إسلام ويب

تربى الصحابة رضوان الله عليهم على أن تكون أقوالهم وأفعالهم تبعاً لما قال الله ورسوله، وما شرع الله ورسوله، وذلك لأنه من غير الأدب أن يقدم العبد رأيه على ما يراه سيده ومولاه، وما لزم الصحابة فإنه يلزم من بعدهم، فكل الآراء والأفكار والأفهام متهمة إلا ما كان موافقاً للكتاب والسنة.

حرمة تقديم الرأي على الكتاب والسنة ووجوب تقوى الله عز وجل

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا والحمد لربنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

وهذه النداءات معاشر المستمعين والمستمعات! هي تسعون نداء، والمنادي هو الله رب العالمين، والمنادى هم المؤمنون والمؤمنات من أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد غفل المؤمنون والمؤمنات عن هذه النداءات، فلم يعرفوا منها شيئاً، مع العلم أنهم منادون من قبل سيدهم ومولاهم ومربيهم ومعبودهم الحق، وكان المفروض أن يعلم هذه النداءات كل مؤمن ومؤمنة، ويحفظوها عن ظهر قلب، ويفهموا مراد الله منها، وما هو المطلوب لذلك، ويعملون به، وهكذا نصبح أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ونصبح من خيرة عباد الله، ولكن صُرف المؤمنون والمؤمنات عن كتاب الله، وحولوا قراءته على الموتى ليالي المآتم وفي المقابر، فهيا نعود. ونحن إن شاء الله عائدون.

وهذه التسعون نداء يجب أن يطبعها أهل البلد أو المدينة أو الإقليم بمطابع جيدة، ويوزعونها على المؤمنين والمؤمنات، ويجلس أحدهم كل مساء من كل يوم بين المغرب والعشاء يدرسها، ويصغي إليها المؤمنون والمؤمنات، ويستمعون إليها ويدرسونها دراسة وافية، ويفهمون كل مراد الله منها، ويعملون ويطبقون، فيصبحون أولياء لله، الذين لا خوف عليهم في الدنيا ولا حزن، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة. والله المستعان.

هذا هو [ النداء التاسع والستون ] ومضمون هذا النداء [ في ] بيان [ حرمة تقديم الرأي على الكتاب السنة ] فحرام على مؤمن ومؤمنة أن يقدم رأيه قبل الكتاب والسنة [ و] ثانياً: في [ وجوب تقوى الله عز وجل ] أي: في الخوف منه، حتى يثمر ذلك الخوف خشية الله وحبه، ويثمر طاعته بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه.

وهيا بنا نتغنى بهذا النداء دقائق، ثم نأخذ في شرحه وبيان مراد الله تعالى منه لعباده المؤمنين والمؤمنات.

[ الآية (1) من سورة الحجرات

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

الشرح ] لهذا النداء الإلهي الكريم: [ لا تنس أيها القارئ الكريم! لنداءات الرحمن الرحيم ] وهذا القارئ الكريم هو ذاك الذي أخذ هذه النداءات التسعين، وأخذ يرددها في بيته بين بناته وأولاده، وأخذها ليقرأها على كل مؤمن لا يحسن القراءة، ويسمعه نداءات ربه تعالى إلى عباده المؤمنين، فهذا القارئ الكريم قد فتح الله عليه، فأقبل على ربه بشوق يسمع كلامه، ويسمع نداءاته، وكله عزم وتصميم على أن يطيع الله فيما يأمره به، وفيما ينهاه عنه، وفيما يوجهه إليه ويرشده.

سبب نداء الله عز وجل لأهل الإيمان دون غيرهم

على هذا القارئ الكريم أن لا ينسى، بل ينتبه، لا أن يحفظ اليوم وينس غداً، فلا ينسى [ أن الله تبارك وتعالى ينادي المؤمنين بعنوان الإيمان ] فهو لم يقال: يا أيها الناس، ولا قال: أيها العرب! ولا أيها المواطنون! وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]! أي: يا من آمنتم! فحييتم بإيمانكم، وأصبحتم أهلاً لأن تفهموا وتعوا وتقدروا على العمل والترك معاً [ لأن المؤمن حيي بإيمانه، يسمع ويفهم، إذا أمر أطاع ففعل ما أمر به، وإذا نهى انتهى عن فعل ما نُهي عنه ] فالمؤمنون أحياء، والكافرين أموات، وإن غاصوا في الماء أو طاروا في السماء.

