إسلام ويب

إن الإيمان ليس كلمة مجردة يتلفظ بها الإنسان والله عز وجل من سنته في عباده أن يمحصهم بالأوامر والتكاليف والمصائب والحروب، حتى يتميز المؤمنون الصادقون عن المنافقين الكاذبين، ومن أبواب الاختبار والابتلاء التي يتعرض لها العباد ما يأمرهم الله عز وجل به من بذل المال من زكوات ونفقات وصدقات وغير ذلك، فالمؤمن الصادق يعلم أن المال مال الله وهو مستخلف فيه، فينفق المال طيبة به نفسه، وأما المنافق فيعتقد أن المال ماله فيبخل به ظناً منه أن الخير له في حفظ ماله، ولا يعلم أنه شر محظ يطوق به يوم القيامة جزاء وفاقاً.

بدعة الاحتفال بذكرى المولد النبوي

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد:

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

الحمد لله على توفيقه وإفضاله وإنعامه.

معاشر المؤمنين والمؤمنات! بين يدي الدرس، أسر إلي هذا الطالب اللبيب، وقال: إن الليلة ليلة المولد، فنريد كلمة قبل الدرس، فأجبته:

بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فالليلة ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وهي الثلاثاء، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين، والشهور تزيد وتنقص، فهيا نحتفل بذكرى الحبيب صلى الله عليه وسلم.

فيا أبنائي! يا إخوة الإسلام! يا مؤمنات! فوالله الذي لا إله غيره ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نحتفل به في ذكراه! فهل نكذب على رسول الله؟ ونبتكر ونخترع عبادات وألوان من الطاعات؟

أعوذ بالله أن نقع في هذه الورطة! فلو نصمت دهراً طويلاً هل يقوم من يقول: افعلوا كذا وكذا؟ آالله أمر به؟

هل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك وأرشدنا إليه، ورغبنا فيه وحبذه إلينا؛ فننهض به ولو ننفق ما في جيوبنا؟

الجواب: والله! الذي لا إله غيره ما ترك لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيئاً، ولا ترك أصحابه ولا أولادهم ولا أحفادهم، ولا أئمة الإسلام الأربعة، ولا من بعدهم، ولا عرفوا شيئاً اسمه احتفال بالمولد النبوي.

فهل نكذب ونبتدع؟!

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، فهل يجوز لنا أن نقول: من أجلك يا رسول الله ابتدعنا بدعة؟! وهل عندنا وجه نواجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؟!

ولو انفتح باب الابتداع؛ لأصبحت نسبة الدين السليم الصحيح (1%) فكل عالم وكل مفكر وكل غني وكل ذي رغبة يبتدع، فأين الإسلام حينئذ، وبم يعبد الله؟! بم تزكى النفوس وتطهر من أجل النجاة من النار؟

معاشر المستمعين والمستمعات! غداً المولد النبوي، فماذا نصنع؟ وكم شاة نذبح؟! أو نذبح الدجاج؟! وإذا ذبحنا فلمن نقدم هذا الطعام؟!

وكم ركعة نصلي؟! ننشد قصائد ما هي؟ فما الذي نفعل؟!

الجواب: والله ما عندنا شيء، ما علينا إلا أن نذكره صلى الله عليه وسلم في كل أوقاتنا.

وعورة أخرى نزيح الستار عنها من باب التعليم..

فالذكريات لا تكون إلا لأناس يموتون ولا يذكرون، ولهم فضائل ولهم كرامات، فلكي لا ينسوا من بين شعبهم أو أمتهم أو إخوانهم يقيمون له ذكرى سنوية! حتى يذكروه بخير، أما حبيبنا صلى الله عليه وسلم -نعوذ بالله أن ننساه سنة كاملة-، ونحن نسمع المؤذنون خمس مرات على المنارات: أشهد أن محمداً رسول الله، الإنس والجن والحيوان والكل يسمعون ويفهمون هذا.

