إسلام ويب

إن الإنسان المؤمن لابد أن يعرف قدره ومنزلته في هذه الحياة الدنيا، وما هو مصيره ولماذا خلق.

فإذا كانت هذه التساؤلات تحرك شعوره وإحساسه، فليعلم أن الله سبحانه وتعالى خلقه لغاية قصوى وعمل منشود وهو عبادته سبحانه، وأنه مسافر إليه، فليستعد للحساب حين اللقاء، وليأخذ أهبته للسفر، وليختر رفقته، ويتبين دليله ومنهاجه، ولابد له من إشارات وإرشادات وتوجيهات تعينه على الوصول إلى محطة النجاة والخلود.

ما يحتاجه المسافر في طريق الحياة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومَنْ لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، جعل الله الذُّل والصَّغار على من خالف أمره، وسدَّ إلى الجنة كل الطرق، فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، صلوات الله وسلامه على خاتم رسله، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستمسك بهديه وسنته.

اللهم إنا نسألك الثبات والهداية، ونعوذ بك من الخذْلان والغِوَاية، اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا.

اللهم من كان سببًا في هذا اللقاء فأجزل مثوبته، وارفع درجته، إنك سميع الدعاء: يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102] سلام لكم. وسلام عليكم.

سلام لكم أهل العـلى من أظنكم>>>>>خليقين أن تحيوا كراماً وتنصروا

مضى زمن التَّنويم يا قوم وانقضى>>>>>ففي الحي أيقاظٌ على الحي تَسهر

صَحَوتم وأدركتم وبانت نفوسكم>>>>>من العيش إلا في ذُرَا العز تسخر

رجال العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ>>>>>إلى أذنٍ تُصْغِي وقلبٍ يبصَّر

شَباب العُلى الميمون إنَّا بحاجةٍ>>>>>إلى عالمٍ يدعو وداعٍ يذكر

كُهولَ العلى الميمون إنَّا بحاجةٍ>>>>>إلى حكمةٍ تُمْلى وعقلٍ يُفكِرُ

أهالي العُلى الميمون إنّي وإنني>>>>>أُناشدكم بالله أن تتذكروا

عليكم حقوقٌ للعباد أجلُّها>>>>>تَعَهُدهم بالعلمِ فالرَّوض يقفر

ولا تيئسُوا ما خاب أصحاب ملةٍ>>>>>إذا ما تواصوا بينهم ثم شمروا

وما ضاعَ حق لم ينم عنه أهله>>>>>ولا ناله في العالمين مقصر

إذا الله أحيا أمةً لن يردها>>>>>إلى الموت قهارُ ولا متجبر

قُصَارى مُنَى أمتكم أن ترى لكم>>>>>يدًا تَجتني علمًا وتَنهى وتَأمرُ

دعوتموني فأجبت ملبيًا فرحًا، وما حالي إلا كذلك القائل يوم قال:

آهٍ لبرقٍ لمعا>>>>>ماذا بقلبي صنعا

جِسمي معي لكن>>>>>قلبي عند أَخيار العلى

أُشْهِد الله على حب الصالحين، ولا أحسبكم إلا أولئك الصالحين، حشرنا الله في زُمرَة النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وهو ولي المؤمنين:

إنَّا على البعاد والتفرق>>>>>لنلتقي بالذكر إن لم نلتق

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: أنفع الناس لك من مكَّنك من نفسه لتزرع فيها خيرًا.

فأَسْأل الله أن يجعلكم من أنفع الناس للناس، الذين هم أحب الخلق إلى الله، وأسأله أن يجعلني أهلاً لزرع الخير في قلوب الخلق ابتغاء مرضاة الله.

فما بقيت من اللـذات إلا>>>>>مذاكرة الرجال ذوي العقول

وإنْ كانوا إذا عُدُوا قـليلاً>>>>>فقد أَضْحوا أقـلَّ من القليل

وإنَّي أرجو أن يُبارك الله في القليل.

أحبتي في الله: قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض ؟ فقال:

حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها>>>>>عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كـبر

و لكنني ألزمت نفسيَ حمْلها>>>>>لأعلمها أن المقيم على سـفر

لا زلنا -إخوتي- على الطريق الذي سبق؛ هُتِف عليه من قبل أن: "اقصد البحر وخلِّ القنوات"، ثم هُمِس عليه من بعد ذلك أن: "تأمل". واليوم مع "إشارات على ذاك الطريق"، تتراوح بين الإغراء والتحـذير، جمعتها من كتب أهل العلم، ثم صغتها ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة، وحَدا حَادِيه كقول الحادي يوم قال:

أوانًا في بيوت البدو رحلي>>>>>وآونة على قـتب البعـير

إنها كلمات في إشارات، هي جهد المقل المعترف بالتقصير دوماً وأبداً والحال معها:

لا خيل عندك تهديهــا ولا مـال>>>>>فليسـعد النطق إن لم يسـعد الحال

ومن جهلت نفسه قدره، رأى غيره منه ما لا يرى، أرجو الله أن تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأن يُخَلِصها لقائلها ومُستمعها وسامعها، وأن يسوقها لأهلها الذين إن وجدوا خيرًا به عملوا، وبالأجر للقائل دعوا، وإن وجدوا خللاً أصلحوا ونصحوا ودفنوا، كما أسأله أن يصلح بها المتربصين، الذين إن رأوا هفوة صرخوا وصاحوا كشيطان العقبة ، وطاروا بها وفرحوا.

وعلى الله وحده اعتمادي، وإليه وِجْهَتي واستنادي، فهو المستعان وعليه التُكْلان، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

يقول ابن القيم رحمه الله: لم يزل الناس مُذْ خُلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم.

والعاقل يعلم بطبعه أن السفر مَبْنِيٌّ على المشقة والأخطار، بل هو قطعة من العذاب واللأواء، ومن المحال عادة أن يُطلب في السفر النعيم والراحة، واللذة والهناء، فكلُّ وَطْأَةِ قدم أو أَنَّة من أنات المسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر غير واقفة، والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح فهو على قدم الاستعداد للسير في قطع المَفَاوِزِ والقِفَار، السفر مِضْمار السباق، وقد انعقد المضمار وخفي السابق، والناس في المضمار هذا بين فارس وبين راجل، وبين أصحاب حُمُرٍ معقرة:

سوف ترى إذا انجلى الغبار>>>>>أفرس تحتك أم حمار؟

وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت>>>>>عن أفقه ظلمات الليل والسحب

إن السـلاح جميع الناس تحمله>>>>>وليس كل ذوات المخلب السبع

هَلْكَى هذا السفر كثير وكثير، والناجون فيه قليل، الناجي فيه واحد من ألف وكفى.

لا تعجب لهالك كيف هلك، ولكن اعجب لناج كيف نجا.

البعض في هذا السفر كإبلٍ سائِبَة لا تكاد تجد فيها راحلة، والبعض الآخر كإبلٍ نَجِيْبَة صابرة نادرة، وأَنْعِم بها من راحلة، النجائب في المقدمة، وحاملات الزاد في المُؤَخِرة.

رفعت لنا في السَّـير أعلام السعا>>>>>دة والهدى يا ذلة الحــيران

فتسابق الأبطال وابتدروا لهـا>>>>>كتسابق الفرسـان يوم رهـان

وأخو الهوينى في الديـار مخلف>>>>>مع شكله يا خيبة الكسلان

إلى كم ذا التخلف والتواني>>>>>وكم هذا التمادي في التمادي

وشغل النفس عن طلب المعالي>>>>>ببيع الشِّعر في سُوق الكساد

لا بد للمسافر من رِفقةٍ ومن عُدةٍ وعتادٍ، ودليلٍ ومِنْهاجٍ واستعدادٍ بِزَاد، وهَدَفٍ وَوِجْهة، ومحطات استراحة ووسائل مثبِّتَة، وإشارات مرشدة.

دليل المسافر ومنهاجه

أما دليله ومنهاجه فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل -كما ثبت عنه-: {تركت فيكم شيئيْن لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي} صلوات الله وسلامه عليه.

ومن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضل، ومن تمسك بغير أصلٍ ذَل.

كـن في أمـورك كلها متمسِّـكاً>>>>>بالوحي لا بزخــارف الهذيـان

وتدبَّـر القرآن إن رمت الهـدى>>>>>فالعــلم تحت تدبُّـر القـرآن

عدة المسافر وزاده

أما عُدَّةُ المُسَافِر وزاده فإيمان وعمل صالح: إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [الكهف:30].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا [الكهف:107].. إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].

أين النفوس ترامى غير هائبةٍ>>>>>أين العزائم تمضي ما بها خور

العـلم بالحقِّ والإيمان يصحبه>>>>>أساس دينك فابن الدين مكتملا

لا تبن إلا إذا أسَّست راسخةً>>>>>من القواعدِ واستكملتها عملا

لا يرفع السقف ما لم يبن حامله>>>>>ولا بنـاء لمن لـم يرس ما حمـلا

ومن الزاد إخلاص لله، وقصد بالعمل وجه الله لا سواه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].. فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3].

فالفضل عند الله ليس بصورة>>>>>الأعمال بـل بحقـائق الإيمــان

والله لا يـرضى بكـثرة فعــلنا>>>>>لكن بأحســنه مـع الإيمــان

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وَحَسْب نفسِك إخلاصٌ يُزَكِيها.

ومن الزاد: متابعة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه قوله: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ويقول الله جل وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

فيأيها المسافر: من عُمْدة عُدَّتك اتباعه، فلتذر مع قول الرسول وفِعْله نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغَان، ورحم الله الحكمي يوم قال:

شرط قبول السعي أن يجتمعا>>>>>فيه إصابة وإخلاص معا

لله رب العرش لا سواه>>>>>موافق الشرع الذي ارتضاه

وكل ما خالف للوَحْيين>>>>>فإنه ردٌ بغير مين

وجماعُ الزَّاد هذا كلِّه تقوى الله جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] إنها العز والنسب والسبب والفخر والكرم.

ألا إنمـا التقوى هي العـز والكرم>>>>>فلا تترك التقـوى اتكالا على النسب

فقـد رفع الإسـلام سلمان فارس>>>>>وقـد وضع الشركُ النَّسـيب أبا لهب

فتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ!

فالزاد -إذًا- إيمان، وعمل صالح في إخلاص، ومتابعة في تقوى، فهي إذا اجتمعت في نفس حرة بلغت من العلياء كل مكان.

رفقاء المسافر وصفاتهم

ولابد للمسافر من رِفْقَةٍ وصُحْبة: (فالراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

والمسافر مهما تكمن مواهبه، ومهما يكن عطاؤه، ومهما تكن قدراته؛ فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة، ما لم يكن له أعوان، َيشُدون أزره، ويُقَوُّون أمره، يُذَكِّرونه حين ينسى، ويعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه.

وما المــرء إلا بإخوانه>>>>>كما تقبض الكفُّ بالمعـصمِ

ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خير في السَّاعد الأجْذَمِ

موسى صلوات الله وسلامه عليه، وهو المُلَقَّب بالقوي الأمين في كتاب الله، يوم كلَّفه الله بالرسالة احتاج إلى المعين والوزير، فقال: وَاجْعَل لي وَزِيرًا منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه فيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:29-35].

ماذا قال الله تعالى؟ قال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] وفي سورة القصص يقول الله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35].

فالصاحب ضرورة ولا بد، لكن له صفات تُحَدده وتُمَيِّزه، لعلنا نقف عندها باختصار منها:

رفيق المسافر لابد أن يكون مؤمناً عاقلاً

أن يكون مؤمنًا: {فلا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

ولا يكفي أن يكون مؤمنًا؛ فلابد أن يكون عاقلاً؛ لأن الأحمق قد يثور عليك، فيغضب؛ فيَجْنِي عليك وعليه، ويقعد بك عن الهدف المرسوم، الذي رسمته لك، وصَدَق ونَصَح من قال:

احذر الأحمق أن تصحبه>>>>>إنَّما الأحمق كالثوب الخلق

كلما رقعته من جانب>>>>>زعزعته الريح يوماً فانخرق

أو كصدع في زجاج فاحش>>>>>هل ترى صدع زجاج يرتتق؟

كلا.

رفيق المسافر لابد أن يكون عدلاً حسن الخلق

وأن يكون عدلاً غير فاسقٍ، أقول ذلك لئلا يَجُرَّك إلى فِسْقه، ودَّ صاحبُ الفسق والمعصية لو فسق الناس جميعًا؛ لئلا يصبح نشازًا بينهم.

وأن يكون غير مبتدعٍ، لئلا يلقي عليك الشُّبه فيتشربها قلبك، والقلوب ضعيفة، والشُّبه خَطَّافة كما يقول العلماء.

وأن يكون حسن الخلق غير حريص على الدنيا، وصدق من قال:

شَبِيهُ الشَّيءِ مُنْجَذب إليه

وخير الكلام كلام الله تعالى: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ [النور:37].

إن لم يكن رِفْقَتك بهذه الأوصاف فإنِّي لأخشى ألا تبلغ وِجْهَتَك في سفرك، وأن تكون-أجارك الله- ممن يقول حين لا ينفع ذلك القول: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلا [الفرقان:28]

قد تفـسد المرعى على أَخواتها>>>>>شـاةٌ تند عن القطيع وتمـرق

محطات المسافر وهدفه ووجهته

أما محطات الاستراحة: فإن المسافر بطبعه يَكل ويَنْصَب ويَتْعَبُ ويَمل، وراحته وأمنه وسكينته في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

من لا يعرفها فحاله كقول القائل:

إن مات مات بلا فقدٍ ولا أسف>>>>>أو عاش عاش بلا خلقٍ ولا خُلقِ

هدف المسافر ووجهته

أما هدف المسافر وَوِجْهته: فللمسافر وِجْهَة، ومسافر لا يحدد وجهته كالثور -أكرمكم الله- يدور في الساقية ويدور ويدور ويلف، ثم ينتهي من حيث بدأ، أو كالسَّفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتقذف بها الأثباج، ثم تهلك هي وأصحابها.

فما وجهتنا عباد الله؟ إنها جنةٌ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

من رام وصل الشمس حاك خيوطها>>>>>سـببا إلى آمــاله وتعــلقا

حُفَّت الجنة بالمكاره، فمن أرادها حقًّا اقتحم المكاره، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، والمكارم منُوطة بالمكاره، ومن تأمَّل نَيل الدر من البحر، وجده بعد معاناة المكاره، ومن تأمَّل دوام البقاء في نعيم الجنة، علم أنه لا يحصل إلا بنقد هذا العمر ثمنًا له، وما مقدار عمر غايته مائة سنة، منها خمس عشرة سنة صَبوة وجهل، ومنها ثلاثون بعد السبعين -إن حصلت-عجز وضعف، والتوسط نوم، ونصف زمانك أكل وشرب وكَسب، وللعبادات منه زمن يسير.

عمرك محدود فأدرك به>>>>>بعض الأماني وانتهز واعقل

أفلا يُشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟!

خاب -والله- وغُبِن وتَعِس وانتَكَس من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؛ غَبْن فاحش وخلل، وهوان، تالله ما العَيش إلا عَيش الجنة، حيث اليقين والرضا والمعاشرة لمن لا يُؤذِي ولا يخون، مع تنوع أصناف النعيم .

والذل في دعة النفوس ولا أرى>>>>>عز المعيشة دون أن يشقى لها

مَن جدَّ وَجَد، ومن سهر ليس كمن رقد، والفضائل تحتاج لوَثْبة أسد، تالله ما هَزُلت فيَستَامها المفلسون، ولا كَسَدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.

لقد أقيمت للعرض في سوق (مَن يزيد؟) فلم يُرض لها بثمن دون بذل النفوس.

تأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون لها ثمنًا، فدارت السلعة بينهم، ووقفت في يد قوم يحبهم ويحبونه، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعزَّةٍ على الكافرين.

عرفوا عظمة المُشترَى، وقدر السلعة، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، فرأوا من الغَبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بَيعة الرضوان والتراضي، فربح البيع! لا إقالة ولا استقالة:

سعوا للمعالي وهم صبية>>>>>وسادوا وجادوا وهم في المهود

إنها سلعة الله وكفى، سلعة الله غالية جِدُّ غالية، تحتاج إلى مثابرة، إلى جهد وصبر ومصابرة وتضحية ومغالبة.

ومن هجر اللذات نال المنى ومن>>>>>أكب على اللذات عض على اليد

يا سلعة الرحمن لست رخيصة>>>>>بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها>>>>>في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن أين المشتري>>>>>فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟>>>>>فالمهر قبل الموت ذو إمكان

يا سلعة الرحمن لولا أنها>>>>>حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف>>>>>وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة>>>>>ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى>>>>>رب العلى بمشيئة الرحمن

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد>>>>>راحاته يوم المعاد الثاني

فحي على جنات عدن فإنها>>>>>منازلنا الأولى وفيها المخيم

وحي على روضاتها وخيامها>>>>>وحي على عيش بها ليس يسأم

الدعوة إلى الله وسيلة تثبيت واتزان

وعلى الطريق وسيلة تثبيت واتزان؛ إنها الدعوة إلى الكبير المتعال، على علم وبصيرة، لأنك في هذا السفر ستجد دعاة على الطريق يريدون أن يجتالوك عن الطريق بالباطل، فإنْ لم تدعُهم إلى الحق الذي تحمله، دعوك إلى الباطل، إنْ لم تَغزُهم بالحق، غزوك بالباطل، إن لم تَعرض عليهم الحق، عَرضُوا عليك الباطل في صورة الحق، فارفع على الطريق: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ [يوسف:108].

