إسلام ويب

كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الناس، فهو نبي العدل، وهو المرسل من ربه بدين العدل، فقد جاء بالعدل في كل شئون الحياة، فما عرض عليه أمر فيه حد من حدود الله إلا أنفذه، دون مراعاة لمقام من طبق فيه الحد أو شرفه أو مكانته بين الناس، ولم تمنعه عداوة الأعداء ولا بغض المبغضين من معاملتهم بالعدل، ثم هو صلى الله عليه وسلم عدل في أكله، وشربه، ومعاملته لأهله، وفي شأنه كله عليه الصلاة والسلام.

العدل المحمدي

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فقد انتهى بنا الدرس إلى الأخلاق المحمدية، وها نحن الآن مع [العدل المحمدي] أي: مع العدل الذي كان يعرف به صلى الله عليه وسلم، ولا يشك مؤمن في أنه لن يساويه في هذا الشأن أحد من عباد الله.

قال: [إن العدل خلاف الجور، أمر الله تعالى به في القول والحكم] أي: أمرنا أن نقول العدل، وإذا حكمنا أن نحكم بالعدل [قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]]، فإذا قلت يا عبد الله، وإذا قلتِ يا أمة الله قولاً فلابد وأن لا تميلي يميناً ولا شمالاً، ولكن العدل العدل، وإذا قال عبد الله قولاً يجب أن لا ينحرف فيه ولا يميل مراعاة لحال من الأحوال، وهذا قول الله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ، أي: ولو كان الذي تقول له هو فيه من قرابتك.

قال: [وقال تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]]، فلهذا العدل يكون في القول ويكون في الحكم [وعلى العدل قام أمر السماء والأرض، ومن هنا كيف لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عادلاً، وهو القائل: ( ثلاثة إجلالهم من إجلال الله تعالى.. وذكر من بينهم: الإمام العادل )، وذكر أن سبعة] من عباد الله [يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وعدَّ منهم الإمام العادل، وقال: ( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة )] من هم المقسطون؟ العادلون في أقوالهم وأحكامهم [وبين أنهم الذين يعدلون في حكمهم وما ولوا. ولذا كان صلى الله عليه وسلم عادلاً في قوله وفعله وحكمه، لا يجور ولا يحيف، وكان العدل من أخلاقه وأوصافه اللازمة له صلى الله عليه وسلم، فقد عرف به في الجاهلية قبل الإسلام] أي: عرف النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل في الجاهلية قبل الإسلام.

قال: [وهذه مواقف] أي: ننظر إليها ونشاهد كيف كان يعدل صلى الله عليه وسلم [له صلى الله عليه وسلم يتجلى فيها هذا الخلق النبوي الكريم وهي:

تحكيم قريش للنبي في شأن وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة

تحكيم قريش له في وضع الحجر الأسود بعد خلاف شديد بينهم كاد يفضي بينهم إلى الاقتتال]. فلما بنت قريش البيت بعد جرف السيول له، وأرادوا أن يبنوه، ثم لما بنوه ووصلوا إلى مكان الحجر، اختلفوا: من هو الذي يحمل الحجر ويضعه في مقامه، فيفوز بالشرف الخالد، فكل جماعة وكل فصيلة وقبيلة قالوا: نحن أولى بهذا، واحتكموا وكادوا يقتتلون.

قال: [فحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا بتوفيق من الله تعالى: نحكم أول قادم علينا غداً]، أي: اتركوا القضية إلى غدٍ، وإذا كنا هنا أول من يدخل علينا نحكمه ويحكم بيننا ونرضى بحكمه، وهذا من توفيق الله عز وجل.

قال: [فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول قادم، فقالوا: هذا الأمين .. هذا الحكم رضينا به] وهذا قبل النبوة، أي: ما بين ولادته والأربعين سنة، وقولهم: (هذا الأمين) أي: الذي ما عرف بخيانة قط لا في قول ولا عمل.

