إسلام ويب

إذا نادى الإمام للنفير العام، وأمر بالسير للجهاد؛ فقد وجب الخروج للقتال على كل مستطيع، ولزم الإثم من تثاقل عن الخروج، وامتنع عن المسير، ويدخل تحت هذا من عينه الإمام بعينه للخروج، وإذا دهم العدو بلاد المسلمين ووطء أرضهم، فوجب على أهل البلد قتاله ودفعه، ثم الذين يلونهم، وهكذا حتى يأذن الله بنصره.

ملخص لما جاء في النداء السابق

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

خاننا الوقت في نداء أمس، ولم نتأكد من صحة ما علمنا، وسنتأكد اليوم.

الأحبار علماء اليهود، والرهبان عباد النصارى، وعلماء النصارى يسمون قساوسة، واحدهم قُس، والجمع قسس، وجمع الجمع قساوس.

الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34]. فهم يأكلون أموال أتباعهم من العوام بغير حق، بل بالباطل. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]. والمراد بسبيل الله التي يصدونهم ويصرفونهم عنها: الإسلام.

فالأحبار والرهبان والله إلى هذه الساعة والدقيقة يصدون أتباعهم عن الإسلام، ويصرفونهم عنه صرفاً عجباً. والسر في ذلك: حتى يبقى لهم فقط ذلك السبيل من المال، ومن أجل المال وحب الرئاسة يحرمون إخوانهم من دخول الجنة، ويحولون بينهم وبين سبيل السعادة وطريق النجاة.

ومن أمثال هؤلاء: علماء وأئمة الرافضة، فهم يأخذون خمس دخل الفرد، مع أن الزكاة كلها (2.5%)، أي: في الأربعين ريالاً ريالاً واحداً. وهم يفعلون هذا ليصرفوا أتباعهم عن الدين الحق.

ولم نر من أهل السنة من نصب نفسه هذا المنصب، وأكل أموال الناس، وفجر بنسائهم، واستغلهم واستعبدهم.

وكذلك رأينا بأعيننا مشايخ الطرق الصوفية من موريتانيا إلى إندونيسيا يستغلون العوام استغلالاً كاملاً، ويمنعونهم من سماع التوحيد والسنة، ويقولون لهم: لا تجلسوا إلى الوهابيين، ولا تسمعوا لهم. وهذا شأن من يحب الحياة الدنيا، ويرغب أن يسمو فيها ويعلو، وهو معرض عن الآخرة غير ملتفت إليها.

قال تعالى في النداء السابق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]. وهذه الآية احتار لها أصحاب رسول الله واضطربوا، حتى جاء عمر رضي الله عنه فقال لهم: أنا أفرج عنكم، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! إن أصحابك كبر عليهم هذه الآية. ففرجها الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: ( إن الله لم يفرض الزكاة في أموالكم إلا ليطيبها لكم ويطهرها ).

ولو كان اكتناز المال حراماً لما شرع التوارث، والله عز وجل أنزل آيات المواريث في كتابه، وبين أحكام إلإرث. وقد انعقد الإجماع على أنه يجوز للمؤمن أن يدخر ذهباً أو فضة، أو دنانير أو ريالات لحاجته، على شرط أن يزكيها كلها، وإذا وجب عليه أن ينفق أنفق، فإن أنفق وتوفر له شيء فلا إثم عليه أبداً مادام يزكيه كل عام.

وخير ما يكنز المسلم المرأة الصالحة، وهي التي تؤدي حقوق الله وحقوق عباده كاملة.

ومن آيات صلاحها: أنه إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في عرضه وماله.

سألني اليوم بهلول عبر الهاتف، وقد أردت أن أطلعكم على ذلك؛ لتعرفوا أن الجهل ظلمة، وأنه ما قعد بالمسلمين والله إلا الجهل، ولو أنهم عرفوا ربهم معرفة يقينية لأحبوه وخافوه، ومن أحب الله لم يترك واجباً أمر به ولا مستحباً استحبه، ومن خاف الله لم يغش الذنوب ولم يرتكب الكبائر، ولكن الجهل منع وجود حب الله والخوف منه في القلب.

