إسلام ويب

يذكر الله عز وجل صوراً من نعيم أهل الجنة، وكيف أجرى الله لهم العيون، وأمنهم فيها، بل أنه سبحانه أزال عنهم كل ما ينغص عليهم معيشتهم من أضغان الصدور وأحقاد النفوس، ويسر لهم التنعم بتلك الدار وسهولة التنقل فيها، فهم على سررهم لا ينالهم التعب، ولا يكدر عليهم خوف الخروج لأنهم خالدون فيها أبداً، وإنما نالوا هذه الكرامة حين أدركوا أن ربهم غفور رحيم، فبادروا بالمتاب إليه، وأنه شديد العقاب فحاذروا من الخروج عن أمره، ثم إن الله ذكر بعد ذلك خبر إبراهيم عليه السلام حين حلت الملائكة ضيوفاً عليه فأكرمهم وأحسن قراهم، ثم خاف منهم حين رآهم لا يأكلون طعامه، وأظهر لهم ذلك، فأخبروه أنهم رسل الله وبشروه بغلام عليم.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الحجر

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن ما زلنا مع آيات سورة الحجر.

قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:45-56].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45] هذا خبر من أخبار الله تعالى في كتابه، يعلن للمؤمنين والمؤمنات بأن المتقين لله عز وجل في جنات النعيم والله العظيم.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، من هم المتقون؟ ليسوا بني فلان ولا بني فلان ولا فلان، وإنما هم مؤمنون خافوا من ربهم فأطاعوه ولم يعصوه، فكانوا بذلك متقين.

والتقوى: خوف من الله يجعلك تتقي عذابه؛ وذلك بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هؤلاء المتقون أين هم وقد قامت القيامة وحضرت الخليقة في ساحة فصل القضاء، وتم حكم الله؟

هم في جنات وعيون، والجنات مثلها في الدنيا كالبساتين، والعيون كذلك، ولكن شتان ما بين ما هو صورة مصغرة وبين ما هو حقيقة كبرى في ذلك العالم الأعلى، والعيون هي أربعة عيون جاءت في سورة القتال، إذ قال تعالى وقوله الحق: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، يقول لهم ربهم، ويقول لهم ملائكته: ادْخُلُوهَا [الحجر:46]، أي: ادخلوا دار السلام الجنة، دار الأبرار، دار المتقين.

قال تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46].

(بسلام) من الكبر والهرم.. من العجز والمرض.. من الهم والغم.

(آمنين) من كل المخاوف، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، يسلم عليهم الرب تبارك وتعالى، وتسلم عليهم ملائكته، إذ قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] الملائكة تستقبلهم وتسلم عليهم، فاللهم اجعلنا منهم! اللهم اجعلنا منهم! اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.

يقول تعالى مخبراً: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر:47]، والغل هو: الحقد، الحسد، المرض النفسي، نزع نزعاً كاملاً، فالقلوب صافية نقية طاهرة كأرواح الملائكة، لا غل فيها ولا حقد ولا غش ولا حسد، ولا عداوة ولا بغضاء أبداً، كالطفل عندما يولد، ليس في قلبه شيء، انتزعه الله انتزاعاً من قلوبهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، إخوان ولكن ليست أخوة آباء وأبناء، ولكن أخوة الإيمان والإسلام وتقوى الرحمن، فلا فرق بين العربي والعجمي، ولا بين البعيد والقريب، وإنما الكل أصبحوا إخواناً على سرر.

والسرر: جمع سرير، وفي الدنيا أمثالها مبسطة، ولكن أسرة الآخرة ليست كأسرة الدنيا؛ لأن جسم الإنسان اليوم غير جسمه غداً، فأجسامنا يوم القيامة في الجنة الطول ستون ذراعاً كما كان آدم عليه السلام أبو البشرية لما خلقه الله تعالى، كان طوله ستون ذراعاً.

