إسلام ويب

إن متاع الدنيا الزائل من مال وولد وأزواج إنما ينتفع به العبد إذا راعى فيه مرضاة الله عز وجل، والنفس البشرية جبلت على حب جمع المال، والانقباض عند إخراجه وإنفاقه، إلا نفس المؤمن الطائع لربه، الذي يعلم أن إنفاقه في سبيل الله سبب لمرضاته سبحانه، والفلاح والفوز بجنته.

تابع التحذير من فتنة المال والزوجة والولد وبيان فضل العفو والصفح والغفران وعلاج شح النفس

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضي عنهم. آمين.

ما زلنا مع النداء السابع والثمانين، فهو نداء طويل، ويشتمل على عدة واجبات.

وسنعيد تلاوته مرة أخرى، ثم نراجع المعارف التي استفدناها منه بالأمس، ونستعرض ما جاء فيه من الهدى؛ رجاء أن تستقر في أذهاننا، وأن نتهيأ للعمل بها، ولا حرج ولا أذى في والتكرار والإعادة، ونحن نحفظ عن أهل العلم قولهم: الشيء إذا تكرر تقرر. وها نحن على أبواب ختام هذه النداءات، ولذلك لن نستعجل؛ ففي العجلة الندامة، وفي التأني السلامة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:14-16]. اللهم اجعلنا منهم.

بيان كون بعض الأولاد والأزواج أعداء

اعلموا أولاً: معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أن قوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] هو نداء، نادانا به الرحمن عز وجل؛ ليخبرنا أنه يوجد من بعض أزواجنا وبعض أولادنا من هو عدو لنا. وهو الصادق في كل أخباره، وهو العليم الخبير، والحكيم العليم، والرحمن الرحيم. وكلامه صدق ورب الكعبة، وإذا لم نصدق العليم الحكيم لم نصدق أحداً.

والمخرج حتى نحذر من عداوتهم أنه يجب أن نعيش على يقظة، ولا نغفل ولا نجهل، ولا ننسى ولا نعرض، بل نعيش على البصيرة دائماً، ومادام يوجد من بين أزواجنا وأولادنا من هو عدو لنا فإن هذه الحال تقتضي منا أن نعيش على أكمل اليقظة، وأتم البصيرة.

ومتى شاهدنا الزوجة تظهر بمظهر العدو لنا، وتريد أن تمنعنا من عبادة الله وطاعته وذكره فيجب أن نعلمها أنها في هذا الموقف هي في موقف عدو، وأنه لا طاعة لها ولا سمع، ولا اطمئنان ولا سكون إليها، حتى تعود إلى رشدها وصوابها، وتقف معنا موقف الحبيب مع حبيبه، لا العدو مع عدوه.

وكذلك إذا شاهدنا من الأولاد بنيناً أو بناتاً من هو عدو لنا فلنحذر ولنستيقظ، ولنتفطن ولننتبه، ولا نجعلهم أعداء حقيقيين لنا، ولا نمكنهم من أنفسنا؛ حتى لا يحرموننا من عبادة الله وطاعته والتقرب إليه. وهم قد يحملون العبد على ترك الهجرة.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ...)

نزلت هذه الآية كما علمتم في جماعة من المؤمنين في مكة، منعهم أزواجهم وأولادهم من الهجرة، فكانت المرأة تشتكي والابن يبكي، ويقولان: لا تتركنا وتهاجر، فصدقوهم، فعوقوهم بعض سنين عن الهجرة. ثم لما هاجروا وجدوا الذين سبقوهم بالهجرة علماء فقهاء، بصراء ربانيين، فعضوا أصابع الندم، وقالوا: إن أزواجنا وأولادنا حرمونا من هذا الخير، فكشروا أنيابهم في وجوههم، وأعرضوا عنهم، ونالوا منهم بالتعيير والسب، وحتى بالضرب. ولكن الرحمن الرحيم ولي المؤمنين ومتولي الصالحين طلب إليهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا، ووعدهم أنهم إذا غفروا لأزواجهم وأولادهم ما صدر منهم فإن الله سيغفر لهم ذنوبهم، وأن هذه بتلك. فأعط الله ولا تخف؛ فإنه يعطيك أكثر مما أعطيته.