قال: [فحكم بأن يوضع الحجر في ثوب من الثياب، وتأخذ كل قبيلة بطرف] أي: من الثوب، فلما رفعوا الثوب [ثم أخذ الحجر بيديه ووضعه في مكان من جدار البيت؛ فحكم فعدل، وكان مظهراً من مظاهر عدله صلى الله عليه وسلم]. ومن الواجب إذا ذكر بين يديك صلى الله عليه وسلم، فقل: صلى الله عليه وسلم، وإلا تتعرض للهون والدون، وهذا الموقف يتجلى فيه العدل، فإنهم كادوا يقتتلون، فألهمه الله إلى أن يوضع الحجر في ثوب واحد، وكل قبيلة تأخذ بطرفه، ومعناه أنها ساهمت ولها شرف، ثم يأخذ الحجر بنفسه ويضعه في مكانه من البيت.

إقامة الحد الشرعي على القريب قبل البعيد، وعلى العزيز قبل الوضيع

ثاني موقف من مواقف العدل المحمدي ولاحظوا وتأملوا، قال: [لما سرقت المخزومية] هذه امرأة صحابية من بني مخزوم في المدينة سرقت سرقة، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فما أطاق الأصحاب هذا، ماذا يصنعون كيف يفعلون؟

قال: [وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ]، توسط الأصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما تقطع يد المخزومية بولد حبه وهو حبه أيضاً أسامة بن زيد [فرفع إليه القضية أسامة ، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )]، أي: كيف تقبل على هذا وتقدر عليه؟ واسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، قال: [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )]، هذا عدل فوق كل عدل ولا نظير له: ( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )، فكيف بهذه المخزومية.

معاشر المستمعين! أتدرون لماذا ندرس هذه السيرة؟ رجاء أن نتصف ببعض الصفات، والله ليس معنى هذا لنقول: الرسول عدل، ولكن من أجل أن نجاهد أنفسنا حتى نتصف بهذا الكمال المحمدي؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا، وقد جعله الله أسوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فإذا جاءت فتنة أو محنة نتذكر هذه الأحداث فنلزم العدل ولا نحيف ولا نجور، وليس الأمر مجرد سماع وتهكم.

أعيد هذا الموقف: قال: [لما سرقت المخزومية، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ، فرفع إليه القضية، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )] منكراً عليه هذا الموقف ومستنكراً له [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) فكان هذا المظهر عظيماً للعدل المحمدي]، والله إنه لصادق وهو أصدق الصادقين، هذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فأين المحبون؟!

عدل النبي بين أهل بيته وعدله بين عامة المسلمين

وهناك موقف ثالث فانظر واسمع ولاحظ، قال: [وكانت تحته تسع نسوة] أي: وكان تحته تسع زوجات، وعلى رأسهم عائشة ، وعلى نهايتهم مارية القبطية [وكان يعدل ويتحرى العدل ثم يعذر إلى ربه وهو مشفق خائف، فيقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )]، أي: يبذل جهده وطاقته في أن يعدل بين نسائه، في الفراش، في الكلام، في الطعام، في اللباس، ومع هذا يقول: رب هذه قدرتي، هذا قسمي فيما تملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، بمعنى: إن عجزت فهو عن عجز، لا عن إرادة انحراف أو سوء أو ظلم. فقال: (اللهم هذا قسمي فيما أملك) أي: من القدرة، فلا تلمني فيما تملك أنت يا رب ولا أنا لا أملك.

وأنتم عندكم إما اثنتان أو ثلاث، وقل من يكون له أربعة، فليذكر هذا ويعدل بين نسائه، ولا فرق بين الدميمة والجميلة، ولا بين الكبيرة والصغيرة، ولا بين الشريفة والوضيعة، إذ لكل واحدة حقها في ليلة الفراش وفي طعامها ولباسها، وهذا العدل.

هل يوجد هذا العدل بيننا الآن؟

الشكاوى والبكاء والتساؤلات والمحاكم والطلاق لا حد له، وسببه الجور وعدم العدل، وما سمعنا بهذا الخبر ولا علمناه، ولا حاولنا أنفسنا يوماً أن نقتدي برسول الله ونأتسي به، ونمشي وراءه لنكمل ونسعد، بل شغلتنا دنيانا، شغلتنا أهواؤنا وشهواتنا، وها نحن في حيرتنا نتخبط، ومن لم يمش مع الطريق السوي لابد وأن يتحطم.