لا لدنيـا أو هوى أو عصبة>>>>>دون خزي أو نفاق أو خطل

إنها صدق وإخلاص لمن>>>>>هو يجزي وحده عز وجل

فارفع على الطريق هذا الشعار، واعلم أن العمل الدَّعويَّ -كما هو معلوم- ميدان واسع، ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له، إطاره الأرض -مُطلق الأرض- وميدانه الإنسان، من غير حد للون ولا لجنس ولا للغة، إنَّها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل.

والعمل لهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة.. إلى دراسات متأنية.. إلى نَبذٍ للفَوضَوية ولو بحسن نية؛ فالارتجال والفوضى خلل ووهن وجهل واضطراب في التصور؛ لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ، يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، ويحتكم إلى حقائق الكتاب والسُّنّة، لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنَّه واقف على الأرض؛ فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البَر، ولا يحرُث في البحر، ولا يبذُر في الصخر، كما يقول صاحب: جيل النصر لا ينسج خيوطًا من الخيال، ولا يبني قصورًا في الرمال، ولا ييئس من رَوح الله، ولا يقنَط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يُقدِم على الأحداث.

ولسنا بِدعًا في ذلك يوم ندعو إلى ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة- لما هاجر إلى المدينة ، خرج بطريقة مدروسة، منظمة، عجيبة، اتخذ فيها كل الأسباب متوكِّلا على ربه.

ويظهر ذلك من خلال ما يلي:

أولاً: الاتصال بالأنصار الذي تمت من خلاله بيعة العقبة الأولى.

ثانيًا: َبعْث النبي صلى الله عليه وسلم لـمصعب بن عمير إلى الأنصار، ليقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في دين الله.

ثالثًا : بيعة العقبة الثانية، التي هي شدٌّ للوثاق والعهد على النصرة في المَنشَط والمَكرَه والعُسر واليُسر، بعد أن استوعب النبي صلى الله عليه وسلم درس الطائف قبل ذلك.

رابعًا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة، حتى لم يبق بـمكة إلا محبوس أو مفتون.

خامسًا: استبقاء عليٍّ رضي الله عنه في مكة ؛ لحاجته إليه في تأدية الودائع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمهمَّة تأتي فيما بعد.

سادسًا: اتخاذ الصاحب وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

سابعًا: انتظار الإذن بالهجرة منه صلوات الله وسلامه عليه.

ثامنًا : إعداد الرواحل ودفعها إلى خريت من قِبل أبي بكر ومُواعدته الغَار بعد ثلاث ليال.

تاسعًا: ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت غير معهود منه، وطلبه من أبي بكر إخراج من عنده، ليخبره بإذن الخروج؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه قد أُذِن له بالهجرة.

عاشرًا: تكليف علي رضي الله عنه بالمبيت في فراشه صلى الله عليه وسلم يوم أحاط به المشركون ليقتلوه تَعْمِية عليهم.

حادي عشر: اتجاهه إلى الجنوب المعاكس لطريق المدينة ، وذلك لتضليل المشركين، مع مكوثهم في الغار ثلاثًا.

ثاني عشر: تكليف صاحبه أبي بكر لـأسماء ابنته ذات النطاقين رضي الله عنها بنقل الزاد إلى الغار للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبيها.

ثالث عشر: تكليف أخيها عبد الله بنقل المعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أولاً بأول.

رابع عشر: تكليف عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه بالمرور بغنمه مساءً على الغار ليسقي النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم، وليطمس آثار الأقدام التي تتردد إلى الغار، حتى لا يكتشف المشركون بواسطة القافة من يتردد إلى الغار.

إنَّ الهجرة -أيها الأحبة- أشبه بعملية احتشاد، ومرحلة استنفار، وقاعدة حماية، أخذ فيها المصطفىصلى الله عليه وسلم بكل الأسباب، متوكلاً على ربه، قبل أن يُعلن النفير، وتدق ساعة الصفر كما يقال، ولا غرو، فهو القائل صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود بإسناد حسن: {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}.

كل هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم للانضباط في جميع شئون الحياة؛ من سفر وإقامة، مع نبذٍ للفوضوية والارتجال والتخبط ولو حسنت معه النية، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

بهداه أيها الداعي اقتده وابتغ>>>>>الأخرى وأخلص في العمل

فأحزم الناس من لو مات من ظمأ>>>>>لا يقرب الوِرد حتى يعرف الصدرا

إرادة الخير

كأني بك بعد هذا كله، قد حددت وِجهتك، وعرفت طريقك، وأخذت عدَّتك وأُهبتك، واخترت رفقتك، وأخذت بكل أسباب نجاتك في سفرك؛ فدونك هذه الإشارات التي لابد منها، لعلها تغريك بالمسير في الطريق، وتحذرك العقبات التي تصد عن بلوغ الغاية في المسير.

انوِ الخير، واعمل بمقتضى هذه النية؛ فبالنية يتحدد السفر، وتتضح الوجهة، وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة، فهي أساس الأمر ورأسه وعموده وأصله، بل هي روح العمل وقائده وسائقه، يصح بصحتها ويفسد بفسادها، يُستجلب التوفيق بها، ويحصَّل الخذلان بعدمها، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، وكل المناهل غير الصدق آسنة.

وسنة الله اقتضت أن من نوى الخير وعمل بمقتضى تلك النية، يوفق ويسدد ويؤيد، ويبلغ من الخير ما يريد، وفوق ما يريد بإذن ربه، يقول الله جل وعلا: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ [النساء:100].. مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20].. وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مشْكُورًا [الإسراء:19].

ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية، حُرِم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإنْ بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام، لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:20] مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].. وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].

فانْوِ الخير واعمل بمقتضى تلك النية، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

والقصد وجه الله بالأقوال>>>>>والـ>>>>>أعمال والطاعات والشكران

وبذاك ينجو العبد من إشراكه>>>>>ويصـير حقا عابد الرحمن

الإخلاص

الثانية: وهي تابعة (خليج صاف أنفع من بحر كَدِر)؛ بمعنى آخر: النوع الثمين لا الكم المهين؛ بمعنى ثالث: من لا يخلص فلا يتعب؛ فهو كالذي يحشو جراب العمل رملاً يثقله ولا ينفعه.

إن من سلك الطريق بلا إخلاص، كالذي يريد كسر الجَوز بالعِهن، أو كمن يحدو وما له بعير، يمد القوس وما لها وتر، يتجشأ من غير شِبع، كالوحشيِّ بلا جبل، لا شك أنه لهدفه لن يصل.

العمل صورة والإخلاص روح، عمل المُرائي بصلة كلها قشور، لباس المرائي نظيف لكن قلبه نجس، الإخلاص مسك والرياء جِيفة.

فاحذر كمائن نفسك اللاتي متى>>>>>خرجت عليك كسرت كسر مهان

لما أخذ دود القزِّ ينسج الحرير، أقبلت العنكبوت تتشبه وتنسج، ثم نسجت وقالت: يا دودة القز! لي نسج ولك نسج، فلا فرق بين النسيجين، قالت دودة القز: نسجي أردية الملوك، ونسجك شبكة الذباب، وعند مس النسيجين يتبين الفرق.

لَيسَ التَّكحُّلُ في العَينينِ كالكَحَلِ، ومَا كُلُّ دَامٍ جَبِينُهُ عَابِدُ، وفِي عُنُقِ الحسناء يُستَحسَنُ العِقْدُ، والنَّفيسُ نَفِيسٌ أينَما كَان.

ورب كئيب ليس تندى جفونه>>>>>ورب كثير الدمع غير كئيب

إِذا اشتبهت دموع في خدود>>>>>تبين من بكى ممن تباكــى

فأما من بكى فيذوب شوقـا>>>>>وينطق بالهوى من قد تباكى

جماع هذه الإشارة: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

طلب العلم والعمل به

الثالثة: العلم الشرعي والعمل به ضرورة للمسافر، به يعرف السهل من الطريق والوعر، به يميز إشارات الطريق وعوائقه، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد، به يعرف الحلال من الحرام، به توصل الأرحام؛ فهو أساس السفر ولابد، بل هو أشرف مطلوب، وأفضل مرغوب، وأنفع زاد يقتنى لمسافر مكدود: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:9] كلا!

لا يكونُ العَليُّ مثل الدَّنيِّ>>>>>لا ولا ذو الذكاءِ مثل الغَبِيِّ

من تدرع بالعلم حفظ ومنع، وحاز قصب السبق، وارتفع وبرع، ولما كان المجاهد لا يَنْكأُ عدوًا إلا بسلاح وعُدة، فكذلك المعلم والمتعلم والعالم لا يصنع أمة، ولا يكشف غمة، ولا يزيل ظلمة إلا بعلم وعمل، من أثر أو سنة، لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.

ومن لا يربيه الرسول ويسقه>>>>>لبانا له قد در من ثدي وحيه

فذاك لقيط ما له أي نسـبة>>>>>ولا يتعدى طور أبناء جنسه

العلم وسيلة، والعمل ثمرة، العلم أساس البناء، والعمل ثمرة الغراس، والبناء من غير أسس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى، فاعلم أخي ولا تنس:

فلا تنفع الخيل الكرام ولا القنا>>>>>إذا لم يكن فوق الكرام كرام

العمل أبلغ من القول

العمل أبلغ من القول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] والناس أبناء ما يُحسنون، وفعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل، ومهما كان العالم وطالب العلم والداعية فصيحًا بليغًا مؤثرًا بارعًا؛ فإن كلامه وعلمه لا يتجاوز الآذان، ما لم يعمل به، حتى إذا ما عمل به دبت فيه الحياة، دبت في كل كلمةٍ ينطق بها، واتجهت كل جملةٍ كأنها قذيفة؛ ترهف آذان الغافلين، وتوقظ ضمائر المتغافلين، وتصبح دروسه وخطبه ومواعظه برنامجًا عمليًا يتقبله الناس راضين به، عاملين مذعنين، فلا يغني العلم شيئاً لوحده؛ لأن العلم لا يعْلِّم وحده، إنما هو بمن يحمله ويعلمه.

وعادة السـيف أن يزهى بجـوهره>>>>>وليس يعـمل إلا في يـدي بـطل

والذين يعلمون ثم لا يعملون، أو يعملون بخلاف ما يقولون ويعلمون، بئس ما يصنعون، إنما هم أوعيةٌ للعلم، يسيرون ثم لا ينفعون، بل قد يضرون.

جلسوا على باب الجنة -كما يقول ابن القيم- يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افْرَنْقعوا لا تسمعوا، لو كان حقًا ما يدعون إليه لكانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هُداة مُرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق، أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمْ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ [الجمعة:5].

ما يغني عن الأعمى نور الشمس لا يُبْصرها، وما يُغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنَّما هو كالسراج يُضيءُ البيت ويحرق نفسه، عليه بُوره، ولغيره نوره، يَحق عليه قول القائل:

فأَسعدت الكثير وأنت تشقى>>>>>وأضحكت الأنام وأنت تبكي

خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله:

ومن العجائب والعجائب جــمة>>>>>قرب الوصول وما إليه سبيل

كالعيس في البيداء يقتلها الظما>>>>>والماء فوق ظهورها محمول

وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النساء:66] أي: عملوا بمقتضى ما علموا: لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُم من لدُنا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مسْتَقِيمًا [النساء:66-68]

وكم من قدوات ظاهرًا لم تعمل بمقتضى ما علمت فسقطت، وتكشفت على الطريق، فيما بين غَمْضَة عينٍ وانْتِبَاهتها، لعل ابن عيينة رحمه الله كان يعنيها بخطابه يوم يقول: لا تكونوا كالمُنْخل يخرج الدقيق الطيب، ويُمسك النُخَالة؛ تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، إن من يَخُوض النهر لابد أن يصيب ثوبه، وإن اجتهد ألا يصيبه؛ فويْحَكم ثم ويْحَكم ثم ويحكم.

أيها العـالم إياك الزلل>>>>>واحذر الهفوة فالخطب جلل

هفوة العالم مستعظمة>>>>>إن هفا أصبح في الخلق مثل

إن تكن عندك مستحقرة>>>>>فهي عند الله والناس جبل

أنت ملح الأرض ما يصلحه>>>>>إن بدا فيه فساد وخلل

الاهتمام بأجل العلوم

أيها المسافر على علم: لا تشغل نفسك بأدنى العلوم دون أسماها وأعلاها، وأنت قادر عليها، فإنِّي لأَرْبَأُ بك أن تكون كزارع الذُّرة في الأرض التي يجود فيها البُر، أو كغارس الشَعْراء حيث يَزُكو النخل والزيتون، فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم أَصِخْ سمعك للشوكاني رحمه الله وهو يخاطبك فيقول: اسْتَكثِر من العلم الشرعي زادًا لك ما شئت، وتبحَّر في الدقائق مخلصًا ما استطعت، وأجب من عَذلك أو خالفك بقول من صدقك.

أَتانا أن سهلا ذم -جهلا->>>>>علوما ليس يعرفهن سهل

علوما لو دراها ما قلاها>>>>>ولكن الرضا بالجهل سهل

الدعوة قرينة العلم والعمل

أما إذ قد عَلِمْت وعملت؛ فإنَّ من مُقْتضى العمل أن تدعو غيرك إلى الحق الذي عرفته بالحُجَة والبرهان وعلى بصيرة، وهدفك إخراج نفسك ومن تدعوهم من الظلمات إلى النور، من الانحراف إلى الاستقامة التي تنال رضا الله بها في الدنيا والآخرة.

إن الحاجة إلى الدعوة ماسة؛ لأن العقول لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها التي تَكْفل لها السعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنها لا تُهْدى وحدها إلى تمييز الخير من الشر، فكثيرًا ما يبدو لها الشر في لباس الخير فتقع فيه، وكثيرًا ما يظهر لها الخير في صورة الشر فتعرض عنه: وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

فمهما توسعت آفاق الإنسان ومداركه ومعارفه؛ فإنه يبقى قاصرًا محدودًا، ومن ثَمَّ كان لابد من الدعوة على أيدي الرسل وأتباعهم، فإذا اتَّضح الهدف، سِرتَ في هذه الحياة على هُدًى، وعندها بادِر بعمل دءوب في طموح وجدية، وأقدم بقوة تستشعر قول الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]. وقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة:93].

إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً>>>>>ألا فاجعلنه ماضياً بالجوازم

في ثباتٍ ومسارعةٍ: اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90].

في تدرجٍ واعْتِدَال وأَنَاة ومُداومة: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:6-7]

في شجاعة وعدم تَهَيُّبٍ وتردُّد.

ومن يتهيب صعود الجبال>>>>>يعش أبد الدهر بين الحفر

في بصيرة وفرقان بإتقان: أدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].

في استشارة حازم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

في عزيمةٍ وتصميمٍ مع تَوَكُلٍ دون تسفيه رأي أو إنقاص قدر: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ [آل عمران:159].

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ>>>>>فإن فســاد الرأيِ أَن تتــرددا

إذا كنت ذا عزم فأَنفذه عاجلا>>>>>فإن فسـاد العـزم أن يتقيـدا

إذا هَمَمْت فبادر، وإذا عزمت فثَابِر، واعلم أنه لا يُدرِك المفاخر من رضي بالصف الآخر.

ما كل من طلب المعالِي نافذا>>>>>>>>>>فيهـا ولا كل الرجال فحولا

وعلى الطريق نضع لك حادييْن مرغبيْن حافزيْن: أحدهما قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

وثانيها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا}.

إن هدى الرحمن شخصاً واحداً>>>>>بِك خير لك من حُمْر الذرى

وهو خـير لك عندَ الله>>>>>مما بدا للشمس أوقد نورا

{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْرِ النِّعم}

فإن لم ينفع الحاديان، فعلى الطريق وَعِيدان مُرَهِّبان مُحَذِّران علهما أن يثيرا في نَفْسك الإحساس بخطر الفُتُور والتهاون والكتمان؛ أحدهما: ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: [[لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئًا: إِنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]]].

وثانيهما: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كتم علمًا يُنتفع به جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار}.

فهل يجوز سكوت>>>>>أو يستساغ نمير>>>>>

والخطب خطب عظيم>>>>>والأمر أمر خطير

فإن لم يحرك فيك الوَعد ولا الوعيد، ولا التَّرغيبُ ولا التَّرهيب -إذ تبلد الإحساس- فلا مساس، فقف على أخبار أصحاب الأهداف علَّك أن تتشبه بهم، فيثور فيك الحماس على أساس.

نماذج من الصحابة في علو الهمة تشحذ العزائم على العلم والعمل والدعوة

في مؤتة خرج جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عن الجميع؛ هدفهم إنْ هي إلا إحدى الحسنييْن؛ إما النصر أو الشهادة في سبيل الله؛ فلما ودعهم المسلمون قالوا: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقام عبد الله بن رواحة وقال:

لكنني أسأل الرحمن مغــفرة>>>>>وضربة ذاتَ فرغ تقذف الزبـدا

أو طعنة بيدي حران مجــهزة>>>>>بحربة تنفذ الأحشـاء والكبـدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي>>>>>يا أرشد الله من غاز وقد رشدا

ولما رأى المسلمون جموع الروم جموعًا كبيرة نظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحة فقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا؛ إنْ هي إلا إحدى الحسنيين.

تلذ له المروءة وهي تؤذي>>>>>ومن يعشق يلَذُّ له الغــرام

فقاتل القوم وعليهم زيد، فلم يزل يقاتل، حتى شاط في رماح القوم، وخرَّ صريعًا رضي الله عنه وأرضاه.

أخذ الراية جعفر فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها لئلا ينتفع بها العدو، ثم قاتل، وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها>>>>>طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها>>>>>كافرة بعيدة أَنسابها

علي إذ لاقيتها ضرابها

فقُطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، حتى قتل كالأسد؛ رحمة الله على ذاك الجسد.