التحذير من طاعة الولد والزوجة فيما لا يرضاه الله عز وجل

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. والحذر معروف، فهو اليقظة والانتباه؛ خشية أن تتورط. فقد تحملك زوجتك على أن لا تتصدق، وتقول: أولادي جياع، وبناتي عراة، فلا تتصدق، ولا تجوز هذه الصدقة، وإذا أتيت بضيف قد وجبت ضيافته أخذت تشنع وترتعد، وتقول: لسنا في حاجة إلى هذا، وهكذا يقول الولد، ويمنعانك من أن تنفق شيئاً في سبيل الله، ولهذا قال تعالى: فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. وهذا أمر الله لنا، وهو يقتضي الوجوب، فلا تحمله على غير الوجوب. فإن تجلى لك وظهر أن أولادك أعداء لك أو أن بعض أولادك سواء بنين أو بنات أعداء لك فاحذرهم؛ حتى تنجو من الفتنة، وتسلم من المهالك والمعاطب، فقد يحملك الولد على أن لا تشهد صلاة الجماعة، وقد تحملك الزوجة على أن لا تصلي حتى الجمعة، فإن أنت استجبت لهم وأطعتهم أوقعوك موقع العدو لعدوه.

فضل العفو والصفح عن الولد والزوجة

قال تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا [التغابن:14]. وهذا باب فتحه الله لنا على مصراعيه. أي: إن أنتم عفوتم عمن ظلمكم، وعمن حرمكم من الخير، وعمن صرفكم عن الهدى، وصفحتم عنهم، والصفح أن تعطيه خدك، ولا تلتفت إلى كلامه ولا ما يقوله ويؤذيك به، وتغفر له، وتستر ما ظهر منه، فالجزاء من عند الله، فالله غفور رحيم.

وهذه الآية نزلت - كما علمتم- في جماعة تأخروا عن الهجرة، وهم يعرفون وجوبها، ولكن نساءهم أولادهم حملوهم على التأخر عدة سنين، فلما يسر الله الهجرة وهاجروا ووجدوا السابقين لهم قد تفوقوا في العلم والأدب والمعرفة تأملوا وتحسروا، وغضبوا على أزواجهم وأولادهم، وأنبوهم وعنفوهم، وكادوا أن يضربوهم. ولكن الله رحم المؤمنين؛ لأنه يعرف ضعف الولد وضعف المرأة، فقال لهم: وَإِنْ تَعْفُوا [التغابن:14] عنهم وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا [التغابن:14] فإني أغفر لكم، وأعفو وأصفح عنكم، فقد ترتكبون أخطاء أو خطايا وتحتاجون إلى مغفرتنا وعفونا وصفحنا، فسنعاملكم بما عاملتم به أبناءكم وأزواجكم. ولا يفعل هذا أحد سوى الله الرحمن الرحيم.

وهذا ليس خاصاً بجماعة المهاجرين، بل هو والله لنا ولكل المؤمنين إلى يوم القيامة.

الأموال والأولاد فتنة يمتحن الله بهما عباده

قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]. ولن يرد أحد على الله عز وجل، ويقول: ليسوا بفتنة. فخالقهم وخالقنا وخالق غرائزنا وغرائزهم، وطباعنا وطباعهم هو الذي أخبر: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]. ولم يقل هنا: إن من بين أولادكم وأموالكم فتنة، بل فال: إن أموالنا من حيث هي كثرت أو قلت وأولادنا كبروا أو صغروا .. كثروا أو قلوا فتنة.