والبرهنة على أنهم أموات: أنهم لا يسمعون نداءات الله، ولا يستجيبون لله لا بالفعل ولا بالترك، فهم ليس لهم حياة، وإنما هم أموات وهم لا يشعرون، ومن شك في هذا فليرجع إلى القانون الإلهي، فإنه يجد أن أهل الذمة من اليهود والمجوس والنصارى تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يؤمرون بصلاة ولا بزكاة، ولا بصيام ولا بحج، ولا بعمرة ولا بجهاد أبداً، ونحن لا نأمرهم لأنهم أموات، ونحن لا نأمر الميت أن يجيب ويفعل، فأهل الذمة الذين يعيشون تحت رايتنا في أي إقليم من أقاليمنا الإسلامية إذا أهل هلال رمضان فإننا لا نأمرهم بالصيام، وإذا نادى المنادي أن حي على الصلاة فإننا لا نأخذه إلى المسجد يصلي؛ لأنه ميت، بل إذا نفخنا فيه الروح وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهنا نأمره بالغسل فيغتسل، وبالجهاد فيجاهد، وبالصلاة فيصلي، وأما وهو ميت فلا تقل له: قم يا ميت! صل، فنحن لا نخاطب الجنازة بين أيدينا، فهذا عبث.

ونحن موقنون أن الكافر ميت ليس بحي أبداً، وهو لا يحيا إلا إذا عرف وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا إن قلت له: اخرج من مالك خرج، وإن قلت له: ادفع بنفسك في معركة الاستشهاد فعل؛ لأنه حيي، ولم يعد ميتاً، وأما وهو ميت فلا تأمره وتنهاه. هذا هو سر النداءات الإلهية لعباده المؤمنين.

قال: [ وإن حياته هذه سببها إيمانه بالله تعالى وبلقائه ] ولله لقاء معنا، ولنا لقاء مع الله وجهاً لوجه في ساحة فصل القضاء، وذلك يوم القيامة. والمؤمن هو الذي آمن بالله وآمن بلقائه في اليوم الآخر، واسمعوا الله تعالى يقول: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]. وحتى النساء أمرهن أن لا يكتمن الحيض، وأن يعلن عنه لحاجة تتطلب ذلك، وقد قال: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]. فالذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فهو ميت لا خير فيه، والحجارة خير منه وأفضل، وأنا لا أبالغ في هذا، فالحجارة خير منه، بل القردة والخنازير خير منه. والدليل على هذا الحكم - حتى لا يقول أحد: هذا الشيخ يقول الكلام الباطل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]. والمراد من البرية: الخليقة، بمعنى: المخلوقة، فشر الخلق هم الكافرون من أهل الكتاب والمشركين. والذي حكم بهذا الحكم الله، ولا أحد يرد على الله. فالخليقة من العقرب إلى السبع إلى النمر لم تعص ربها، ولم تفسق عن أمره، ولم تخرج عن طاعته، فقد سن لها سنناً وهي تمشي عليها إلى أن تنتهي، ولكن الإنسان هو المتمرد على الله، فهو الذي خلقه ورزقه، وهو يكفر به، وليس هناك عمى أكثر من هذا، فهو يعلم أنه مخلوق مربوب لله، ومع ذلك يسأل عن وجود الله، لا لشيء إلا ليواصل الجرائم والموبقات، والضلال والفساد، لا أقل ولا أكثر؛ لأنه لم يعرف كتاب الله!

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ...)