ثم أخذها ابن رواحة كالليث، ونالته الجراح، وأي جراح؛ فحاله:

هل أنت إلا إصبع دميت>>>>>وفي سبيل الله ما لقيت

يا نفس إلا تقتلي تموتي>>>>>هذا حياض الموت قد صليت

وما تمنيت فقد لقيت>>>>>إن تفعلي فعلهما هديت

وإن تأخرت فقد شقيت

ثم قام ثابتًا رضي الله عنه وأرضاه حتى قتل، فأخذ الراية سيف الله خالد ففتح الله على يديْه.

أخرجوا الدنيا من قلوبهم، وقطعوا أسباب التعلق بها عن أنفسهم، فكان الاقتحام، وكانت الشهادة، وكان الفوز بالجنة، وهكذا أمر العاقل اللبيب، لا يبيع الياقوت بالحصى، ولا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنة.

الطريق شاق وتكاليفه عوائق، فمن لم يجمع همته، ويعلي إرادته، ويقوي عزيمته، ويتخفف من دنياه؛ فلن يستطيع بلوغ أهدافه وغايته:

ومنْ تكن العلياءُ همَّة نفسهِ>>>>>فكل الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ

ولم يتأخرْ من أراد تقدُّمًا>>>>>ولم يتقدم من أراد تأخُّرا

ويذكر الذهبي في سيره أن نور الدين الشهيد ، لما نزل الصليبيون دمياط ، بقي عشرين يوماً صائمًا لا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، ولما الْتقى العدو، وخاف على الإسلام، انفرد في ناحية من الجيش، ومرَّغ وجهه في التراب، وقال: يا رب! من نور الدين ؟! الدين دينك، والجند جندك، وافعل يا رب ما يليق بكرمك، فنصره الله نصرًا مؤزرًا.

كان ذا همة عالية، كان هدفه وهاجسه فتح بيت المقدس وتطهيره من الصليب، قام في حلب بعمل منبر عظيم، لينصبه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس يسخرون منه يوم يمرون عليه وهو يفعل ذلك، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح وبعث الهمم وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، نصب على يديْ تلميذه صلاح الدين ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.

والسيف يبلغُ ما لا تبلغ الكلمُ

هذي العزائم لا ما تدَّعي الخطب>>>>>هذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهمم اللاتي متى خطَبَتْ>>>>>تعثرت خلفها الأشعار والخُطبُ

والصارم العضب الذي فتح الورى>>>>>ما زال في يد أهله مسلولا

خذ العبرة من همم أهل الدنيا

إن لم يحرك فيك الوقوف على سير أصحاب الأهداف السامية ساكناً -إذ صرت جلمودًا عمودًا صخرًا- فانظر إلى أهل الدنيا في دنياهم، وخذ منهم حافزًا لذلك، كيف يكدحون ليلهم ونهارهم في تعاملهم مع الدرهم والدينار؟

أفلا حياء من الله أن يكون هؤلاء أعظم تجلدًا منك، وأنت تتعامل مع الله الكبير المتعال، ثم تتقاعس؟!

إذا فقد الإنسان صدق انتمائه>>>>>وأضحى بلا قلبٍ فليس بإنسان

أعمى أصمُّ عن الحقيقة أبكم>>>>>بالنوم في الفرش الوثيرة تغرم

والصمت كهفك والظلام مخيِّم

تدعى ولكن الذي يدعى سها>>>>>أمسى على ماء التخاذل يهرم

من أنت يا هذا أما لك في الورى>>>>>عقل يفكر في الأمور فيحسم؟

إني لأرجو أن أراك مزمجرا>>>>>أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلم

قد قمت أرقى في مدارج عزتي>>>>>علمي دليلي والعزيمة سلم

ذهب الرقاد فحدثي يا همتي>>>>>أن العقيدة قوة لا تهزم

لغة البطولة من خصائص أمتي>>>>>عنا رواها الآخرون وترجموا

من ذلك الوقت الذي انتفضت به>>>>>بطحاء مكة والحطيم وزمزم

منذ التقى جبريل فوق ربوعها>>>>>بمحمد يتلو له ويعلم

صلى الله وسلم على نبينا محمد.

فلا تستشرْ غير العزيمةِ في العُلى>>>>>فليس سواها ناصح ومشيع

انظر إلى جد الكافرين واجتهادهم وهم على باطل

فإن لم يحرك فيك أهل الدنيا وكدحهم في دنياهم شيئًا، فانظر إلى الكفار، إلى حطب جهنم، كيف يلهثون وراء أهدافهم المؤقتة، ويتفانون لها مع أنه لا عقبى لها!

هاهو مخترع الكهرباء يترك المدرسة بعد أن وصفه معلمه بأنه ليس مؤهلاً للاستمرار في المدرسة، وتذهب أمه إلى المدرسة متألمة لمواجهة معلمه، لتقول له: إنك لا تعرف معنى ما تقول، وكل المشكلة أن ابني أذكى منك.

ثم أخذته وعلمته في بيتها، حتى أعطته من علوم الدنيا وعلوم المادة ما يستطيع أن يستمر به؛ فلم يُفَلَّ عزمه مع طرده من المدرسة؛ بل تراه يثابر ويكافح ويبدأ في تجاربه، ليخترع المصباح الكهربائي بعد تسعة آلاف تجربة، بعمل يتراوح ما بين ثمان عشرة ساعة وعشرين ساعة في اليوم، في جَلَد عجيب، ثم لم يتوقف بعدها؛ فالنجاح -دائماً- يجر إلى النجاح، فينطلق في عشر سنوات أخرى من البحث والجهد في تجارب بلغت خمسين ألف تجربة، بتكلفة ثلاثة ملايين دولار، ليخترع بطارية السيارات وأجهزة الإشارة في السكك الحديد والإضاءة في الغواصات، ويُسأل: متى الإجازة يا أديسون ؟

قال: في اليوم الذي يسبق جنازتي.

فهل استفاد أديسون من إضاءة المصباح واختراع البطارية؟

هل استفاد فائدة؟

نعم. إنه استفاد شهرة ومالاً، لكنها مؤقتة تزول وتنتهي، لا تنفعه عند الله؛ لأنه لم يقل يومًا من الأيام: ( رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ).. وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] أفلا حياء من الله أن يكون كافر مثل هذا أشد تجلُّدًا لأهدافه المؤقتة الوضيعة من مؤمن يؤمن بالله والدار الآخرة؟! خيبة وخسارة وخذلان!

فأدنى الفوارس من يُغِيرُ لمغنمٍ>>>>>فاجعل مغارك للمكارم تكرم

أيها المؤمنون لا تتوانوا>>>>>فالتواني وسيلة للتباب

وإذا المصلحون في القوم ناموا>>>>>نهضت بينهم جيوش الخراب

فإن كنت مع هذا كله لم تتحرك -إذ أنك زمن الهمة، مقعد العزيمة، بليد الذهن- فيحق عليك قول القائل:

يخبرني البواب أنك نائم>>>>>وأنت إذا استيقظت أيضا فنائم

لا تبرر قعودك

فإن لم يحرك فيك ما مضى ساكنًا، فلا تبرر قعودك، ولا تبرر ضعفك، ولا تبرر خَوَرَك؛ فإن ذلك أقبح من ضعفك، وأشنع من خورك وقعودك، لكن سلِ الله أن يرفع ما بك؛ فهو خير لك.

يجلس بعض المتخاذلين عن تبليغ دين الله ونَشْرِه شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما طلب منه نصرة دينه -ولو بكلمة- أو كُلِّف بأبسط مهمة لخدمة دينه، انبرى يتهرب من المسئولية، ويورد لك الأدلة الصحيحة التي تدل على أن واقع المسلمين سيكون ضعيفًا وسيئًا في المستقبل ولابد من العزلة، فيوقعها على حاله، فإذا به ينبري ويقول: في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن}، ويقول صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري -: {ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم}، وهكذا دواليك، يبرر قعوده ولا يعمل بمقتضى الحديث الذي لا ينطبق على زمانه حقًا، ولم يفهمه في ضوء النصوص الأخرى؛ فأول ما يجني عليه اجتهاده، تعود نقض العزائم فحيل بينه وبين الغنائم.

ويجلس الآخر شبعان ريان، متكئًا على أريكته، حتى إذا ما عاتبته في التخاذل عن تبليغ دين الله واستغراقه في اللهو والترف، انطلق كالقذيفة مرددًا: {يا حنظلة ! ساعة وساعة} وكأنه لا يعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غير هذا:

ما لم تقم بالعبء أنت>>>>>فمن يقوم به إذن

إن الذين لا تغلي دماؤهم، ولا تلتهب نفوسهم، ولا تهتز مشاعرهم لخدمة هذا الدين، لا يُعقد عليهم أمل، ولا يُناط بهم رجاء: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، والميت لا يحس بالأوجاع: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].

إن النائم يوقظ، والغافل يُذكَّر، ومن لم يُجْدِ فيه التذكير ولا التنبيه فهو ميْت، إنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبه: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ [غافر:13].

بذل الجهد واستفراغ الوسع

الرابعة: إنما عليك الجهد، افعل وسعك وطاقتك وما تستطيع الدوام عليه؛ لئلا تنقطع في الطريق: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [البقرة:286] وإذا صلحت المقاصد لم يخب القاصد.

على المرء أن يسعى إلى الخير جاهدا>>>>>وليسَ عليه أن تتم المقـاصد

التعاون على الخير والاستفادة من الطاقات

الخامسة: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى [المائدة:2] المؤمنون جماعة واحدة، ويد واحدة، وجسم واحد، وبنيان واحد، والجميع مسئولون عن تبليغ دين الله على سبيل التعاون والتآزر والتضامن، مع السعي الجاد إلى تغيير واقع الأمة، ونقلها من مجرد الإحساس إلى الوعي بأسباب الواقع والطريق إلى إخراجها من ذلك الواقع.

التعاون من أجل تمكين منهج الله -عز وجل- في الأرض قاطبة مطلب وضرورة، تجعل كل فرد يضاف إلى الآخر، ثم تُستثمر كافة العقول والسواعد والدقائق: (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وكل يستفيد من الآخر، وإذا عنَّ بحر لا يجوز التيمم، والخيط الواهي إذا انضم إليه مثله، أضحى حبلا متينًا يجر الأثقال.

تعاون فريد بين أعمى ومشلول

ذكر صاحب مواقف إيمانية أنه في حج سنة خمسة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة رأى آلاف الحجاج منظرًا يثير المشاعر، ويستجيش المدامع، شاهدوا حاجَّيْن؛ أحدهما أعمى قادر على المشي، والآخر مشلول بصير العين، أراد الأعمى أن يستفيد من بصر المشلول، وأراد المشلول أن يستفيد من حركة الأعمى، فاتفق الحاجَّان على أن يحمل الأعمى المشلول؛ فالحركة من الأعمى، والتوجيه من المشلول، وقاما بتأدية المناسك على مشقة وجهد يعلمه الله؛ فالأمر ليس هيِّنًا، وكلكم يعلم، عند الطواف زحام، وعند السعي زحام، وعند رمي الجمار زحام، وفي كل مكان زحام، لكن العزيمة الصادقة والثقة بالله العظيم ورجاء ما عنده ينسي المتاعب والمكاره والمشقة.

أدَّوا فريضتهم ضاربين أروع الأمثلة في التعاون والاستفادة من الطاقات، هذا كله في تعاون اثنين؛ فكيف لو تضافرت جهود أمة بطاقاتها ومواهبها وإمكاناتها في خدمة دينها؟! كيف يكون الأمر؟ لا شك أنه سيكون:

كالبحر يقذف للقريب جواهراً>>>>>جوداً ويبعث للبعيد سحائبا

التعاون سنة من سنن الله في خلقه

إن التعاون طريق إلى البناء والنجاح، ونظرة يلقيها المرء على خلق الله تؤكد هذا الأمر.

أمة النحل أمة عجيبة، طائفة من أمة النحل تبني البيوت، وطائفة تنظفها، وطائفة تحرسها وتحميها، وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة تمتص الرحيق لتأتي به، وتخرج العسل اللذيذ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وِلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38].

والنمل تبني قُـراها من تماسكها>>>>>والنحلُ يجني رحيقَ الشهدِ أعوانَـا

إن يدًا واحدة لا تصفق -كما قيل- حتى إذا لم يبقَ إلا تلك اليد، أدَّت ما عليها غير ملومة، وحالها:

إذا عزَّ في قومي المسعفون>>>>>فإنك يا خــالقي مُسعفِي

فما أنا بالمستسيغ القعــودَ>>>>>ولا أنا بالشارد المسبحِ

تعاون الجم الغفير في صنع رغيف الخبز

يقول صاحب: " شخصية المسلم ": رغيف الخبز على الرغم من صغر حجمه، لا يصل إلى الإنسان إلا بعد عمل عشرات بل مئات من البشر، تعاونت على تجهيزه وإعداده وتقديمه، ومن كان في شك من ذلك، فليسأل نفسه: من حرث الأرض؟ ومن بذر الحَب؟ ومن سقاه بالماء؟ ومن نظف الحشائش عنه؟ ومن حرثه؟ ومن حصده؟ ومن نقله إلى الجرن؟ ومن طحنه؟ ومن خبزه؟ ومن بالنار سواه؟ ومن إلينا حمله؟ ومن قدمه؟ ومن... ومن... أسئلة كثيرة، هذا الجهد في أمر رغيف خبز؛ فكيف بالأمر في خدمة دين الله، والتمكين له في بناء النفوس، وفي صنع الرجال، في كشف الظلم، في إنارة البصائر؟

إنه يحتاج إلى تضافر طاقات وقدرات، مع صبر ومصابرة وثبات: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ [التوبة:71] فهيا إلى التلاحم، وهيا إلى التعاون، وهيا إلى التآزر.

فالنصر لم ينزل على متخاذل>>>>>والرزق لم يُبعث إلى متواكل

ولنترك اللوم والتوبيخ؛ فاللوم لا يحرك ولا يجمع، والتفتيش عن الثغرات التي يدخل منها الداء أولى، وعند كلٍ من الهموم ما يكفيه، وليس بحاجة إلى مُعكرٍ إضافي، فليحوِّل كل منا أخاه إلى داعية معه، يحمل هَمَّ الدعوة ويتبنى أفكارها، وحاله يهتف ويقول:

أمتي في كل أرضٍ>>>>>أنتم خـير الأمــم

فاجمعوا أشتات أنها>>>>>ركم في غمر يم

تنشروا الخير الأعم>>>>>تبلغوا العـمر الأشم

وتكونوا سادة الدنيا>>>>>وفرسان القمـم

وما ذلك على الله بعزيز.

المداومة والاستمرار في العطاء

السادسة: إنما السيل اجتماع النقط؛ بمعنى داوِم ولو على القليل "قليل دائم خير من كثير منقطع"، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل -وإن كان ضئيلاً- أصيلاً مستطاعًا مذللاً، يُقام به في غير ما عَنَتٍ، ليس المهم قدر العمل بقدر الاستمرار في أدائه؛ فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً.

ثمرات المداومة على الأعمال

أما ترى الحبل بطولِ المدى>>>>>على صليب الصخر قَد أثرا

والشيء بثمرته يقدر ثمنه ويعرف ثمنه، ومن ثمرات المداومة ما يلي:

1- نيل محبة الله التي هي غاية منى المؤمنين، الذين هم أشد حبّاً لله.

من أين أخذت هذا؟

من الحديث القدسي الذي رواه البخاري : {وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه}، وإذا ما حصلت محبة الله فالنتيجة: {فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه} وفوق هذا ما رواه الشيخان : {إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض}.

أهيب بقومي إلى المكرمات>>>>>ألا هل ملب ألا هل مجيب

2-ترويض النفس على مكابدة الهوى، حتى تعتاد الخير؛ فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، لكنها إذا رُوِّضَت ذلَّتْ، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حُجب البَطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما رُوِّضَت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله.

يقول أحد أهل السلف : عالجت لساني عشرين سنة قبل أن يستقيم لي، ويقول: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أَقْدِر منه على ما أريد، وجاء عن التابعي الجليل ابن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي.

وما يردع النفس اللَّجوج عن الهوى>>>>>من الناس إلا حازمُ الرَّأي كامِله

وما النفس إلا حيث يجعـلها الفتى>>>>>فإن أُطمعت تاقت وإلا تسلَّتِ

3- الأمن من الحسرة عند المرض أو العجز أو الفتنة؛ فالمُداوم حين يُحال بينه وبين العمل يجري له ما كان يعمل، يعرف هذا مما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا} فلا حسرة ولا ندم.

4- تربية النفس على أخذ معالي الأمور، وعدم الرضا بالدُّون، ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ}.

5- إملال الشيطان وإضعافه، وقطع الطرق عليه، يقول الحسن رحمه الله -كما في الزهد لـابن المبارك : إذا نظر إليك الشيطان، فرآك مداومًا على طاعة الله، فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا ملَّكَ ورفضك، وإن كنت مرة هكذا، ومرة هكذا، تتقدم خطوة، وتتأخر خطوتيْن -كما يفعل البعض- طمع فيك.

هذه بعض ثمرات المداومة على العمل، ومن عرف للثمرة قدرها؛ بادر إلى الشجرة لقطفها.

نماذج من السلف في المثابرة على الخير

يقال لـابن المبارك : إلى متى تطلب العلم؟

قال: حتى الممات إن شاء الله.

وقال له آخر: إلى متى تكتب العلم؟

قال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تكتب بعد.

والأعمش يروي عنه وكيع أنه لم تفُتْه تكبيرة الإحرام مع الإمام سبعين سنة، ويقول: اختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة.

من منا يلقى الله، وقد أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين يومًا، مع أن له براءتين؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار؟! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!

روى الجماعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتيْن إلا ووصيته مكتوبة عنده، يقول ابن عمر : والله ما مرت عليَّ ليلة مذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي}.

