهرة تغني وترقص؟! والله ما كان ولن يكون، بل أقول: هل يمتلئ المسجد في صلاة الفجر؟! لا والله، ولذلك لا نشك أننا تحت النظارة، فاليهود يراقبوننا ليل نهار متى نهبط ليركبوا على ظهورنا، ويتخذوننا بهائم، ويعلنون عن مملكة بني إسرائيل، وهذا الكلام قد سمعتموه مني، وأنا أحلف لكم على ذلك، فهم لا يريدون للبشرية أبداً أن ترفع رأسها، إذ يستحيل مع ذلك أن تكون لهم دولة بين الناس وهم حثالة وحفنة في العالم، فلا بد من إفساد البشرية، وقد نجحوا -كما بينت من قبل- في نشر مذهب الإلحاد، مذهب البلشفية الحمراء الشيوعية، وأصبحت الصليبية -التي كانت تعلو بآدابها وأخلاقها وسموها- كالبهائم لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وقد حذرت وقلت: لم يبق أكثر من ربع النصارى يعتقد في المسيح أنه كذا وكذا، وثلاثة أرباع بلاشفة حمر لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن ثم استطاعوا أن يركبوا على ظهورهم، وأن يستولوا على قلوبهم وأموالهم، فعز اليهود وارتفعت قيمتهم، وعلا كعبهم في العالم، فهم المالكون المتصرفون في البنوك والأموال، ووصلوا إلى هذا لما كفَّروا الصليبيين ومحوا النصرانية من قلوبهم، والمسلمون هبط بهم من أفسد قلوبهم وأخلاقهم وعقولهم، وهم بنو عمنا من اليهود!

وآية ذلك: أنه كيف أمكنهم أن يعلنوا عن دولة بني إسرائيل في قلب الإسلام والمسلمين؟! حلم هذا أم ماذا؟! وإلى الآن لم يعلنوا عن مملكتهم، وإنما أعلنوا عن دولة إسرائيل.

وقد ذكرت لكم أن أحد الأبناء سمع بأذنه أيام موشي ديان وهو يحاضرهم في البرلمان اليهودي من عشرين سنة، فلما أُعجبوا ببيانه قالوا: أنت الملك، أنت الملك، قال: اسكتوا ولا تذكروا هذا؛ فإنه لم يحن الوقت لذلك، ويوم أن يملكوا من النيل إلى الفرات -وهو قريب إن بقينا هكذا- يعلنون عن مملكة بني إسرائيل، إذ إنهم يعملون بالسحر وبكل الأساليب على ألا تجتمع كلمة المؤمنين أبداً، ولا يُقبلون على الله بحال من الأحوال، وهذا هو الواقع.

وبالتالي فهؤلاء هم اليهود، فأين وضعهم الله؟ لمَ؟ لأنهم أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأقبلوا على الله، وأقاموا دين الله بحق واستقاموا عليه، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وسارعوا في الخيرات، وكما قلت غير ما مرة واسمعوا: البشرية كلها عبيد الله، لا فرق عند الله بين أبيض وأسود، ولا عربي ولا عجمي، وإنما كلهم عبيد لله، وبالتالي فمن آمن واستقام رفعه، ومن كفر واعوج وانحط وهبط إلى الأرض وضعه في الأسفل، وهذا المدح الآن هو لمجموعة من بني إسرائيل كما سيأتي بعض أسمائهم.

قال: [ وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله تعالى، كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف، وهو الدعوة إلى عبادة الله بعد الإيمان به، والإسلام الظاهر والباطن له، وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى، والكفر به وبرسوله، فقال عز وجل: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات: هي كل قول، كل عمل صالح من سائر القربات، وشهد تعالى لهم بالصلاح فقال: وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:114] ].

وقد سبق أن قلنا: هم عبد الله بن سلام وأخوه وفلان وامرأته، أي: مجموعة من بني إسرائيل في المدينة النبوية، أقبلوا على الله وأسلموا، فأنزلهم الله هذه المنازل ليرغب اليهود والنصارى في الطريق إلى السلامة والنجاة، ولكن يدخل الله في رحمته من يشاء، فمن استجاب وأجاب دعوة الله نجا، ولذلك دخل في الإسلام من النصارى ملايين البشر.

الله عز وجل لا يضيع أجر الصالحين من أهل الكتاب

قال: [ وأخيراً: أن ما يفعلونه من الصالحات، وما يأتونه من الخيرات، لن يُجحدوه، بل يعترف لهم به، ويُجزون عليه أتم الجزاء؛ لأنهم متقون، والله عليم بالمتقين، فلن يضيِّع أجرهم أبداً ]، اللهم اجعلنا منهم.

