إسلام ويب

بعد أن عاتب الله عز وجل المؤمنين المنهزمين في أحد، ذكر لهم أن التاريخ حافل بالأنبياء الذين قاتلوا أهل الباطل، وقاتلهم معهم أتباعهم المؤمنون، حتى قتل منهم من قتل، فما وهنوا لمصابهم في أنفسهم، وما استكانوا لعدوهم من أهل الكفر، بل صبروا وصابروا ورابطوا، وهذا هو الواجب في حق حملة العقيدة وأهل الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...)

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات ثم نتدارسها رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، والله إنها لنازلة، فهل من ضجيج؟ فهل من صياح؟ فهل من صخب؟ فهل من لغط؟ فهل من ظلم؟ فهل هناك من اعتدى؟ أسألكم بالله، أليست هذه هي السكينة؟ ( وغشيتهم الرحمة )، إي والله، ( وحفتهم الملائكة )، والله إن الملائكة لتطوف بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، من نحن معشر الإخوان حتى يذكرنا الله ويتحدث عنا في الملكوت الأعلى؟! إننا لو أردنا أن نحصل على هذه الجوائز بدون هذا المجلس والله ما نحصل على ذلك، حتى لو بذلنا أرواحنا وأموالنا ووجودنا كله، ولكنها منة الله وعطيته، فهو يهب ما يشاء لمن يشاء، فالحمد لله رب العالمين، فهيا بنا إلى تلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، وفي قراءة سبعية: (وكأين من نبي قُتِلَ معه ربيون كثير)، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148]، فمن أراد أن يحبه الله فليتحلى بحلية الصبر، ومن أراد حب الله فليحسن النية والعمل، إذ الله يحب الصابرين والمحسنين، فاللهم ارزقنا حبك وحب كل من يحبك، وحب كل عمل يقربنا من حبك يا رب العالمين.

إن هذه الآيات خبر من أخبار العليم الخبير، وأخبار العليم الخبير لا تحتمل الصدق والكذب كأخبار الناس، إذ إن أخبار الله كلها صدق؛ لأنه ليس في حاجة إلى أن يكذب، إذ إنه غني غنىً مطلقاً، فبيده ملكوت كل شيء، فأي حاجة له إلى الكذب؟! فهو سبحانه منزه عن الكذب لاستغنائه عن الخلق مطلقاً، وهذا الخبر ذو شأن وعبر.

يقول تعالى: وَكَأَيِّنْ [آل عمران:146]، أي: وكم، مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، بل وصبروا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، فلمَ لا تكونون مثلهم يا أهل أحد، إذ الآيات في عتاب أهل أحد، وما زال السياق معهم، إنها معركة يعجز المرء عن وصفها، معركة يشج فيها وجه رسول الله، وتكسر رباعيته، ويقتل فيها عمه.

شؤم المعصية وأثرها على حياة الإنسان

إنها وقعة من أعظم الوقائع، وسببها معصية واحدة! فكم هي معاصي المسلمين اليوم؟! لا يحصيها إلا الله، فكيف إذاً نريد أن نعز ونكمل ونسود وننتصر؟! إن معصية واحدة يصاب بسببها أصحاب رسول الله بنكبة ومصيبة لا نضير لها، لأمر عظيم ومخوف، ونحن والله غارقون في الذنوب والمعاصي، والشرك والكفر، والضلال والجهل، وكبائر الذنوب كالربا والزنا وقتل النفس، ثم بعد ذلك نريد أن نسود ونعز وننتصر! إن هذا محال، ولذا فإنه لن يفارقنا الذل والهون والدون حتى نعود إلى الطريق السوي.

إن إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان ينكل بهم، فيذبحون، وتنتهك أعراض نسائهم، ويقتل أطفالهم، ثم ندعو الله عز وجل، فهل يستجاب لنا ونحن ملطخون بأوضار الذنوب والآثام؟! هل نريد أن نبدل سنن الله تعالى؟! إن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير أبداً، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] .

أصحاب رسول الله وهم أفضل الخلق على الإطلاق من يومهم ذاك إلى يوم القيامة، يرتكبون مخالفة واحدة فينهزمون أمام العدو، وذلك لما انهزم العدو أمامهم، وأصبح فاراً بين أيديهم، تاركاً ما لديه وما معه من سلاح ومال، فيُقبل أصحاب رسول الله على التقاط المال وجمعه، وينزلون من الجبل -جبل الرماة- الذي وضعهم فيه الرسول القائد وقال: ( لا تبرحوا أماكنكم كيفما كانت الحال والظروف ) ، فلما نزلوا من الجبل لجمع الغنائم احتل قائد قريش خالد بن الوليد رضي الله عنه الجبل، ووضع عليه الرماة، فصبوا على المسلمين البلاء، وعاد المشركون بعد الفرار، وإذا بالمسلمين بين فكي مقراظ.