قال: [ واذكر ] أيها القارئ الكريم! والمستمع المستفيد! [ أن لهذا النداء سبباً نزل به ] فقد كان القرآن ينزل للمناسبات، ولوجود أسباب تقتضي هذا، وهذا النداء نزل لسبب، وينبغي أن نعرف هذا السبب، وهو وإن كان نزوله لسبب إلا أن هذا لا يمنع عمومه للبشرية كلها؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنما معرفة السبب تزيد في معرفة النور والهداية والبصيرة [ وهو كما رواه البخاري رحمة الله تعالى عليه ] ولا يبقى شك بعد البخاري [ أن وفداً من بني تميم ] شرق الجزيرة، والوفد هو: مجموعة من الفحول، عشرة أو عشرين أو مائة [ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمِّر القعقاع بن معبد ] أي: أن هذا الوفد لما قضى حاجته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا رسل دين وأمة يبلغون من وراءهم، قال أبو بكر : يا رسول الله! أمر عليهم القعقاع بن معبد ، فقد رآه شخصية وافية صالحة، فقال: هذا يصلح للإمارة، مع أنهم كلهم فحول، وكلهم رجال، وكلهم ذوو عقول.

والآن ندخل في السياسة، فقد هبط المسلمون وتمزقوا؛ لأنهم لم يعرفوا معنى الإمارة، ولم يعرفوا أنه ( لا يحل لثلاثة أنفار أن يسافروا ألا ويؤمروا عليهم أحداً ). وهم إذا أمروه يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: هذا غبي، وهذا كذا، وهذا عميل، ولم يعرفوا أن عليهم أن يطيعوه طاعة عمياء، فلا يحل الخروج عليه، ولا الخلاف فيه أبداً؛ حتى يستقيم أمرهم، وتتم حاجتهم، ويعودون إلى ديارهم.

والمسلمون لم يعرفوا هذا، فتجد أهل قرية فيها خمسة آلاف لا تجمعهم كلمة، ولا يتفقون على شيء، ولهذا لن يأتي الكمال والسعادة.

قال: [ وقال عمر : أمر عليهم الأقرع بن حابس ] أي: خلاف قول أبي بكر . وهذه وجهة نظر من الشيخين، وهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمن والأيسر، فـأبو بكر رأى أن يؤمر عليهم القعقاع ، وعمر رأى أن الأقرع بن حابس أولى بالإمارة؛ حتى يطاع، وإذا أطيع مشت القافلة والمسيرة.

وأعود فأقول: يجب على أهل القرية وجوباً ألا يختلفوا في أمرهم، وأن يكون شيخهم هو إمامهم ومفتيهم ومرجعهم، فلا يختلفون عليه أبداً، وإن اختلفوا فهم عصاة فسقة، وإذا رجعوا إلى أميرهم وهو شيخهم انتهى الخلاف والفرقة؛ لأنه إذا أمرهم فأطاعوا، ونهاهم فانتهوا أصبحوا جسماً واحداً، ولن يبق خلاعة ولا خبث، ولا تلصص ولا إجرام، ولا أي شيء أبداً، بل يصبحون جسماً واحداً، وهكذا جاء الإسلام.

قال: [ فقال أبو بكر لـعمر : ما أردت إلا خلافي ] أي: أحببت أن تخالفني وإلا فـالقعقاع بن معبد أولى، وهذه فطرة الإنسان، وقد كان أبو بكر وعمر يتنافسان أيهما يكمل ويسعد قبل الآخر، ولما دعي الصحابة إلى التصدق أتى عمر بنصف ماله، وظن أنه هزم أبا بكر ، وإذا بـأبي بكر يأتي بكل ماله، فقال عمر : من الآن لا أنافسه، ولا أستطيع منافسته [ فقال عمر : ما أردت خلافك ] ولكن هذه وجهة نظري [ فتماريا ] أي: تجادلا [ حتى ارتفعت أصواتهما ] وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فنزلت ] هذه الآية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] إلخ، أي: يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره، ولا إله سواه، وبالإسلام شرعاً وديناً، لا يقبل شرع ولا دين سواه.

النهي عن تقديم الآراء والأفهام وغيرها بين يدي الله ورسوله

قال: [ لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: ] لا تقدموا [ قولاً ولا عملاً، ولا رأياً ولا فكراً بمعنى ] ولا فهماً ولا ذوقاً، بل الله هو الذي يولي ويخلع، والرسول كذلك، وأما أبو بكر وعمر فلا حظ لهما في هذا. فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]. وأما أنتم فليس لكم شأن في هذا، بل الله ورسوله هما اللذان يقولان، وأما أنتما يا أبا بكر ! ويا عمر ! فلا حق لكما في هذا. وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، أي: خافوه، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ [الحجرات:1] لأقوالكم، عَلِيمٌ [الحجرات:1] ببواطنكم وظواهركم، فهابوه وخافوه.