إذا فعلوا فخير الناس فعلاً>>>>>وإن قالوا فأكرمهم مقالا

ترى جداً ولست ترى عليهم>>>>>ولوعًا بالصغائر واشتغالا

ويُروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب، ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يُكتب بعد.

لعل هذا مما يعين على المداومة على العمل، كلما عملت عملاً قلت: لعل هذا لا يبلغني الجنة؛ فإلى آخر وإلى آخر، حتى تلقى الله على ذلك، فربك أغفر وأرحم سبحانه! فجاهد نفسك وداوم على العمل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

الصبر واليقين

السابعة:

إنما الأخطار أثمان المعالي>>>>>ربما الأجسام صحت بالهـزال

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

والعبقرية حرمان وتضحية>>>>>وليس ينبغ إلا كل صبـار

إن حمل الدعوة إلى الناس وجعلهم يؤمنون بها ويثقون ويتأثرون عملية صعبة شاقة تحتاج إلى صبر وثبات، وإن المضي في طريق الدعوة ليس بأمر هيِّن، ولا طريق ميسور؛ بل لابد من عزم وقوة وصبر وثبات، لا يُؤْتَاه إلا من نذر نفسه لله غير مبالٍ بما سواه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

والصبر يوجد إن باء له كُسِرت>>>>>لكنه بسكون الباء موضوع

والله عز وجل قد وجَّه نبيه صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية إلى الصبر والجلد وقوة التحمل، فقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا [المزمل:10] وقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُؤْقِنُونَ [الروم:60].

الصبر تفاؤل دائم، حتى لو ضربت الجاهلية أطناب الأرض؛ فلا يسوغ بحال الانسحاب من الميدان؛ إذ يخلو الجو للشيطان، يَكِر الجراد على الحَرث فيلتَهمه، وقد تُغِير اللصوص عليه فينتهبونه؛ فلابد من صبر وصمود وثبات حتى ينبت ويثمر العود.

ولست بخالعٍ درعي وسيفي>>>>>إلى أن يخلع الليل النهـارا

كل لذة منقطعة عند أول غمسة في جهنم، وكل بؤس وشقاء ينقطع عند أول غمسة في الجنة، وللباطل جولة ثم يذهب هباءً، والحق له صولة وهو أنفع، وله البقاء.

فإذا ادلهم الخطب، واشتد الظلام، فارتقب بزوغ الفجر، وتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ثم اصبر وصابر؛ فإن العاقبة للمتقين، وخاب المُبْطِلون، وبشِّر الصابرين، واصبر على ما يقولون.

لا يفزعنك هول خطب دامس>>>>>فلعـل في طياته ما يسعد

لو لم يمد الليل جنح ظلامه>>>>>في الخافقـين لما أضاء الفرقـد

التمهل وعدم العجلة

الثامنة: تمهَّل ولا تعجل في دعوةٍ أو حكم يوشك أن تصل، إن من سنن الله في النفس أنها لا تضحي ولا تبذل، إلا إذَا عُولِجت من داخلها، وتجردت من حظوظها، وأدركت فائدة التضحية والبذل، وذلك لا يتم إلا في وقت طويل وجهد

وتكاليف وكدح دائب>>>>>في أناة ليس يعروها ملل

فليعلم.

إغفال المرحلية مصادمة للسنن الإلهية

ومن سنن الله مع العصاة والمكذبين والمجرمين والكافرين الإمهال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45] وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف:58].

إذا أغفل الداعية هذه السنن تعجل، ولربما فشل في دعوته وكبا.

إن من يريد تغيير الواقع في أقل من طرفة عين دون النظر إلى العواقب والسنن كمن يريد أن يزرع اليوم، ويحصد غدًا، بل يريد أن يغرس في الصباح ليجني الثمرة في المساء، وهذا محال؛ لابد من صبر وتروٍّ على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، ثم يبادر إلى قطفها قبل أن تفسد، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن سار على الطريق وصل.

إن شيوع المنكرات وإحاطتها بالمؤمن من كل جانب؛ مع العجز -أحيانًا- عن تحمل أعباء الطريق ومشاقِّه، مع واقع أعداء الله بالصد عن سبيل الله، مع الطاقة الضخمة التي يولدها الإيمان في النفس؛ قد يدفع هذا كله إلى العجلة، إذا لم تُضبط الأمور بضابط الشرع.

يرد يدي عن بطشها خوف ربها>>>>>ويمنع نفسي أن تخادع دينها

المرحلية والتدرج في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة قد بُعث والأصنام من حول الكعبة تحيط بها وتعلوها، ثم لم يقبل على إزالتها إلا يوم فتح مكة في السنة الثامنة؛ أي بعد بعثته بواحد وعشرين عامًا؛ لتقديره صلى الله عليه وسلم أنه لو قام بتحطيمها في أول يوم قبل أن تُحطَّم في داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أعظم وأشنع، وعندها يتفاقم الأمر، ويعظم الضرر، ولذا تركها صلى الله عليه وسلم وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب، حتى إذا ما تم له ذلك أقبل بتلك القلوب ليفتح بها مكة ، ويزيل الأصنام، فكان ما أراد: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].

لكل شيء في الحياة وقته>>>>>وغاية المستعجلين فوته

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما ترويه عائشة أنه لولا أن قومها حديثو عهد بكفر لنقض الكعبة، وأعادها على قواعد إبراهيم، وهذا هو الثِّقب حقًّا؛ أعني: رفض المنكر بالقلب، ومقاطعته خوفًا من أن يؤدي إلى منكر أكبر، مع البحث عن سبل التغيير، والعزم على أنه حين تتاح الفرصة لتغييره، فلن يكون هناك تباطؤ أو توانٍ.

فكن أسداً في جسمه روح ضيغم>>>>>وكم أسد أرواحهن كلاب

يمنع الليث حماه أن يرى>>>>>فيه كلبًا عاديًا إن زأرا

ليعد الواحد منا نفسه ما دامت الظروف غير ملائمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات قاصرة، حتى إذا ما لاءم الظرف كان حاله كحال القائل يوم قال:

أنا أبو طلحة واسمي زيد>>>>>وكل يوم في سلاحي صيد

تعلم المرحلية من شجرة الصنوبر

ثم انظر وتأمل واعتبر، هاهي شجرة الصنوبر تثمر بعد ثلاثين سنة، وشجرة الدباء -القرع- تثمر في أسبوعين؛ تسخر الدباء من الصنوبر، وتقول: إن الطريق التي تقطعينها في ثلاثين سنة أقطعها في أسبوعين، ويقال لك: شجرة، ولي: شجرة، فتقول شجرة الصنوبر: مهلاً إلى أن تهب رياح الخريف، وعندها يعرف المضمار، ويعرف السابق والخوار. فَتَصَبَّر لتصبر، وتحلَّم لتحلُم، ولا تعجل؛ فقد تُكفى بغيرك، ويُكتب لك بصدق نيتك ما لغيرك.

ورب عجلة أورثت ريثاً:

قد يدرك المتأني بعض حاجته>>>>>وقد يكون مع المستعجل الزلل

كن متمهلاً كالأحنف

ليكن حالك -أحياناً- حال الأحنف بن قيس رحمه الله يوم جاءه رجل، فلطم وجهه، فقال: باسم الله يا بن أخي ما دعاك إلى هذا؟

قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم.

قال: فبِرّ بيمينك؛ فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة .

ليست الأحلام في حال الرضا>>>>>إنما الأحلام في حال الغضب

فذهب الرجل إلى حارثة ، فلطمه، فقام إليه، واخترط السيف، وقطع يمينه، ولسان حاله:

وسيفي كان في الهيجا طبيبًا>>>>>يداوي رأس من يشكو الصداعا

فلما بلغ الأحنف ما حصل لهذا الأحمق قال: أنا -والله- قطعتها.

ليس الغبي بسيد في قومه>>>>>لكن سيد قومه المتغابي

العاقل لا يفعل أمرًا إلا إذا نظر في عواقبه، وتبصَّر أبعاده ومراميه، لا يتعجل الخطى، ولا يستبق الأحداث، ولا يتسرع بالحكم على الأمور؛ بل يزن الأشياء بميزان دقيق، ويقدر المواقف، وينظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة والساعة الحاضرة، بنظرة ثاقبة فاحصة، وخطوة متأنية تحسب كل حساب؛ فكن أفضل من أن تَخدع، وأعقل من أن تُخدع. لا خب ولا الخب يخدعك:

ولترقَ شيئًا فشيئًا صاعدًا درجًا>>>>>من البناء رصينًا واحذر العجلا

فكم عجول كبا من ضعف رؤيته>>>>>وذي أناة أصاب الرشد والأملا

كن أحزم من قرلى

التاسعة: كن أحزم من قرلى؛ والقرلى: طائر مائي ذو حزم لا يُرى إلا حذراً على وجه الماء؛ عين في الماء طمعًا، وعين في السماء حذرًا، ولذلك تقول العرب في المثل: كن أحزم من قرلى؛ إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى.

ومن الحزم ترويض النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها وعدم الرضا بالدون دون علاها وما يزكيها؛ فإن في النفس -كما يقول ابن القيم - من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشَرَه الكلب، ورعونة الطاوس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجاهدة يُذهب ذلك كله بإذن ربه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد.

إن من يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، إنما هو سفيه لا يعرف الحزم، ولا الحزم يعرفه، عينه عين هوى، وعين الهوى عين عمياء.

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت>>>>>ولم ينهَها تاقت إلى كل مطلب

بعضنا أكبر همه ومبلغ علمه لقمة وشربة ولباس ومركب؛ مطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي، قد رفع راية:

إنما العيش سماع>>>>>وندامى ومدام

فإذا فاتك هذا>>>>>فعلى الدنيا السلام

هوان لا يعرف الحزم، وذلة لا تعرف العز، عار ينكره الحر والأسد، ويألفه الحمار والوتد.

إن الهوان حمار البيت يألفه>>>>>والحر ينكره والفيل والأسد

ولا يقيم بدار الذل يألفها>>>>>إلا الذليلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته>>>>>وذا يُشج فما يأوي له أحد

الحزم على قدر الاهتمامات

الحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والمنية خير من الدنية، ومن عزَّ بزَّ:

فثِبْ وثبة فيها المنايا أو المنى>>>>>فكل محب للحيــاة ذليل

ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.

أبو مسلم الخولاني والحزم مع النفس

كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازمًا مع نفسه، قد علق سوطًا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنـزاحمنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً.

هم الرجال وعيب أن يقال>>>>>لمن لم يكن في زيهم رجل

حالهم:

عباس عباس إذا احتدم الوغى>>>>>و الفضل فضل والربيع ربيع

ترك التحسر على الماضي والاستفادة من المستقبل

العاشرة: عَوِّض ما فاتك، من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله؛ فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيَّعه في الحزن والتحسر.

إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا باجترار أحزان الماضي؛ إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة.

ابن عقيل الحنبلي رحمه الله، وهو في الثمانين يقول:

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي>>>>>ولا ولائي ولاديني ولا كرمي

وإنما اعتاد شعري غير صبغته>>>>>والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم

فإن كنت ترجو معالي الأمور>>>>>فأعدد لها همة أكبرا

تلك النفوس الغالبات على العلا>>>>>والحق يغلبها على شهواتها

ألا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له، وليعوض؛ فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإمهال فائدة؛ فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة:

فإن تك بالأمس اقترفت إساءةً>>>>>فبادر بإحسان وأنت حميد

ولا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ>>>>>لعل غدًا يأتي وأنت فقيد

أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد

غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن وقعة بدر ، فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال -كما روى البخاري ومسلم : {يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين؛ لئن أشهدني الله مشهدًا آخر في قتال المشركين ليرين الله مني ما أصنع} فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون، أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، ثم يتقدم ويكسر غمد سيفه، ويستقبله سعد بن معاذ ، فيقول: الجنة ورب النضر ! إني لأجد ريحها من دون أحد ، يقول سعد : فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، ولما انتهى من المعركة وجدوه قد قُتل ومثَّل به المشركون، به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم؛ فما عرفه إلا أخته ببنانه:

إما فتى نال المنى فاشتفى>>>>>أو بطل ذاق الردى فاستراح

إما إلى العز أو تقضي بساحته>>>>>ذل الحياة وطعم الموت سيان

من تذكر في تفريطه أَنَّ، ولتعويض ما مضى حَنَّ.

عكرمة وتعويض ما سلف

عكرمة رضي الله عنه أسلم عام الفتح، وشعر بما قد فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: {والذي نجَّاني يوم بدر -يا رسول الله- لا أدع نفقة أنفقتها بالصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتال قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله} ويبر بقسمه؛ فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان في طليعتهم، وفي يوم اليرموك ، وما يوم اليرموك ؟ أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادره خالد بن الوليد قائلاً: لا تفعل يا عكرمة ! إن قتلك على المسلمين سيكون شديدًا، قال: إليك عني يا خالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل ، فقد كنا أشد الناس عداوة على رسول الله، دعني أُكَفِّر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟! والله لا يكون أبدًا.

فلو بان عضدي ما تأسف منكبي>>>>>ولو مات زندي ما بكته الأنامل

ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، ولقي الله عكرمة مُثخنًا بجراحه، ولسان حاله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فرضي الله عنه وأرضاه:

بذل النفس فداءً ورضا>>>>>وقضى العمر وأقصى السفرا

همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم؛ فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم، فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله على أنفسهم عقدًا؛ فما نكثوا، وما نقضوا؛ فبادر -أخي- قبل العوائق، واستدرك ما فات؛ فلعلك بالأخيار لاحق؛ إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم!

إذا استدرك الإنسان ما فات من علا>>>>>إلى الحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب

العدل والإنصاف

الحادية عشرة والأخيرة: العدل العدل! فبه قامت السماوات والأرض، القلوب جُبلت على حب من يعدل فيها، ويحنو عليها، وتمنح ودَّها لكل من يعدل فيها، ويحسن إليها، ومن يحيف عليها، ثم يحاول إجبارها على حبه إنما يكلفها ضد طباعها.

ومكلف الأشياء ضد طباعها>>>>>متطلب في الماء جذوة نار

إعطاء كل ذي حق حقه عين العدل، مدح من يستحق المدح في غير ما خشية الفتنة عليه عدل، تأنيب من يستحق التأنيب عدل، الاعتراف بجهود الآخرين عدل، الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه عدل، قبول النصح عدل، إسداء النصح عدل، التربية على العدل عدل، والله -تعالى وتقدس وتبارك- يأمر بالعدل: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

إنصاف عمر بن الخطاب

يذكر الطبري في رواية مرفوعة إلى إياس بن سلمة عن أبيه أنه قال: مرَّ عمر رضي الله عنه بالسوق، ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة لم تُصب إلا طرف ثوبي، وقال: أَمِطْ عن الطريق؛ أي: لا تزحم الطريق، قال: فلما كان العام القادم لقيني عمر، فقال: يا سلمة ! أتريد الحج؟ قلت: نعم، قال: فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى منزله، ثم أعطاني من ماله ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتكها بالعام الماضي، قلت: يا أمير المؤمنين! والله ما ذكرتها، قال: وأنا -والله- ما نسيتها.

للمعالي فليعلُ من قد تعالى>>>>>هكذا هكذا وإلا فلا لا

من أراد العدل والإنصاف فليضع نفسه مكان أخيه، وليفعل ما يرضاه لنفسه.

ارض للناس جميعًا مثلما ترضى لنفسك

إنما الناس جميعًا كلهم أبناء جنسك

فلهم نفس كنفسك>>>>>ولهم حس كحسِّك

بين علي وعمر في مجلس القضاء

شكا رجل علياً رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه، فلما جلس عمر لينظر في الدعوى، قال لـعلي: ساوِ خصمك يا أبا الحسن ، فتغير وجه علي رضي الله عنه، ثم قضى عمر في الدعوى، وذهب الخصم، فالْتفت عمر إلى علي ، وقال له: أأغضبتك -يا أبا الحسن - إذ سويت بينك وبين خصمك؟

قال علي : كلا. قد غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه يا أمير المؤمنين، لقد أكرمتني، ودعوتني بكنيتي -يا أبا الحسن- ولم تنادِ خصمي بكنيته؛ فذلك الذي أغضبني، فقبَّل عمر رأس علي ، وقال: [[لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن]].

حكموا فكان العدل شرعة حكمهم>>>>>ما الحكم ما السلطان إن لم يعدل

سارت مبادئهم وسارت خلفها>>>>>أفعالهم في موكب مُتمثَّلِ

شادوا من التقوى أصح مواقف>>>>>وبنوا من الحسنات خير قلاع

ونتجاوز بعض الإشارات وأحسب أني بذلت وسعي أن أخرج من هذا اللقاء بفائدة تنفع المسافر أو بإشارة توقظه، وقد تكاثرت الإشارات ولم نأتِ إلا على بعضها، وذا يؤكد أن الموضوع لا زال واسعاً قابلا للزيادة؛ يسَّرها الله بمنِّه وكرمه.