وهذه كانت نتيجة مخالفة واحدة، فكيف إذا كانت عشرات المخالفات؟! ومع هذا اسمع إلى الله وهو يعاتبهم فيقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146] أي: وكم من نبي من أنبياء الله الذين مضوا، قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، والربي معناه: الرباني المنسوب إلى الرب، إذ كل حياته موقوفة على الله عز وجل، وهم علماء وصلحاء وهداة ودعاة، قاتلوا مع النبيين وقتلوا أيضاً.

معنى قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله)

قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، وإخواننا رضوان الله عليهم منهم من قال: تعالوا إلى ابن أبي ليفاوض أبا سفيان فنعود إلى دين آبائنا وأجدادنا! وصاح إبليس فيهم: مات محمد، قتل محمد، فيسمع الرسول ذلك فيقول: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، حتى رجع من رجع، والتفوا حول رسول الله.

فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل وغير ذلك، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، لا في سبيل دنيا يريدونها، ولا سلطة يريدون أن ينالوها، ولا غير ذلك من ملذات هذه الحياة الدنيا، ولكن في سبيل الله فقط، من أجل أن يُعبد الله وحده، وأن يُعزَّ أولياؤه وينصر دينه ودعوته.

معنى قوله تعالى: (وما ضعفوا وما استكانوا)

وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، أي: ما استذلوا وما هانوا، بل بقوا كالجبال والصخور ثابتة، فهكذا يعلم الله المؤمنين بألا يضعفوا وألا يستكينوا، وقد استفادوا وتعلموا، وما أصابهم ما أصابهم في أحد إلا لحكمة وأمر عظيم أراده الله عز وجل، وقد ذكرت لكم رؤيا الشيخ محمد عبده، إذ إن بعض السامعين يقول: لماذا الشيخ يقول: كانت الهزيمة أفضل لهم من النصر؟! قلنا: رأى الشيخ محمد عبده النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو عائد من أحد ورجاله معه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة ؛ لأنهم لو انتصروا مع معصية رسول الله فإنهم يألفون المعصية، ويكفيهم أن يقولوا: نحن مسلمون، ونحن نقاتل في سبيل الله، وبالتالي فلا يضرنا شيء، ويصبحون يغنون ويشربون الخمر في المعارك، ومن ثم ينتهي أمرهم نهائياً، لكنه درسٌ من أقسى الدروس، وللأسف فقد غفل المسلمون عن هذا منذ قرون، إذ لم يتنبهوا للفرق بين المعصية والطاعة.

وأقول: دلوني على بلد -باستثناء هذه البقعة- أُمر فيها بإقامة الصلاة إجباراً، هيا فليقم أحدكم ويقول: نعم، دولتنا الفلانية الصلاة فيها إلزامية للمدنيين والعسكريين، للرجال والنساء؛ لأن الصلاة عمدة الدين وعموده، ولا دين بدون صلاة! فأي معصية أكبر من ترك الصلاة، فمن شاء فليصل ومن شاء لم يصل؟! ثم هل هذا بلد إسلامي؟! وهل هذه أمة مسلمة؟! إن هذا مثال فقط لتعرفوا زلتنا، وقد قلت لكم -وإني إن شاء الله على علم-: إن لم يتدارك الله أمة الإسلام في هذه الأيام بتوبة نصوح ورجعة صادقة فقد ينزل بهم البلاء، وليس بلاء الاستعمار أبداً، بل والله لأشد من ذلك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتخلف، والله يمهل فقط ولكن لا يهمل، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على هذا المنبر قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، أي: المدن والحواضر والعواصم، وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، أي: والحال أنها ظالمة لأنفسها، إذ أعرضت عن ذكر ربها، إن أخذه أليم شديد [هود:102]، ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ).

وفعلاً فقد أمهل الله الظالمين من المسلمين زمناً طويلاً، ثم سلط عليهم الغرب والشرق فنالوا منهم وأذلوهم وأخزوهم وداسوا كرامتهم، وليس هذا حباً في النصارى، وإنما والله تأديباً لهؤلاء المسلمين، وشاء الله أن يمتحنهم فقام العلماء والدعاة وطالبوا بالاستقلال والحرية، واستجاب الله لنا فتحررنا من اندونيسيا إلى موريتانيا، واستقلينا عن الغرب والشرق، لكن أبينا أن نعبد الله تعالى، إذ إننا فرحنا بالاستقلال، فأقمنا حفلات الاستقلال تم فيها شرب الخمر، وقول الباطل والزور، وكأننا لا نؤمن بالله ولا بلقائه، والآن نحن أذل من اليهود، فماذا بعد هذا الذل من ذل؟!