وهكذا تربى الشيخان وأصحاب الرسول، وأصبحوا أمثلة للكمال البشري، ولهذا نندب دائماً ونقول: لا تلوموا إخواننا؛ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين، ولا تلوموا حكامكم يا عرب! ويا مسلمين! بل أرشدوهم وعلموهم، وأنتم مخطئون عندما تغلظون لهم القول؛ لأنهم ما جلسوا ولا تربوا في حجور الصالحين، لا هم ولا آباؤهم ولا أمهاتهم، بل آباؤهم وأمهاتهم كآبائنا وأمهاتنا، فهم جهلة لا يعرفون إلا الدنيا، ونحن لا نرجو شيئاً ممن لم يترب في حجور الصالحين، ولو جلسوا منذ صباهم في حجور الصالحين حتى كبروا وحكموا لكانوا بصراء، وعلماء ربانيين، يعرفون الله ويخافونه، ونحن لا نلومهم، وأولادكم فسقة فجرة يأتون الباطل والمنكر، والآخرون ليسوا أنبياء يوحى إليهم، بل أنتم الذين دفعتم بهم إلى أن تتلمذوا على أيدي اليهود والنصارى حتى تخرجوا من جامعاتهم، ولذلك فلا ترجوا منهم شيئاً، ولكن لا أحد يذوق هذا الذوق، ويفهم هذا الفهم. ولذلك معاشر المستمعين! تعلموا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منافع الحج التعلم، فيأتي الشخص من الشرق أو الغرب ويسمع كلمة عند بيت النبوة أو عند كعبة الله ويعود بها، فتكون نوراً يهتدي بها ويبلغها، وهذا من سر وعجائب الحج، كما قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28].

قال: [ ولا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعاً لما قال الله ورسوله، وشرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه من غير الأدب أن يقدم العبد رأيه وما يراه على ما يراه على ما يراه ويقوله سيده ] والسيد هو المالك للعبد، والعبد ملكه، فلا يجوز للعبد أن يقدم رأيه على سيده أبداً والله، وسيده أعلم به وبأحوال بلاده وأهله، فهو الذي يقول: افعل هذا ولا تفعل هذا، وأما العبد فليس إلا مستعداً فقط لأن يطبق أمر سيده، وإلا فلا سيادة إذاً، بل يصبح كل واحد منهما سيد الآخر، ويتضاربا ويتمزقا، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]. فلو كان يوجد إله مع الله لتحاربا وتقاتلا، ولخرب الكون كله والله العظيم، ولكن لا إله إلا هو، فهو مالك كل شيء، وبيده كل شيء، والخلق كلهم عبيده، فهو يميت ويحيي، ويعطي ويمنع، ولو كان فيه آلهة غير الله لما بقيت السماء يوماً بل لاحترقت، والمدينة أو القرية إذا أصبح فيها شيخان أو ثلاثة فإن أهلها يحترقون ويختلفون، ولن ينتفعوا، وهذه الجماعات الإسلامية المنتصرة للحق في كل بلد لم تتفق على كلمة، ولهذا الفتن ظاهرة. وسبحان الله!

بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن

قال: [ ومما يوضح هذه الحقيقة ] وهي أن العبد لا يقدم قوله ولا رأيه على سيده أبداً [ ويجليها للأفهام ] فتصبح كالشمس في رابعة النهار [ قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه ] وأرضاه، وهو أنصاري من هذه الديار، فهو شاب دخل في الإسلام مع أسرته، وفتح الله عليه، فقد تعلم من مجلس كهذا فقط، فقد كان يجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستقي من ينابيع الحكمة والمعرفة [ حين بعثه رسول صلى الله عليه وسلم ] والياً عاماً [ إلى اليمن ] ووالله ما دخل اليمن مثله قط إلى يوم القيامة، فـمعاذ بن جبل رضي الله عنه اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ورشحه، ولم يرشحه بالانتخاب الباطل، فهذا تركة اليهود والنصارى، وجاء العرب وقبلوها، ثم لم ينفذوها، بل لما يريد الحاكم أن يعلن عن خيبة الحزب الفلاني يعلن عن ذلك، وهذا عبث وسخرية، والمؤمنون كمل في عقولهم وآرائهم وفهومهم، وهم أهل النور، فهو يغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، ولا يحتاجون إلى الأباطيل، بل أهل القرية إذا قالوا: فلان يصلح أن يكون أميرنا أو شيخنا فإن الحاكم يقبل ويرحب بذلك. وليس بالأوراق والانتخابات التي يعتز بها الغافلون. فهذه باطلة، ولا ثمرة لها، ودلوني على نتيجة طيبة منها، وأعطيكم فرصة خمسين عاماً. وإذا لم يصدر النور من مصادره لن يتحول إلا إلى دخان قاتل.