فلا نصلي ركعتين ولا العشرات من الركعات إلا ونسلم عليه وجهاً لوجه! بعدما نعظم الله بالتحيات اللائقة به، ونحن جالسون بين يديه تعالى نقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، فهل ننسى هذا الذي نسلم عليه في كل يوم عشرات المرات؛ لتقام له ذكرى؟!

آه! ماذا فعل بنا الثالوث.. فبدعة الاحتفال بالمولد النبوي عرفت في القرن الرابع، فقد مضت ثلاثة قرون ذهبية ليس فيها شيء اسمه مولد، ولما هبطنا حيث أبعدونا عن القرآن والسنة أوجدنا ذكرى المولد ائتساء بذكرى النصارى لعيسى عليه السلام، فهل نقتدي باليهود والنصارى أم نقتدي برسول الله؟!

فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم ذكرى لإبراهيم الخليل، ولا لإسماعيل، ولا لموسى الكليم، ولا لعيسى عليهم السلام.

فما معنى ذكرى المولد؟!

الجواب: إني أحمد الله على أن الله علمنا قبل أن نقع في هذه البدعة، وتركناها وابتعدنا عنها، فثلاثة أرباع الذين كانوا يساهمون في هذه البدعة قد انتهوا، وبقيت جماعات قليلة، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.

فإن عدم الاحتفال بالمولد رسمياً أو غير رسمياً لن يضرنا في ديننا شيئاً، بل يرفعنا ويزيد في إيماننا -إن شاء الله-؛ لأننا تنزهنا عن البدع والضلالات.

فما جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عيدين: عيد رمضان وعيد الأضحى، وعلمنا ماذا نقول، وماذا نفعل وكيف نصلي، ومن في نفسه شيء وما اطمأن يسأل أهل العلم، لكن لا يسأل الذين تعودوا على هذه البدعة، وأصبحوا يدعون إليها، ويحضون عليها! يسأل أهل العلم البصراء العارفين بالكتاب والسنة.

تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اسمعوا هذا الخبر الإلهي، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] ليس من شأنه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أي: بدون امتحان، ولا اختبار ولا حرب ولا سلم ولا تكليف، ما كان من شأنه أن يفعل هذا حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].

فقد قرئ: (يميِّز) قراءة حمزة، ويمِيز، مازه يميزه إذا ميزه واشتهر به.

فليس من شأن الله -وهو العليم الحكيم- أن يترك المؤمنين يدعون الإيمان على ما هم عليه بدون امتحان واختبار؛ يميِّز به الخبيث من الطيب والكافر من المنافق، والصالح من الطالح.

وهذا كمسح دموع المؤمنين في غزوة أحد -وهي آخر أحداثها-، فذكر الله تعالى لهم السبب الذي من أجله أوجد هذه الحرب ودارت، وحدث الذي حدث؛ وذلك من أجل أن يميز الله الخبيث من الطيب، ففي الطريق رجع ثلاثمائة نفر، فلو ما كانت هذه الوقعة لما تميز المنافق من المؤمن، فالمنافقون يقولون: أنهم مؤمنون، ويتبجحون ويقولون: نحن أفضل منكم. فالذين انهزموا وهربوا شاردين، كيف يظهر ذلك فيهم لولا وجود هذه المعركة والهزيمة؟!

حكمة إظهار المؤمن الصادق من الكاذب

قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أيها الأصحاب! حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].

وهذا عام، واقرءوا له: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، وهذا الحسبان باطل، فلو كان العبد ما يفتن في الإيمان ما اختبره الله عز وجل وابتلاه، ولا يملك هذا الاختبار والابتلاء إلا الجبار عز وجل.

فهذا يبتليه بالفقر وفجأة يفقد كل شيء، ينظر: هل كان مؤمناً وبقي على إيمانه أم أصبح يسرق ويفجر؟!

وهذا كان عزيزاً فيذله امتحاناً له، هل سيصبر ويرجع إلى الله ويثبت على قرع بابه أو ينتكس، وهذا الفقير يصب عليه المال، فينظر: هل سيصبح يشيش ويتبجح بالباطل أم سيأكل كما يأكل المؤمنون؟!

وهكذا لا بد من الاختبار، وإلا كل سيقول: أنا مؤمن.

