اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , صفة الجنة للشيخ : علي عبد الخالق القرني
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً:
قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ>>>>>شُؤْماً لظالِمِهِ وللمظلومِ
لمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا>>>>>واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في روضة من رياض الجنة، لو أذن الله -عز وجل- لنا أن ننظر من يحفُّنا في هذا المكان لرأينا الملائكة تحفُّنا، ولرأينا السكينة تتنزل علينا، ولرأينا الرحمة تغشانا، وفوق ذلك كله أن الله -عز وجل- يذكرنا في ملئه الأعلى سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].. أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
فيا عبد الله! طوبى لك يوم جئت إلى هذا البيت في ضيافة الرحمن لتنتفع بذكر قد سمعته ولكن: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
فَأَكْثِرْ ذكرَهُ في الأرضِ دأباً>>>>>لِتُذْكَرَ في السماءِ إذا ذُكِرْتَا
ونَادِ إذَا سَجدتَّ لَهُ اعتِرافاً>>>>>بِمَا نَاداهُ ذُو النونِ بنُ متَّى
تفِتُّ فؤادَك الأيامُ فتّاً>>>>>وتَنْحَتُ جِسمَكَ السَّاعات نَحْتاً
وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ>>>>>ألا يَا صَاحِ أنْتَ أرِيدُ أنتا
فلا تقل الصِّبَا فيه مَجَالٌ>>>>>وفكِّرْ كَمْ صبيٍّ قد دَفَنْتَا
إذا مَا لَمْ يُفِدْك العلمُ شيئاً>>>>>فليتَكَ ثمَّ ليتَك ما عَلِمْتَا
وإنْ ألقَاكَ فهمُكَ في مَغَاوٍ>>>>>فليتكَ ثمَّ ليتَكَ ما فَهمْتا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرة أخرى، وأنتقل بكم إلى قول الحق تبارك وتعالى : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [المؤمنون:115-116].
لا إله إلا الله! لم يخلق الناس عبثاً ولم يتركهم سدى؛ بل خلقوا لأمر عظيم وخطب جسيم؛ عرض على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنَه وأشفقْنَ منه، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه ظلماً وجهلاً فانقسم الحاملون له إلى فريقيْن: فريق عطَّل تفكيره، وانساق وراء شهواته وملذاته؛ كل همِّه إرضاء نزواته وإشباع غرائزه؛ بشرٌ في مسلاخ دواب -أجار الله هذه الوجوه أن تكون من هذا الصنف- نظرتهم قاصرة وعلمهم أقصر: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً منَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
أما الفريق الآخر -وأرجو الله أن أكون وأنتم منهم- آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، جعل خوف الله في قلبه، وجعل خشية الله نصب عينيْه، فأتمر بأمر الله وانتهى عن نهيه وراقبه حق المراقبة، وقال عند سماع أوامره: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
ومن كمال الألوهية لله سبحانه وتعالى أن جعل للناس يوماً آخر إليه فيه يرجعون، ويوفَّون ما اكتسبوه بالقسطاس المستقيم، فيصدرون من أرض المحشر راضين بعدل الله المطلق: أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] بلى. فائزين يُزفون إلى الجنة: فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمرن:107].
وآخرون خاسرون يساقون إلى النار فهم في العذاب محضرون، يبين ذلك قول الله جل وعلا: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107].
أيها الإخوة في الله: والإيمان بيوم الجزاء وباليوم الآخر ركن هام من أركان الإيمان؛ من لم يؤمن به لم يؤمن بالله جل وعلا.
لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن باليوم الآخر.
وعرض الجنة ونعيمها والنار وجحيمها أسلوب ناجح لإصلاح النفوس ولهدايتها ولتهذيبها ولكسر كبريائها أحياناً، ولحبسها أحياناً، فمن الناس من ينفعه الترغيب، ومن الناس من ينفعه الترهيب، ومن الناس من ينتفع بالاثنين معاً، وكل ذلك ورد في كلام الله جل وعلا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تقدم أحدهما مرة، وتأخر أحدهما مرة، واقْترَنَا مرة أخرى، وكل ذلك في كتاب الله جل وعلا.
ومن فضل الله عز وجل أن جلَّى لنا أمر الجنة، ووصف نعيمها، وأكَّد خلودها وكمالها من غير نكد ولا تنغيص ولا نقص، لا حر ولا برد، لا تعب ولا صخب ولا نصب، لا عجز ولا هرم؛ غمسة في الجنة تنسي كل شقاء في هذه الحياة، ثم أظهر -سبحانه- في الجانب الآخر حقيقة النار وعذابها؛ لهيب يتصاعد، وصراخ مفزع، وخوف وحميم وزقوم، وتقريع وتوبيخ وأهوال، وشهيق وزفير؛ غمسة فيها تنسي كل نعيم في هذه الحياة، نسأل الله أن يجير هذه الوجوه.
ذلك كله لماذا يا عباد الله؟
ليسعى المؤمنون إلى الجنة بلهفة وشوق مشرئبين إلى نعيمها ورياضها وقصورها، ذلك كله -أيضاً- لينأى الخلق عن النار بحذر وخوف، كل ذلك: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] كل ذلك: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37].
فيا أيها الإخوة في الله: تلك مقدمة ذكرتها لابد منها.
ونعرف السبل الموصلة إليها فنسلكها لنكون مع الذين أنعم الله عليهم، ففي رياضها نعيش وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين، أسكننا الله وإياكم فردوسها الأعلى برحمته ومنِّه وكرمه.
والفردوس ما الفردوس؟!
لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر.
بناها الله تعالى لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.
أما أشجارها، فما أشجارها؟
ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة.
أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل.
أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب.
ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستظل بظلال أشجارها، إنه غفور رحيم.
أما أنهارها فما أنهارها؟
أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلمون -يا عباد الله- أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: { ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] } نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة.
أما ماؤها -يا عباد الله- فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب.
أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور.
أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية!
فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً.
فيها روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان.
قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً.
فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم.
سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزاحم على تلك المصاريع.
أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة.
أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس!
وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!! حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ [الواقعة:17-18]. إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:19-20].
أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن يا عباد الله!
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [هود:108] في سعادة أبدية.
أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود.
وأما أزواجهم فالحور العين، ولنا وقفة مع الحور العين يا عباد الله!
وفي الحديث الآخر الذي روي في الصحيحين : { أن الله عز وجل بعد أن يقضي بين العباد، يبقى رجل مقبل بوجهه على النار، قد نجا منها، ولكنه لم يدخل الجنة، ولم يقدم إلى باب الجنة، فيقف، فيقول: يا رب! برحمتك اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها، وآذاني وسمَّني، وأحرقني ذكاؤها ولهبها، فيدعو ما شاء الله عز وجل أن يدعو، فيقول الله عز وجل له: هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فاصرف وجهي عن النار. فيصرف الله الرحيم الحليم الغفور وجهه عن النار. فيبقى ما شاء الله أن يبقى ساكتاً ثم يسأل الله مرة أخرى، فيقول: يا رب! برحمتك قدِّمني إلى باب الجنة، فيقول الله: ويلك يا بن آدم ما أغدرك، وما أظلمك! ألم تُعطِ العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك؟ قال: يا رب! برحمتك قدمني إلى باب الجنة. قال: هل عسيت إن أعطيتك ما سألت ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك. فيقدمه الله عز وجل إلى باب الجنة. فيبقى هناك، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم تنفتح له الجنة، فيرى حورها، ويرى قصورها، ويرى رياضها، ويرى نعيمها، فيقول: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. فيقول الله: ويلك يا بن آدم، ما أغدرك! ما أظلمك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك. قال: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة. قال: هل عسيت إن أدخلتك ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسأل غير ذلك، قال الله عز وجل ادخل الجنة -برحمته وكرمه ومَنِّه- فيدخل الجنة فيكفيه هذا. فيقول الله عز وجل له: تمنَّ يا عبدي فيتمنى، ثم يتمنى، ثم يتمنى، ويذكره الله -عز وجل- رحمة منه وفضلاً بالأماني التي يتمناها حتى تنقطع به الأماني، ثم يقول له: تَمنَّ، قال: لا أريد شيئاً يا رب! قال: فإن لك ما أخذت، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، وأنت فيها خالد: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]
يقول موسى -في الحديث الأول-: فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] فلا إله إلا الله! ما أرحم الله! وما ألطف الله! وما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته، سبحانه وبحمده!
سُبحَانَ مَنْ يَعفُو وَنَهْفُو دَائِماً>>>>>ولا يزَل مهما هفا العبد عَفَا
يعطي الذي يخطى ولا يمنعه>>>>>جلاله عن العطا لذي الخطا
خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض أو جزءاً واحداً من هذه الرحمة؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس -وهو في الموقف- بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء؛ ارحمنا برحمتك.
والله! لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْئسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة.
ووالله! لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبداً حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة.
إخوتي في الله: هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم.
وأقول لكم: لا إله إلا الله! ماذا يصف الواصفون في أزواج أهل الجنة، إنهن الحور، وما الحور يا عباد الله؟
كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة! قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر! إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين! وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين!
يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً.
لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله! وسبحان الله والحمد لله والله أكبر!
لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم.
نصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد على طول الدهور والأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، لا يُمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها؛ فهن قاصرات الطرف، لا تطمح لأحد سوى زوجها، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته؛ فهي معه وهو معها في غاية الأمان، لم يطمثها قبله إنس ولا جان.
كلما نظرت إليه ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.
هن الخيرات الحسان، هن العُرُب المتحببات إلى الأزواج.
ما ظنُّكم -يا أيها الإخوة في الله- بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة! وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال.
إن طال لم يملل وإن هي حدثت>>>>>ودَّ المُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ
سبحان من صورها! سبحان من عدلها! سبحان من أنشأها! سبحان من جعلها للمؤمنين الصادقين! سبحان من جمعني وإياكم في روضة من رياض الجنة، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في روضة من رياض الجنة عنده.
إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.
لكن هناك حوراً من نساء أهل الدنيا صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلاً من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاء.
وأقف معكم ومع ابن الجوزيعليه رحمة الله في -رياض السامعين- وهو يصف مشهداً من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيد ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول : فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ضمِنه لنا.
انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الإخوة! بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها، قال: فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه، وإذا بها تقول: يا ولي الله! أما لنا فيك دولة؟ أما لنا فيك نصيب؟
تعرض خدماتها عليه، تعرض نفسها عليه، فيقول: بالله من أنت؟
قالت: أنا ممن قال الله فيهن: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب ويقول: لم؟!
قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك.
قال: أو أنت لي؟!
قالت: نعم. جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي.
قال: فيعتنقها أربعين عاماً لا تمله ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة.
فلا إله إلا الله! أي نعيم هذا النعيم؟!
وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]. يقول: مكتوب بالنور على اليمنى الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74] وعلى اليسرى: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة -كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين - قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران، فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طرباً من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية.
ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام.
ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء! يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء! يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الإخوة؟ يقول: فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاء.
فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن:
نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ>>>>>نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن
نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ>>>>>نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ
نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ طوبى لمن كان لنا وكنا له
فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن:
نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ>>>>>نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ
نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ>>>>>نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّ
تقول عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن.
يا من سمع هذه الكلمات! لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت، إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم.
أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة! يرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتاً يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت.
قال ابن عباس ويرسل ربنا>>>>>ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع >>>>>الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي>>>>>بلذاذة الأوتار والعيدان
خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.
أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن لا أنام حتى أختم هذه الثلاثين ختمة، ويختم تسعاً وعشرين فيغلبه النوم، فينام فيرى حورية من حوريات أهل الجنة تأتي فتركله برجلها، وتقول:
أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ>>>>>ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام
لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ>>>>>كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيام
فقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد، وقال: برحمة الله لأجتهدن إلى أن أنال هذه الحورية.
وأبو سليمان الداراني -عليه رحمة الله- ينام ليلة من الليالي، وهو عابد زاهد عبَد الله، وأخلص لله، وصدق مع الله، يمني نفسه بما في الجنة من نعيم، فيقول في ليلة من الليالي نائماً -والنفس أحياناً تحدث بما ترغب وبما تريد وبما تحب- قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون يا أبا سليمان ؟! أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!
لا إله إلا الله! فما نام بعدها إلا قليلاً؛ جد وطلب ليلحق بها.
وأبو سليمان كانت له رحلة الحج المعروفة، والتي ذكرها صاحب حادي الأرواح -عليه رحمة الله- يقول: رافقه شاب عراقي في طريقه إلى الحج، قال: فما رأيت هذا الشاب إلا باكياً أو تالياً أو مصلياً؛ نركب فيتلو القرآن، ننزل فنصلي فيصلي، ويذكر الله، لا يتكلم بكلام إلا بذكر الله أو بالصلاة والقيام، قال: فقلت: لا أسأله ولا أشغله، وعندما رجعنا من رحلة الحج، ووصلنا إلى بلاد العراق . قال: قلت له: أيها الشاب أسألك بالله؛ ما الذي هيَّجك على العبادة لا تفتر عنها؟
قال: يا أبا سليمان ! أما إن سألتني؛ فإني رأيت -فيما يرى النائم- حورية في قصر من ذهب، وقصر من فضة، له شرفتان من زبرجد وياقوت، وبينهما هذه الحورية مرخية شعرها لم أرَ جمالاً كذاك الجمال، وهي تقول لي: جِدّ إلى الله في طلبي؛ فإني أربى لك في الخدور من خمسمائة عام، فوالله برحمة الله! وأقسم على الله برحمته! لأجتهدنَّ حتى أصلها أو أهلك دونها. والله! لا أرتاح حتى أبلغ تلك المنزلة.
هيَّجهم ذكر الجنة إلى الجنة، طيَّرت الجنة نوم العابدين من جفونهم، فتركوا الفراش، واتجهوا إلى الله في أسحارهم وفي لياليهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] يبيتون لربهم سجداً وقياماً.
يأتي أحدهم، فيفرش فراشه، ثم يضع يده عليه، ويقول: والله! إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَن، فيقوم ليله كله لا ينام.
هكذا -يا عباد الله- جَدُّوا إلى الله؛ لأنهم علموا ما عند الله.
ولا إله إلا الله -أيها الإخوة- كيف حال أسواقنا هذه الأيام؟
أسواقنا أشغلت المصلين عن صلاتهم، وأشغلتهم عن ذكر الله حتى يوم يُذكر الله يهربون من المساجد إلى الأسواق، إلى مجتمع الشياطين، أسواقنا فيها ما لا يعلمه إلا الله، ونسأل الله أن يعدل حال هذه الأسواق، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً؛ فما حالها في أسواقها بل حالها سيء في كثير وكثير، لكن نسأله برحمته أن يردنا إليه رداً جميلاً.
وأهل الجنة لهم سوق لكن أي سوق يا عباد الله؟
سوقهم يوم الجمعة، فيوم الجمعة من شرفه أنه سوق -أيضاً- لأهل الجنة؛ فيأتون كل جمعة، فيركبون نجائبهم، ودوابهم من ذهب وفضة ولؤلؤ إلى كثبان المسك، فيجلسون عليها، ثم يأتيهم الريح، فتأخذ من كثبان المسك، فترمي في وجوههم، وفي نواصي خيلهم ونواصي دوابهم، فيرجعون إلى أهلهم، وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلهم وزوجاتهم من الحوريات: والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم -والله- بعدنا لقد ازددتم حسناً وجمالاً.
هذا هو سوق أهل الجنة، سوق أهل الجنة يا من أشغله سوق الدنيا عن طلب سوق الجنة! اتق الله، وتاجر مع الله، وإياك إياك أن تقصر رجلك عن مثل هذه المجتمعات، ومثل هذه الروضات، كم من إنسان قصر رجله عن مثل هذا المسجد، فقصرت به قدمه وزلَّت به من على الصراط إلى كلاليب النار. نسأل الله العافية والسلامة.
يُعد الله -عز وجل- للذين يأتون إلى المساجد نزلاً في الجنة كلما غدوا وكلما راحوا فضلاً منه ونعمة.
نعيم الجنة لا ينفد، نعيم الجنة لا يبيد، نعيم الجنة لا يوصف، وإن من أعظم نعيم أهل الجنة -يا أيها الإخوة- حلول رضوان الله جل وعلا على عباده في الجنة، هذا من أعظم النعيم الذي ينالونه، وأعظم من ذلك التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم جلّ جلاله وتقدست أسماؤه.
ذلك اليوم يسمى يوم المزيد، يوم زيارة العزيز الحميد، تصور نفسك والله -عز وجل- يستزيرك ويزورك، لا إله إلا الله!
استمع ومَثَّل نفسك في روضات الجنة يوم يأتيك المنادي ينادي أنت وأهل الجنة: يا أهل الجنة! إن ربكم يستزيركم، فحي على زيارته.
لا إله إلا الله! من الزائر جل جلاله، وتقدست أسماؤه، سبحانه لا إله إلا هو! يقولون: سمعاً وطاعة. وينهضون إلى الزيارة مبادرين، وإذ بالنجائب أعدت لهم، فيستوون على ظهورها، وينهضون، فيستوون إلى الوادي الأفيح المبارك على كثبان المسك الذي جُعل لهم موعداً، ثم يأمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فيُنصب، ثم يأمر بمنابر لأهل الجنة منابر منوعة على قدر الأعمال من ذهب، من فضة، من لؤلؤ، من نور، من ياقوت، من زبرجد، وأدناهم -وما فيهم دنيء- على كثبان المسك؛ فلا إله إلا الله! ما أعظم نعيم الله في الجنة!