وقوله: مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]؛ لأنهم يجلسون للتفكه والتنعم بذلك النعيم العظيم، وجوههم مقابلة لبعضها البعض، لا يعطون أبداً القفا ولا ينظرون من قفاهم، بل متقابلين، وهذه الأسرة عجب، تصرفهم هكذا غير مدبرين، ولكن إلى وجوههم، حتى لا ينظر أحد إلى قفا آخر، بل الوجه دائماً مع الوجه، وهذه آية من آيات الله عز وجل.

ثم قال تعالى في الخبر الرابع: لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ [الحجر:48]، والنصب هو التعب والألم لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ [الحجر:48]، الدنيا فيها أتعاب وآلام والآخرة ليس فيها ذلك لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، التوقيع الأخير، خالدون باقون أبداً لا يخرجون من ذلك النعيم ولا يفارقونه أبداً، ولا نهاية لحياتهم.

سبحان الله العظيم لهذه الحياة الدنيا نهاية ولكن الحياة الأخرى لا نهاية لها، فما السر في ذلك؟

لأنه سبحانه أراد أن ينعم علينا فأوجدنا في هذه الدنيا، وعلمنا كيف نعبده فتزكو أنفسنا وتطيب وتطهر، ثم ينقلنا إلى الجنة دار السلام، فهذه دار فناء؛ لأنها دار عمل فقط، وتلك دار جزاء، فهي دار خلد وبقاء.

لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ [الحجر:48] أي: تعب وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، لا يخرجون أبداً؛ لأنها دار الخلد والبقاء.

ثم يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا النبي الكريم الذي نحن على مقربة من بيته وداره وحجرته، ونحن في مسجده، يقول له: نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49] أخبر عِبَادِي [الحجر:49] المؤمنين الموحدين المتقين، بأن من زلت قدمه وارتكب ذنباً وتاب منه فإني أغفره له وأرحمهم أجمعين.

نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49]، بماذا تنبئهم؟ بأن الله غفور لذنوبهم رحيم بهم، ومغفرة الذنب متوقفة على التوبة التي فرضها الله وألزم بها عباده، قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، إذ توبة العبد تغسل أثر ذلك الذنب وتزيله، ولا تبقي له أثراً أبداً، وهذا مشاهد عندنا في غسل ثيابنا إذا اتسخت، إذا غسلناها غسلاً حقيقاً بمادة التطهير فإنها تطهر وتصفو أكثر مما كانت، فالله عز وجل يقول للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49]، وهذه الإضافة تساوي الدنيا وما فيها، فالحمد لله أننا عبيد الله، وإليكم مثال: إذا وظف أحدكم في مركز من مراكز الدولة فإنه يعز ويفرح: أنا كذا أنا كذا.. فكيف بنا نحن نوصف بأننا عبيد الرحمن ولا نفرح ولا يسرنا ذلك؟!

نَبِّئْ عِبَادِي [الحجر:49]، أي: أخبرهم بأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم على شرط أن تكون المغفرة متوقفة على التوبة، لابد من طاعة الله في التوبة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، والآن ينبئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبأ أعظم: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50]، كما تنبئهم بأني غفور رحيم، نبئهم أيضاً وأخبرهم بأن عذابي هو العذاب الأليم.

والعذاب تحسون به إذا جعتم.. إذا عطشتم.. إذا مرضتم.. إذا تعبتم، يحس به كل حي ويشعر به، ولكنه في الآخرة العذاب الأليم الشديد الألم، وسمي العذاب عذاباً؛ لأنه يسلب الإنسان عذوبة الطعام والشراب والحياة، العذاب يسلبك عذوبة حياتك فتصبح مرة غير عذبة.

تفسير قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم)

ثم قال تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر:51]، هذه حادثة وقعت في الأرض، من أجل الحوادث وأعظمهما، ولولا كتاب الله والله ما بلغتنا ولا عرفناها ولا سمعنا بها، فتاريخها بعيد.

إنها أحداث تمت للخليل إبراهيم عليه السلام، وإليكموها مجملة في هذه الآيات: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر:51]، الضيف معروف، وهو اسم جنس يدخل فيه القليل والكثير، وهو من ضافه يضيفه: إذا نزل عليه، أو أضافه أنزله بداره.