إن أصحاب رسول الله -والرسول بينهم- يصابون بمصيبة عظيمة فيستشهد منهم سبعون رجلاً، ويجرح نبيهم ويكلم بسبب معصية واحدة ارتكبوها، وذلك تربية لهم حتى لا يعصوه مرة أخرى، وها هو عتاب الله لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، كما وهنتم أنتم لما أصابهم، وما ضعفوا ولا رموا بالسلاح وهربوا وقالوا: نلتحق بـأبي سفيان، وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، والاستكانة: السكون والذل والوقوف.

معنى قوله تعالى: (والله يحب الصابرين)

قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، ويكره الجازعين الساقطين، وفعلاً فقد صبروا مع أنبيائهم على ما أصابهم، فما استكانوا وما ضعفوا، وما ذلوا وما هانوا، فأحبهم الله تعالى.

فهيا نبدأ فنتعلم بأن نصبر، إذ لنا سنوات ونحن نصرخ بذلك فما استطعنا، وما طالبنا المسلمين أبداً بأن يحملوا السلاح ويقاتلوا، فقط عرفنا زلتنا وسقوطنا وهبوطنا، وأن لذلك سبباً عظيماً وقوياً وهو الغفلة والإعراض عن ذكر الله الناشئة عن الجهل بالله ومحابه ومساخطه، فقلنا في رسائل وكتابات: هيا يا معاشر المسلمين! نتب إلى الله تعالى ونرجع إليه، إذ إن تلك التوبة وتلك الرجعة لا تكلفنا ريالاً واحداً، بل ولا قطرة دم واحدة أبداً، وإنما فقط نوقن كما أيقن أولوا البصائر والنهى أن مصيبتنا هي الجهل بربنا ومحابه ومساخطه، ولذلك فسقنا عن أمره وخرجنا عن طاعته، وما زلت أردد -والواقع يشهد-: أروني عالماً بالله عارفاً به يتعاطى الربا والزنا وسفك الدماء، ويمزق اللحوم والأعراض، ويهمل عبادة الله، ويعرض عن ذكره، لا يوجد؛ لأنه علم، وحسبنا أن يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أيكذب الله عز وجل؟! معاذ الله!

ولذلك أي قرية أنت فيها أعلمكم بالله والله لأتقاكم لله، وهذا كله من أجل أن نقرر حقيقة وهي أن الفسق والفجور والهبوط كله ناتج عن الجهل بالله، إذ ما عرفوا الله ولا محابه ولا مساخطه، ولا ما عنده لأوليائه ولا ما لديه لأعدائه، وبالتالي سهل عليهم أن يفسقوا عن أمره، ويخرجوا عن طاعته، ومن ثم انتشر الفسق والظلم والشر والفساد والبخل والشح والعناد.

وقد قلت غير ما مرة: لو يخرج عمر في أي بلد إسلامي فلن يستطيع أن يهديهم إلا من طريق التعليم والعلم، إذ العصا لا تنفع، بل لابد للمسلمين أن يقادوا باسم الله إلى حيث يحب الله، إذ أمة هابطة معرضة كيف تقودها وتوجد فيها حكومة إسلامية؟! أنت واهم وتتخبط.

إذاً: قد عرفنا ذنبنا، وعرفنا حالنا وضعفنا، فهيا بنا إلى العلاج والخروج من هذا المأزق، وذلك إذا مالت الشمس إلى الغروب عند الساعة السادسة يقف دولاب العمل، ولم يبق دكان مفتوح الباب، ولا مصنع فيه صانع وشغال، ولا مكتب فيه كاتب ولا عامل، وإنما الأمة في القرية أو في الحي تتوضأ وتلبس أحسن ثيابها، وتأتي بنسائها وأطفالها إلى بيت ربها، فيجلس النساء وراء الستارة، ويجلس الأبناء كالملائكة بين الرجال والنساء، وذلك بعد صلاة المغرب مباشرة كما نفعل الآن، ويجلس لهم عالم رباني من الربيين يعلمهم كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي ليلة واحدة يأخذون آية يترنمون بها حتى يحفظوها رجالاً وأطفالاً ونساء، ثم يشرحها لهم ويبين مراد الله منها، ويضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة عقدوها فلن تنحل إلى يوم القيامة، وإن كان واجباً عرفوه وصمموا على أن يقوموا به، وإن كان نهياً عن عمل أو قول عرفوه وعزموا ألا يأتوا ما كره الله وما حرمه، وإن كان أدباً في الأكل أو في المشي أو في العطاء أو في الأخذ أو في السلوك عرفوه وتحلوا به على الفور، وهكذا فيأخذون في العلم والعمل والتطبيق والحفظ يوماً بعد يوم، ولا تمضي والله سنة واحدة إلا وأهل القرية كأنهم أصحاب رسول الله، فلا كذب ولا رياء ولا خيانة ولا نفاق ولا أي شيء من هذه القاذورات؛ لأنهم أصبحوا أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والنتيجة والله أنه لا يبقى في القرية من يجوع ويتألم لجوعه، ولا عار يتألم لعريه، ولا مظلوم مهضوم الحق بين إخوانه، وإنما يصبحون أولياء الله تعالى، وهذا لن يتحقق بالمدفع ولا بالهيدروجين ولا بالسحر ولا بالاشتراكية ولا بالمبادئ ولا بالعلمانية، وإنما يتحقق على هداية الله تعالى فقط.