الحكمة من استئثار الله عز وجل واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه

قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فالله عز وجل أوجد وقعة أحد قبل أن يوجد العالم بكل خيوطها ونسيجها، وعلم ذلك وكتبه، لكن لم يطلع عليه أحد؛ لأنه للامتحان والاختبار.

فقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] أي: ليس من شأنه جل جلاله أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] أي: يختار من يشاء ويخبره بالغيب ويطلعه عليه. فمن ادعى علم الغيب من غير الرسل فقد كفر، ووجب قتله بعد أن يستتاب ثلاثة أيام، فادعاء علم الغيب كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب الله عز وجل أبشع تكذيب.

ولطيفة أخرى: إذا كان مولاك يخفي أموراً لصالح حياتك أيجوز لك أن تفتش عنها وتظهرها؟

فالله سبحانه وتعالى يخفي هذا لأجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها، وأنت تريد أن تطلع عليها؛ لتقف الحياة وما فيها؟! فلهذا كل من يدعي الغيب يلعن، ويدعى إلى المحكمة ويستتاب، فإن لم يتب يقتل ويموت على الكفر.

والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يطلعه الله على غيب فلن يعلمه؛ إذ قال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] وهذا رسول الله. قال له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بهذه الحادثة لما كسرت رباعيته وشج وجهه، ولم يقتل عمه حمزة .

قال: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، ومع هذا عاشت أمة الإسلام قرون، وادعاء علم الغيب عجب عجاب، فالعجوز العمياء تدعي الغيب وتأخذ المال، والجاهل المركب بجهله يربط بين عودين أو خشبتين ويدعي الغيب، فيأخذ بمسمار ويفعل كذا، فلا إله إلا الله! كأننا لسنا بالمسلمين.

وما كان هذا إلا بمؤامرة الثالوث الأسود، وما يبرح يحتال حتى يسوي بيننا وبينه إلى جهنم، ثم يزغردون ويولولون، أما أن يبقى المسلمين مرتفعين وأملهم في دار السلام أقوى فلا يريدون؛ فلهذا ينشرون الخبث بوسائط عجيبة، ويعملون ليلاً ونهاراً على نشره.

ثمن الجنة الإيمان والتقوى

إذاً: قوله تعالى مخاطباً المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179]، ولم يقل: ورسوله فقط؛ لأن الإيمان بالرسول فقط لا ينفع؛ ينفع الإيمان برسل الله عز وجل أجمعين، من لم يؤمن برسول فقط من مائة وأربعة وعشرين ألف نبي فليس بمؤمن، فقد كفر اليهود؛ لأنهم كذبوا بعيسى، وكفر النصارى؛ لأنهم كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع أن اليهود آمنوا بكل الرسل إلا عيسى، والنصارى آمنوا بموسى وهارون وزكريا وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] ثم قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179] فمجرد إيمان لا يكفي، وهذه آية تحقيق الولاية.

فمن يريد أن يكون كـعبد القادر الجيلاني ؟! وكمولاي إدريس في المغرب؟! كـالعيدروس في حضرموت؟! لا نريد الولاية.

إذاً: لا يوجد من هو طلق: ليس ولياً لله ولا ولياً للشيطان، فإما أن تكون ولياً لله أو أنت ولي للشيطان، فمن يقول: ما أنا بولي لله ولا للشيطان، فلا يعقل، إما أن توالي الله بالإيمان والتقوى، وإما أن توالي الشيطان بالكفر والطغيان والعصيان.

لعل بعض -السامعين- ما زالوا يفهمون أن الولي ذاك الذي يظهر الله على يديه الكرامات، فإذا السماء صحو يرفع يديه: أمطري يا سماء! دقائق والأودية تسيل! وما زالوا أيضاً يفهمون أن الولي ذاك الذي يقول: العام الآتي ستلد امرأتك ولد وسمه باسمه! فهل أصحاب الكرامات هم الأولياء؟!

فلا ولي ما زال حياً إلا إذا كان دجالاً يدعي الغيب ويكذب! أما ولياً بمعنى الكلمة لا يذكر إلا إذا كان ميتاً.