ضيف إبراهيم هم ثلاثة ملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل عليهم السلام.

وما سر ضيافتهم؟

اسمعوا وعوا! لما حدثت تلك الحادثة المفجعة المؤلمة المكربة المحزنة، وهي: أن العدو إبليس عليه لعائن الله علم قوم لوط فاحشة اللواط، ونشرها بينهم، ونفخها في صدورهم وقلوبهم، فأصبحوا يتكالبون عليها؛ يأتونها بالليل والنهار في الخلاء وفي الجماعة، لما كان ذلك بعث الله فيهم رسوله لوطاً عليه السلام، وهو ابن أخ إبراهيم، وقد هاجر معه من أرض بابل، أرسله إليهم ليعلمهم الطريق والمسلك المنجي، فواجهوا دعوته بالسخرية والاستهزاء والتهديد بالوعيد، وأصروا على هذه الجريمة القبيحة التي لا أقبح منها في الأرض، وهي أن ينزو الذكر على الذكر، فلما دقت الساعة وآن أوان دمارهم وهلاكهم بعث الله هؤلاء الضيوف فنزلوا على إبراهيم بالشام وأرض لوط هي البحيرة المنتنة الموجودة الآن بين الأردن وفلسطين، إذاً: نزلوا ضيوفاً على إبراهيم: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر:51].

تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون)

ثم قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52] دخلوا عليه في مكان جلوسه فسلموا عليه: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام.

ومن هنا نذكر بأن التحية (تحية السلام عليكم) مما فزنا بها نحن المسلمون والحمد لله رب العالمين، إذ هي تحية الله لأهل الجنة، وتحية الملائكة لأهل الجنة، وهي تحية المؤمنين للمؤمنين، وانظر إلى الأبيض والأسود من غير المسلمين لا يعرفون السلام عليكم، مع أن لفظ السلام من أسماء الرحمن عز وجل، وهو دال على السلامة من كل مكروه ومن كل ما يؤذي، فإذا لقي المؤمن أخاه تعين عليه أن يقول: السلام عليكم. وتعين وجوباً على من ُسلم عليه أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وهذا الأدب السامي له فضيلته، من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال: وعليكم السلام كتب له عشر حسنات، فإن زاد: ورحمة الله، كتب له عشر حسنات، فإن زاد وبركاته كتبت له عشر حسنات، فأصبحت ثلاثين حسنة.

عرف هذا أصحاب رسول الله؛ لأنهم كانوا يتلقون الكتاب والحكمة بين يديه صلى الله عليه وسلم، فكان عبد الله بن عمر يخرج مع مولاه إلى السوق كأنه يريد أن يشتري شيئاً أو يبيع، ولكنه يذهب ويعود ولا يشتري ولا يبيع، فيسأله مولاه: لم خرجنا إلى السوق يا مولاي وما اشترينا ولا بعنا؟ فنغزه في بطنه وقال: خرجنا لنسلم على المسلمين.

فانظر كيف يخرج من بيته إلى السوق لا لغرض إلا ليواجه الناس ويسلم عليهم، هذا عبد الله بن عمر.

هذه الحسنة ينبغي أن لا نفقدها، إذا لقيت أخاك المؤمن فسلم عليه، وإذا سلمت عليه رد عليك السلام، فيفوز بثلاثين حسنة، إذا قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاليم لذلك:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ليسلم الكبير على الصغير ) . الرجل يسلم على الطفل، لا الطفل يسلم على الرجل، والشيخ يسلم على الرجل، والشاب يسلم على الطفل.

ومنها: ( والماشي على القاعد )، الماشي هو الذي يسلم على القاعد، والقائم يسلم على الجالس، هذه التعاليم فازت بها هذه الأمة ونفع الله بها، ولكنهم أضاعوها بترك العلم والمعرفة، وإلا كيف يترك السلام؟!