وقد سألني هذا: أنه تزوج امرأة وأمهرها ثمانين ألف ريال، وأصابه مرض، فنذر لله إن شفاه أن يطلق هذه المرأة. فقلت له: يا بني! النذر في المعصية لا يجوز، وطلاق المؤمنة من دون جرم ارتكبته حرام، فلا تنذر لله بمعصية. وقلت له: لو قلت: لله علي أن أضرب فلاناً أو أسب فلاناً لم يجب عليك أن تفي بهذا النذر؛ لأنه نذر في معصية الله.

ثم قال: إذا ردوا علي شيئاً من المهر فهل لي أن آخذه أم لا؟ فقلت له: لك الحق في النصف، وعلى ولي المرأة أن يرد عليك أربعين ألفاً؛ لأنك لم تبن بها، ولم تدخل عليها، فلك نصف المهر.

والشاهد من هذا: أن الجهل فعل بنا ما فعل.

الطريق إلى الخلاص من الجهل معروف، وهو: العلم، وسنحصل على العلم إن امتثلنا قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل:43].

وإذا أراد المسلمون عرباً أو عجماً أن يعلموا فعليهم أن يجتمعوا في بيوت ربهم مساء كل يوم من المغرب إلى العشاء بنسائهم وأطفالهم وفحولهم، وتجلس النساء وراء الستارة، والأطفال دونهن، والفحول أمامهم، والمعلم الرباني أمام الجميع، ويعلمهم ليلة آية، فيحفظونها ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على امتثال ما فيها، فإن كان عقيدة اعتقدوها، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان واجباً عرفوه ونهضوا به، وإن كان محرماً ممنوعاً عزموا على ألا يأتوه. ويعلمهم في الليلة الثانية حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا طول العام وطول العمر، فلا يبقى بينهم جاهل أو جاهلة، وإذا انتفى الجهل في تلك القرية أو ذلك الحي وانتشر العلم لم يبق فيها والله عهر ولا زنا، ولا كذب ولا خيانة، ولا غش ولا كبر، ولا استعلاء ولا حسد؛ لأن كل الذنوب وأوساخها ناتجة عن الجهل بالله ومحابه ومساخطه.

والبرهان والدليل على هذا: أن أعلمنا بالله أتقانا له، وكذلك أهل القرية أعلمهم بالله وأعرفهم به أتقاهم لربهم، والملائكة لا يعصون الله لأنهم مع الله، والأنبياء لا يعصون الله لأن الله يكلمهم، وأصحاب رسول الله لم يفعلوا أفعالنا ولا عاشوا عيشتنا؛ لأنهم كانوا يتلقون العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الآن أعلم أهل المملكة أتقاهم لله.

وقد بلغنا أن أهل قرية في مصر -وقرأت هذا في المجلة- سلكوا هذا المسلك، ولكن ليس المسلك الذي تكلمنا عليه طويلاً، وإنما فقط أسسوا قرية سموها مركزاً، واجتمعوا فيها، وتعاونوا، وتركوا الهراء والباطل، والكلام السياسي والخبث، ولم يبق يبنهم عاطل، فقد جمعوا المال في بيت الله، وأنشئوا به مصنعاً على قدرهم ومزرعة، واشتغلوا فيهما، وانتهوا من الربا، ومن الخيانة والباطل. ولو اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله لأصبحوا أفضل.

وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام إلى ذلك وحرمة القعود عنه

هذا هو [ النداء الثالث والخمسون ] وهذه النداءات تسعون نداء، نادى فيها الرحمن أولياءه وعباده المؤمنين، وقد ناداهم ليعلمهم، وليأمرهم ولينهاهم، وليبشرهم ولينذرهم؛ لأنهم أولياؤه، والولي لا يرضى لوليه الشقاء والخسران، وإنما يأمرهم وينهاهم، ويعلمهم ويبشرهم؛ من أجل أن يكملوا ويسعدوا، والنتيجة: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

وهذا النداء هو [ في وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام إلى ذلك، وهو ما يعرف بالتعبئة العامة، وفي حرمة القعود عنه

الآيتان (38 ، 39) من سورة التوبة ] وهيا نتغنى بهذا النداء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تغنوا بالقرآن ).