وأكرر القول: فمن يذهب إلى كراتشي ويجيد لغة الكراتشيين، ويلتقي بأول من يلتقي به عنده نزوله من المطار يقول: أنا جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء كراتشي، فوالله ما يأخذ بيده إلا إلى قبر، ولا يفهم أن كراتشي ذات المليون نسمة بينهم ولي في السوق ولا في المسجد!

فمن قال: أولئك عجم، فهناك مثلاً في القاهرة، بلاد الأزهر والعلوم والمعارف، زر قرية من القرى، وقل: أنا قدمت إلى دياركم لأزور وأتبرك بولي من أولياء الله عندكم، فلن يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن القاهرة المعزية فيها ولي يبيع ويشتري! أو هو في السوق أو المسجد. وقل هذا حيث شئت، ولكن فقط الذين شهدوا هذه الدروس عرفوا، لو تلقى واحداً منهم والله ما يدلك على قبر.

لطيفة: ما السر في أن أعداء الإسلام حصروا الولاية فقط في من مات؟

الجواب: السر أنهم فصلونا عن ولاية الله؛ ليزنوا بنسائنا وبناتنا؛ ليسلبوا ويسرقوا أموالنا؛ لينهشوا ويهتكوا أعراضنا؛ ليتكبروا علينا؛ ليحسدونا؛ ليشيع الظلم والخبث والشر بين المسلمين، وقد فعلوا ونجحوا.

معشر المستمعين! فهذه بربرية، فالولي عندنا أيام الظلمة! والولي ما تستطيع أن تقول فيه كلمة، فلو تسب ولياً كفرت! من يستطيع أن يقول: سيدي عبد القادر كذا؟! تقديساً أكثر من تقديس الله! ينقلون المرضى إلى أضرحتهم، يعفرون وجوههم بترابهم، ويرحلون إليهم من المغرب إلى بغداد؛ لأجل زيارة الولي عبد القادر ، وينذرون لهم النذور، فهذه الشاة لسيدي عبد القادر ، تأليه كامل!! كيف تورطوا في هذه؟

العدو الثالوث هو الذي حصر الولاية في من مات! والأحياء كلهم أعداء الله، افجر بنسائهم، كل أموالهم، سب اشتم -لعلي واهم- والله مجالس يجلسون يسبون ويشتمون ويعيرون: فلان وفلان، ما تركوا عالماً ولا حاكم ولا عبد صالح، موجة عارمة؛ لأنهم غير أولياء الله!

فولي الله من يقوى على أن يمسه بسوء؟ والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والحديث في صحيح البخاري، ( من آذى لي ولياً فقد آذنته ) أي: أعلنت الحرب عليه، عرف هذا أجدادنا وأسلافنا ولكن ما عرفوا من هو الولي؟

الولي الذي قالوا: هذا ولي الله! وعبدوه، أما ولي في السوق يبيع ويشتري، في المزرعة يفلح ويزرع فليس هذا بولي!

وقد قلت تقريراً لهذه الحقيقة: كنت جالساً مع شيوخ وأنا طفل صغير، تحدثوا. قالوا: فلان إذا زنى وعليه جنابة الزنا لا يمر بالشارع الفلاني حتى لا يمر بسيدي فلان! والله العظيم! يفجر بامرأة مؤمن، يفسد عرضه وحياته يلطخها، ولا يخاف الله عز وجل، ويخاف أن يمر بجنابته على ضريح وقبر سيدي فلان!

فهذا هو الجهل المركب، وهذا هو الجهل الذي بذر بذرته الثالوث يوم أن صرفونا عن كتاب الله، وحولوه إلى المقابر.. صرفونا عن الحديث وحولوه إلى التبرك.. عمَّ الظلام وهبطت الأمة، واستعمرت واستغلت وتجاهلت ودخلت في البلاء وإلى الآن ترزح.