ووجه كونهم فتنة: أن الله يمتحننا بالمال والولد لينظر كيف نتعامل معهم، فقد أعطانا المال لينظر هل نخرج زكاة أموالنا، ولن نبالي بالفقر ولا بالولد، وأعطانا الأولاد لينظر هل سنربيهم ونروضهم على طاعة الله وحبه، وحب رسوله والمؤمنين، أو أننا بسبب حبنا لهم الذي تمكن من قلوبنا سنتركهم يعبثون ويسخرون ويفعلون جميع أنواع الباطل، وبسبب الشفقة والرحمة وحبهم لا نأمرهم ولا ننهاهم، ولا نعظهم ولا نوبخهم.

فالأموال والأولاد والله فتنة، وكل من له مال وولد فهو في فتنة، أي: في حالة اختبار وامتحان، والممتحن والمختبر له هو الله، فإن أحسن التصرف في ماله فلم يجمعه من الباطل والشر، ولا من الحرام ولا من المكروه، وأنفق في سبيل الله حيث وجب الإنفاق نجح، وإن حمله حبه لهذا المال على أن يرابي به، وعلى أن ينميه بالغش والخداع، وعلى أن لا ينفقه في مرضاة الله، بل ينفقه في مساخط الله عز وجل خسر.

وكذلك صاحب الأولاد إذا هو أحسن تربيتهم وتعليمهم، وتزكيتهم وتطهيرهم، ولم يبال بعواطفهم ولا بدموعهم، ولا ببكائهم ولا بغير ذلك نجح، وإن هو أهملهم حباً فيهم ورغبة فيما عنده منهم، وأعرض عن ذكر الله، وعن طاعة الله خسر في امتحانه والله، ولم ينجح.

وليس منا أحد إلا وله مال، وقد يكون له ولد، ولذلك فلنعلم أن المال والولد فتنة، أي: امتحان وأسئلة وضعها الله لنجيب عنها، وينظر هل نرضي الله تعالى أو نسخطه. فإن نحن تصرفنا في المال تصرف المؤمن الرشيد، بلا تبذير ولا بذخ، وبلا إنكار ولا جحود، وبلا بخل ولا إمساك نجحنا، وإن جرينا وراء حب المال ونحن مفتونين به، أو بذرنا في إنفاق المال، أو أنفقناه في معصية الله، أو منعنا حقوق الله فيه فقد خسرنا في امتحاننا، ولم ننجح.

جزاء من أحسن التصرف في المال وأحسن تربية أولاده

يقول تعالى لنا: وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15]. إن أنتم أحسنتم التصرف في المال والولد كما يحب الله عز وجل، وإن فقدتم شيئاً فالله عز وجل يعوضكم الكثير، فإن الله عنده أجر عظيم. وقد استحققنا هذا الأجر وأصبحنا أهلاً له لأننا أنفقنا المال في مرضاته، وربينا الأولاد حسب مرضاته، وحسب ما يريد، فإن أضعنا شيئاً وضاع منا مال أو ولد فالله عنده الأجر الذي يعوضنا. فلا تفهم أنك إذا أنفقت المال في تربية أولادك أو أنفقته في سبيل مرضاة ربك أنك تعدم أجره، أو تعود فقيراً مهاناً بين الناس، بل إن الله يكافئك بما هو أعظم، فإن الله لديه الأجر العظيم. وهذا ترغيب من الله لنا في أن نعيش على مرضاته، وأن لا ننخدع أو نغتر بحب المال والولد، فإن الله عنده أجر عظيم.

تقوى الله حسب الاستطاعة

قال تعالى في هذا النداء: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. وقد عرفنا بالأمس أننا إذا أقلنا على الله إقبالاً كاملاً وتركنا الزوجة والولد وكل شيء فإن الله لا يرضى لنا هذه الحال؛ لأننا غلونا، وهذا هو الغلو، كما قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]. كما أننا إذا أقبلنا على المال والولد إقبالاً كلياً خسرنا الدنيا والآخرة، وهذا أيضاً تفريط لا يقبل. بل المطلوب هو الوسط فأنفق على نفسك وزوجك وولدك بقدر ما عندك، وأنفق في مشاريع الخير بقدر ما عندك، ولا تمنع وتبخل بالمرة، ولا تنفق كل شيء، وتخرج من الحياة بلا شيء، بل اتقوا الله في حدود طاقتكم.