[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39].

الشرح: اعلم أيها القارئ! والمستمع! ] وهما كل مؤمن ومؤمنة. فالله ينادي كل مؤمن بوصفه وليه، فليسمع نداءه، وليفهم مراد الله منه، فهذه النداءات خاصة بأهل الإيمان، فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يقرأها إن كان يحسن القراءة، أو يستمع لمن يقرأ عليه إن كان لا يحسن القراءة، والله لا ينادينا الله لا لشيء، فهذا الكلام لا يعقل، وتعالى الله عن اللهو واللعب والباطل. فيجب على المؤمنين والمؤمنات أن يسمعوا نداءات الرحمن إليهم، وأن يفهموا مراد الله منها، وأن يعملوا بمقتضى ما تدعوهم إليه. وقضاء الله نافذ.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا ...)

على القارئ والمستمع أن يعلما [ أن هذا النداء وجه يوم نزل إلى المؤمنين بالمدينة النبوية ] وقد تبلد إحساسنا بأننا في المدينة النبوية، وأهلها لا يشعرون بأنهم في المدينة، فهم يغنون ويزمرون فيها، ويفجرون ويكذبون، ويسرقون ويقولون الباطل، وهي بلد حرام، ( من أحدث فيه حدثاً أو أوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ). وسبب هذا هو الجهل، فهم لم يعرفوا الله، ولم يعلموا عنه، ولهذا فهم يفجرون في مدينة الرسول، بل وفي مدينة الرب في مكة. والسبب والله هو الجهل. وأنا لا أقصد الجهل بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنهم يعرفون يقرءون ويكتبون، بل أقصد الجهل بالله وبمحابه ومساخطه، والجهل بوسائل التقرب والوصول إلى رضا الله؛ لأنهم لم يتعلموها ولم يفهموها. واليوم قد تعلم الشعب بكامله، بل العالم كله، النساء والرجال، فكلهم يقرءون ويكتبون، ولكنهم مازالوا جهلة، فالمتعلم يعيش على معصية الله ورسوله؛ لأنه والله لا يعلم.

والعوام يسمون المدينة النبوية: المدينة المنورة، وأما أهل العلم فيسمونها المدينة النبوية؛ ليذكروا غيرهم بأنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يعصى الله فيها. وهي منورة، فقد نورها الله بالكهرباء والحمد لله، ولا يوجد بلد منور مثلها، ونحن لا نريد هذا النور، وإنما نريد نور الإيمان والعلم، والمعرفة والتقوى والبرهان.

قال: [ وذلك يوم بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه ] وأعد عدته [ لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم ] في مدينته، وينهي دعوته وإسلامه. ولم تكن الأخبار تنتقل باللاسلكي والبرقيات، وإنما بواسطة المسافرين [ فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعبئة العامة ] والتعبئة العامة كلمة عصرية، وهي بمعنى: النفير العام [ وكان الزمن صيفاً ] أي: في برج السنبلة والسرطان [ وحاراً، وبالبلاد جدب وقحط ومجاعة ] والله العظيم [ وكان ذلك في شوال من سنة تسع من الهجرة ] قبل السنة العاشرة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: [ إذ سُميت هذه الغزوة بغزوة العسرة ] من العسر [ فاستحث الرب تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ] في قوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ [التوبة:38]. وهذا حث لهم وحض [ لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره ] فرسول الله لما بلغه أن هرقل ملك الروم أعد العدة لغزوه، وخرج إليه في جيش عدده ثلاثين ألفاً، وكان جيش هرقل مائتي ألف. وهذا لنعرف أن وزننا بجانب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يساوي ولا حتى ريشة بجانب الطن.