وجوب العودة إلى الكتاب والسنة لمحاربة الجهل

فما الحيلة إذاً لإنقاذ أمة الإسلام، فالجهاد كلمة باطلة مسمومة عبث، كيف تجاهد؟! بمن تجاهد؟! فهذا لا ينفع، فماذا نصنع؟

الجواب: نسلم لربنا قلوبنا ووجوهنا. ما تستطيع. إذاً: كيف تجاهد؟!

هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، كيف نسلم قلوبنا ووجوهنا؟! هل نعطي الله وجوهنا وقلوبنا؟! نعم، فقلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به على أحد، تسأل ولا تطلب ولا تأمل ولا ترجو إلا الله.

والطريق سوف تموت هذه الدعوة، فلن ننساها ما دمنا نتكلم، وإني والله! لعلى علم، إن أراد المسلمون في أي مكان كانوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً .. في الحضر أو في البدو.. إذا هم قالوا: هيا نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ثم إذا دقت الساعة السادسة مساء، عندما يقف العمل في العالم يتوضئون ويتطهرون، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع الذي يتسع لكل أفراد الحي أو القرية، ولا يتخلف إلا مريض أو ممرض، أما الخوف قلا خوف، يحضرون حضورنا هذا، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم العالم بالله ومحابه ومساخطه، ليلة آية يتغنون بها ويحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على تطبيق ما أمروا به ودعوا إليه، ويعودون في قناعة وبنفوس مطمئنة هادئة، لا شرس ولا طمع ولا.. ولا.. قانعين يرددون تلك الآية، ويذكرون تلك الأحكام، وكلهم عزم على تطبيقها، ويرى الرجل امرأته تطبقها، وترى المرأة رجلها يطبقها.. وهكذا. غداً حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وهكذا ليلة آية وأخرى حديث طول العام، فسيصبح أهل القرية علماء، وإذا علموا فلن يعصون الله، فهل رأيتم عالماً يفجر ويسرق ويكذب؟

فكل المنكر والباطل من الجهل والجهال، وحينئذ تصبح تلك البلاد كلها لله تعالى أولياء، وحينئذٍ إذا أرادوا أن يجاهدوا كلهم مستعدون، فهذا هو الطريق، ولو كان هناك طريق يأخذ بأمة الإسلام إلى أن تعود إلى قيادتها وسيادتها وطهارتها وكمالها فوالله! ما نجحده ولو تقطع رقابنا!

ولكن لا وجود إلا هذا، فهذا امتحان كما جاء في الآية، (ليميِّز): هل نحن حقاً مسلمون أم لا؟ فكيف نعجز إذاً على أن نجتمع في بيت ربنا، ونبكي بين يديه طول العام؟

ومن قال: نعطل أعمالنا ونوقف متاجرنا ومقاهينا؟

قلنا له: هؤلاء الكفار إذا دقت الساعة السادسة في أوروبا أو في أمريكا أو في الصين يقف العمل، اقتدوا بالكفار! أو نحن ما نستطيع؟ لأن الشياطين لا تريد أن نسمو أو نرتفع أو نعلو، تريد أن نبقى مكبلين مقيدين.

شرطي تحقيق الولاية

قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، فهذا الأجر العظيم لا يقدر قدره.

أولاً: الطهر والصفاء والكمال والراحة والسعادة في الدنيا.

وشيء آخر أعظم: جوار الله في الملكوت الأعلى، والخلد في دار السلام، وهذا الأجر العظيم، وهذا الجزاء مقابل إيمان وتقوى! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].

فالذي لا يعرف محاب الله ولا مساخطه فلا يستطيع أن يتقي الله، ولا يعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل والصفة والذات لا يستطيع أيضاً أن يتقي الله، وكيف يتقيه وهو ما يعرف فيما يتقيه؟

فمستحيل أن يزني الزاني وهو يعرف الله رسوله ويعرف كيف يعبده.

أدركنا رجل من أهل المدينة يبول في ثيابه في باب الرحمة، سيدي كامل، ويتمسحون به، هذا ولي الله، أعوذ بالله! الذي يبول على ثيابه ولا يصلي ولا يصوم فهل هذا ولي الله؟! ويدخن أيضاً ويعلمهم التدخين للبركة!