إذاً: فمن هم المتقون؟ الذين اتقوا غضب الله وعذابه وسخطه، بمَ؟ بالجيوش الجرارة؟! بالحصون القوية والأسوار العالية؟! أم بماذا؟

الجواب: يُتقى الله بالخوف منه الحامل للعبد على أن يطيعه ولا يعصيه، يُتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، إذ إن من أطاع الله وأطاع رسوله جعل بينه وبين العذاب وقاية من أعظم الوقايات، وليست وقاية فقط، وإنما بعد الوقاية فاز وظفر بالمقام السامي، والدرجات العالية، والجوار الكريم في الملكوت الأعلى.

إن تقوى الله عز وجل تتكرر في القرآن وأهل الإسلام غافلون عنها، فسلهم بم يتقى الله؟ لا يجيبوك أحد، ولذلك يُتقى الله بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله، وسر هذه التقوى -أهل الحلقة على علم نساء ورجالاً، والمحرمون منها لا يعرفون- أنها تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا زكت النفس -أي: طابت وطهرت- وأصبحت كأنفس الملائكة وأرواحهم، يقبلها الله في الملكوت الأعلى وينزلها في الفراديس العلى.

وإن كانت الأنفس خبيثة منتنة متعفنة كأنفس الشياطين وأرواح الكافرين، فمستحيل في قضاء الله وحكمه أن يقبلها في جواره، وآية واضحة حفظها النساء والرجال لن تُنسى أبداً، فاسمع هذا البيان يا عبد الله، يقول تعالى في سورة الأعراف المكية: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، هذا بيان ملك الملوك، بيان رب العالمين، بيان خالق الجنة والنار، وخالق الإنس والجن وسائر المخلوقات، بيان رافع السموات، فمن يرد على الله؟!

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، الذين كذبوا بهذه الشريعة يعبدون الله بها؟! معقول هذا الكلام؟! إن ذلك مستحيل، وإذا ما كذب ولكن استكبر، فقال: أنا مؤمن بأنه كلام الله، لكن لا نستطيع أن نقوم من آخر الليل، ما نستطيع أن نعطي أموالاً للفقراء والمساكين فنبقى مثلهم، ما نريد أن نخرج إلى الجهاد فنموت، فهل هذا استكبار أم لا؟ وقد ضربت لهذا مثلاً وتكرر ذكره، فنسيه الناسون، وهذا المثل هو:

لو أن مريضين على فراش الموت أتى إليهما الطبيب، فتقدم إلى أحدهما فقال له: استعمل هذا الدواء ملعقة بعد الأكل وملعقة قبل النوم، فقال: أنا لا أؤمن بهذا الكلام، اذهب عني، لا أصدق هذا الكلام! ثم مات، والثاني تقدم إليه الطبيب فقال: يا أخانا، يا مريض، إن مرضك كذا، فاستعمل هذا الدواء ملعقة في الليل وملعقة في الصباح، فقال: جزاك الله خيراً، ولكن نفسي ما هي قابلة له، وأنا مصدق بما تقول، فتركه الطبيب فمات، وبالتالي ما الفرق بين المكذب والمستكبر؟

الأول قال: أنا لا أصدق أن هذا الدواء يشفيني، وأن هذا الدواء ينفعني! فهو مكذب، والثاني شكر الطبيب على ذلك، لكنه قال: أن ما عندي شهية ولا رغبة في هذا الدواء، فهلكا معاً لأنهما لم يستعملا الدواء، فهل فهمتم معنى قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]؟ ما استعملوا أدوات التزكية للنفس البشرية وتطهيرها، وهؤلاء حكم الله فيهم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهل للسماء من أبواب؟

إي ورب الكعبة، والباب كالمدخل، لكن ليس شرطاً أن يكون كباب غرفتك، فأبواب السماء لا تفتح لهم أبداً، وذلك لما تُؤخذ أرواحهم فيعرج بها موكبٌ من ملائكة العذاب، فيستأذنون -والله- فلا يؤذن لهم، فيعودون بها إلى الدركات السفلى، والدركات السفلى إن أردت لها تصويراً قريباً فأغمض عينيك وضع رأسك بين ركبتيك وفكر وقل: اهبط، اهبط، اهبط، إلى أين؟ عجزت يا عبد الله فلا تعرف، تلك هي الدركات السفلى ثَّم سجين، إلى يوم القيامة وهو في عذابها، إذاً لا تفتح لهم أبواب السماء لأن أنفسهم خبيثة عفنة منتنة رائحتها كريهة، لا يقبلها أهل الملكوت الأعلى.