هذه كلمتي لقد قاسمتني>>>>>بعض نفسي وفكرتي وشبابي

ما على العاجزين مثلي سوى القو>>>>>ل فذي عدتي وهذا جرابي

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات المسلمين والمسلمات، وأن يسلك بنا وبكم سبيل المؤمنين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمسلمين أجمعين، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همَّهم، اللهم نفِّس كربهم، اللهم ارفع درجتهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك

الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مُكَوِّر الليل على النهار، خلق الشَّمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلهما مواقيت في هذه الدار، حكمة بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره، وفضله على من شكره مِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقَدِّرُ الأقدار، شهادة تبوئ قائلها دار القرار.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرَّ استنار,واليمُّ يمينه إذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، الحَنِيفيَّة دينه الدين القَيِّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشرعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين عن أهل اليسار، فتح الله به القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، والآذان فزال عنها ثقل الأوقار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار

ما ناض برق وما هب النسيم وما>>>>>مس الحجيج لبيت الله أركانا

أو قهقه الرعد في هدباء مدجنة>>>>>أو ناح طير على الأغصان أزمانا

والآل والصحب ثم التابعين لهم>>>>>على المحجة إيماناً وإحسانا

ما هبَّ نشر صباً واهتز نبت ربىً>>>>>وفاح طيب شذاً في نسمة السحر

معشر المؤمنين: أحييكم بأسمى وأجلِّ وأجمل تحية، تحية هذا الدين؛ الذي نظم الله به عقد أمتنا بعد انفراط، ووحدها بعد فرقة، وجمعها بعد شتات، صقل به نفوسها، وهذَّب طباعها، وشحذ عزائمها، وشذَّب أخلاقها، حتى جعلها خير أمة أخرجت للناس، مُتآلفة القلوب، مُتآخية الأرواح: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].

فسلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أهل وصحب وإخوان.

أنى التقينا التقى في كل مجتمع>>>>>أهل بأهل وإخوان بإخوان

حسبت نفسي نزيلاً بينكم فإذا>>>>>أهلي وصحبي وأحبابي وإخواني

من كل أبلج سامي الطرف مضطلع>>>>>بالخطب مبتهج بالذكر جذلان

يمشي إلى الذكر بساماً ومنشرحاً>>>>>كأنه حين يبدو عـود مران

يا أهل ينبع قد طوقتم عنقي>>>>>بمنةٍ خرجت عن طوق تبيان

قد قلتها غبطة لله دركم>>>>>ليس الفلاح لوان غير يقظان

لي موطنٌ في رحاب البيت أعظمه>>>>>ولي هنا في حماكم موطن ثانِ

لا أوحش الله ربعا من زيارتكم>>>>>يا من أثاروا بقلبي جل أشجاني

إنَّ من سوابغ نعم الله عليَّ أن ألتقي بمثل هذه الوجوه التي لا أحسبها إلا بالإيمان مشرقة، والبصائر التي لا أظنُّها إلا باليقين متفتحة، والقلوب التي لا أحجوها إلا بالصدق عامرة، والآذان التي لا أُراها إلا للخير سامعة واعية، فلله الحمد في الأولى والآخرة.

كل من تلقاه أو يحدِّثُك يأخذ منك ويعطيك، ويترك في نفسك أثراً حسناً أو سيئاً مؤقتاً أو باقياً، ومن تلتقي بهم في دروب الحياة على أصناف ثلاثة -كما يقول الحكيم- فمنهم من يمر مرور السَّيل العَرَمْرَم الدَّفَّاع يدمر العمران، ويقتل الحيوان، ويؤذي الإنسان، ومنهم من يمر مرور ماء النهر على الصخر لا يترك أثراً، فلا يُنبت زهراً، ولا يُخرج ثمراً، ومنهم من يمر مرور الماء على الأرض البِكر تكون قبله قاحلات مُمْحلات، وتصير بعده جنات وبساتين مُمْرعات، مبارك أينما كان.

درة كيفما أديرت أضاءت>>>>>ومشم من حيثما شم فاحا

أينما وَقَع نَفَع:

كالغيث من كبد السحاب هطوله>>>>>يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا

كالبدر من حيث التفتَّ رأيته>>>>>يُهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا

فأرجو الله بمَنِّه وكرمه أن نكون من هذا الصنف المبارك.

مثل فرع بدوحة العز تأوي>>>>>تحت أفنانه عفاة الديار

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس في هذه الدار على جناح سفر، وكلٌ مسافر ظَاعِن إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره، ونازل عليه عند القدوم عليه.

وللمسافر غايات يؤمِّلها>>>>>لا شيء يشغله عنها فيحصيها

معاشر الإخوة! لا زلنا على الطريق، نغري ونحذر، نرغب ونرهب، نشير ونصرح، نوري ونلمح.

إن تردد العقل بين حق وباطل كانت دعوتنا على الطريق إلى الحق، إن تردد الطبع بين فضيلة ورذيلة كانت دعوتنا على الطريق إلى الفضيلة، إن ترددت النفس بين الشهوة والواجب كانت دعوتنا على الطريق إلى الواجب، إنه طريق شاق ولا شك؛ لِمَ؟

لأن الانحدار مع الهوى سهل، والصعود إلى المثل الأعلى صعب وحزن، الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، لكنه لا يصعد إلى الأعلى إلا بالمضخات والجهد العاتي.

من الناس من شغلتهم على الطريق توافه الحياة عن مقصد الحياة، وألهتهم مناظر الطريق عن غاية السفر، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يعملون ليومهم وحده كالسوائم، لا يرون إلا ما بين أقدامهم، صفوف معوجة منشقة، وقلوب خاوية حائرة، سجدة خامدة لا حرارة ولا شوق فيها جامدة، انطفأت من القلب شعلته، وخمدت في الفؤاد جمرته؛ لذا كان لابد على الطريق من إشارات تحدو من سلك، وتغري من قعد وتسمو به، تدعو إلى مد البصر إلى الأمام، والنظر إلى البعيد والعمل لليوم والغد ولليوم الآخر، في صفوف موحدة وقلوب عامرة.

وقد سبق عرض إحدى عشرة إشارة في محاضرة سابقة، واليوم نعرض للجزء الثاني منها، والذي ما هو إلا حصيلة جهد مقل؛ لك غنمه أيها المستمع وعلى القائل غرمه، لك ثمرته وعليه عائده، فإن عدم منك حمداً وشكراً فلا يعدم منك عذراً، فإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، والله المسئول أن يجعلها لوجهه خالصة وأن ينفع بها قائلها وسامعها ومستمعها في الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل.

فسهل يا إلهي كل صعب>>>>>فمن غير الرءوف لنا يسهل

وأهلا بالدليل إلى المعالي>>>>>ألا سر يا دليل ونحن نسري

الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتاً بلا سقف.

بمعنى: لا يزال لسانك رطباً على الطريق بذِكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيتاً بلا سقف حَرِيٌّ أن يكون مَرتعاً للغُبَار والقاذورات، ومأوى للهوَامِّ والحشرات، كذلك إن بيتاً لا يُذْكر الله فيه لا سَقْف له، خراب بَلْقَع لا داعي به ولا مجيب، و(مَثَلُ البيت الذي يُذْكر الله فيه والبيت الذي لا يُذْكر الله فيه مثل الحي والميت) كما في صحيح مسلم رحمه الله، إن إنسانا لا يَذكر الله لا سقف له، حَيٌ بعَظْم مَيْت.

إذا ما الحي عاش بعظم ميت>>>>>فذاك العظم حي وهو ميت

و(مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحيِّ والمَيْت) كما ثبت عند البخاري رحمه الله.

والناس صنفان موتى في حياتهم>>>>>وآخرون ببطن الأرض أحياء

فأكثر ذكره في الأرض دأباً>>>>>لتذكر في السماء إذا ذكرتا

فلم أَر غير حكم الله حكماً>>>>>ولم أر دون ذكر الله بابا

خذ ما يسر ودع شيئاً تضر به>>>>>في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

إنَّ جَمعًا لا يُذكر الله فيه لا سقف له، مضطرِب أَرِق قَلِق.

كريشة في مهب الريح ساقطة>>>>>لا تستقر على حال من القلق

(والدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما وَالاه، وعالِماً أو متعلِّماً).

في الزهد لـابن المبارك رحمه الله: أنَّ أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجداً، فرأى فيه حلقة، ظنَّهم في ذِكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله! هل تدرون -يا هؤلاء- ما مثلي ومثلكم؟ مثلي ومثلكم كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفَت فإذا هو بمِصرَاعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت حتى يذهب عني المطر، فدخل فإذا هو ببيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذِكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا.

كم حديث يظنه المرء نفعا>>>>>وبه لو درى يطول البلاء

انتفاع القلوب بذكر الله

إنَّه ليس أنفع في جلاء القلوب واطمئنانها من ذكر الله ومناجاته، وليس هناك مَن هو أولى بملازمة ذِكر الله من الداعية إلى الله، وكلنا ذاك الرجل؛ الذي جعل مِحوَر حياته خدمة لدين الله، فهو أحرى بأن يذكر الله قائماً، وقاعداً، وعلى جَنب، وفي كل حين وآن، فذكر الله يُرَقّق المشاعر، ويُوقظ القلوب والضمائر، ويُرهِف الإحساس، ويشرح الصدور، ويسمو بالنفوس ويزكيها، ويترفع بها عن شهواتها، ويملك جِمَاحها، ويرفع الدرجات، ويكفِّر السيئات -ومع ذا- خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، حبيب إلى الرحمن.

فمن الخطورة العظيمة- أيها الأحبة- أن نتحول إلى مُنظِّرِين مُخطِّطِين، ثم لا نكون الربانيِّين العابدين الأوَّابين المُفردين، الذاكرين الله كثيراً، المخبتين، فنصبح محرومين، أعوذ بالله رب العالمين.

المحروم من نعمة ملازمة ذِكر الله محروم من الإحساس المرهَف، والضمير اليقظ الحي، حياته جمود وعَطالة وبطالة وانحطاط، أنَّى له أن يصل إلى وجهته؟!

إنما يذكِّر الناس ويؤثر فيهم الذاكرون

إنَّ المسلم بصفة عامة، وطالب العلم بصفة خاصة، جدير بأن يُذكِّر الناس بالله، حتى إذا ما رُئِي ذكر الله تعالى، فكيف به إن كان غافلاً؟! أيكون جديراً بالتذكير؟! كلا والله! إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه.

هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشاً>>>>>>>>>>هل يطلب الثوب ممن جسمه عَاري

يا بانياً بالماء حائط بيته>>>>>فوق العباب أَرى البناء مهيلا

أرأيت قبلك عارياً>>>>>يبغي نزال الدارعين

كلا. إنَّ بحر الحياة الدعوية ليست السباحة فيه بالخَطْب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة الغرق، ألا وهي سفينة الإيمان والاطمئنان بذكر الرحمن، كثير ممن يحسنون السباحة غرقوا في هذا البحر، وما رأينا سفينة الإيمان وذكر الرحمن تغرق فيه أبداً.

وعلى الطريق سبق المفرِّدون، إنَّ القلب بذِكر الرحمن بلد عامر مأمون، وحصن مُحكَم محصون، وروضة مباركة لا يكاد ينفد نعيمها، ولا ينضب معينها، تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، الذِكر مِسك، والغَفلة رماد، الذكر جواد، والغَفلة حمار، فليكن لسان الحال على الطريق: ما كنتُ لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطي الحمار بعد الجواد.

وإنما يتيمَّم من لم يجد الماء، ويرعى الهشيم من عَدِم الجَمِيم، ويركب الصعب من لا ذَلول له، أمَّا لسان المقال:

فالعزِّ داري وظهر العزم راحلتي>>>>>والذكر أنسي ومن والاه إخواني

فيا قدمي لا سرت بي لمذلـة>>>>>ولم ترتقي إلا إلى العزِّ سلما

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

الثالثة عشرة: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:

قل خيراً تغنم، أو اسكتْ عن سوء تَسْلم، إنَّ من شأن الساعي إلى الكمال على الطريق أن يُقبِل على كل أمر ينفعه، وأن يسلك السُّبُل المُفضية إلى ما رامه وأمّله، ويجتنب كل أمر يعوقه ويقطع سيره، ويتأبَّى بنفسه عن كل ما مِن شأنه أن يُنزِل قدره، ويقضي على وقته وحياته ورأس ماله، فتراه مترفِّعاً عن اللهو واللغو، قد شغل نفسه بما يفيدها في آخرتها ودنياها، في حدود ما أذن الله له به.

فإذا عَرَض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه، وأكرم نفسه عنه؛ إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو أو لهو مَهين.

من آثار السلف في الاشتغال بما يعني

وإليك أخي المسافر العاقل على الطريق هذه اللفتة من ابن القيم رحمه الله يقول فيها:

اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاتَه ما يعنيه؛ فإيَّاك ثم إيَّاك أن تُمكِّن الشيطان من بيت أفكارك؛ فإنه يُفْسِدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويُلقي إليك الوساوس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمِثَالُك معه كَمِثَال صاحب رحى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبَعْر وفحم وغثاء؛ ليطحنه في طاحونه، فإن طردته ولم تُمَكِّنه من إلقاء ما معه في الطاحون، فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون، أفسد عليك ما في الطاحون من الحَب، فخرج الطحين كلُّه فاسداً.

فيُتْرك ماؤكم من غير وِرد>>>>>وذاك لكثرةِ الأخلاط فيه

فاللبيب يُفِكر فيما يعنيه، بل فوق ذلك قد علم أن كلامه من عَمَلِه، فَقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه.

فإنَّ لسان المرء ما لم تَكن له>>>>>حصاةٌ على عَوراته لَدَليلُ

لا خير في حشو الكلا>>>>>م إذا اهتديت إلى عيونه

والصمت أجمل بالفتى>>>>>من منطق في غير حينه

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا تتكلم فيما لا يَعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يَعنيك حتى تجدَ له موضعاً، فَرُبَ مُتَكلم في أمر يَعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته]].

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا>>>>> مضر كوضع السيف في موضع الندى

والأدبُ النافعُ حسنُ السمتِ>>>>>وفي كثير القَولِ بعضُ المَقتِ

يقول عطاء بن رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم لو نُشَرت صحيفته التي أَمْلَى في صدر نهاره، وليس فيها شيءٌ من أمر آخرته ينفعه".

واهاً ثم واهاً.

إن الشجاعة في القلوب كثيرةٌ>>>>>وَوَجدتُ شُجعان العقولِ قليلا

دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض، فكان وجهه يتهلَّل، فقِيل له: ما لوجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: [[ما من عمل شيء أَوْثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليماً]] وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

ودخل رجل فضولي على داود الطائي رحمه الله زائراً، فقام يتفقد البيت، ثم قال: يا إمام! إن في سقف بيتك جِذعاً مكسوراً. قال: يا بن أخي! إنَّ لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه، مالك وله رحمك الله؟! {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.

فأولى لكم ثم أولى لكم>>>>>مزيد من الصَّحْو واليقظة

مقارنة بين حالنا وحال السلف في الكلام فيما لا ينفع

إن واقعنا حديثٌ بلا فائدة، وأسئلةٌ بلا نهاية، وتفصيل لا يفيد متحدثاً، ولا ينفع مستمعاً، ولا يُزَكِّي نَفْساً؛ تضيع الطاقات والأعمار سُدَى، وتلك داهيةٌ والله، وأدهى من ذلك من لا يكتفي بتضييع وقته في اللغو واللهو، حتى يشتريه بماله ويُضِل به ويَضِل، إنَّها الفاقرة، ونسأل الله العافية!

لقد خلق الله هذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تقف أبداً ولا تسكن، فلابد لها من شيء تطحنه -كما يقول ابن القيم رحمه الله- فإِنْ وُضِعَ فيها حب طحنته، وإن وُضِع فيها تراب أو حصى طحنته، ولن تَبقى الرحى معطلة أبداً، بل لابد لها من شيء يُوضَع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتِبْناً، فإذا جاء وقت العجين والخبز تبين له حقيقة طحنه.

وكلُ ما يزرع الإنسان يَحصده>>>>>فأَحْسِن الزرع يحسن حين يُحتصد

ورحم الله ابن بشار يوم قال -متحدثًا بنعمة الله عليه-: منذ ثلاثين سنة ما تكلمتُ بكلمة أحتاج أن أَعْتَذر عنها.

واسمع أخي لأحد السلف رحمه الله يوم أراد أن يطلق زوجته لأمر ما، فقيل له: ما يسوءك منها؟

قال: أنا لا أهتك ستر زوجتي، ثم طلقها بعد ذلك، فقيل له: لِمَ طلَّقتها؟ قال: ما لي وللكلام عن امرأة صارت أجنبية عني: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.

مجالسهم مثل الرياض أنيقة>>>>>>>>>>لقد طاب منها اللون والريح والطعم

كيف لو خطر ببال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد؟!

إنه لا شك سيرى كمّاً هائلاً من الأوراق، ولو حاسب نفسه مُنْصفاً لوجد كثيراً من الزَّلات والسقطات، فنسأل الله الثبات والعفو والصفح عن الزلات.

إن نسيت فلا أنسى أن أنبه على أن مما يعنيك -بل يجب عليك- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -عز وجل- على بصيرة، ولو كَرِه ذلك الفُسَّاق والمجرمون، وقالوا: {من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} فإن المقياس ليس هواهم، بل شرع ربنا ومولاهم.

وما على العنبر الفواح من حرج>>>>>إن مات من شمه الزبال والجعل

دع أخي ما لا يعنيك ولو كان مباحاً؛ فإنه تضييع لزمانك، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكم من كلمةٍ بُنِيَ بها قصر في الجنة، بل هي كنز من كنوز الجنة، وكم من أخرى باعدت بينك وبين السبل المفضية إلى الجنة، رزقنا الله وإياك الجنة بمنِّه.

لا يضع يومك في التيه>>>>>كما ضيعت أمسك

الحكمة في التربية الدعوية

الرابعة عشر: كُن طبيبًا رفيقًا يضع دواه حيث ينفع؛ بمعنى: لا تضع العلم عند غير أهله فتُجهَّل، ولا تمنع العلم أهله فتَأْثم؛ من الناس من يطلب العلم لشرٍ كامن، ومكرٍ باطن، فيستعمله في شُبَهٍ دينية، وتَلْبِيس دنيء، وحيلٍ فِقهية، فلا يعان على إمضاء مكره، وإكمال شره، بل مُهان غيْرُ مُكَرم يُحْرم، ومنهم من هو بليد الذهن، بعيد الفِطنة، فلا يُحمل عليه بكثير العلم فيُظْلَم، ولا يُمنع من اليسير فيُحرم، وإنما يَنفع سَمعُ الآذان إذا قَوِيَ فهم القلوب في الأبدان، وقد صَدَق القائلُ ونصح يوم قال:

لا تؤتين العلم إلا امرأ>>>>>يعين باللب على درسه

ويُمنع من كثيره -أيضاً- السُّفهاء، الذين إنْ سكتَّ لم يسألوك، وإنْ تكلمت لم يَعُوا عنك، وإنْ رأوا حَسَناً دفنُوه، وإنْ رأوا سيِّئاً أذاعوه.