قال: [ فإنه سأله قائلاً: ( بم تحكم يا معاذ ؟! ) ] فـمعاذ تحت النظارة، يمتحن من قبل القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فهو يساله: يا معاذ ! بم تحكم الناس؟ هل بقانون بريطانيا، أم بقوانين فارس، أم بما بقي من بقايا فارس التي كان يحكمون بها اليمن؟ [ ( قال رضي الله عنه: بكتاب الله تعالى ) ] فما ترك الله شيئاً إلا بينه في كتابه، فقد قال: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]. وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]. وإنما نتفاوت نحن في معرفة ذلك بحسب عقولنا وفهومنا، فقد أدرك أنا غير ما تدرك أنت، ولكن الأصل والمرجع هو الكتاب الذي يجهله المسلمون، وبالله الذي لا إله إلا غيره إن ما وضعه من خطط في الحرب والسلم لو اجتمعت أوروبا مليون مرة لما استطاعت أن تخرج قاعدة في السلم والحرب مثلها، ولكننا نحن نقرأه على الموتى فقط، ولا نفهم من كلام الله شيئاً، وإنما نقول للقارئ: أقرأ حتى يدخلوا الجنة، ونعطيهم الفلوس على ذلك أيضاً. وفي إحدى البلاد هناك نقابة خاصة للقراءة على الموتى، فيتصلون بها بالتلفون، ويقولون مثلاً: نريد خمسة من القراء، فيقولون لهم: من فئة خمسين ريالاً أو من فئة مائة، فإذا كان فقيراً قال: من فئة خمسين. وإذا كان غنياً قال: من فئة مائة، ويظن من يفعل ذلك أنه يفعل ذلك حتى يدخله الجنة، وقد يكون مات زانياً أو فاسقاً أو آكلاً للربا، وقد يكون يسب حتى أمه وأباه، ولا يفكر من يأتي بالقراء أبداً في هداية إخوانه الأحياء وإصلاحهم، وإنما يعيش على هذا الظلام. ووا مصيبتاه! فالقرآن يحيي النفوس الميتة، ونحن نقرأه على الموتى. وفي بعض البلاد تجد القراء ينادونك عند المقبرة: تعال! إذا أردت أن نقرأ فاجلس، ويقرءون بريالين أو عشرة أو غير ذلك.

قال: [ ( فإن لم تجد؟ ) أي: في كتاب الله تعالى ] أي: إذا بحثت عن الحكم ولم تجده؟ [ ( قال ) ] معاذ رضي الله عنه: [ ( بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ] أحكم. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس عشر سنين وهو يسن القوانين ويشرع، فإذا التمست الحكم في الكتاب ولم أجده وأعرفه فأرجع إلى أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاياه وسنته وأطبقها [ ( قال: فإن لم تجد ) ، أي: في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ] إذ ما كل أحد قد أحاط بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفها كلها [ ( قال رضي الله عنه: أجتهد برأيي ) ] بمعنى: أبذل طاقتي وقدرتي على معرفة الحق وبيانه حتى أضع الحق في موضعه، ولا أظلم مواطناً ولا مواطنة، فإذا لم أجد الحكم في الكتاب ولا في السنة وأنا مسئول فأجتهد في تحري الحق والصواب، والنظر إلى الشواهد والأحوال؛ حتى يوفقني الله إن شاء الله لما هو خير، وليس فيه ظلم لأحد. وهنا أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجائزة، وهي ليست جائزة نوبل ، وإنما [ ( فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ) ] لينشرح وليتسع، وليصبح كالبدر [ أي: في صدر معاذ رضي الله عنه، ( وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ) ].