وهذه الآية مخصصة لعموم آية آل عمران التي لما نزلت اضطرب لها المؤمنون، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]. وقد مر بيا هذا النداء، أي: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]. ولا أحد يستطيع أن يتقي الله حق تقاته، فهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، والذي يملكك ويملك كل شيء، والذي إذا تكلم ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً بين يديه، والذي يقبض السماوات والأرض بيده، فلا أحد يستطيع أن يتقيه أبداً كما ينبغي لعظمته وجلاله، وقوته وقدرته.

فلما نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] قالوا: لا نستطيع هذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية من هذه السورة المدنية، وهي قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. فهدأت القلوب، وسكنت النفوس، بعد أن عرفوا أن لا يبذلوا إلا ما يستطيعون، وأن ما لا يستطيعونه لا يؤاخذون ولا يطالبون به.

الحث على السمع والطاعة لله ولرسوله وولاة الأمور

قال تعالى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16]. فعليكم بالسمع والطاعة! فإذا أمر الله فقولوا: سمعاً وطاعة، وقوموا بما أوجب عليكم، وإذا نهى الله فقولوا: سمعاً وطاعة، وتجنبوا ما نهى الله عنه. فإذا قيل لك: يا عبد الله! صم شهر رمضان، فلا تقل: لا أستطع، بل صم، فإذا عجزت وسقطت فلا شيء عليك، وإذا أمرت بأن تذكر الله عز وجل فاذكره، فإن عجزت أو منعت بسبب الكلام مع فلان، أو مناداة فلان، أو بسبب الشغل بفلان، فلا تخف، واتق الله ما استطعت، وهكذا. فـ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16]. واتقوا الله في حدود ما تستطيعون، ولابد من الإذعان وقبول أمر الله ونهيه. بل اسمعوا أمر ربكم وأمر رسولكم، وأطيعوا أمر الله وأمر رسوله، وأمر من أمركم الله أن تطيعوا أمره، كالوالدين والمعلم، والمربي والأمير، وليكن شعارنا دائماً: سمعاً وطاعة، فإذا ناداك الله فقل: لبيك! وإذا قال لك: أنفق فأنفق في حدود ما تستطيع، وإذا قال لك: اعمل فاعمل بما في قدرتك واستطاعتك، وما عجزت عنه لم تؤاخذ به، بل فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. ولابد من السمع والطاعة. ولا تقل: أنا لا أستطيع، أو أنا لا أقدر على هذا ولا أقوى عليه حتى تجرب، بل قل: سمعاً وطاعة لك يا رب! وجرب وحاول، فإن استطعت فذاك، وإن عجزت فلا شيء عليك؛ لأنه قال وقوله الحق: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وقوله تعالى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16]، أي: لله ولرسوله، ولمن أمرنا أن نسمع أمرهم ونطيعهم غير الله والرسول، وهم من ذكرهم في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. والذي له أمر عليك: أبويك، فلهما الحق أن يأمراك وينهياك؛ لأنك ولدهما، وهما مفتونان بك كما إنك مفتوناً بهما أيضاً، ولذلك فأطعهما واسمعهما.

وكذلك مربيك ومهذبك الذي يعلمك، وإذا لم تطعه لم تتعلم، ولن تزكو نفسك. فمربيك من ولاة أمورك.

وكلمة وَأُوْلِي الأَمْرِ [النساء:59] يدخل فيها أولاً العلماء؛ لأنهم يبلغون عن الله، وهم يأمرونك بأمر الله. وثانياً: الأمراء؛ لأنهم يطبقون أمر الله فيك، ويلزمونك به. فليكن شعارنا دائماً إذا أمر الله أو أمر رسوله أو أمر ولي الأمر أن نقول: سمعاً وطاعة، ثم إن عجزنا فلا شيء علينا؛ لأن الله قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [النساء:59]. ولن يستطيع أبوك ولا الأمير ولا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلزمك بما لا تطيق. والمهم هو أن تظهر في مظهر السمع والطاعة لله ورسوله، ثم إذا عجزت فحجتك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [النساء:59]. إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. وإطاقتها وما في قدرتها.