ثم قال تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [الأعراف:40]، يا عرب، تعرفون الجمل؟ إنه البعير الأروق، تعرفون سم الخياط؟ سلوا العجائز، إنه عين الإبرة، أي: ثقبها، فهل من المعقول أن يدخل بعير في عين إبرة؟! والله لو تجتمع البشرية كلها مستحيل أن يدخل بعير في عين الإبرة، وبالتالي فمستحيل في حق ذي النفس الخبيثة أن يدخل دار السلام، وهذا حكم الله، فهل نبكي أو نصرخ؟

وانظر إلى التعليل: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، من هم المجرمون؟ أصحاب الحشيشة عندنا، السرق، اللصوص، والمجرمون واحدهم مجرم، وهو اسم فاعل من أجرم يجرم إجراماً، فكل مفسد مجرم، والمراد هنا الإجرام على النفس البشرية التي كانت كأرواح الملائكة، كأرواح الأطفال، فأجرم عليها وصب عليها يومياً أطناناً من القاذورات والأوساخ، من كلمات الشرك والكفر والكذب، وجرائم السرقة والتلصص حتى اسودت وأنتنت وعفنت، فهل أجرم عليها أو لا؟

ثم ماذا؟ قال لهم: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41]، أي: فراش، ففراشهم الجمر والنار، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أي: بطانيات يتغطون بها، فغطاؤهم وفراشهم النار.

ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، من هم الظالمون؟ الذين يضعون الأمور في غير مواضعها، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، بدل أن يفعلوا الخير فعلوا الشر، بدل أن يعتقدوا الحق اعتقدوا الباطل، بدل أن يستقيموا اعوجوا، فاسودت نفوسهم، وأنتنت وتعفنت أرواحهم، فهذا جزاؤهم، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].

فهل عرف المؤمنون والمؤمنات هذا؟ وهل عرفتم تقوى الله عز وجل؟ إذاً فهيا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، فأولاً: يجب أن نعرف أوامر الله التي نطيعه فيها، وكيفية فعلها أمامه ليقبلها، ويجب أن نعرف أوامر رسوله كم هي؟ وما هي؟ وما أوقاتها؟ وما ظروفها؟ وكيف نؤدِّيها؟ ثم يجب أن نعرف محارم الله ومناهيه ومساخطه لنتقيها ونجتنبها، ونبحث عن الوسائل التي تساعدنا على تركها واجتنابها، فإن لم نرد أن نعلم هذا والله ما نتقيه، إذ إنه مستحيل ذلك، فالذي لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه كيف يعبده؟! والذي لا يعرف أوامر رسوله ونواهيه كيف يطيعه؟!

وللأسف فقد عرف هذا بنو عمنا من اليهود عليهم لعائن الله، فقالوا: إذاً جهلوا المسلمين -باستثناء هذه البقعة المباركة- فتجد نسبة تعليم البنت في مدارسنا في العالم الإسلامي لا تزيد على حصة في الأسبوع أو حصتين، وبالتالي كيف يعرف الناس ربهم؟ وكيف يعبد الناس ربهم؟

لقد شغلوا بناتنا وبنينا بالعلوم الطائشة التائهة الهائمة الضائعة التي لو أسلمنا قلوبنا لله لتعلمناها في أسابيع لا في عشرين سنة، ونحن نصرخ ونقول: الباطل، الباطل، بل ما زلت أقول: لو كنا صادقين فإن في إمكاننا أن نختار من البنات سبعين بنتاً أو ثمانين، وفي خلال أربعة أسابيع يتخرجن ممرضات، ولا يحتاج إلى ندرسهن عشرين سنة حتى يتخرجن ممرضات، وهذا مثال حي، لكن حتى لا نعرف الله ولا نعرف كيف نطيعه وضعوا هذه المناهج والبرامج التعليمية، فأصبح المسلمون يتخرجون بشهادات لو سألتهم عن الله ما يعرفون! ولو سألتهم بمَ يتقى الله فلا يعرفون أيضاً.