قال: [ فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:38] أي: اخرجوا للجهاد في سبيل الله، والقائل لهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

توبيخ الله لمن لم يخرج للجهاد في سبيل الله

قال تعالى موبخاً من لم يخرج للجهاد في سبيل الله: [ اثَّاقَلْتُمْ ] أصلها تثاقلتم، أدغمت الثاء في التاء [ أي: تباطأتم، كأنكم تحملون أثقالاً ] كالذي يحمل قنطارين أو ثلاثة فإنه لا يستطيع أن يقوم [ لا تريدون الخروج، راضين ببقائكم في دوركم وبين أزواجكم وأولادكم. أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38]؟ وهذا إنكار ] وعتاب ولوم وتأنيب [ منه تعالى على من كانت هذه حالته منهم ] والاستفهام للإنكار عليهم، أي: أن هذا البدل لا يصح. وجلهم لم تكن هذه حالهم، ولكن هذا موجه لمن كان حاله هكذا [ وهذا عدد قليل وليس بكثير؛ إذ أكثر المؤمنين نفروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من تباطأ أولاً خرج ثانياً، إلا من تخلف بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم قال لهم عز من قائل: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]. فكيف تؤثرون الحياة الدنيا القليلة التمتع بالطعام والشراب، والكساء والراحة على الآخرة ذات النعيم العظيم والخالد الباقي؟ فكيف تؤثرون القليل الفاني على الكثير الباقي؟ إن أمركم عجب ]؛ لأن الاستفهام أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:38]؟ في معنى التعجب.

توعد الله عز وجل لمن يترك الخروج للجهاد في سبيله تعالى

قال: [ ثم وجه إليهم الأمر الموجب للخروج للجهاد لقتال بني الأصفر - الروم-] فبنو الأصفر هم الروم، وليسوا بني الأسود ولا بني الأبيض، والناس لا ينقسمون إلى أسود وأصفر وأحمر، وإنما إلى أبيض وأسود، ووسط بين ذلك، وهم العرب.

قال: [ إذ عزموا على قتال الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ وأتباعه، فقال تعالى مهدداً موعداً آمراً بالخروج حاثاً حاضاً عليه: إِلَّا تَنفِرُوا [التوبة:39]، أي: إن تخليتم عن نصرة نبيكم، وتركتموه يخرج إلى القتال إلى قتال الروم وحده مع قلة من أصحابه فالجزاء سيكون عظيماً ] وهو أن [ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [التوبة:39]، أي: موجعاً لا يطاق؛ لشدة ألمه، ومرارة مذاقه. وأمر آخر: هو أنه ] تعالى [ إذا أهلككم يستبدل بكم غيركم، بمن ينصرون رسوله، ويقاتلون معه، إذ قال عز وجل: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا [التوبة:39]، أي: من الضرر ] وإن قل [ لأنه وليه وناصره. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39]. فلا يعجزه إهلاككم واستبدالكم بغيركم، ونصرة نبيه إن كنتم تركتم نصرته.

الجهاد في سبيل الله مستمر حتى لا يبقى في الأرض مشرك

قال: [ هذا ولنعلم أيها القارئ الكريم! ] والمستمع! [ أن هذا النداء حمل حكماً عاماً للمسلمين في أي زمان ومكان؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ] فهو لم يقل: إذا قال لكم رسولنا: انفروا، بل قال: إذا قيل لكم، فيدخل فيه كل إمام للمسلمين يأمر بالتعبئة العامة والنفير [ لذا فلنتأمل ما يلي ] فهذا هو حصيلة هذا النداء الكريم:

[ أولاً: الجهاد في سبيل الله تعالى من أفضل الأعمال، وهو باقٍ ما بقي من لا يعبد الله تعالى ] في الأرض [ لقوله تعالى في سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39] ] أي: حتى لا يبقى من يصرف عن دين الله بأنواع الفتنة والصرف [ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] ] فلا ينتهي الجهاد إلا إذا لم يبق على الأرض من يعبد غير الله. ويتحمل مسئولية الجهاد المسلمون، فيجاهدون [ أولاً: في جزيرة العرب ] لأنها بيضة الإسلام وقبته، ولأنه ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) [ ثم في كل أنحاء المعمورة، إذ أمة الإسلام نائبة عن نبيها في إبلاغ دعوته إلى العالم التي تحمل الهداية والطهر، والسعادة والكمال للبشر أجمع ] فأصحاب الرسول هم الذين خلفوا رسول الله في دعوته، ونشروا الإسلام في الشرق والغرب، ولما مات أصحابه خلفهم أولادهم، ثم خلفهم أحفادهم، حتى وقف السير؛ لأن العدو استطاع أن يوقفه.