وقد أمر الله المؤمنات أن يطعن رسول الله، فقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]. وأما غير المعروف فلا، وليس له حق بالطاعة فيه. وكذلك لو أمرك أبوك أن تسب زيداً أو عمرو فلا تطعه، وكذلك إذا أمرك أبوك أن لا تتوضأ، أو أن لا تخرج للصلاة فلا طاعة له، ولكن إذا أمرك بالصلاة فيجب أن تطيعه؛ لأنه أمر بمعروف.

الحث على الإنفاق ومعناه

قال تعالى: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، أي: اسمعوا وأطيعوا وأنفقوا مما أعطاكم الله. فعلى صاحب الصاع أن ينفق من صاعه، وعلى صاحب المد أن ينفق من مده، وعلى صاحب الألف أن ينفقه منه، وعلى صاحب الريال أن ينفق من رياله، وعلى كل أحد أن ينفق بحسب حاله. وكذلك أنفقوا من طاقاتكم البدنية والعقلية من العلم والمال والجاه، فكل هذا ننفق منه، كما قال تعالى: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]. وقد تقدم هذا النداء. وقلنا فيه: يجب على العالم الذي علمه الله أن ينفق من علمه، وعلى صاحب الجاه في القرية أو في المدينة أن ينفق لله من هذا الجاه، ويقضي حاجات أناس لا يستطيعون أن يقضوها إلا بالوسائط والوسيلة، وصاحب القوة البدنية إذا لم يجد ما يفعل يكنس الشوارع، وهذا ليس عيباً، وعلى الأستاذ في الشارع أن يزيل القمامة، وهذا ليس عيباً، فإذا أعطاه الله قوة بدنية فعليه أن ينفق منها. وحسبنا أن يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ). وليس هناك حرج أبداً في أن تساعد عمال البلدية، وأن تحمل معهم وتساعدهم؛ لأنك فارغ، وهذا ليس عيباً. وأبو بكر الصديق كان والله العظيم يحلب غنم أهل القرية التي هو فيها والحي الذي يسكنه، ولما ولي الخلافة سمع الجواري أو جارية تقول: الآن لن يحلب لنا أبو بكر ؛ فقد أصبح خليفة، فقال: لأحلبن لكم وإن كنت خليفة.

وقد والله عشنا في قرى أهلها أهل جهل، ولكن فيهم نوع من الخير، فكنت والله إذا دعوتهم غداً ليبنوا معك جداراً أو بيتاً يبنون لك البيت والله في يومين أو ثلاثة فقط مجاناً، ويساعدونك لله؛ لأنهم جالسون ليس عندهم عمل، وبدلاً من أن يجلسوا في المقاهي وظلال الجدران يعملون.

والمقصود من هذا: أننا ليس عندنا وقت لا نعبد الله فيه. وإذا لم يكن عندك شغل فنظف الشوارع، وساعد الفقراء والمساكين، وحتى إذا وجدت حمالاً يحمل كيساً كبيراً فاحمل معه، فهذا خير كثير. وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16].

الحث على الابتعاد عن الشح

قال تعالى في التوقيع الأخير من هذا النداء: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [التغابن:16]. والواقي هو الله، ولا يستطيع أحد أن يقيك شح نفسك، لا عالم من علماء النفس، ولا عالم من علماء الحياة والطب؛ لأن هذا المرض فطري غريزي مطبوع عليه الإنسان، سواء كان أبيض أو أسود. وهذا المرض يسمى بالشح. والشح هو: المنع والحرص، وأما البخل فمنع فقط. وتفطنوا لهذه النقطة، وهي: أن الشحيح حريص على أن يجمع المال ويمنع، والبخيل يمنع فقط. فالشحيح حريص على أن لا يخرج ديناراً ولا درهماً.