إنْ يعلموا الخير أخفوه وإنْ علموا>>>>>شرّاً أذاعوا وإنْ لم يعلموا كذبوا

وإنْ حاورتهم شتموا، جاهلون كحمار السوق، إنْ أشبعته رَمَحَ الناس، وإنْ جاع نهَق.

فإذا حَمَلتَ إلى سفيه حِكمةً>>>>>فلقد حَمَلتَ بضاعة لا تنفق

وهذا كله يحتاج إلى فِراسة ومُمارسة ومِران واختبار، من خلاله يُتوسَّم المتعلم حقاً من غيره، كفِراسة ابن عباس رضي الله عنهما يوم قال: [[ما سألني سائل إلا عرفت أفَقِيهٌ هو أم غير فَقِيه]].

أو كفراسة الأعمش رحمه الله يوم رأى شعبة رحمه الله يحدِّث قوماً يرى أنهم غير أهل للحديث، فقال: ويْحك يا شعبة ! تُعَلِّقُ اللؤلؤ على الخنازير!

فإن عناء أن تفهم جاهلاً>>>>>يظن اقتئاتاً أنَه منك أفهم

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه>>>>>إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

فلا تحدِّث بالحكمة عند السُّفهاء فيكذبوك، ولا تحدِّث بالباطل عند الحكماء فيَمقتوك، إنَّ واضع العلم في غير أهله كمقلِّد الخنازير اللؤلؤ والجوهر، فلِكلِّ تربة غَرْس، ولِكلِّ بناء أُس.

فجرد السيف في وقتٍ يفيد به>>>>>فإن للسيف يوماً ثم ينصرم

تواصي العلماء بحرمان السفهاء من العلم

عرف ذلك العلماء حقاً، حتى قال قائلهم وهو عكرمة : [[إنَّ لهذا العلم ثمن، فاقدروه قدره، قيل: وما ثمنه؟ قال: أنْ تضعه عند من يحفظه ولا يضيِّعه]].

ورحم الله ابن حزم في حَزْمِه في ذلك، يوم قال: نَشْر العلم عند مَن ليس مِن أهله مُفسِد لهم، كإطعامك الحلوى مَن به احتراق وحُمَّى، أو كتشميمك المِسك والعنبر مَن به صُداع من احتدام الصَّفراء.

قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم>>>>>ما طول صمتي من عي ولا خرس

أأنشر البز فيمن ليس يعرفه>>>>>أم أنثر الدر بين العمي في الغلس

فمن حوى العلم ثم أودعه>>>>>بجهله غير أهله ظلمه

وكان كالمبتني البناء إذا>>>>>تم له ما أراده هدمه

وقد قالها الشافعي رحمه الله في مصر مدوية، عندما كلمه من لا يرى فقهه قال:

أأنثر درا بين راعية الغنم>>>>>وأنشر منظوما لراغية النعم

لئن كنت قد ضيعت في شر بلدة>>>>>فلست مضيعاً بينهم غرر الكلم

فإن فرج الله الكريم بلطفه>>>>>وأدركت أهلا للعلوم وللحكم

بثثت مفيدا واستفدت ودادهم>>>>>وإلا فمخزون لدي ومكتتم

ومن منح الجهَّال علما أضاعه>>>>>ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وقد أحسن -أيضا- وحلق كما قال في الطبقات :

العلم جهل عند أهل الجهل>>>>>كما الجهل جهل عند أهل العلم

ومنزلة الفقيه من السفيه>>>>>كمنزلة السفيه من الفقيه

فهذا زاهد في قرب هذا>>>>>وهذا فيه أزهد منه فيه

التعليم بحسب استعداد المتعلم

فعلى الطريق أخي: ضعْ العلم في أهله على تفاوت، فالذكي يحتاج إلى الزيادة، والبليد يكتفي بالقليل، والسفِيه يُمنع ويُزجر، وذو الشر يُذل ويُحرم، ولا يُعانُ ولا يُكرَّم، والجميع يُذكَّر ويُوعَظ، كِلْ على الطريق لكل سالك بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه؛ حتى تَسلم منه وينتفع بك؛ وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، ولكل ثوب لابس، ولكل علم قابس.

فلا تكونوا كمن ألقى رِحَالته>>>>>على الحمار وَخَلَّىصهوة الفرس

وقفة جانبيه على الطريق: عَرِّضْ ولا تُصرِّحْ، فالحال ناطقة:

أقول وستر الدجى مسبل>>>>>كما قال حين شكا الضفدع

كلامي إن قلته ضائع>>>>>وفي الصمت حتفي فما أصنع

الحرص على الحكمة فهي ضالة المؤمن

الخامسة عشرة: كُلِ البَقْل، ولا تسَل عن المِبقَلة، بمعنى: خُذها مِن أي وعاء خرج: (الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها) فلا تَحقِر على الطريق أحداً أن تأخذ منه الحكمة؛ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.

...................>>>>>والدر در ثمين أينما كانا

ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأُسوة والقُدوة قد أقرَّ أبا هريرة رضي الله عنه على أن يأخذ ما فيه نفعه من أخبث مخلوق؛ ألا وهو إبليس، الذي كان يسرق من التمر الموكل بحفظه أبو هريرة ، ثم افتدى نفسه من أبي هريرة بتعليمه آية الكرسي كحافظ له من الشيطان حتى يصبح، فلما أَخبرَ أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (صَدَقَكَ وهو كَذُوب) فالحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا يَنتفِعُ بها، وتُؤخذ عنه ويُنتفع بها، والكذَّاب قد يَصدُق، فَاعلمْ وَحَقِّقْ.

لا تحقرن الرأي وهو موافقٌ>>>>>حكم الصواب إذا أتى من ناقص

فالدر وهو أعز شيء يقتنى>>>>>ما حط قيمته هوان الغائص

احترام الحقيقة وتجنب المبالغة

السادسة عشرة: احترِم الحقيقة، وتجنَّب الإغراق في المبالغة؛ فهي قبيحة تشوِّه الحقيقة، تَقرِّب البعيد، وتُبعِد القريب، وتُظهِر غبشاً في الرؤية على الطريق، إنها سماجة واستخفاف بعقل السامع، وسخرية من وجدانه -كما يقول صاحب زغل الدعاة - تهويل وتزييف للواقع، شَطَطٌ وتفخيم وتضخيم ضد الحقيقة، بل عجز عن رؤية الواقع على ما هو عليه، وضَعف في النفس مشين؛ حتَّى يُرَى سيئاً مَا لَيس بالسوء ويرى حَسَناً مَا لَيس بِالحَسَنِ.

الإغراق في المبالغة سلبية في حياة عامة الناس، وهي ظاهرة في سلوك المجتمع والأسرة والفرد، وقد تُعالَج بمثلها؛ داءٌ بداء فأين الدواء؟!

في كتاب: السلوك المثالي للطفل المسلم ما فحواه: يقول : جاء طفل مسرعاً نحو أمه قائلاً: لقد وجدت في الحمام فأراً يا أمَّاه مثل الفيل، فردَّت عليه الأم مؤنِّبة له: قلت لك مليون مرة: لا تُبالغ. فقل لي بالله: أيُّهم أكثر مبالغة؟ ألَيْس الطفل معذوراً فيما أخبر به أُمَّه؟! بلى، وحاله:

محضتني النصح لكن لست تعمله>>>>>فأنت أولى بذا مني على خجل

هذا على مستوى الأسرة والعامة، وتلك -والله- فاقرة، وقبيحة، وقاصمة، لكنها في حق طلاب العلم والأخيار ثَغرة كبيرة في جدران بنيانهم التربوي لا تكاد تُسدُّ.

فكل كسوف في الدراري شنيعة>>>>>ولكنه في الشمس والبدر أشنع

إنها تظهر جليَّة مَشينة بالحكم على الآخرين؛ قَدحاً ومدحاً، فهذا يمدح ممدوحه حتى يوصِلَهُ ذرى الجبال، فلا تزال تَسمعُ ما يلي: فلان ابن تيمية عصره، وابن حَجَر زمانه، وبُخارِي أوانه، ليس له مثال، عَلاَّمة فَهَّامَة، حتى إذا ما حصل أمر أيُّ أمرٍ تغيَّر، وتبدَّل، وصار الأنف ذَنَبَاً، نُصِبت له المجانيق، وأُرسِلت الصواعق، وسُلَّت السيوف، ورُفِعت المَعَاول، ومن قمم الجبال إلى حضيض الإهمال، فإذا هو مارِد خرج من قُمقُمِه، فإيَّاك وإيَّاك! لا تتَّبِع أقواله؛ إنه غَاوٍ، مُضِل، مَارِق، مُعانِد، خَائِن، فاسِد العقيدة، أشر على الإسلام من اليهود والنصارى.

حَيْفٌ، وظلم، وشَطَط، وجور، وعدم اتِّزَان، وتدمير جَنَان.

يا عين سحي يا قلوب تفطري>>>>>يا نفس رقي يا مروءة نادي

إن دام هذا ولم يحدث له غير>>>>>لم يبك ميت ولم يفرح بمولود

يا معشر القراء يا ملح البلد>>>>>ما يصلح الملح إذا الملح فسد

رحم الله القائل-يوم قال-: والله إنَّ الأُمَّة لن تأخذ مَوضعها بين الأمم؛ حتى تضع الكلمة في موضعها.

كيف تحيا أمة قد ودعت>>>>>كلمة العدل ولم تدكِرِ

خطر المبالغة

فهيا أخي: أقبل بقلبك وقالَبك، واسمع إلى صاحب كيف تحاور وهو يخاطبك قائلاً: لتبتعد عن تهوين ما لا يعجبك، وتهويل ما يعجبك؛ فإنَّك إن اشتهرت بذلك، فسيضطر صاحبك لتفحُّص عينيك عند سماع جديد الأخبار منك.

إنَّ الحقيقة غالية عند أصحاب النفوس القويمة، والعقول المستقيمة، ولو كانت في غير صالحهم، فهي على مرارتها ثمينة، أمَّا غيرهم فيخدع نفسه، ويخدع غيره.

فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد>>>>>كلا طرفَي قصد الأمور ذميم

بالملح نصلح ما نخشى تغيره>>>>>فكيف بالملح إن حلت به الغير

صور العمى شتى وأقبحها إذا>>>>>نظرت بغير عيونهن الهام

دواؤك منك ولا تشعر>>>>>وداؤك فيك ولا تبصر

الأصل في المسلم السلامة

السابعة عشرة: الأصل في المسلم السلامة:

من المبادئ المهمة في التعامل على الطريق بين المسلمين: إحسان الظن بهم، وخَلع المنظار الأسود عند النظر إلى مواقفهم وأعمالهم، فكيف بنيَّاتهم، والحكم على سرائرهم، التي علمها عند من لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر وعلانية؟

الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة، لكن من الناس من مِنظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمة، ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيراً كذَّبه، وكلما ذُكر عنده أحد بخير طَعَنَ فيه وجَرحه.

هم الشوك والورد أقرانهم>>>>>وليس لدى الشوك غير الإبر

فكنت كذئب السوء لما رأى دما>>>>>بصاحبه يوما أحال على الدم

يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا>>>>>ولو ظفروا بي ساعة قتلوني

مُبدع، لكنه إبداع سلبي، مُبدع في تحطيم ما بيْنه وبين الناس من جسور الثقة، والذي يريد هداية الناس يبني جسور الثقة بينه وبين الناس؛ ليكسَب القلوب، فيزرع فيها خوف وحب علاَّم الغيوب.

العز بن عبد السلام وسلامة صدره

هاهو الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله لقي من صنوف الأذَى على يدي الأشرف موسى ما لقي، ثم رجع الأشرف إلى الحق بعد ما تبيَّن له، وأحبَّ الشيخ حُباً جَمّاً، وقدَّمه على غيره، وعمل بفتاواه، ولمَّا مرض الأشرف قال: يا عز ؛ اجعلني في حِلٍّ، وَادْعُ لي، فقال الشيخ: أما مُحَالَلَتُك، فإنِّي كل ليلة أُحَالِلُ الخلق، وأَبِيتُ وليس عندي لأحد مَظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله، لا على عباد الله؛ عملاً بقول الله: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40].

صفوحٍ عن الإجرام حتى كأنه>>>>>من العفو لم يعرف من الناس مجرما

وليس يبالي أن يكون به الأذى>>>>>إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما

ثم أوصاه الشيخ بالصلح مع أخيه فتمَّ له ذلك، ثم ذَكَّره بمنع المنكرات، وإبطال ما يمارس العُمَّال من المُوبِقات مِن إباحة الفُروج وإدمان الخمور وارتكاب الفُجور، وقال له: إنَّ أفضل ما تَلقى الله به أن تُبطل ذلك في مملكتك، فأَمَر بإبطال ذلك كله، وقال للشيخ: جزاك الله خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمَنِّه وكرمه، ولَقي الله، فرحمه الله!

هكذا أخي يجب أن نكون من حسن الظن بالمسلمين، حتى نَصِل بدعوتنا إلى سُوَيْدَاء قلوب المدعوين.

فمن وجد الإحسان قيدا تقيدا

وعلنا أنْ نَطَّرِحَ سوء الظن واتباع الهوى، فاتباع الهوى يُفرِّق ويشتت ويمزق؛ لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رءوس الخلق، ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله؟!

تراه كدود القز ينسج دائماً>>>>>ويهلك غماً وسط ما هو ناسجُ

فخير لك -إن أردت النجاة على الطريق- أنْ تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين؛ لأنَّ حُسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها، ويُلبِّس عليك مثالبها، فترى المساوِئ محاسن، والعيوب كمالاً.

وعين الرضا عن كل عيب كليلة>>>>>ولكن عين السخط تبدي المساويا

فلا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو أجهل الناس بنفسه.

ما يبلغ الأعداء من جاهل>>>>>ما يبلغ الجاهل من نفسه

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى>>>>>إلى بعض ما فيه عليك مقال

إذا رأيت الهوى في أمة حكماً>>>>>فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا

البشر عرضة للخطأ

الثامنة عشرة: من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟

ما مِنَّا أحد إلا وَلهُ زلَّة وخطأ وسَقطة، ورأي قد يكون فيه كَبوة، وزلَّة المسلم إمَّا أنْ تُعرف، وُتشاع، وتُذاع، فيستمرئها صاحبها وينسلخ عنه الحياء ويصعب عليه الرجوع -كما يقول صاحب ضوابط العمل - وإمَّا أنْ تكون زلته حبيسة في صدره، لا يعلمها إلا الله وحده، فهذا رجوعه أسرع بإذن الله وأقرب، فلا يكن أحدنا عوناً للشيطان على أخيه، فَلَيسَ الذِّئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئب.

ولا يجُوز الباب إلا عاقل مؤمن، يختار رضوان الله العلي الكبير، إنَّ العامل يتعرض لعَثرات، وقد يحصل منه هَفَوات، ثم ينبري له مَن سِلْمُه حَرْب، وذَلُولُه صعب، يشيع ويذيع، لا يَقرُّ له قرار، ولا ينعَم له بال، كأنما يتقلب على حَسَك السَّعْدَان، أو يَتَلَوَّى على جمر الغضا، ينحب وينبح ويلهث، يَنكَأ جروحاً، ويُثير أشجاناً، يرفع عقِيرته، لا يعجبه أحد، ولا يرتاح لبُرُوز أحد، إرضاؤه لا يُدرَك، أَطْيَش من ذُباب

لو وُزِنت أحلامه الخِفافا>>>>>على الميزان ما وزنت ذبابا

جليد، بليد.

...............>>>>>وما على الكلب أن يعتاده السعر

..............ومن العجا>>>>>ئب أن مثل لسانه لم يبتر

فمطالب بإعادة، ومطالب بزيادة، ومهلل، ومصفق

كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة>>>>>وإن ينل شبعا ينبحك من أشر

.............>>>>>فيا عجبا من زائر وهو ثعلبُ

يخال سكوت الليث وهنا فيعتدي>>>>>غرورا وينسى بأسه حين يغضب

فالتعامل معه كالآتي: لا يُلتفت إلى ما في كلامه من طعن، ويُؤخذ ما فيه من حق -إنْ وُجد-فإنَّ الحق هو الحق، وللداعية خيرُه، وعلى الطَّاعِن شَرُّه.

فما الأسد الضرغام يوماً بعاكس>>>>>صريمته إن أَن أو بصبص الكلب

التغاضي عن هفوات الكرام

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بعض الناس لا تراه إلا مُنتَقداً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مَثَالبهم، فهو مثل الذباب؛ يترك موضع البُرْء والسلامة، ويقع على الجرح والأَذَى، وهذا من رَداءة النفوس، وفساد المِزاج؛ فَارْبَأ بنفسك أن تكون كصغار الكلب أو شر الطَّبْل على حد قول القائل:

صغار الكلب أكثرها عواءً>>>>>وشر الطبل أكثرها دويا

صغير العقل بالأعراض يلهو>>>>>وذو اللب الرجيح يراه غيا

ومن نظر الأمور بعين عقل>>>>>جرى في هذه الدنيا أبيا

إنَّ الوقيعة -كاسمها- شر، وفساد، وفُرقة، وتمكين للعدو، وبهتان، نهايتها خصومة وتَدابُر، وقطيعة، وقعود، وقَرَارٌ لعين العدو، وهلاك على الطريق، وهكذا الذباب على الطعام يطير، والفراش على الشهاب يسّاقط.