فولاية الله تتحقق بشيئين اثنين لا ثالث لهما:

أولهما: الإيمان الصحيح الذي إن عرضته على القرآن وقع عليه، أو أتيت عالماً بالقرآن قلت له: أعرض عليك إيماني هل صحيح أم لا؟ يقول: نعم، أنت المؤمن، لا دعوى: أنا مؤمن.

ثانياً: التقوى، وهي خوف من الله يحملك على ألا تعصيه، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، ولا يمكنك أن تعرف الواجبات وكيف تؤديها في أوقاتها وكمياتها وكيفياتها، وتعرف المحرمات وكيف تتقيها وأنت لا تعلم، فهذا مستحيل! فلهذا لن يكون جاهل ولياً لله مطلقاً.

ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، وهذه كلمة سليمة، يعني: إذا أرادك ولياً يعلمك بجعلك تبحث وتسأل العلماء وتحفظ ما تسمع وتطبق ما تتعلم؛ حتى تبلغ درجة الولاية.

أما جاهل لا يعرف كيف يتبول ولا يعرف كيف يتنزه من البول فهل هو ولي الله؟!

فإلى العلم.. مشغولون ما عندنا.. فهذا الاعتذار باطل، فقط من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء في مسجد الحي، فالكل يسكنون في أحياء، يتفقوا أهل الحي على أن يجلسوا بنسائهم وأطفالهم في جامعهم كل ليلة، ويطلبوا ويبحثوا عن عالماً ويأتوا به ويتعلمون منه، فلا يكلف هذا الارتحال والسفر، ولا يكلف أيضاً القراءة والكتابة.

تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله خيراً لهم ...)

ثم قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:180] أي: من المال، وهذه الآية في الجهاد، والجهاد بالمال أولاً والنفس: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [التوبة:41].

قال تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] ما هي؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11].

فقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ [آل عمران:180] أي: يظنن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [آل عمران:180] ويمنعون الحقوق الواجبة في أموالهم من الزكاة والنفقات والصدقات أن هذا البخل خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:180]، لا والله! بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، أخبر بهذا الله العليم الحكيم، بل هو شر لهم وليس بخير؛ لأن المال يورث الطغيان، فإذا ما سلكت مسلك الرشد معه أطغاك، فكثير من الأغنياء لا يزكون، فقد كانوا يزكون أيام ما كانوا فقراء، عندما كانت الزكاة مائة ريال أو ألف ريال، فلما أصبحت زكاتهم مليوناً بخلوا ولم يزكوا.

البخل بالمال شر ووبال على صاحبه

قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] انظر. فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] والطوق يضع في العنق وهنا الطوق من جهنم، فالأموال تجمع وتلصق في العنق طوقاً، وأعظم من هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه-، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك، وقرأ صلى الله عليه وسلم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] ).

وآية التوبة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقولون لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].

فلهذا القرية أو المدينة التي صلحت ما بقي فيها من يمنع الزكاة ويمنع الصدقة، لكن قبل الإسلام، وقبل ما القلب والوجه لله، وقبل الولاية والعلم لا يستطيعون، وما يقدرون، فسبحان الله العظيم!

وأخيراً يقول تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180] فلما لم تنفق يا عبد الله! هل هذا المال سيبقى لك إلى يوم القيامة؟!

سيرثك الله، فالله يورث امرأتك وابنك، ويرث الكل.

إذاً: فمن الخير ألا تمنع ما أوجب عليك، أده وأنت مرتاح النفس، وكانوا يجاهدون بالمال، والآن -الحمد لله- المال لا تحتاج إليه الحكومة، لكن لو شاء الله وقالوا: نريد أن نغزو العدو الفلاني! فهنا يمتحن المؤمنون بالمال. فهذا يخرج بنصف ماله، وهذا بربعه، وهذا يقول: ما عندنا، وهذه محنة لا بد منها؛ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ [الأنفال:37].

قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180] أي: بأمورنا الظاهرة والباطنة كلها بين يدي الله، فهو خالقها وكاتبها في كتاب المقادير!

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (76) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net