وهذا الشح مرض غريزي طبعي في الإنسان، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. ولم يقل: ومن أقيه شح نفسه فقد أفلح. وهذا ليحملنا على أن نبحث كيف نحفظ أنفسنا من هذا المرض. والطريق هو: أن نفزع إلى الله، فهو الذي يقينا شح أنفسنا، ولا يقدر أحد على ذلك قط إلا الله، فعلينا أن نلجأ في صدق إليه، ولنطرح بين يديه، ولنسأله ونبكي بين يديه. اللهم قنا شح أنفسنا.

قال: [ وبهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إياكم والظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ). وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ] وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة [ إذا طاف بالبيت ] وكان الصحابة يطوفون ويعتمرون ويحجون، وكان عبد الله بن عمر طول حياته ثمانين سنة يحج عاماً، ويغزو عاماً، فكان عاماً يسجل في ديوان المجاهدين، ويخرج معهم إلى الشرق والغرب، وفي العام الثاني لا يسجل في ديوان المجاهدين، بل كان يحج ويعتمر.

و عبد الرحمن بن عوف شوهد ورئي وسمع منه وهو يطوف [ يدعو بقوله: اللهم قني شح نفسي ] وكان يدعو بهذا طيلة الطواف [ لا يزيد عن ذلك؛ لأن شح النفس هو الذي يحمل على السرقة والزنا، والكذب والخيانة، وخلف الوعد وإضاعة الأمانة ] فهذا حكيم؛ لأنه عرف أنه متى وقاه الله شح نفسه فوالله لن يزني ولن يسرق، ولن يكذب ولن يأكل حراماً، ولن يحسد، بل تنتهي كل ذنوبه في هذه القضية. فقد عرف أن علة البلاء والفتنة في الشح، فمن وقاه الله شح نفسه نجا، كما قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].

التحذير من الظلم

قال الرسول: ( إياكم والظلم ). وهو ليس الظلمة بالهاء، بل الظلم، والظلمة يفهم منها ظلمة الليل أو النهار. والمقصود هنا الظلم. ( فإنه أهلك من كان قبلكم ). والأمم التي هلكت من قبلكم كان سبب هلاكها في الغالب الظلم، أي: ظلم بعضهم بعضاً. و( إن الظلم ظلمات يوم القيامة ). والذي يمشي في الظلمات يوم القيامة لا يدخل الجنة والله، ولن يعرفها، بل يقع في أصل الجحيم.

وقد قال الله تعالى في سورة الحديد: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]. فنورهم يسعى أمامهم كنور السيارة. وكنا من قبل لا نفهم معنى: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الحديد:12]. ولكننا الآن فهمنا. وكما تشاهدون السيارة نورها أمام عجلاتها بعدة أمتار، وكذلك المؤمنون والمؤمنات وهم في طريقهم إلى دار السلام ليعبروا الجسر الممتد المسمى بالصراط يكون نورهم هناك أمامهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8]. حتى يبصروا الطريق، ويصلوا إلى باب الجنة. وأما المنافقون فلا نور لهم، ولذلك يقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]. فيسخر منهم المؤمنون ويقولون لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]. فيرجعون، فتغلق الأبواب، ويفصل بينهم وبين المؤمنين ستارة أو سور. وكلمة: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد:13] ذات لطيفة عجيبة، وهي: أن النور الذي يطلبونه هنا لا يطلب من هنا، بل يطلب في الدنيا، فارجعوا إلى الدنيا، واحصلوا على هذا النور. ولن يقدروا أن يرجعوا إلى الدنيا، ولكنهم لبلاهتهم وغباوتهم يظنون أنه وراءهم، فيلتفتون وراءهم يطلبون النور، وفجأة وإذا بسور عظيم يضرب بينهم أوتوماتيكياً، ولا تستغرب هذا، فالآن في زمن بالكهرباء تلتفت وإذا الباب يغلق. بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:13-14]. وهذه الآيات عجيبة، وهي من سورة الحديد.