كلام من كان مثل ذا ومنظره>>>>>مما يشق على الآذان والحدق

فلا تُعره اهتماماً على الطريق، ولا تنتصر لنفسك، فإذا انتصرت لها فأنت كمن بغى طَفي الحريق بموقد النيران.

لا ينبغي الطعن في الآخرين بمجرد الاختلاف معهم

واعجباً لمسلم قبل أن يتعلم مسألة من مسائل الدين، يتعلم كيف يقع في إخوانه المسلمين، ثم يريد أن ينجح ويفلح، متى يفلح؟

متى يفلح مَن يطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من سنين؟

متى يفلح من يشفي صدور قوم كافرين بالوقوع في إخوانه المسلمين؟!

تعشى عيون في النهار فلا ترى>>>>>وترى عيون في الظلام وترقب

ويسير ذو جهلٍ بحكمة غيره>>>>>ويتيه ذو العقل السديد ويسلب

فيا معاشِر الموحدين! إنَّ أي إنسان يستطيع أن يرمي غيره بكل نقيصة، لكنه لا يستطيع أن يُثبت دعواه إلا إذا كان صادقاً!

وكم على الأرض أشجار مورقة>>>>>وليس يرجم إلا من به ثمر

كل يصيد الليث وهو مقيد>>>>>ويعز صيد الضيغم المفكوك

واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولو أنه كلما اختلف اثنان تهاجرا وتقاطعا ما بقي بين المسلمين أُخوَّة؛ فَلْيتَّقِ الله امرؤٌ في إخوانه، وليتسع صدره لوِجهات نظرهم، فلا تذهب معه المروءة والمحبة، والمؤمن يستر وينصح، لا يهتك ولا يفضح.

أمنا التقوى وقد أرضعتنا>>>>>من هواها ونحن نأبى الفطاما

فاشرب من الماء القراح منعماً>>>>>فلكم وردت الماء غير قراح

وهات حديثاً كقطر الندى>>>>>يجدد في النفس ما بددا

فيضحي لآمالنا منعشاً>>>>>ويمسي لآلامنا مرقدا

وقفة جانبية أخرى على الطريق: تقول: لا تسل لئيماً؛ فأذل من اللئيم سائله.

من كان يأمل أن يرى>>>>>من ساقط نيلاً سنيا

فلقد رجا أن يجتني>>>>>من عوسج رطباً جنيا

الاعتناء بالحقائق وعدم الاغترار بالمظاهر

التاسعة عشرة: ما كل عُود ناضر بنُضار: ما كل مَن حَسُن منظره حسن مَخبَره، فلا تُغَلب المظاهر على الحقائق على الطريق: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وابلُه تَقْلِه أو تحببه.

فما الحسن في وجه الفتى شرف له>>>>>>>>>>إذا لم يكن في فعله والخلائق

إنَّ من عباد الله على الطريق من تشرئب إليه الأعناق، ويسترعي الانتباه، لكنه خائر بائر لا خير فيه، فلا يُغتَرُّ به .

لهم منظرٌ في العين أبيض ناصع>>>>>ولكنه في القلب أسود أسفع

فمردودٌ بهاؤهم عليهم>>>>>كما رد النكاح بلا ولي

ومِن عباد الله على الطريق من لا تشرئب إليه الأعناق، ولا يسترعي الانتباه، لكنْ يجري الله على يديه الخير الكثير.

متبذل في القوم وهو مبجل>>>>>متواضع في الحي وهو مكرم

ثبت أنه مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟ قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ -والله- إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).

وبعض الناس ماء رباب مزنٍ>>>>>وبعض الناس من سبخ الملاح

والسيف ما لم يلف فيه صيقلٌ>>>>>من طبعه لم ينتفع بصقال

والسيف ليس بضائرٍ إذا صح>>>>>نصل السيف ما لقي الغمد

ولا ينفع الأصل من هاشمٍ>>>>>>>>>>إذا كانت النفس من باهلة

دخل أعرابي رث الهيئة في عباءة خَلِقَة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه فاقتحمته عينه، وغدا ينظر إلى عباءته الخَلِقَة، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.

وما ضر نصل السيف إخلاق غمده>>>>>إذا كان عضباً حيث أنفذته يبري

فإن تكن الأيام أزرت ببزتي>>>>>فكم من حسامٍ في غلافٍ مكسر

فأدناه وقربه، وعلم أن في العباءة ما فيها.

عجبت لمن ثوبه لامع>>>>>ولكنما القلب كالفحمة

مظاهر براقة تحتها>>>>>بحار من الزيف والظلمة

وتكلم آخر مُحتقر، عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، حتى خُلِب به لب عبد الملك وأُعجب به، فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي توصلتُ بها إليك، وأهلتني لأن أتكلم بين يديك فأَخْلِب لُبَّك، أبى الله أن أسمو بجد ولا أب.

فما أنا إلا السيفُ يأكل جفنه>>>>>له حليةٌ من نفسه وهْو عاطلُ

وليست رغوتي من فوق مذق>>>>>ولا جمري كَمِين في الرمادِ

قال: صدقت

فما الفخر بالعظم الرميم وإنما>>>>>فخار الذي يبغي الفخار بنفسه

التجمل أمر مشروع لكنه ليس مقياساً للتفاضل

إنَّ من أحوال المسلم أن يَحْتفي ويَنْتعل، ويمتشط ويدع ذلك، ويلبس اللباس الجميل والحذاء الحسن، ومع هذا لا تتحكم هذه المظهرية فيه، ولا يوزن بها، ولا تأسر شخصيته، فهو يحكمها ويأسرها، خلافاً لموازين معكوسة جعلت المظهرية هي الميزان.

قيمةُ المرءِ عندهم بين ثوبٍ>>>>>باهرٍ لونُه وبين حذاءِ

ماذا لو خرج العالم حافيًا بين الناس؟ أينقص علمه وقدره؟ ماذا لو انتعل الغبي الجاهل أحسن النعال، أيصبح عالماً فقيهاً؟ ماذا لو لبس المعتوه أحسن الثياب وأجملها، أيغْدُو ذا لبٍ؟

إن كان في لبس الفتى شرف له>>>>>فما السيف إلا غِمْده والحمائلُ

إنَّ الاكتفاء في المقاييس بارتداء الملابس والامتشاطات الساحرة والعطور المنعشة مع عدم النظر إلى التقوى والعلم، والرأي حَيف ونكسة.

رب ذي مظهرٍ جميلٍ توارى>>>>>خلف أثوابه فؤاد خئون

إن اللباس الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة ومن زينة الحياة، لكن ليست هي الأصل، وليست هي المقياس في الحكم على الناس، إن التراب مكمن الذهب، فلا يغرنَّك حسن المظهر وحسن الهيئة وجمال الهندام والبزة، فكم ممَّن ارتداها وهو يحمل بينها نخاعاً ضامراً، وفكراً بائراً، وقلباً حائراً، فهل يقدم مثل هذا؟ كلا.

وهل تروق دفيناً جودة الكفن

{رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه}كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله.

لا يغرنك البهاء والصور>>>>>تسعة أعشار من تراهم بقر

ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فالعبرة كل العبرة بصلاح القلوب والأعمال لا بالصور والأموال، ولا بالمظاهر والأشكال، وإنما تُنْصر الأمة بضعيفها، بصلاته ودعائه، فلا تَغرنَّك المظاهر؛ وابْلُ الرجال تحبهم أو تُبغضهم، ومن ثمارهم تعرفونهم.

وعلى الفتى لطباعه>>>>>سِمة تَلُوح على جبينه

لقد عظم البعير بغير لب>>>>>فلم يستغن بالعظم البعير

يُصرفه الصغير بكل وجه>>>>>ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوى>>>>>فلا غير لديه ولا نكير

فإن كنت في شك من السيف فابله>>>>>فإما تنفيه وإما تعده

التحذير من العجب

العشرون: بقدر الصُعود يكون الهبوط؛ بمعنى: احذر العُجْب والتَّعالي والغرور؛ فهو دليل السَّفه، ونقص العقل، ودُنُوِّ النفس، لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار، فيقول له: أنت فعلت وفعلت، حتى يُلْقِي في روْعه أنَّه لا مثيل له ولا نظير، فيعجب بنفسه ويغتر، فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى؛ لأنَّ السعادة إنَّما تُدرك بالسعي والطلب، والمُعْجَب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي، فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه، لا يتقدم لِمَكْرُمةٍ، ولا يرْتَقِي لمنزلةٍ، ولولا السعي لم تكن المساعي.

فما خير برق لاح في غير وقته>>>>>وواد غدا ملآن قبل أَوانه

عند ذلك يرفض الحق، ويحتقر الخَلْق، ويُدَاوم تَزْكية النَّفس أمام الخلق، ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق، ثم يَسْتعصي على النصح، ولا يعترف بجهود الآخرين، يُداوم الحديث عما ينجزه من أعمال، ويرفض الرجوع عن الخطأ، بل يُحاول تبرير الخطأ، يَسْتَبِد بِرأْيه؛ فرأيه صواب لا خطأ فيه، لا يستشير أهل التجارب العقلاء، ولا يستنير بآراء الأكياس الفُطَناء، يَهْتَم بشواذِّ المسائل وغريبها، ويُهمل العمل بأصول المسائل، ثم يرفض الجلوس للتَّعلم في حلقات العلم.

ألج لجاجاً من الخنفساء>>>>>وأزهى إذا ما مشى من غراب

هو الغريق فما يخشى من البلل>>>>>جذ السنام له وجذ الغارب

فحاله يا له من حال! كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح، تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة، أو كالبرغوث يحيا ما دام جائعاً، فإذا شبع مات، أو كراكب أراق ماءه لرؤية السَّراب، ثم ندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرة، أو كرجل في قمة جبل يرى الناس في السَّهل كالنمل، ويراه الناس في القمة كالذر وهو لا يشعر.

مثل المعجب في إعجابه>>>>>مثل الواقف في رأس الجبل

يبصر الناس صغاراً وهو في>>>>>أعين الناس صغيراً لم يزل

أو كالسُّنْبلة الفارغة من الحب بين السنابل المملوءة بالحب، تجدها رافعة رأسها تتعالى على صديقاتها وصُوَيْحباتها، مع أنها لا تصلح إلا علفاً للحيوان، والمملوءة حباً مثقلة بالخير، قد انحنت برأسها

ككريم الأصل كلما>>>>>ازداد من خير تواضع وانحنى

العجب باختصار كلبٌ ينبح في قلب صاحبه، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة أو كلب.

فتنةٌ تضحك أَرْباب النُّهى>>>>>من مخازيها وتُبْكي البشرا

مآل العجب

والنتيجة مخزية، فنعوذ بالله من الخزي والبوار، يُحْرم المُعْجَب من توفيق الله، فالخذلان موافق له ومصاحب له: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] وتبعاً لذلك: ينال غضب الله ومقته، إن لم يتب.

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: {لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر}.

وثبت أيضاً: {من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان}.

ثم ينهار المُعْجَب وقت الشدة والمحنة؛ لأنه لم يحفظ الله في الرخاء، فجدير بأن يُخْذَل وقت المحنة: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

ثم إن المُعْجَب يخلق بينه وبين مَدْعُوِّيه جفوةً وفجوةً لا تكاد تُردم، فالقلوب جُبِلَت على بغض من يتعالى عليها، ومن ثَمَّ لا تُقبل دعوته، والمُعْجَب عُرْضَة لانتقام الله العاجل والآجل: {بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجِّل جُمَّتَه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة} كما روى البخاري رحمه الله.

أتت النوى دون الهوى فأتى>>>>>الأسى دون الأُسى بحرارةٍ لم تبرد

خدعتهم الأحلام في سنة الكرى>>>>>ما أكذب الأحلام والتأويلا

أسباب العجب وبواعثه

له أسباب وبواعث، لعل منها ما يلي باختصار:

انحراف المُرَبّي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة، ودوام تزكية النفس بالحق أو الباطل، فيتأثر به من تحت يده.

ثم المدح من غير ضوابط شرعية؛ بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد، ومع من لم تخش عليه الفتنة.

ثُمَّ صُحبة المُعْجَبين، والمرء على دين خليله، والصاحب ساحب كما قيل.

ثم الصدارة قبل النُضُوج والتربية، فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين، تحمله على استحسان ما يعمله؛ مع أن النسب لا يُقَدم ولا يُؤَخر: {كلكم لآدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجُعْلان}.

عـلاج العجب

علاج العجب: وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطاً عدة لعل فيها العلاج لمن أُصِيب بهذا الداء، عافاني الله وإياكم منه.

أولاً: العلم واليقين بأن المِنَة لله عز وجل فيما أُعْطِيت من مواهب وقدرات، والله قادر على أن يَسْلبها ما بين غَمْضَة عين وانْتِبَاهتها: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].. وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

ثانياً: دوام حضور مجالس العلم تلميذاً؛ فإن في ذلك تطهيراً للنفس من ذلك الداء وتعريفاً لها بقدرها؛ وذلك هو الدواء.

ثالثاً: خدمة من هم دونك مرتبةً وعلماً وقدراً، ومجالستهم ومؤاكلتهم، وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره.

رابعاً: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلةً وعملاً ورأياً وتفكيراً، إن أعجبت بعقلك، ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أُعْجِبت برأيك، فتفكر في سقطاتك فاحفظها، ثم انظر إلى من هو أعلى منك رأياً، إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه موهبة من الله، وانظر إلى من هو أعلم منك: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].

خامساً: تأمل عيوب النفس، ثم جد في محاسبتها أولاً بأول، وأنت أعرف بنفسك، كلٌ منا يصف أواني بيته ومحتوياته، ورَبُّ البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بِشِعَابها، والصيرفي أعرف بنقد الدينار، فإن خفيت على المرء عيوبه حتى ظن أن لا عيب فيه؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، كما يقول ابن حزم : فالعاقل مَنْ ميَّز عيوب نفسه فجَاهَدَهَا، وَسَعى في قمعها، والأحمق من جهل عيوب نفسه، وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها.

من أنت إلا عبد مُكَلف موعود بالعذاب إن قَصَّر، مَرْجو بالثواب إن ائتمر، مُؤَلَّف من أقدار، مشحون بأوضار، سائر إلى جنة إن أطاع وإلا إلى نار، أجارك الله من سامع من النار.

كيف يزهو من رجيعه>>>>>أبد الدهر ضجيعه

وهو منه وإليه>>>>>وأخوه ورضيعه

وهو يدعوه إلى>>>>>الحش بصغر فيطيعه

لو فكر الناس فيما في بطونهم>>>>>ما استشعر العجب شبان ولا شيب

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة>>>>>وهو ببضع من الآفات مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك>>>>>والعين مرمصة والثغر ملعوب

يا بن التراب ومأكول التراب غداً>>>>>أقصر فإنك مأكول ومشروب

وأتم الناس أعرفهم بنقصه كما قيل.

سادساً: اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها، واتباع للسنة، وأَنْعِم بها من خُلَّة.

إذا لم يكن صَدرُ المجالس سيداً>>>>>فلا خير في مَنْ صَدَّرته المجالس

سابعاً: إنَّ التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب، يقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري : {لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته}.

ثامناً: تعويد النفس على حب الفرار من الشرف حتى تعتاد، فمن فرَّ منه وهب له، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه.

يقول المدائني : رأيت رجلاً من باهلة يطوف بين الصفا والمروة على بغلة في تيه وعجب، ثم رأيته سافراً راجلاً متعباً مُنْهكاً يحمل متاعه على ظهره، فقلت له: أراجل في هذا الموضع، وأنت من يطوف بالبغلة بين الصفا والمروة ؟ قال: نعم، ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقاً على الله أن أمشي حيث يركب الناس، ومن تواضع لله رفعه.

تاسعاً: الاستعانة بالله، واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفات، ومن استعان بالله أعانه الله.

فسل العياذ من التكبر والهوى>>>>>فهما لكل الشر جامعتان

وهما يصدان الفتى عن كل طر>>>>>ق الخير إذ في قلبه يلجان

والله لو جردت نفسك منهما>>>>>لأتت إليك وفود كل تهاني

عاشراً: المُجَاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

حادي عشر: إذا أُعْجِبت بمدح إخوانك، فَفَكِّر في ذَم أعدائك إيَّاك، فإن لم يكن لك عدو، فوالله لا خير فيك، فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يُحسد عليها، عافانا الله وإياكم كما يقول ابن حزم رحمه الله.

ثاني عشر: التدبُّر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم، ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وخير من دبَّ على الثرى، وهو الأسوة- أنَّه كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويَعْتَقِل الشَّاة، ويُجِيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، ويقول: {إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد} ويقف بين يديه رجل يرعد كما تَرْعَد السَّعفة فيقول: {هوِّن عليك؛ فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد} يمر بالصبيان فيسلم عليهم.

قُسِمَ التَّواضع في الأنام جميعهم>>>>>فذهبت أنت فَقُدتَه بِزِمَامه

صلوات ربي وسلامه عليه، يقول أنس : {إن كانت الأَمَة من إِماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثُ شاءت}.

{كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة}.

{كان يَخِيطُ ثوبه، ويَخْصِفُ نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم}.

{إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده}.

لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة.

وكان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم ويعود مرضاهم، يشهد جنائزهم، يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم.

فكلُّ فعلٍ كريم كان فاعله>>>>>يحيي القُلوب ويحيي ميِّت الهِمَمِ

صلوات الله وسلامه عليه.