انصراف الأمة عن الكتاب والسنة سبب تأخرها

لقد استطاع العدو أن يوقف سير هذه الأمة يا أيها السياسيون! لأنه عرف أن طاقة الإيمان مستمدة من القرآن، وحياة المؤمنين هي من القرآن، فصرفوا المسلمين عن القرآن، وحولوه إلى القبور والمآتم، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، فمات المسلمون.

وقد أخبر تعالى بأن القرآن روح، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. فالقرآن روح، ووالله لن تتم حياة طاهرة بدونه. والقرآن نور، كما قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى:52]. وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. ووالله إنه لا يمكن لإنسان أن يهتدي إلى كماله وسعادته بدون نور.

والبرهان والدليل على هذا: أن العالم الآن ترقى وتحضر، وبلغ الكمال المادي، ولكنه أحبط ما يكون، فهو بلا آداب وأخلاق، وبلا معرفة وغير ذلك، ويعيش أهله كالبهائم، فهم في عمى، وليس معهم ضوء ولا نور، ولم ينفعهم تقدمهم.

وقد عرف اليهود والنصارى أنه لا يوجد نور غير القرآن، فصرفوا أمة الإسلام عن قال الله وقال رسوله، وحولوهم إلى قال الشيخ الفلاني وقال سيدي فلان، حتى هبطت الأمة، فركبوها، وساقوها إلى هذا الهوان والدون. ولم يستطع المسلمون أن يفيقوا.

وطريق عودتهم سهل، وهو والله لا يكلفهم ولا رصاصة واحدة، ولا يكلفهم إلا اتباع الوحي. فإذا أردنا العودة فعلينا أن نصدق الله، ونقبل عليه، ونجتمع في بيوته بنسائنا وأطفالنا، ونبكي بين يديه طول العام، ونستمطر رحماته، فإذا بنا ربانيون أولياء الله، لا خوف علينا، ولا حزن ينالنا. وهذا لا يكلفنا شيئاً.

واليهود والنصارى وأمريكا وأوروبا واليابان والصين والعالم الكافر كله إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، وذهبوا إلى الملاهي والمقاهي، وإلى الملاعب والمراقص، وهم لا يلامون في هذا؛ لأنهم بهائم، وهم شر الخليقة. والمسلمون لا يستطيعون أن يذهبوا إلى بيوت الرب؛ لتطهر أرواحهم، وتزكو نفوسهم، وتسمو آدابهم وأخلاقهم، ويصبحون كرجل واحد، ولذلك ازداد الجهل والظلام، وأصبحت حالة المسلمين أسوأ حالة، حتى وجد في القرية الواحدة من يزني بامرأة أخيه، ووجد فيها السرقة والتلصص والإجرام، والغيبة والنميمة، والكذب والخداع، وعدم الثقة وغير ذلك، وكأننا ما شممنا رائحة الإسلام. وأنا لا أستشهد على هذه الحالة بواحد ولا بعشرة، بل بكل هذه الأمة البالغة مائة ألف مليون.

ولا بد أن يبقى صالحون، وأن يبقى هذا النور؛ لتقوم حجة الله على الكفار، ولا تقوم حجج الكفار على الله. ومن هذه الحجج التي أبقاها الله لتكون حجة: هذه الدولة التي أقامها الله على يد عبد العزيز ؛ لتقوم الحجة لله على المسلمين يوم القيامة، حتى لا يقولوا: لقد انتهى من يحكم بكتابك وهدي رسولك، ولم نعرف أن الإسلام يقيم كذا وكذا. فأراهم الله دولة تطبق القرآن، وتحقق الأمن والطهر، وبعض الإخوان يغضبون من هذا الكلام. ووالله ما رأت الدنيا بلداً أصابه طهر وأمن كما رأته على يد هذه الدولة من القرن الثالث. ولم يكن السبب في هذا كثرة الجيوش والأموال، فلم يكن في عهد عبد العزيز مال، ولم يكن يملك أحدهم في عهده إلا صاع شعير وجدي من المعز. ومع ذلك تحقق والله العظيم طهر وأمن لم يتحقق في الأرض إلا في القرون الذهبية الثلاثة؛ وقد فعل الله هذا لتقوم الحجة لله، إذ لو لم يبق حكم إسلامي قط وهبطت الأمة فقد يقولون: ربنا! ما عرفنا، ولا علمنا، ولا بلغنا.