حتى إذا استقروا في مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي مرة: يا أهل الجنة! إن لكم موعداً عند الله يريد أن يُنجزكموه، فيقولون -وقد رضوا بما أتاهم من النعيم-: ألم يثقل موازيننا سبحانه وبحمده؟ ألم يزحزحنا عن النار؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يبيض وجوهنا؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبارجل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فيردون بصوت واحد: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم يضحك الله لهم -يقول أحد الأعراب: لا نعدَم خيراً من رب يضحك- ثم يقول: يا أهل الجنة! يا من أطاعوني بالغيب ولم يروني هذا يوم المزيد؛ فسلوني. فيقولون: ربنا قد رضينا فارض عنا. قال: لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، أحللت عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبداً، هذا يوم المزيد فسلوني.
لا إله إلا الله ما أكرم الله لا إله إلا الله ما أرحم الله!
يا أيها الإخوة: يعرض عليهم عرضاً، فيقولون: أرِنا وجهك نتلذذ بالنظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من النور، ما لولا أن الله عز وجل قضى ألا يحترقوا لاحترقوا من نوره: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [النور:35] لا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا حاضره ربه محاضرة، وكلمه ربه كفاحاً بلا ترجمان.
يقول الله: ألم تعمل كذا في يوم كذا ألم تعمل كذا ألم تعمل كذا فيذكره ببعض غدراته وزلاته فيقول: يارب ألم تغفر لي، قال: بمغفرتي بلغت ما بلغت.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم الغفار وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
فكيف تعلم؟
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة>>>>>وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم
هذا بعض ما أعده الله عز وجل لنا من النعيم في الجنة، يجمع هذا كله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وإن شئتم فاقرءوا: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] ) إنها الجنة وكفى، إنها الفردوس وكفى، إنها طوبى وكفى.
فللَّه ما فِي حشْوِهَا من مَسرةٍ>>>>>وأصناف لذَّاتٍ بها يَتَنَعَّمُ
وللهِ برد العَيشِ بيْنَ خِيامِها>>>>>وَرَوْضَاتهَا والثَّغْرُ فِي الرَّوض يبسِمُ
وللهِ واديهَا الَّذِي هُوَ موعد>>>>>المزيد لوفد الحب لو كنتَ منهُمُ
ولله أفْرَاحُ المحبِّينَ عندمَا>>>>>يُخاطِبُهُم مَولاهُمُ ويُسلِّمُ
ولله كمْ حوريةٍ إنْ تبسمتْ>>>>>أضاء لها نور من الفَجْرِ أعظمُ
فيَا لذَّةَ الأبصارِ إنْ هِيَ أقْبَلتْ>>>>>ويا لذة الأسماع حين تكلم
فيا خاطِبَ الحسناءِ إنْ كنْتَ بَاغِياً>>>>>فهذا زمانُ المَهرِ فَهْوَ المُقدَّمُ
فأقْدِمْ ولا تقنعْ بعيشٍ مُنغصٍ>>>>>فَمَا فاز باللّذاتُ مَن ليس يَقْدُمُ
وإن ضاقتْ الدنيَا عليكَ بأسرِها>>>>>ولَمْ يكن فيها مَنزِلٌ لك يُعْلَمُ
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنَّها>>>>>منازلُنَا الأُولَى وفيها المخيمُ
قدموا أموالهم ودماءهم وأوقاتهم وكل ذرة ونفس من حياتهم ثمناً للجنة ففازوا وأفلحوا، يحدوهم في ذلك ترغيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الجنة ونعيمها، يوم كان صلى الله عليه وسلم لا يضع جائزة إلا الجنة على أي عمل من الأعمال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الأمثلة في الجوائز: (من يجهز جيش العسرة وله الجنة ).. ( من يشتري بئر رومة وله الجنة ) من يعمل كذا وله الجنة ( من أقبل هذا اليوم ولم يدبر صادقاً محتسباً فله الجنة ) فتجده يرفعهم إلى الجنة دائماً، لا يضع شيئاً مادياً عندنا دنيوياً -وإنما يرفعهم على زخرف الدنيا إلى الجنة ونعيمها.
أرأيتم إليه يوم يرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه إليه قميصاً مخوصاً بالذهب، والقميص هذا للأكيدر ملك دومة الجندل ، يوم ذهب إليه خالد فأخضعه واستأسره وأخذ قميصه الذي عليه وكان مخوصاً بالذهب -موشى بالذهب- فأرسله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، يوم كنا نغزو ولا نغزى، يوم كنا نفرض شروطنا ولا تفرض علينا الشروط:
كم صرفتنا يد كنا نصرفها>>>>>وبات يملكنا شعب ملكناه
رباه! ارفع ما بالأمة. رباه! ارفع ما بالأمة فإنها قد ذلت وأي ذل! ولا رافع لهذا الذل إلا أنت سبحانك وبحمدك!
يا أيها الإخوة: يوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم هذا القميص نظر الصحابة وتجمعوا وقالوا: قميص من ذهب، والواحد منهم ما يجد ما يستر به سوءته، فأعجبوا بهذا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليرفعهم عن هذا الزخرف فقال -كما في البخاري -: (أتعجبون من هذا! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منه ) والله! لبعض ذاك المنديل خير من هذا عند الله جل وعلا، فكان يرفعهم فارتفعوا.
اسمعوا إليه يوم يأتيه محمد صلى الله عليه وسلم يدعوه ويدعوني ويدعوك ويدعو كل إنسان إلى قيام الساعة فيقول: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا}.
يريد أن ينقذهم من النار، لكن بعض الناس كالفراش لا يزال يرى النور فيتركه ويرمي بنفسه في النار.