معاشر المستمعين! كم سنة وشيخكم يصرخ: أين العلماء؟ أين العارفون؟ أين الربانيون؟ هل بلغوا حكامنا بهذا؟ هل بينوا لهم الطريق؟ هل جمعوا أممهم؟ والجواب: لا، وظاهر واقعنا هكذا، إذ ما زلنا ننتظر محناً أخرى لا قدرة ولا طاقة لنا بها إلا من رحم الله، وكتاب: المسجد وبيت المسلم قد درسناه لمدة سنة كاملة، وهو نموذج لثلاثمائة وستين آية وحديث، وذلك بمعدل يوم آية ويوم حديث، فلو أن أهل قرية فقط اجتمعوا عليه سنة وقالوا: تعالوا زورونا لتشاهدوا أنوار الإيمان والعلم فينا، والله لزرناهم.

فهل فعلنا هذا؟ بعضهم يقول: ندرسه بعد صلاة العصر مع عشرة شيوخ، أما إقبال أمة صادقة بنسائها وأطفالها في وقت فراغها وانتهاء عملها اليومي من المغرب إلى العشاء، فإن هذا ما وقع، وقد أخبرنا شخص في غرب الدنيا أنه وقع، لكن لا ندري أصدق أم لم يصدق؟ وقلنا: قد اقتدينا بالغرب في شتى الأمور، إذ إننا قد عشنا في أوروبا وفي الشرق وفي الغرب، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، ورموا بالآلات، ولبسوا أحسن ثيابهم، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم إلى المراقص ودور السينما ليروحوا على أنفسهم، فيبقون الساعات الثلاث والأربع والخمس وهم يشاهدون الباطل ويرقصون للكفر، ونحن قد اقتدينا بهم في شتى الأمور إلا في هذا الأمر، إذ إننا لم نستطع أن نغلق الدكان أو نغلق المقهى أو نوقف المطعم عند المغرب!

معاشر المؤمنين! هل فيكم من ينكر هذا الكلام؟ إذاً ما الأمر؟ هل ننتظر فقط بلية من الله تعالى؟ إن الله يقول لأصحاب رسول الله مؤدباً ومربياً ومعلماً ومعاتباً: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل، وما ضعفوا أمام أعدائهم، ولا رموا بالسلاح، ولا طالبوا بالانضمام إلى المشركين، وما استكانوا ولا ذلوا ولا ضعفوا، بل صبروا فأحبهم الله والله يحب الصابرين، ونحن ما نستطيع أن نصبر ساعة ونصف في المسجد نتعلم علم الله وهداه! وبالتالي كيف يحبنا الله تعالى؟

تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا إن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا...)

قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147]، أي: ما كان قولهم عند المصيبة والمحنة والبلاء والامتحان والاختبار إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].

وهنا يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة التي قد حفظناها وأخذنا ندعو الله تعالى بها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة فيقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي )، فالرسول يعترف بأن له خطيئة وجهلاً، ويسأل الله أن يغفر له خطيئته وجهله، والسطحيون من أمثالنا لا يبالون بهذا، ووالله لو نتأمل ساعة فقط لرأينا أنفسنا غارقين في الخطايا وليس في خطيئة واحدة، ولو فكرنا لعرفنا جهلنا ولو أخذنا الشهادات العالية والرفيعة وقال الناس فينا: علماء وعالمون، والله إنا لجاهلون.