والشاهد عندنا: إياكم أيها المؤمنون! ويا أيتها المؤمنات! والظلم، بل احذروه وخافوه، واهربوا منه. وإياكم إياكم! فلا تظلموا أنفسكم، فضلاً عن جيرانكم وأبنائكم وإخوانكم، أو غيرهم. ولذلك قال في الحديث: ( إياكم والظلم! ). والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه. و(إن الظلم ظلمات يوم القيامة ). ومن مشى في الظلمات فلن يدخل الجنة، بل يقع في عذاب النار في الجحيم.

التحذير من الشح وبيان علاجه

قال صلى الله عليه وسلم: ( واتقوا الشح ). بأن تجعلوا بينكم وبينه وقاية، وذلك بأن تطلبوا وتبحثوا عن الأسباب الواقية منه. وسبب الأمر بأن نتقي الشح ( فإنه أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم ). فالشح خطير.

وقد عرفنا البارحة أن علاجه في أمرين:

الأول: الإنفاق في سبيل الله. فالذي يعود نفسه على الإنفاق ينجو والعياذ بالله من الشح.

وثانياً: ذكر الدار الآخرة والموت. فالذي يعيش أسبوعاً لا يذكر القبر ولا الموت لا يستطيع أن يتقي الله، وقد كان الصالحون إذا شعر أحدهم بقسوة في قلوبه يأتي إلى المقبرة، ويجلس بين القبور، وينام أحياناً على قبر، ويأخذ في التفكير في مصير هؤلاء، وأنهم كانوا بالأمس تجاراً وأصحاب أموال وغير ذلك ثم أين هم الآن. فكان الصالحون يأتون إلى القبور ليذكروا الدار الآخرة. وقد أرشد إلى هذا رسول الله ودعا إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإني قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة ). وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته من الليل والناس نيام إلى البقيع؛ ليذكر الدار الآخرة.

إذاً: مرض الشح نعالجه ونقي أنفسنا منه بشيئين: ذكر الموت والدار الآخرة، وبالإنفاق المتواصل، ولو بربع ريال كل يوم، أو بحبة عنب كل يوم. فالمهم أن تنفق؛ لأن صاحب الإنفاق يذهب عنه هذا المرض، والدليل قول الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. وهي لا تطهرهم من البول والعذرة، بل تطهرهم من مرض الشح والعياذ بالله، وتزكيهم أي: تطهر نفوسهم. فالذي ينفق ماله لوجه الله والله لا يسرق.

وقد يقول أحد: التاجر الفلاني صاحب بنك وينفق، وأقول: والله إنه لا ينفق إلا للشهرة والسمعة، وليقبل الناس على عمله. فهو ينفق للإعلان كما يقولون، مثل ما يقولون: إن فلاناً اشترى كذا، أو بنى كذا؛ ليقبل الناس على بضاعته وتجارته. ولو أنفق في سبيل الله لأغلق باب البنك، وهرب يصرخ إلى الصحراء، لعاش في البر، ولم يقبل أن يعيش مدير بنك، ويأكل من مال حرام.

ولا يكفي أن تعالج الشح بالصلاة والصيام، فهذا لا يكفي. بل لابد من شيئين: ذكر الموت والدار الآخرة دائماً، فاجعلهما نصب عينيك، ثم النفقة بحسب ما أعطاك الله، فإن لم يكن عندك إلا قرص فقط ومر بك مسكين فأعطه ثلث هذا القرص، أو ربعه، وستشعر بلذة ذلك.

وكذلك سؤال الله تعالى أن يبعد عنك الشح، وهذا فوق كل شيء. وقد كان عبد الرحمن بن عوف يطوف ويقول: اللهم قني شح نفسي. ومن وقاه الله عز وجل شح نفسه ألهمه ذكر الدار الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]. وهذه آية من كتاب الله. فيجعلهم يذهبون إلى المقابر، ويبكون بين القبور، وكل هذا من توفيق الله عز وجل.