وقد كان العالم الإسلامي مستعمراً من إندونيسيا إلى موريتانيا، بما في ذلك مصر والشام، ولو أراد الله بنا خيراً وكنا أهلاً له لقلنا: العالم الإسلامي عالم واحد، ولكن أمة محمد غلبها الجهل، وقد جهلها العدو واستغلها واستعمرها. ثم أذن الله بالانفراج، وكانت أول دولة تستقل هي سوريا، وقد استقلت عن فرنسا، وكان المفروض على أي إقليم يستقل أن يأتي رجاله إلى عبد العزيز ويقولون: هذه مفاتيح البلاد، وقد خرجت فرنسا أو بريطانيا، فابعث لنا القضاة، وابعث لنا والياً عاماً يطبق شريعة الله، ويصبحوا قطعة من المملكة. وهذا درس سياسي؛ لأن القرآن جاء بهذا. وقد كان عليهم أن يفعلوا هذا؛ لأن هذا واجب إيماني وقرآني والله العظيم.

ويوم استقلال باكستان كنا في نادي الترقي نكبر: الله أكبر! وكان بيننا العقبي ، وقلنا: انفتح باب الإسلام. ولو جاءوا إلى عبد العزيز وقالوا: ابعث لنا قضاة، ووالياً عاماً يطبق شرع الله، ويرجم الزاني؛ لأصبحت قطعة من المملكة. ولو فعل كل إقليم هكذا لما تم الاستقلال إلا والخلافة قائمة، وأمة الإسلام أمة واحدة. ولكننا هابطون، لا نعرف الله ولا ما عنده. بل كان كل إقليم يتجبر إذا استقل، ويشرع قوانين من عنده، ويشرع ما يشاء، فهبطوا هبوطاً أسوأ من هبوطهم أيام الاستعمار. وكل هذا بسبب ذنوبنا.

والآن نريد أن نعود بتكفير الحكام وقتلهم.

وليس هذا هو مسلك الرشد وطريق النجاة، بل مسلك الرشد أن نتوب إلى الله ونعود إليه؛ حتى نصبح جسماً واحداً، وتكون كلمتنا واحدة، ويومها يفتح الله أبواب الخير والهدى. وأما ونحن جهلة فسقة إلا من رحم الله فلن نجمع أمة الإسلام، ولن نقيم دولة، ونجعل الحاكمية لله.

[ ثانياً: أن النفير والتعبئة العامة يقوم بها إمام المسلمين عندما تدعو الحاجة إلى ذلك؛ لهذه الآية الكريمة في هذا النداء العظيم ].

الأحوال التي يكون الجهاد فيها فرض عين

قال: [ ثالثاً: الجهاد وهو من أفضل الأعمال يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية.

وفرض العين يكون في ثلاثة أحوال:

الأول: أن يعلن الإمام التعبئة العامة والنفير العام ] فالإمام هو الذي يعلن التعبئة العامة والنفير العام [ كما في هذه الآية التي تضمنها النداء ] وإذا أعلن إمام المسلمين التعبئة العامة وجب على كل فحل أن يقف أمام الثكنات، وأمام الحكام والقادة.