إذ لو عرفنا فقط ربنا لأصبحت فرائصنا ترتعد عند ذكره، ولا يخطر ببالنا الخروج عن طاعته، لكن لأننا جهال ما عرفنا، والرسول يقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ) أي: في حياتي كلها، فهل فارقنا الإسراف عند الأكل والشرب والنوم والقعود والبناء والسيارة وعند أحوالنا كلها؟ لا يفارقها الإسراف لو كنا نشعر ونعلم ذلك.

وهؤلاء الصلحاء الربانيون من قبل نبينا قالوا: وإسرافنا في أمرنا، فهل نحن نأكل أو نشرب أو ننام أو نجلس مع الناس على مقدارٍ أحبه الله تعالى؟ وهل نحن نعمل بمقادير محددة حتى تخلو من الإسراف؟ من يستطيع أن يقول: نعم؟ فلهذا نفزع إلى الله ونقول: وإسرافنا في أمرنا.

وأخيراً: ( وما أنت أعلم به منا )، أي: وذنباً أنت أعلم به منا، إذ إن لنا ذنوباً الله أعلم بها منا، ولا يظهر لنا ذلك ولا نعرفه، وهي خطايا يعلمها الله العليم الحكيم.

فهيا نكررها حتى نحفظها:( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، وقد وقف رسول الله بهذا الدعاء موقفاً للتواضع لم يقفه غيره، فأي تواضع أعظم من هذا؟ يقول: ( ربي اغفر لي خطيئتي ) وهو المعصوم! ( وجهلي ) وهو الذي يتلقى المعارف من الله وحياً! ( وإسرافي في أمري )، ما إسراف رسول الله؟ في طعامه؟ في شرابه؟ لا إسراف بالمرة، ولكن بموقفه وبعبوديته دون الله يخاف الله، ويخاف أن يكون قد أسرف، ( وما أنت أعلم به مني ).

والآن لو يأتيني واحد فيقول: يا شيخ! والله لا تقوم من مكانك حتى نحفظ هذا الدعاء، فهل أنتم لستم في حاجة إلى هذا الدعاء؟! أقول: لو أن عبداً من عباد الله عرف وانفتح له باب المعرفة، وسمع هذا الدعاء وقال: والله لا يبرح الشيخ حتى نحفظ هذا الدعاء، فندعو به الليل والنهار، إذ إن هذه الدعوة قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها، فيعترف بخطيئته وجهله وإسرافه وبأمور أخرى لا يعرفها إلا الله، لكان ذلك خير له في دينه ودنياه.

( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني ) ، فهذا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأين نحن من ذلك؟ إنها ليست خطيئة واحدة ولا جهلاً واحداً ولا إسرافاً في باب واحد، وبالتالي فنحن أحق بهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيام الشبيبة مع الشبيبة قلنا لهم: يا شبيبة! الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً المغرب بسورة المرسلات، وصلت وراءه أم عبد الله بن عباس، فقالت: حفظتها لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعطيك مليوناً إذا حفظتها كما هي، بل قد قرأناها في الألواح وكتبناها وما حفظناها! ولذلك تعجبون عندما يسمع أحدهم أغنية لفريد الأطرش أو للعاهرة الفلانية، فيحفظها الشاب بنفس اللهجة والصوت! إنه مظهر من مظاهر الهبوط، ونفسر لهم فنقول: لأن أصحاب رسول الله كانت هممهم عالية لا يعجزهم شيء، ونحن هابطون لا يقف دوننا شيء في هبوطنا. ( ربي اغفر لي خطيئتي ) فنعترف بأن لنا جهلاً، وللأسف غيرنا لا يعترف بذلك حتى يسأل الله أن يغفر له جهله! ( وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ).

تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة...)

قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148].

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [آل عمران:148]، أي: لما دعوا وتضرعوا وثبتوا أعطاهم الله ثواب الدنيا من النصر والعزة والسيادة والطهر والصفاء والسعادة، وثواب الآخرة ألا وهو الجنة دار الأبرار دار النعيم المقيم.

ثم ختم العتاب بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، فمن أراد أن يمسي من أحباب الله فليحسن أولاً في عقيدته، ثم في نياته وأغراضه ونوازع نفسه، فيوجهها التوجيه الذي يرضى الله به، ويحسن في أعماله ومشيته وتناوله للطعام فضلاً عن صلاته ووقوفه في ميادين الجهاد، فيؤدي العمل بالإتقان والجودة والإحسان، فلا عبث ولا لهو لا باطل، وهؤلاء يحبهم الله، وكل هذا يعود إلى أن أعمالهم التي أحسنوها أنتجت لهم الطاقة وأوجدت لهم النور، فزكت أرواحهم، وطابت نفوسهم، فأحبهم الله لطهارة أرواحهم، إذ الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما درسنا ونسمع، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة آل عمران (63) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net