فلا غنى لنا عن دعاء الله وسؤاله أن يقينا شح أنفسنا، ولنستعمل السببين الرئيسيين لذلك، ألا وهما: ذكر الموت والدار الآخرة، والإنفاق في حدود ما عندنا. وليس شرطاً أن تخرج قوتك اليومي، ولكن إذا سأل سائل عند الباب فأعطه لقمة، وقد تصدقت عائشة والله بحبة عنب؛ إذ لم يكن عندها إلا عنقود عنب بين يديها، فجاءت سائلة تقول: إنها جائعة، فقالت لإحدى مولاتها: أعطها حبة، فتعجبت، فقالت لها: كم مثقال في هذه الحبة؟ ففيها أكثر من عشرين مثقالاً، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7].

وأذكركم بحادثة لا تنسى أبداً، وهي: أنه طال عمر عائشة ، حتى توفي حبيبها، ومات والدها، ومات عمر رضي الله عنه، ومات عثمان ، وهي في تلك الحجرة كالحوراء، فتركت حتى الحج والعمرة، وانقطعت عن الدنيا، وكانت تأتيها النفقة من خلفاء المسلمين، واتسع الإنفاق عليها يوم تولى معاوية ، فبعث لها بالذهب والفضة؛ لتنفقه على نفسها وعلى من شاءت، وكانت صائمة، وأنتم تعرفون مشقة الصوم في المدينة وخاصة في الصيف، فأذن المغرب، فقدمت لها الجارية الخادمة خبزاً بلا زيت ولا مرق ولا ماء، وكانت قد ظلت الجارية التي معها طول النهار توزع الذهب على الفقراء والمساكين من بيت إلى بيت. وقالت الجارية: لو أمرتني يا أماه! أن أشتري بدرهم زيتاً لتأكلي به الخبز. وهذا حتى تعرفوا أين نحن وأين هي. فهذه أم المؤمنين حبيبة رسول الله توزع طول النهار الذهب، وتفرقه على بيوت الفقراء والمحتاجين، ولم تشتر بدرهم زيتاً، وأكلت الخبز حافاً، رضي الله عنها وأرضاها.

إذاً: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. السامون الأعلون. ومعنى الفلاح: النجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار. ولا فلاح إلا هذا، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. فلو سئلت عن الفلاح فقل: هو أن تنجو من دار البوار والخزي والعذاب الشديد وتدخل الجنة دار النعيم المقيم، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

تنبيه الشيخ على خطأ وقع فيه في الدرس السابق

أنبه هنا إلى أنني بالأمس أخطأت وغلطت؛ وذلك لضعفي وجهلي، والحمد لله أنني تفطنت. فقد جاءني أحد العلماء - وأظنه أفغانياً- على هيئة جميلة، وقال لي: يا شيخ! أنا كنت هنا والكتاب في يدي، وإني أراك قد أخطأت في فهم الخبر، أي: الآية، قلت: إي والله أصبت، وقد تفطنت بعد ذلك.

وهذا الخطأ في هذه الفقرة، وهي: وقوله تعالى لهم: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [التغابن:16] أي: ومن يحفظه الله تعالى من شح النفس فقد أفلح بالفوز بالجنة والنجاة من النار. ولم نقل: من وقاه الله مع أنه لا واقي غير الله. وهذه الوقاية تكون بأسباب، وهذه الأسباب: سؤال الله قبل كل شيء، وذكر الدار الآخرة، والإنفاق. فبهذا يوقى الإنسان شح نفسه.

وأنا أخطأت عندما قرأت قوله بعد هذا: وفي هذا الخبر، ففهمت أن الخبر هو الحديث الآتي، وغفلت وجهلت أن المراد من الخبر هو قول الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. فهذا خبر. فالخبر غير الجملة الإنشائية التي هي افعل أو لا تفعل. فقوله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. خبر، والمخبر فيها هو الله، وخبر الله ليس فيه تردد ولا شك، بل كله صدق، ولن يكون إلا ما أخبر الله تعالى به.

[ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

اللهم قنا شح أنفسنا، واجعلنا من المفلحين.

وصلى اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 94 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net