فيقول أبو بكر -ماذا قال؟ أنفكر أو ننظر في هذا الأمر-: ما جربت عليك كذباً، أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، قبل ذلك مُدَّ يدك أبايعك.
فكانت أول يد امتدت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هي يد أبي بكر رضي الله عنه الذي هضم حقه ولعنه بعض الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم، فرضي الله عنه وأرضاه ولعن من أبغضه وعاداه.
يا أيها الإخوة: هل وقف أبو بكر بعد أن قال لا إله إلا الله؟
لا والله! بل قام بعد ذلك كلما سمع أمراً للمصطفى صلى الله عليه وسلم بلغه، وجاءه الصادون عن سبيل الله -يوم أُسري بالنبي- يقول رسولك -كما تزعم- أنه ذهب وعاد في ليلة، ونحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهراً، كانوا يظنون أن أبا بكر سيقول: أما هذه فلا، قال: إن كان قال فقد صدق.
يا ليت ذلك عنوان لنا في كل لحظة من لحظاتنا؛ يوم نسمع أوامر المصطفى؛ يوم نسمع أحاديث المصطفى نقول: إن كان قال فقد صدق، سمعنا وأطعنا.
فهل اكتفى بالتصديق فقط؟ لا. بل خرج من عند المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو لم يحفظ سوى بعض آيات من القرآن -لكنه رأى أن المسئولية عظيمة، وأن الخطب جسيم، وأن المؤمن له دور في بيته وفي مجتمعه، له دور سيسأله الله يوم يقف بين يديه: ماذا قدم لهذا الدين؟ وماذا عمل لهذا الدين؟ وعاد وقد أدخل ستة من العشرة المبشرين بالجنة في دين الله.
فلا إله إلا الله! يأتي يوم القيامة وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة. يأتي وهم في ميزانه يوم يلقى الله جل وعلا، وهل اكتفى بذلك؟
لا. بل صَفَّى تجارته وأمواله -أربعين ألفاً- ثم أخذها، فإلى أين يذهب؟ رأى المستضعفين من المسلمين ورأى الموالي الذين شهدوا أن لا إله إلا الله يوم رفض الشرفاء -كما يزعمون- والكبراء، رآهم يستضعفون ويذلون، خشي عليهم أن يفتنوا في دينهم، فقال: أتاجر مع الله. ونعمت التجارة في شراء هؤلاء وإعتاقهم لوجه الله تعالى.
يمر على بلال في بطاح -مكة- وأهل مكة! أعلم بشدة الحر في هذه البطاح- يمر عليه في الرمضاء وهو يضرب ويوضع فيها وتوضع الحجارة على صدره رضي الله عنه وأرضاه، وإذ به يقول: أحد أحد. يتعلق بالله فيقول له: أحد ينجيك أحد ينجيك. يعني الله الأحد سينجيك يا بلال ! ويذهب وهو يحترق لما يرى، فهل جلس في بيته وبقي يتكلم ويقول: إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
لا. بل ذهب وأخذ خمسة أواق من ذهب من حر ماله وذهب بها إلى أمية بن خلف ، إلى سيد هذا -مع أن بلالاً سيد له، وما كان سيداً الكافر أبداً- وقال: هذه خمس أواق من ذهب، أتبيعني بلالاً ؟ قال: أبيعكه لا خير فيه؛ لأنه استعصى عليه ورفض أن ينساق معه إلى النار، فأخذ منه الخمس الأواقي، وقال: والله! لو أبيت إلا أوقية واحدة لأعطيتك بلالاً ، فهو زاهد فيه، قال: والله! لو أبيت إلا مائة أوقية من ذهب لأعطيتك إياها؛ لأن لـأبي بكر معايير ومقاييس ليست لذاك ولأمثال ذاك من الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم.
فهل وقف عند ذلك؟
قام المستهزئون وقام الساخرون يقولون: ما أنفق أبو بكر هذا المال وأعتق بلالاً إلا ليد كانت لـبلال عنده أي: لنعمة ولمعروف قدمه بلال يريد أن يكافئه أبو بكر ، لكن الرد جاء ممن يدافع عن الذين آمنوا، من الله جل وعلا يأتي فوراً الرد وينزل به جبريل على المصطفى صلى الله عليه وسلم: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى [الليل:19] ما لأحد عند أبي بكر من نعمة تجزى: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل:20] ما جزاؤك يا أبا بكر : وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21].
من الذي وعده بالرضا؟ الذي خلقه والذي أمره والذي أعد له ما أعد، والذي جعل إعتاق الأرقاء من أعظم الأعمال.
فهل توقف أبو بكر عند هذا؟
لا والله! ما توقف وما كان له أن يتوقف. ووالله! لو استرسلنا في كلامنا عن أبي بكر لما كفانا هذا المجلس ولا مجالس أخر ولكن حسبنا منه هذه المواقف.
ماذا أعد الله عز وجل له؟
يدعى أما أبو بكر يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية، كل من باب، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هل أبو بكر فقط؟
ننتقل لغيره لنرى ونعلم أن هناك رجالاً قد قدموا وأننا إذا مشينا على ما مشوا عليه واقتدينا بما اقتدوا به وصلنا إليهم بإذن الله جل وعلا.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمد على كلام هذا ولا هذا وإنما خرج ليعاين البستانين ويعاين النخلة، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وحكماً بالعدل؛ لأنه يأخذ عن العدل سبحانه وتعالى.