ومع الأسف بعض الإخوان المؤمنين يستبدلونها بكلمات لا تدل عليها، كصباح الخير، ومساء الخير، أو كـ(هلا هلا) و(مرحباً مرحباً).

إذاً: الملائكة دخلوا على إبراهيم فسلموا عليه، فرد عليهم السلام، إذ قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52] أي: خائفون، فلما دخلوا عليه وسلموا عليه اطمأن؛ لأنهم سلموا عليه ورد السلام، ولكن خاف منهم، وأخبر أنه خائف؛ لأنه تقدم لهم بلحم مشوي، بحيث ذبح عجلاً صغيراً وشواه وقدمه بين يديهم فأبوا أن يأكلوا، فحصل الخوف في نفسه؛ لأن القاعدة: إذا قدمت الطعام لأحد وأبى أن يأكله عرفت أنه يحمل الشر لك، وأنه ليس براضٍ عنك، فلما قدم الطعام على أجود ما يكون وأحسن ما كان أبوا أن يأكلوه فأوجس منهم خيفة فقال: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52] أي: خائفون.

تفسير قوله تعالى: (لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم)

قال تعالى: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]. أجابوه عليهم السلام بقولهم: لا تَوْجَلْ [الحجر:53] أي: لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]، جئنا لنبشرك بغلام عليم، وهذا في الوقت الذي تجاوز فيه إبراهيم سن المائة والعشرين، وامرأته سارة كذلك، وبشروه بولد عليم كثير العلم، وكيف لا وإسحاق نبي الله ورسوله إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53]، هذه مهمتنا التي جئنا بها إليك.

تفسير قوله تعالى: (أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون... ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)

قال تعالى: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر:54]، قال إبراهيم لهم: بعدما تجاوزت المائة تبشروني بغلام؟ كيف ذلك ؟ بم تبشرون؟

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ [الحجر:55]، وأنه سيولد لك مولود ويكون عليماً من أكثر الناس علماً، وحليماً من أكثر الناس حلماً؛ ألا وهو إسحاق عليه السلام.

وهنا ألفت النظر إلى أن إسماعيل كان قبل إسحاق، وإسماعيل ابن جارية، أمه هاجر المصرية القبطية، وسارة هي زوجة إبراهيم عليه السلام وبنت عمه، وما ولدت حتى تجاوزت المائة وبلغتها، فكان اليأس من الولادة في هذا الظرف، فمن ثم بشر الله عز وجل إبراهيم وسارة بهذا الولد العليم وهو إسحاق عليه السلام، وبالفعل حملت وأنجبت، بعد كبر السن قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ [الحجر:54-55]، بالحق بأنه سيولد لك غلام عليم، فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ [الحجر:55]، فقال عليه السلام: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].

أتدرون من هو الضال؟ لما يتيه الإنسان في البلد.. في الصحراء فلا يعرف الطريق يسمى ضالاً، فالضال من البشر ومن الجن ذاك الذي لم يسلك الطريق الذي وضعه الله للسلوك عليه والمشي فوقه؛ تجنب الطريق الذي هيأه الله لعباده ليطهروا في الدنيا ويسعدوا في الآخرة، فكل من كفر بالله أو أشرك أو ارتد أو خرج عن الإسلام أو ارتمى في أحضان الشياطين بالفسق والفجور فهو ضال الطريق، وهو إلى الجحيم لا إلى النعيم.

والضال بخلاف المهتدي، فالمهتدي هو من عرف الطريق وسلكه، والضال ما عرف الطريق فلم يسلكه أو عرفه وتنكر له وتركه فضل.

قراءة في كتاب أيسر التفاسير

معاشر المؤمنين! إليكم شرح الآيات من الكتاب لتزدادوا معرفة وبصيرة. ‏

معنى الآيات

قال المصنف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات:

لما ذكر تعالى جزاء أتباع إبليس الغاوين ] كما في الآيات السابقة [ ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان، فقال تعالى مخبراً عما أعد لهم من نعيم مقيم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ [الحجر:45] أي: المتقين الله بترك الشرك والمعاصي فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45] يقال لهم: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46] أي: حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع.

قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر:47] أي: لم يبق الله تعالى في صدور أهل الجنة ما ينغص نعيمها أو يكدر صفوها كحقد أو حسد أو عداوة أو شحناء.

إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] لما طهر صدورهم مما من شأنه أن ينغص أو يكدر أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضاً إخواناً، يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه.

عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] وجهاً لوجه، وإذا أرادوا الانصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر أحدهم إلى قفا أخيه.

قوله: لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48] فيه الإخبار بنعيمين: نعيم الراحة الأبدية، إذ لا نصب ولا تعب في الجنة، ونعيم البقاء والخلد فيها، إذ هم لا يخرجون منها أبداً.

وفي هذا تقرير ] أي: في ذكر صفات أهل الجنة وما هم فيها من نعيم مقيم [ لمعتقد البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها] ومعتقد البعث والجزاء هو الركن الخامس من أركان الإيمان، والسورة مكية تعالج أمور العقيدة ومنها البعث والجزاء.

[ وقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] أي: خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم، رحيم بهم فلا يعذبهم.

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:50] ونبئهم أيضاً أن عذابي هو العذاب الأليم، فليحذروا معصيتي بالشرك بي، أو بمخالفة أوامري وغشيان محارمي.

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا [الحجر:51-52] أي: سلموا عليه فرد عليهم السلام، وقدم لهم قرى الضيف، وكان عجلاً حنيذاً كما تقدم في سورة هود، وعرض عليهم الأكل فامتنعوا.

وهنا قال: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر:52] أي: خائفون، وكانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، كانوا في صور شباب حسان ] من بني آدم وليسوا على هيئة الملائكة [ فلما أخبرهم بخوفه منهم] لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوءاً [لما أخبرهم بخوفه منهم قالوا: لا تَوْجَلْ [الحجر:53] أي: لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر:53] أي: بولد ذي علم كثير.

فرد إبراهيم قائلاً بما أخبر تعالى عنه بقوله: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر:54] أي: هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ [الحجر:55] أي: الآيسين.

وهنا رد عليهم نافياً القنوط عنه؛ لأن القنوط حرام: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] أي: الكافرون بقدرة الله ورحمته؛ لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم ].

هداية الآيات

معاشر المستمعين! لهذه الآيات هدايات، فهيا بنا نتدبرها! قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: تقرير نعيم الجنة، وأن نعيمها جسماني وروحاني معاً ] في الآيات تقرير وتأكيد لنعيم الجنة، وأنه جسماني جسدي وروحي معاً، فالنعيم للأجساد وللأرواح، وأما نعيم الدنيا فللأجساد دون الأرواح، فترى الرجل في نعيم يتقلب في الطعام والشراب واللباس وهو كئيب حزين. إذاً: نعيم الجنة جسماني وروحاني، وقد أخذنا هذه الهداية من قوله تعالى: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ))[الحجر:45].[ ثانياً: صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره ] فيصبح غير صالح، وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ))[الحجر:47-48].[ ثالثاً: وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديه ] وأخذنا هذه الهداية من قوله تعالى: (( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))[الحجر:49] .[ رابعاً: وعيده لأهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: (( وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ))[الحجر:50].[ خامساً: مشروعية الضيافة، وأنها من خصال وخلال البر والكرم ] وأخذنا مشروعية الضيافة من فعل إبراهيم عليه السلام، ضاف ملائكة وليسوا بشراً وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقام بواجب الضيافة فذبح عجله وقدمه مشوياً، ووضعه بين أيديهم.[سادساً: حرمة القنوط واليأس من رحمة الله ] وهذه عقيدة من عقائد المسلمين، لا يقنط المؤمن بحال من الأحوال أبداً، بل يفوض الأمر إلى الله، ويرجو الله، ويسأله ليل نهار، ولا يقنط من شيء أبداً، إذ القنوط واليأس مقابل رحمة الله كفر، فلا بد من الرجاء الكامل فيما عند الله عز وجل.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحجر (8) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net