ولذلك إذا جهل المسلمون ربهم ومحابه ومكارهه فكيف يعبدونه؟! كيف يطيعونه؟! ثم أين مظاهر التقوى وقد خمت الدنيا بالخبث والشر والظلم والفساد في كل بلاد العالم وبالأخص بلاد المسلمين؟ وسبب ذلك أننا ما علمناهم أن يطلبوا العلم لمعرفة الله وما يحب وما يكره، بل دلوني على فحل منكم أيها الفحول يأخذ طفله إلى المدرسة ويقول له: أي بني، تعلم كيف تعبد الله، تعلم ما يحب الله لتفعله، وتعرف إلى ما يكره الله لتتركه، وتنازلنا هذا مع الرجال والذكور، ثم جاء تعليم البنات، فمن منكم من قال: يا بنيتي تعلمي كيف تعبدين الله، كيف تتقربين إلى الله لتظفري بالنزول بجواره، إن هذه الدنيا فانية وزائلة؟ لو قال هذا لقالت: اتركني في بيتي مع أمي أتعلم كيف أعبد الله.

مع أننا في خير وعافية، لكنها لا تدوم؛ لأننا نزحف إلى باب الخراب والدمار، ووالله -لا قدر الله- لأن تسقط هذه الراية، ويحكم هذه البلاد غير أهل سعود لرأيتم العجب، بل لاندهشتم، وذلك أن ظواهرنا كشفت عن بواطننا، وعرفنا إلى أين نحن نسير، وهذا هو واقعنا، لكن لطف الله وإحسانه باق معنا، ونحن نسأل الله عز وجل أن يكثر الصالحين والصالحات في هذه البلاد؛ لأن زوال النعمة إذا كثر الخبث، والعدو والله يعرف هذا قبلنا، فهم يرصدوننا لعلمهم بما عندنا، ولذا خرج رسول الله في ليلة من الليالي وهو يضرب كفيه متحسراً ويقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب )، في تألم وتحسر، فتقول إحدى نسائه: ( أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث )، فهل عرفنا نحن هذا؟ لو عرفناه ما سمحنا للخبث أن يظهر بيننا، لا في قرانا ولا في مدننا، لكن العدو عرف هذا فأخذ ينشر الخبث بالحيل وبالمجلات وبالجرائد وبالإذاعة وبالسحر، بل وبكل الوسائل المتنوعة والمختلفة، حتى إذا كثر الخبث هبطنا كما هبط كل العالم الإسلامي.

هداية الآيات

ومرة أخيرة أسمعكم الآيات لنقف على نتائجها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].

أما أهل الشرك فلا تسأل، واسأل عمن دخلوا في رحمة الله، واذكر الصديق والفاروق وأصحاب رسول الله، واذكر ملايين الربانيين الصالحين من العرب والعجم الذين أصبحوا أولياء الله وأهل تقواه.

قال [ من هداية الآيات:

أولاً: فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات ].

أي: أن هذه الآيات دلت على فضيلة الثبات على الحق والقيام على الطاعات، وعدم التحول أو النزول عنها.

[ثانياً: فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل ] والحمد لله نصلي العشاء ونقوم آخر الليل، فإن قال قائل: يا شيخ ما نستطيع! أقول: كان آباؤكم وأجدادكم يقومون الليل، بل ويطول عليهم فينامون ثم يقومون يصلون؛ لأن الليل عندهم من صلاة العشاء بتعاليم رسول الله: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -نهى المؤمنين والمؤمنات- عن النوم قبل صلاة العشاء )، فيكره لأي مؤمن أن ينام قبل صلاة العشاء؛ لأنه إذا نام قد لا يستيقظ، ( ونهى عن الحديث بعدها )، أي: أن الحديث بعد صلاة العشاء ممنوع.

لكن قد يقول قائل: يا شيخ! كل أعمالنا وأشغالنا في الليل! أقول: ماذا أصابنا؟ هل هبطنا؟! عندما نقول: هيا نتوب إلى الله فنجمع نساءنا وأطفالنا في بيت ربنا من المغرب إلى العشاء، فإذا صلينا ذهبنا إلى بيوتنا ونفوسنا مشرقة وآمالنا سامية، قالوا: كيف ننام بعد صلاة العشاء؟! إذاً: وكيف تتطلعون إلى السماء؟! أي: كيف تصبحون أولياء الله؟

[ثالثاً: فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام ] في الشرق والغرب.

[ رابعاً: فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.

خامساً: فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ) ].

وتكملة الحديث: ( وعبد مملوك -لزيد أو عمرو- يؤدي واجبه مع سيده ويعبد ربه بكامل العبادة فله أجران، ورجل له أمة فأدبها ورباها وأطعمها وغذَّاها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران )، اللهم اجعلنا منهم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (51) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net