[ الثاني: أن يعين الإمام من شاء من المؤمنين ] ممن بلغ الثامنة عشر، أو الواحدة والعشرين من أبناء الشعب [ فيجب على من عينه أن يخرج للجهاد ] فمن عينه وجب عليه أن يلتحق بالثكنات؛ لأن هذا قد وجب عليه؛ لأنه عين. وليس شرطاً أن يعين الإمام الأفراد بأعيانهم، بل قد يقول: من بلغ سن السابعة والعشرين يحضرون، أو من بلغ سن الواحدة والثلاثين من العمر يحضرون. وبهذا تكون التعبئة والتعيين.

[ الثالث: أن يداهم العدو أهل ثغر أو بلد على الحدود ] مثل أن يهاجم ميناء من موانئ البلاد [ فعلى كل ذكر بالغ عاقل ] من أهل ذلك الثغر، أو تلك المدينة [ أن يخرج يدافع ويقاتل ] فيخرجوا كلهم، ولا يتخلف منهم أحد؛ لأن هذا فرض عين عليهم [ حتى يقهر العدو ] ويردوه ويقفوا في وجهه [ أو يصل المدد من إمام المسلمين وحكومته ] حتى لا يزحف العدو إلى داخل البلاد.

هذه مواطن الجهاد العيني. وقد كنا نسأل عن الجهاد الأفغاني، وكنا نقول: إنه جهاد حق، ولكن فيه دخن، وكان يغضب الغافلون من قولنا: فيه دخن. وهذا الدخن هو أنهم لم بايعوا إماماً لهم، يلتفون حوله أحزاباً وجمعيات ومنظمات. ولذلك لما انتصرنا وانهزمت روسيا بدعائنا وسلوكنا أكلوا بعضهم بعضاَ، ولم يقيموا الدولة الإسلامية. والناس يسمعون ولا يفهمون.

فالجهاد يكون فرض عين الجهاد في ثلاثة مواطن، وهي:

أولاً: إعلان التعبئة العامة من إمام المسلمين.

ثانياً: إذا عين الإمام بعض الأفراد للجهاد.

ثالثاً: إذا داهم العدو فجأة بلداً أو ثغراً، وإذا احتل العدو مدينة أو ثغراً فعلى أهل تلك المدينة أو الثغر أن يموتوا في سبيل الله، حتى يأتي المدد، أو حتى يدفعوا العدو ويدحضوه.

ضرورة أن يكون الجهاد خالصاً لوجه الله وحقارة الحياة الدنيا وتفاهتها

قال: [ رابعاً: أن يكون الجهاد - وهو بذل الجهد والطاقة البدنية والعقلية والمالية- في سبيل الله، أي: من أجل رضا الله تعالى وطاعته، وطاعة رسوله وأميره، فلا يكون من أجل سلطة أو مال، أو جاه أو سمعة ] ويجب أن يكون الجهاد هكذا.

[ خامساً: بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وضآلتها أمام الآخرة دار النعيم المقيم، والسعادة الأبدية الخالدة ] وذلك [ لقوله تعالى ] في النداء: [ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم : ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟ ). والأصبع التي أشار بها هي السبابة ] فقف أمام البحر الأبيض أو الأحمر، أو الأسود أو الأطلنطي، أو نهر دجلة أو نيل مصر وأغمس أصبعك فيه ثم أخرجها، ثم زن كمية الماء أو البلل الذي في الأصبع، وقد يكون جراماً، وليس له نسبة إلى البحر، وهذه هي النسبة الحقيقية بين الآخرة والدنيا.

وقد عرفنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: يعطى كوكبين؛ لأنه لا نسبة بين الدنيا والآخرة. فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبة الدنيا في الآخرة مثل أن يغمس أحدنا أصبعه في البحر ثم ينظر كمية البلل وينسبها إلى هذا البحر، والله يقول: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]. والذي قلله هو الله جل جلاله.

قال: [ سادساً: وجوب نصرة رسول صلى الله عليه وسلم في دينه وفي أمته وسنته.

ألا فلنتدبر ونتأمل ما حواه هذا النداء الإلهي الكريم، ولنعمل في صدق على إبلاغه بعد العمل به. والحسنة بألف حسنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يجزي الحسنة بألفي حسنة ). أما حسنة الجهاد فهي بألف ألف، أي: بمليون حسنة، والله يضاعف لمن يشاء.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 55 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net