وعندما وصل إلى ذاك المكان؛ فإذا بالنخلة في بستان الصحابي واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بغير حكم الله؟ لا. ما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحكم بالنخلة للصحابي فذرفت دموع اليتيم على خديه؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر كسر قلب هذا اليتيم؛ لأنه لم يدرك الحق. فقال لهذا الصحابي: أتعطيه هذه النخلة ولك بها عذق نخل في الجنة؟
لكن الصحابي كان في وقت غضب إذ كيف يشكوه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم والحق له! وكان في الجلسة رجل يتمنى مثل هذه الفرصة اسمه أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، قال: يا رسول الله! لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي العذق في الجنة؟ قال: لك ذلك. فيلحق بهذا الصحابي ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله. قال: أبيعكها. لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فباعه النخلة بالبستان كله، وذهب إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح ! ويا أبناء أبي الدحداح ! قد بعناها من الله فاخرجوا منها، فخرج ومع أطفاله بعض الرطب فقام يأخذه ويرميه فيها ويقول: قد بعناها من الله جل وعلا بعذق في الجنة، لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء واشترى عذقاً من نخلة عند الله جل وعلا.
فهل قال: انتهينا. لنا في الجنة عذقاً ويكفي، لا نصلي ولا نصوم ولا نعمل أي شيء. لا. فإن الذي بذل هذه سيبذل أعظم منها، بذل المال وبذل الأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة ثم في الأخير يقدم نفسه لله جل وعلا.
يخرج في معركة أحد؛ والتي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديداً، وربي فيها المؤمنون تربية عظيمة، وكسرت فيها رباعية المصطفى صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، يوم انتهت المعركة ذهب يفتش صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة عن أصحابه يتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح ، وإذ به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: { رحمك الله يا أبا الدحداح ! كم من عذق مذلل الآن لـأبي الدحداح في الجنة }.
لا إله إلا الله! ماذا خسر أبو الدحداح ؟! خسر تراباً؟! خسر شجيرات؟! خسر نخيلات؟! لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
هل هذا فقط في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ والله! إن الأمثلة لكثيرة وإن النماذج لعظيمة، ولكني أنتقل بكم إلى نموذج آخر قصير.
ذلك العبد الذي يؤمن في يوم ويتزوج وفي ليلته التي يدخل فيها على زوجته وبعد ما يقضي وطره من زوجته، وإذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي. يا خيل الله! اركبي. أيجلس مع هذه في كامل زينتها في أول ليلة من زواجه، خرج وهو جنب ليقدم نفسه إلى الله لتنتهي المعركة ويجدوه مضرجاً بدمائه، والمياه لا زالت تقطر من على رأسه وجسده، من أين جاءته المياه ولا مطر؟
فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة في صحاف من ذهب وفضة؛ فسلوا زوجه. ذهبوا لزوجته ليسألوها قالت: خرج وهو جنب.
خرج وهو جنب فغسل في صحاف من ذهب، بشرى له الآن وله عند الله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ذاك غسيل الملائكة والله! لن نبلغ مراتبهم حتى نتبع الطريق الذي اتبعوا، نتبع ذلك النور الذي أخذوا منه، والذي اقتبسوا منه، وإن لم نقتبس ونأخذ من ذلك النور فوالله! إنها الخيبة والندامة. نسأل الله ألا نكون من أهل الخيبة والندامة.
لا نقول ذلك فقط، بل سننتقل بكم إلى نموذج آخر في عصر متأخر.
يوم كانوا إذا أغاروا وجدوا الليوث أمامهم، يوم كانوا إذا أغاروا نيل منهم ما نيل ورجعوا ليدفعوا الجزية صاغرين، فماذا يعمل؟
ذهب إلى المسجد الذي تعقد فيه مؤتمرات المسلمين، والذي تعقد فيه كل مشاكل المسلمين لحلولها، والذي تطرح فيه الآراء ومنه تنطلق الجيوش والكتائب، والذي ما كان صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً إلا وانطلق من هذا المسجد يذهب أبو قدامة إلى المسجد، ويقف على منبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وينادي في الناس على المنبر في خطبة الجمعة -حضر النساء والرجال- نداء عظيماً ويقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف:10-11].. انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41]لم يترك آية من آيات الجهاد، ولا حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فاشرأبت الأعناق إلى الجنة وأرادت ما عند الله، منهم من يريد اثنتين وسبعين حورية من الحور العين، ومنهم من يريد ما هو أعظم من ذلك كالنظر إلى وجه الله الكريم.
فخطب أبو قدامة خطبته وصلى الناس، وكل في نفسه أن يدَّخر له عند الله منزلة بمشاركته في هذا الجهاد حتى النساء والأطفال، وخرج ذاهباً إلى بيته وبينا هو في الطريق في أحد الأزقة، وإذ بامرأة تقول: السلام عليك يا أبا قدامة ! قال: فقلت في نفسي: لعلها تريد أن تفتنني ؛ لأنه يعلم أن النساء في الغالب فتنة، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. قال: فلم أرد عليها. فقالت: السلام عليك يا أبا قدامة ! قال: فلم أرد عليها. قالت: السلام عليك يا أبا قدامة ! ما هكذا يفعل الصالحون. قال: فتوقفت. قال: فجاءت وقالت: يا أبا قدامة ! سمعت منك ما قلت على المنبر، سمعت آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ظرف أقدمه علَّني أن أكتب عند الله من المجاهدات في سبيله فقال: ماذا فيه؟ قالت: فيه ضفيرتان من شعري، والله! لم أجد ما أقدمه أغلى من هاتين الضفيرتين، اجعلهما لجاماً لفرسك في سبيل الله، علّ الله أن يكتبني في عداد المجاهدات في سبيله، فأجهش أبو قدامة بالبكاء، وقال: والله! هذا هو أول النصر.
هذه بشارة النصر؛ أن تقدم امرأة شعرها يوم لم تجد ما تقدمه إلا هذا، جادت بما لديها يوم لم تجد إلا شعرها وهو أعز ما لديها، فأخذه وذهب لبيته وبقي يجمع في الصفوف.
وفي اليوم الثاني ينطلق بكتائب الإيمان يريد أن يقابل الروم في موقعة من المواقع، وإذ بذاك الطفل يقابله، طفل صغير أمثاله عندنا لا زالوا يلعبون في الشوارع لا هدف لهم ولم يغرس فيهم أي هدف.