فائدة من حديث بعث معاذ بن جبل إلى اليمن

قال: [ ومن هذا الحديث الجليل الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله أجمعين استخرج علماء الشريعة رحمهم الله تعالى من سلف هذه الأمة القاعدة الآتية: لا يحل لمؤمن القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ] وبلغوا هذا، ولو بلغتموه في قريتكم لسكت الناس، وإن جهلوا لقالوا: إلى متى نسكت؟ فهيا نطلب العلم. فانتهوا لهذه اللطيفة. فيا أهل القرية! حرام على أحدنا أن يقول بدون علم، وإن لزمنا السكوت ولم نستطع أن نقول: حرام ولا حلال، ولا جائز ولا ممنوع، وأردنا الكلام فهيا نتعلم’ وسنجد أنفسنا نطلب العلم برضاً منا وارتياح. فافهموا هذا. وهو أنه: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه بالجواز أو بالمنع.

من مظاهر سقوط الأمة الإسلامية

من مظاهر الهبوط والسقوط في الأرض: هؤلاء الذين نصبوا هذه الدشوش والصحون الهوائية على السطوح، فهم لم يسألوا أهل العلم: هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ فهم لم يسألوا، ولم يفتهم أحد بالجواز. والأصل ألا يقدموا على شيء لا يعلمون حكم الله فيه، وليس لهم من عذر إلا أنهم جهلة هابطون في الأرض كالبهائم، بل البهائم أفضل من عبد لا يسأل عن الله ولا يتعرف عليه، ولا يعرف محابه ولا مساخطه، ولا يعزم على طاعته في أمره ونهيه.

وهذا الصحن لما صدرت الفتيا بتحريمه زادوا في نصبه عناداً ومكابرة. فاعرفوا أمتكم أيها المستمعون! فقد هبطنا، ولا ننتظر سوى نقمة الله، ومن يعش ير، ووالله إن لم يتدارك الله هذه الأمة الإسلامية بتوبة صدق عاجلة لحل بها أكثر مما حل بأجدادها، فيوم استعمرتهم بريطانيا وفرنسا أذلتهم وأهانتهم، فقولوا لهم: انتظروا. ولا تقولوا: إنك تهددنا يا شيخ! فأنا ما زدت على أن قلت ما قال الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

النجاة والفوز عند الله بالعمل لا بالأمنيات

قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]. وهذه آية من سورة النساء، وهي ليست عبثاً، بل معناها: ليس بأمانيكم أيها المسلمون! ولا أماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بل الأمر هو: أنه من يعمل سوءاً منكم أو منهم يجز به، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]. ونحن نعمل شر أعمال اليهود والنصارى، ونقول: نحن أهل الجنة، ونحن مسلمون، وهذا ضلال في الفهم، وهذا خطأ، فالله يقول: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]. فقد كان أهل الكتاب يقولون: الجنة لنا، فنحن أبناء الأنبياء، ونحن كذا، وكان المسلمون يقولون: الجنة لنا، فنحن المسلمون، فحكم الله بينهم فقال: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] أيها المسلمون! وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، وإنما مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]. فزك نفسك وطهرها بالإيمان والأعمال الصالحة، وأبعدها عما يدسيها من الشرك والمعاصي، وكن ابن من شئت، أو انتسب إلى من شئت فستدخل الجنة، أو لوثها وخبثها بالظلم والشر والخبث والشرك والفساد ووالله لو كنت ابن محمد لما نجوت، ولا شممت رائحة الجنة. وهم لا يريدون أن يفهموا هذا. وقد بلغنا هذا الأمر الإلهي، وهو: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]. وهذا يمين، ثم زاد: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:2-8]. والجواب: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. وهذا حكم الله. وقال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]. فلا نسب ولا قبيلة، ولا زمان ولا مكان أبداً، وإنما هو إن زكيت نفسك طابت وطهرت وترقت إلى الملكوت الأعلى، وإن خبثتها ولوثتها بأوضار الذنوب والآثام هبطت كما يهبط غيرك. والمؤمنون لا يقرءون هذه الآيات، ولا يسمعون بها.

وبقيت بقية من الدرس، نتركها إلى غد إن شاء الله. وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 72 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net