يلين لكل ذي ضعفٍ وعجز>>>>>وكم لان لذي جهل فَلانا

رسول يحمل الأطفال لطفاً>>>>>ويجعل عاتقيه لهم حصانا

ويختصر القراءة حين يبكي>>>>>صبيٌّ والموفق من ألانا

يلاطف أهله أَكْرِم بزوجٍ>>>>>يعفُّ الأهل يغمرهم حنانا

يقاسمهم متاعبهم معيناً>>>>>...................

فكم خصف النِّعال وخاط ثوباً>>>>>وكم من شاته ملأ الجفانا

زعيم القوم خادمهم فطوبى>>>>>لمن خدم الرعية أو أعانا

تشبه بالرسول تفز بدنيا>>>>>وأخرى والشقي من استهانا

فأخلاق الرسول لنا كتاب>>>>>وجدنا فيه أقصى مبتغانا

وعزتنا بغير الدين ذل>>>>>وقدوتنا شمائل مصطفانا

صلوات الله وسلامه عليه.

ويأتي من بعده كوكبةٌ من أتباعه الذين رباهم صلى الله عليه وسلم، ليَنْهَجوا نهجه، ويَسْتَنُّوا بسنته، فإذا أنت بخير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين؛ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضارباً بكل مثبط عرض الحائط، ليخرج في وداعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة : [[يا خليفة رسول الله؛ لتركبن أو لأنزلن. فيقول: والله لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليَّ أن أُغَبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة، وإن شئت أن تُعينني بـابن الخطاب فافعل]]. ثم يقولها أخرى: [[لو يعلم الناس ما أنا فيه لأهالوا عليَّ التراب]].

عَضْبُ العزيمة في المكارم لم يدع>>>>>في يومه شرفاً يطالبه غدا

ورُوِى عن الفاروق : أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه، فقال له: [[يا أمير المؤمنين! أغناك الله وأرضاك، وخَوَّلَك الله وأعطاك، فما يَحْمِلُك على ما أنت فيه؟ قال: إن ما تقوله حق، لكن لما جاءت الوفود سامعة مطيعة، دخلتني نخوة، فأردتُ أن أَكْسِر تلك النخوة في قلبي، ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من الأنصار، فأفرغها في جرارها]].

فمن يباري أبا حفص وسيرته>>>>>ومن يُحاول للفاروق تشبيها

ثم ينادي عمر يوماً: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا، وقالوا: الأمر خطب وعظيم، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: [[أيُّها الناس؛ لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر، أو قبضة من زبيب، فأظل يومي وأي يوم، وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر.

فقال ابن عوف رضي الله عنه: وَيْحَك يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية، فقال: ويحك يـابن عوف ! لقد خلوت بنفسي فحدثتني فقالت: أنت أمير المؤمنين، من ذا أفضل منك، فأردت أن أُذِلَّها وأُعَرِّفَها قدرها]].

كذلك أخلاقه كانت وما عُهِدَت>>>>>بعد أبي بكر أخلاقٌ تُحاكيها

لعل في أمة الإسلام نابتة>>>>>تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: [[رأيت عثمان رضي الله عنه نائماً في المسجد في ملحفةٍ له، ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين]].

ظهر الحيا وانهل ذاك البارق>>>>>ونداك فياح ومجدك سابق

وتقسم الناس الحياء مجزءاً>>>>>فذهبت أنت برأسه وسنامه

رضي الله عن عثمان ، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويُخْرِج ابن عساكر عن زادان أنَّ علياً رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضَّال، وينشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبيَّاع والبقَّال، فيفتح عليه القرآن.

ويرد في صفوة الأخبار : أنه اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفة ، فقال له رجلٌ: أحمل عنك يا أمير المؤمنين. قال: [[لا. أبو العيال أحق أن يحمله]] ما تواضع أحد لله إلا رفعه.

فَرع سَما في سماء العز مُتخذاً>>>>>أصلاً ثوى في قرار المجد مغروسا

و خالد ما خالد ؟

أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ما هُزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في أوج انتصاراته، يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصلحة يراها أمير المؤمنين، فيقول خالد: [[والله لو وَلَّى علىَّ أمير المؤمنين عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت، ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم]].

لانت مَهزَّته فعز وإنما>>>>>يشتد بأس الرمح حين يلين

وقيل لـعمر بن عبد العزيز رحمه الله: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لأَن أَلْقى الله بكل ذنبٍ غير الشرك أحبُ إليَّ من أن أراني أهلاً لتلك المنزلة، اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن يَنال رحمتك، لكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر".

ينسى صنائعه والله يظهرها>>>>>>>>>>إن الكريم إذا أخفيته ظهرا

ويأتيك الإمام مالك يَبْرق في ثوب التواضع يَرْفُل عزاً، فيقول: ما رأيت مسلماً إلا وظننت أنه خير مني.

وكذا السحائب قلما تدعو إلى>>>>>معروفها الرواد إن لم تبرق

واسمع إلى ابن القيم وهو يُحَدِّث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله فيقول: كان كثيراً ما يردد: ما لي شيء، ما منى شيء ولا فِيَّ شيء.

أنا المُكَدِّي وابن المُكَدِّي>>>>>وهكذا كان أبي وجدي

ويكتب بخط يده:

أنا الفقير إلى رب البَرِيَّات>>>>>أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظَلُوم لنفسي وهي ظالمتي>>>>>والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ>>>>>ولا عن النفس لي دفع المَضَرَّات

والفقر لي وصفُ ذات لازمٌ أبداً>>>>>كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعِهم وكلهم عنده عبداً له آتي

يُثْنى عليه في وجهه فيقول: والله إني لإلى الآن أجدد إسلامي في كلِّ وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً.

رحمه الله! كأن القائل يعنيه يوم قال:

فَصَعَدت في دَرج العُلا حتى إذا>>>>>جِئْت النُّجوم نزلت فوق الفَرْقَد

على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم، لم يتسلل العُجْب إلى نفوسهم، ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم، تواضعوا لله فرفعهم الله، وفي الدنيا والآخرة يكرمهم بإذنه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

بتنا نعيش على كرام فعالهم>>>>>هيهات ليس الحر كالمستعبدِ

أين الجبال من التلال أو الربى>>>>>ين القوي من الضعيف القعددِ

لا القوم منا لا ولا أنا منهم>>>>>إن لم أفقهم في العلا والسؤددِ

إن عد أهل التقى كانوا أئِمتهم>>>>>أو قِيل من خير أهل الأرض قِيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم>>>>>ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزِمت>>>>>والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

إلى من عَمِي في شمس نهاره، وعَثُر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذُبَاب على الشَّراب، وتَهَافت تهافُت الفَراش على الشِّهاب، إن العُجْب أَكْذب، ومعرفة النفس أَصْوب، ولا شيء -والله- أنفع لها من الافتقار إلى بارئها.

بقدر الصُعود يكون الهُبُوط>>>>>فإيَّاك والَّنفخة العاتية

وكن في مكان إذا ما وقعت>>>>>تقوم ورجلاك في عافية

الإيمان بأن المستقبل لهذا الدين

الحادية والعشرون: لا تكن يائساً.

فالمستقبل لدين الله، والعزة لأولياء الله، منا من رأى تَفَشِّي الشر والمُنْكر وانْتِشاره واستفحاله، رأى العدو تَبَجَّح وتَقَوَّى؛ وتحت ظِل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئاً، ولن نَجْنِي سوى التعب والمشقة، فليس إذاً في السعي فائدة، فإذا بك تنظر إليه مُتَجَهِّم الوجه، عاقد الحاجبين، مُقَطِّب الجبين، رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر .

يحسب يوم الجمعة الخميس، مُردداً حين يُطْلب منه خدمة دينه ولو بكلمة: (أنت تُؤَذِّن في خرابة، لا أحد حولك، وتنفخ في قرب مقطوعة) وغيرها من العبارات.

تصدا بها الأفهام بعد صقالها>>>>>وترد ذكران العقول إناثا

هَلَك النَّاس في نظره، وقد هلك.

وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه النفسية وصفاً دقيقاً في قوله ما ثبت عند مسلم: ( إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم).

مبشرات بانتصار الدين

معاشر المؤمنين: ممَّا لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوياً أبد الآبدين: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6]. إننا نملك إيماناً بنصر الله لنا، وثقةً بتأييده لنا، ويقيناً بِسُنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده الذي وعد به المؤمنين: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور:55].

إنه وعد يَشْحَذُ الهِمَم، ويستثير العزائم، ويملأ الصدور ثقةً وإيماناً بأنَّ الدور لنا لا علينا، والتاريخ معنا لا علينا إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:172-173] سُنَّة الله رب العالمين: {لا تزال طائفة من أمتي -أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق منصورة لا يضرها من خالفها}، {وليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل} كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

فأنت -أيها المؤمن- أَجِير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت، وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأَجِير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، ومعه الرجلان، والثلاثة، ويأتي من ليس معه أحد: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].

وآية الآيات في هذا الدين أنَّه أشد ما يكون قوة، وأَصْلَب ما يكونُ عُوداً، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً، حين تنزل بساحته الأزمات، وتُحْدِق به الأَخْطار، ويَشْتَد على أهله الكُرَب، وتضيق بهم المَسَالك، وتُوْصَد عليهم المنافذ؛ حينئذٍ يحقق الإسلام مُعْجزته، يَنْبَعِث الجُثْمان الهامد، يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق، ينتفض، يقول فَيُسْمِع، ويمشي فَيُسْرِع، ويضرب في ذات الإله فَيُوْجِع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يَتَشجَّع، وإذا الضعيفُ يَتقوى، وإذا الشَّتِيت يتجمع، وإذا بهذه القطرات المتتابعة والمتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً، لا يقف دونه حاجز ولا سدّ.

..............>>>>>لا يزخر الوادي بغير شعاب

..............>>>>>وهل شمس تكون بلا شعاع

الأمة بين الانتصارات والهزائم

إن هذه الأمة تَمْرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.

حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرَّمِيم، دَمَّروا المُدن، وخَربَّوا العُمْران، وأسالوا الدِماء، وأسقطوا الخلافة، وعطَّلُوا الصلوات، وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حتى أصْبَحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة بهذا الغزو الوحشي، الذي لا يبقي ولا يذر، والذي يُذَكِّر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج، حتى أحجم بعض المعاصرين للحَدَث عن الكتابة فيه، ومنهم ابن الأثير يرحمه الله الذي يقول: ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً؛ مما رأى ومن هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين، ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِّسَت ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً، وأن أمة الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة، فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد.

ولم يمضِ سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام، فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام، فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين، تحت تأثير العقيدة الإسلامية، فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين، على خِلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب المنصور و لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4].. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [فاطر:44].

لا تيئسوا أن تستردوا عزكم>>>>>فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى

وتجشموا للعز كل عظيمةٍ>>>>>إني رأيت العز صعبٍ المرتقى

إنَّ قراءة متأنية في تاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سيتغير، فاسمع إلى ابن كثير، وغيره من أهل السير وهم يسردون لك ذلك الحدث.

في ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس ، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفاً، منهم الأئمة والعلماء والمُتَعبدون والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها، فلا يجدون مخرجاً إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاسوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيراً، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس ، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها أن الله ثالث ثلاثة -جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق ، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لـبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.

كم طوى اليأسُ نفوساً لو رَعَت>>>>>مَنْبِتاً خصباً لكانت جوهرا

ويمضي الزمن، ويُعَدُّ الرجال، وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبدئهم هم:

إن القوي بكل أرض يُتَّقى

وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تُعَجِّل له هذا الأمر، وهذه المَكْرُمة، فإذا بالرسالة على لسان المسجد الأقصى:

يا أيها الملك الذي>>>>>لمعالم الصُلبان نَكَّس

جاءت إليك ظلامة>>>>>تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طُهِّرت>>>>>وأنا على شرفي أُنَجِّس

فانتخى وصاح: وا إسلاماه، وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل.

من ذا يُغِير على الأُسود بِغَابها>>>>>أو مَنْ يَعُوم بِمسْبَحِ التِّمساح

وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتصالح ملوك النصارى، وجاءوا بِحَدِّهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتَقَدَّم صلاح الدين إلى طبرية ، ففتحها بـ لا إله إلا الله، فصارت البحيرة إلى حوزته، ثم استدرجهم إلى الموضع الذي يريده هو، ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء، إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.

وعندها تقابل الجيشان، وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصُّلبان عشية يوم الجمعة، واستمرت إلى السبت، الذي كان عسيراً على أهل الأحد، إذ طْلعت عليهم الشمس، واشْتَدَّ الحر، وقوي العطش، وأُضْرِمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش التي كان تحت سنابك خيل الكفار؛ فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح، وحر رشق النبال، وحر مقابلة أهل الإيمان.

وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان، ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويؤسر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفاً، حتى قِيْل: لم يَبْقَ أحد، ويؤسر منهم ثلاثون ألفاً، حتى قيل: لم يُقْتل أحد.

فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً يربطهم في طُنب خيمته، وباع بعضهم أسيراً بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيراً بكلب يحرس له غنمه.

ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس ، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيئس؟

الرءوس لم تُرفع من سجودها، والدموع لم تُمْسح من خدودها، يوم عادت البِيَعُ مساجد، والمكان الذي يُقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة، صار يُشهد فيه أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من جهته الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير ويخرج ذليلاً، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيراً للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.

ودخل المسلمون بيت المقدس ، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالأذان، وَوَحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون، وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين .

ورقي الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].

معاشر المؤمنين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجُمَع، ولم تعطل فيه الجماعة، ومع ذلك:

يَئِسَت أَنْفُس ونامت عيون>>>>>فجراح تغدو وتأتي جراح

فأين النَّجم من شمسِ وبدرٍ>>>>>>>>>>وأين الثعلبان من الهزبر

المؤمن واطمئنانه إلى نصر الله

المؤمن لا يعرف اليأس، ولا يفقد الرجاء؛ إذ هو واثق بربه، ثم هو واثق بحق نفسه، ثم واثق بوعد الله له، إن مرت به مِحْنة اعتبرها دليل حياة وحركة، فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وإنَّما يُضْرب ويُؤْذى المتحرك الحي، المُقَاوم كالحديد، يدخل النار فيستفيد، إذ يذهب خبثه، ويبقى طيبه.

يؤلف إيلام الحوادث بيننا>>>>>ويجمعنا في الله دين ومذهب

إن علينا معشر المسلمين أن نكون بحجم التحديات في صبر وثبات، ولسان حال كل واحد منا:

فيقصر دون باعي كل باع>>>>>ويحصر دون خطبتي الخطيب

إني أبي أبي ذو مغالبة>>>>>وابن أبي أبي من أبيينا

إن الوصول إلى القمة ليس الأهم، لكن الأهم البقاء فيها، إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس -والله- الدواء في بكاء الأطلال، وندب الحظوظ، إنه في الترفع على الواقع بلا تجاهل له، الاستعلاء النفسي عليه في تحرير الفكر من أوهاقه ويأسه وخباله، بالإرادة الحرة القوية الأبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية.

إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل؛ شُجَّ وجهه، وكُسِرت رباعيته، وانْخَذل عنه من انخذل، وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقاً منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين، ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وهذا يدل على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم.

و أبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته، بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة فذة من واقع إلى واقع، في تأبٍّ على اليأس، وترفعٍ على الهزيمة، وحاله:

فليس يجلي الكرب رأيُ مسددٍ>>>>>إذا هو لم يؤنس برمحٍ مسددِ

إنما يأتي النصر لمن يستحقه

إن المستقبل لهذا الدين بلا منازع، لكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية، وإنما هو بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من مُنْطَلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة ، ووعد الله لن يتخلف، ولكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله.

فإذا حاولت في الأفق منى>>>>>فاركب البرق ولا ترض الغمام

وما السيف إلا زبرة لو تركته>>>>>على الخِلقة الأولى لما كان يقطع

ألا إنني لا أركب اليأس مركبا>>>>>ولا أكبِر البأساء حين تغير

نفسي برغم الحادثات فتية>>>>>عودِي على رغمِ الكوارثِ مورِق

أيها اليائس مت قبل الممات>>>>>أو إذا شِئت حياة فالرجا

لا يضِق ذرعك عند الأزمات>>>>>إن هي اشتدت وأمل فرجا

البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت>>>>>والماء يأسن إن أقام طويلا

صانع السيف كمن يشهره>>>>>في سبيل الله بين الجحفل

حقق الله لنا آمالنا>>>>>وعلى الله بلوغ الأمل

هذا مجمل ما أردت قوله، وأرجو الله ألا أكون ممن تخدعه الشمس بطول ظله، أو تغره النفس بكثرة وقله، إن هي إلا إشارات؛ بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال في بطون المؤلفات، لم آت فيها على آخر فرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية في الإفادة، قد قلت بمقدار ما اجتهدت، وما شهدت إلا بما علمت، ومن جعل أنفه في قفاه؛ فإنما السوءة أن يفتح فاه، على أنني كنت قد عجزت، ووعدت بالكلام أكثر فما أنجزت، لكن لا ضير أن أصف النجم في سراه، وإن لم أستقر في ذراه، إن هي إلا لبنة على الطريق، وأرجو أن تكون بقدر الياقوت والعقيق، وما أُراني بعد قد شفيت غُلة النفس، وبلغت بها أمنيتها؛ فإنها تنظر إلى كثير وكثير، وأما أنا فإني أشد فقراً إلى عون الله وتثبيت وتوفيق.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع بهذه الإشارات القليلة، وأن يتقبل منا ومنكم ويصلح السريرة، ويحسن الطوية؛ هو ولي ذلك والقادر عليه.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , على الطريق [1، 2] للشيخ : علي عبد الخالق القرني

https://audio.islamweb.net