يقول يا أبا قدامة! أسألك بالله إلا جعلتني في عداد المجاهدين في سبيل الله.
قال: يا بني! أخشى عليك أن تطأك الخيل والإبل بأخفافها.
قال: أسألك بالله لا تحرمني الشهادة في سبيل الله.
أطفال -يا أيها الإخوة- بهذه الهمم؛ أسأل الله يجعل في الأمة رجالاً كهؤلاء الأطفال.
ويتقدم أبو قدامة مندهشاً فيقول: أقبلك بشرط واحد: إن استُشهدت في هذه المعركة أن أكون من شفعائك عند الله لأنك ستشفع في سبعين. قال: قبلت الشرط. فركب معه، وأبو قدامة يحار في تلك المرأة ويحار في هذا الصبي. ويقول: والله! جيش لجام الفرس فيه ضفائر امرأة وفيه مثل هذا الطفل يريد أن يموت في سبيل الله؛ جيش لا يهزم بإذن الله: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40].
أخذه رديفاً له على دابته، وبينما هم مقبلون على الروم، قال: يا أبا قدامة! وكان يحمل معه خرجاً لا يعلمون ما فيه- فقال: يا أبا قدامة ! أسألك بالله ثلاثة أسهم أرمي بها في سبيل الله. قال: يا بني! ستضيعها ولا نستفيد منها دعها لمجاهد يوغل بها في الروم. قال: أسألك بالله ثلاثة أسهم. قال: لا تنس الشرط. قال: لا أنساه. قال: فأعطاه ثلاثة. وعندما قابلوا الجيش أخذ الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! وأطلقه فقتل رومياً، ثم أخذ الثاني وقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! فقتل رومياً آخر، ثم أخذ الثالث فقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! سلام مودع ثم رمى به فقتل رومياً وجاءه سهم طائش فضربه في لُبته فسقط من على الفرس.
يقول أبو قدامة: فسقطت وراءه، وأقول له: يا بني! لا تنس الوصية، أي: لا ينسى أن يشفع له عند الله جل وعلا، قال: يا أبا قدامة ! خذ هذا الخرج وأعطه أمي، قال: ومن أمك؟ فقال: أمي صاحبة الضفيرتين.
الله أكبر! أُسَر يخرج منها أمثال هؤلاء هي أُسَر المؤمنين، هذه هي الأسر التي نرجو من الله أن يكثر من هذه الأسر في أسر المؤمنين.
فيندهش مكانه ويجهش بالبكاء ويجلس، ويقول: الله أكبر! جيش فيه مثل هؤلاء وفيه مثل هذه الأُسَر لا يهزم أبداً، أبشروا بالنصر أبشروا بالنصر.
ويأتوا ليدفنوه فيفتحوا له القبر ويضعوه وبينما هم يدفنونه إذ لفظته الأرض فتعجبوا وخافوا واندهشوا.
يقول ابن الجوزي : والموقف يستحق ذلك -أن يدهشوا- قال: فأخذتني سنة من نوم -والناس يدوكون ويقولون: لعله لم يستأذن أبويه، لعله مراء، لعله كذا .. مع أنه لم يبلغ الحلم، ولم يكلف بهذا كله- وإذ بمناد يناديني ويقول: يا أبا قدامة ! اترك ولي الله. يا أبا قدامة ! اترك ولي الله.
هؤلاء هم أولياء الله الذين أخذوا طريق الله وأخذوا طريق رسول الله؛ لا أولياء الشر والبدعة والخرافة، إن هؤلاء هم الأولياء.
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأخذ عن الوحي والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
وإذ بطير تنزل من السماء فتلقط لحمه من على عظمه حتى لا يبقى على عظمه شيء، وتأخذه إلى السماء.
قال: فزادت الدهشة. قال: ثم دفنا عظامه وذهبنا، وكان أن نصرنا في هذه الموقعة، ورجعنا بالخرج هذا لنذهب به إلى صاحبة الضفيرتين أم الولد لنعزيها في ابنها.
قال: فجئت إلى البيت وطرقت الباب فخرجت أخته وقالت: أمهنئ أم معز؟ قال: بل مهنئ. قالت: إذاً استشهد أخي. قال: إي والله لقد استشهد. قالت: إذاً فهنئنا، لقد روزئنا بأبينا فاحتسبناه عند الله، وروزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن روزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، فلنا ما لهم في الجنة عند الله.
فتخرج أمه فيقول: أحسن الله عزاءك في ابنك. قالت: أمعز. أم مهنئ قال: بل مهنئ. قالت: وما أدراك؟ قال: أنه شهيد. قال: لذلك علامة ذكرها لي.
فما كان منه إلا أن قام ليذكر هذه العلامة.
وقال: يوم أن دفناه لفظته الأرض وجاء الطير من السماء فالتقطت هذا اللحم فلم يبق إلا عظمه، قالت: إذا فهنئني الآن، إنه شهيد بإذن ربه تبارك وتعالى.
قال: فما هذا الخرج الذي أوصاني أن أعطيك إياه؟ قالت: أتدري ماذا فيه؟ ثم أخرجت ما فيه فإذا هو قيد وإذا هو لباس من صوف خشن.
قال: ما هذا يا أمة الله؟
قالت: كان إذا جنه الليل أخذ هذا القيد فقيد نفسه، ثم أخذ هذا اللباس فلبسه، ثم بقي طول ليله يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه يبكي ويضرع إلى الله، فإذا جاء وقت السحر -وقت نزول الرب تبارك وتعالى: {هل من داع فأستجيب له} يوم يأتي ذاك الوقت- يرفع يديه ويقول: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك، اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك.
طفل صدق الله فأعطاه الله ما سأل فله في الجنة ما لا عين، رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والنماذج -والله- كثيرة، ولن نتوقف عند ذلك، وإنما نأخذ بعض الأعمال التي توصلنا إلى ما وصلوا إليه يا أيها الإخوة.
سلعة الله غالية! سلعة الله الجنة! خلقها الله يوم خلقها وخلق فيها ما لا عين رأت ثم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها -كما في صحيح مسلم- فذهب إليها ونظر، فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فرجع وقال: يا رب! وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله بالمكاره -حفها الله بالتكاليف وبما يجب أن نعمله- ثم قال: ارجع ثم انظر إليها يا جبريل. فنظر فإذا هي حفت بالمكاره فعاد فقال: يا رب! وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد. يخشى ألا يدخلها أحد لما حفت به من المكاره.
يا أيها الإخوة: خلقها الله وجعلها دار رحمته وكرامته ورضوانه ثم قال لها. تكلمي. قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1].
فمن هم أهلها إذاً؟
أهلها المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، واقرءوا أول سورة المؤمنون.
أهلها من أطاع الله ورسوله فحققوا التوحيد، وأصلحوا العمل، واتبعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً [الفتح:17] وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهلها: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟) لا يتصورون أن هناك إنسان يأبى ذلك: (قالوا ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
أهلها من حاربوا البدع وأحيوا السنن وعلموا أن البدع مردودة ليس لها قبول، قبيحة ليس فيها حسن، ضلالة ليس فيها هدى، باطل ليس فيها حق، وزر ليس فيها أجر؛ لأنها شرع لم يأذن الله به، ولم تكن على أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا على أمر أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو عليه رد) وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة).
أهلها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام وحج وصدق مع الله واتبع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
أهلها من تركوا المراء: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً).
أهلها من ترك الكذب: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً).
من أهلها؟
أهلها من حسنت أخلاقهم: (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) يقول أحد السلف : ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة.
أهلها أهل قيام الليل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].
أهلها الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].
أهلها من بذلوا أنفسهم ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولما كان الأمر والنهي يجد الإنسان في طريقه المتاعب ويجد المشاق، جعل الله له في الجنة جزاء عظيماً، اسمع لـأبي هريرة رضي الله عنه يوم يذكرك بهذا الجزاء، فيقول: [[ إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف، كلهن مثل جمالها، تقول هذه العيناء: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ ]] عوضاً لهم عما لقوه في الدنيا من أذى، عوضاً عما لاقوه من مشقة، واستهزاء وسخرية.
من أهلها؟
أهلها من باتوا لا يحملون على أحد حسداً. أهلها أهل العفو. أهلها من ضمن ما بين لحييه وما بين فخذيه.
أهلها من أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، ووصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.
أهلها من راقبوا الله جل وعلا في كل حركة من حركاتهم وسكناتهم وعلموا كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ( أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك خمسمائة عام ومن فوق ذلك عرش الرحمن ) الله مستو عليه عال عليه بائن من خلقه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] يجب أن نستشعر هذا.
الله عز وجل معنا بعلمه، ومعنا بقدرته، لا يمكن أن نذهب عن نظر الله طرفة.
إن بعض الناس يوم يعصي الله يستتر بالجدران ويستتر بالحيطان ونسي الواحد الديان.
لا تنظر إلى المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
ألا أن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة! هبت رياح الجنة فاغتنموها لتفوزوا بنعيمها: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] ألا فالسباق السباق! ألا فالبدار البدار! جددوا السفن فإن البحر عميق، وأكثروا الزاد فإن السفر طويل، وخففوا الحمل فإن العقبة كئود: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
يا مذنباً! أذنب وأساء وكلنا ذاك المذنب، يا مخطأً أخطأ وزل وكلنا ذلك المخطأ والزال؛ عودة إلى الله: (خير الخطائين التوابون) يقول الحق تبارك وتعالى: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة) ما أرحم الله! ما ألطف الله! ما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتوب علينا.
من لنا إلا أنت يا ربنا إن لم تتب علينا.
(يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).
فلنستغفر الله، ولنعد إلى الله. والله! نحن بحاجة إلى التوبة -ملتزمنا ومنحرفنا وضالنا- أحوج من الماء والطعام واللباس؛ لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة، وقيل: مائة مرة صلى الله عليه وسلم وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ثم اعلموا: أن المولود إذا ولد نؤذن في أذنه اليمنى، فإذا مات نصلي عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان والصلاة. ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! أتقصر بالمعاصي؟! أتقصر بالشهوات والجري وراء الغرائز والنزوات؟! ما قصَّرها بهذا إلا شقي. ونسأل الله ألا يكون بيننا شقي.
فإياكم و(سوف) وإنما عزمة إلى الله وانتبهوا من (سوف) فإن (سوف) جندي من جنود إبليس: سوف أعمل، سوف أعمل:
أعماركم تمضي بسوف ورُبما >>>>>لا تجتنون سوى عسى ولعلما
هم المسوف كالتعلق بالسما
أعماركم تمضي عجالى>>>>>إنما أنتم على سفر من الأسفار
كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريباً من قبابها.
بشرها دليلها وقال>>>>>غداً ترين الطلح والجبالا
فحي على جنات عدن فإنها>>>>>منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها>>>>>وحي على عيش بها ليس يسأم
أيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى>>>>>صريع الأماني عما قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده>>>>>سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى>>>>>كذاك علا فِيِه المهيمن يختم
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا.
اللهم إنا نحن عبادك الفقراء إلى رحمتك فارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء.
اللهم جازنا بالإحسان إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً. اللهم اجعلنا منصرفين منه وقد كتبت لنا أن نسكن رياض جنانك.
اللهم لا تحرمنا نعيم الجنان. اللهم ويسر لنا الطريق إليك إنك على كل شيء قدير.
اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة إنك غفور رحيم، وبالإجابة جدير.
اللهم إنا نسألك من فضلك الكريم، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مغفوراً له، وإذا مشى كنت معه بسمعك وبصرك وأنت الله لا إله إلا أنت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , صفة الجنة للشيخ : علي عبد الخالق القرني
https://audio.islamweb.net