وموقف آخر، قال: [وقوله للأعرابي البدوي الذي قال له: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله] هذا أعرابي جلف قاس جاهل، كان الرسول يقسم في غنيمة، فقال الأعرابي: اعدل يا محمد، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وهذه الكلمة لو قيلت لغير رسول الله لضربه على وجهه حتى يقع على الأرض، فقوله: (وهذه قسمة ما أريد بها وجه) معناها أن الرسول يواجه الناس ويعاملهم بحسب هواه.

فهذا أعرابي جاهل وغليظ وجاف، وليس من حقه أن يقول هذه الكلمة.

المهم قال الأعرابي: اعدل -أي: يا رسول الله- فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.

قال: [فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ويحك فمن يعدل إن لم أعدل )]، ويحك يا أعرابي، ما قال: ويلك؛ لأن ويحك تدل على الخير، وويلك تدل على الشر والبلاء، وويلك تدل على العذاب، وويحك تدل على الرحمة والإحسان [( خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل )] فدعا على نفسه بالخيبة والخسران إن لم يعدل، هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالأعرابي البدوي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ويحك فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل )) دعا على نفسه، وإن شاء الله من الليلة الذي عنده انحراف في أية قسمة يجب أن يذكر هذا، فلا يميل لا يمين ولا شمال، فالعدل العدل، وقد رأينا رسول الله يعدل هذا العدل ويرغب فيه، فكيف لا نتصف به؟!

عدل النبي في أكله وشربه ووقته

وموقف آخر، قال: [في الطعام والشراب] أي: موقف آخر من مواقف العدل النبوي ولكنه في الطعام والشراب [إذ كان يقول: ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه )]، أي: لم يملأ الإنسان إناء من الأواني شراً من بطنه؛ لأن البطن وعاء، حيث نرمي فيه القمح والدقيق والماء، فتأملوا هذا الكلام النبوي: ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه )، أي وعاء تملؤه حتى يفيد ما يضر، لكن شر الأوعية تملؤه هو البطن، فيصاب بالتخمة ثم الهلاك.

ثم قال: [( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه )]، واللقيمات جمع لقمة، وهذا التصغير للتقليل، فلقيمات يقمن ظهره حتى يستوي ويمشي؛ لأنه لما يكون جائعاً يظهر منحنياً أو واضعاً في صدره شيئاً، فقال: ( بحسب ابن آدم ) أي: يكفيه ( لقيمات يقمن صلبه ).

قال: [( فإن كان ولابد فاعلاً )]، وتأملوا قوله: (فإن كان ولابد فاعلاً) أي: يريد أن يملأ بطنه [( فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس )] وجربوا الليلة يا من يريد الأسوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما توضع المائدة بين يديه أو السفرة: ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للنفس، أما كل الوعاء يملأه بالطعام، فأين يكون الماء وكيف يتنفس؟

وهذا الكلام من سيد الأطباء، والله ما عرفت الدنيا أطب منه للعقول والأبدان على حد سواء، فهو يتلقى معارفه من الملكوت الأعلى، وهل يستطيع طبيب ولو يجتمع أطباء العالم بأسرهم أن ينقلوا هذا الخبر؟ والله ما يستطيعون، ولن يقدروا على نقضه: ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً، فثلث للطعام وثلث للشراب، وثلث للنفس ).

قال: [وكان صلى الله عليه وسلم] اسمع يا عبد الله واسمعي يا أمة الله [يقسم وقته] يقسم الوقت ويقسم الطعام [ثلاثة أجزاء: جزءاً لربه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس] فأربعة وعشرين ساعة في اليوم والليلة يقسمها على ثلاثة، فيكون الثلث ثمانية ساعات، فثمان ساعات تكون لربه، وهذه معناه أن وقت الصلاة يقضي فيه ساعة ونصف وزيادة، أو ساعتين تقريباً، مع الذكر والدعاء والتنفل، فهذا الثلث فيه ثمان ساعات لله عز وجل، أكثرها صلاة وما تابعها.

وقوله: [وجزءاً لأهله] أي: من امرأة وولد [وجزءاً لنفسه] أي: للراحة [ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس] فهذا يسأل، وهذا يقول: أعطني، وهذا .. وهذا، فهذا الجزء الذي هو له ليس خاصاً به، بل بينه وبين الناس صلى الله عليه وسلم.

قال: [فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي، فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله يوم الفزع الأكبر )] كان صلى الله عليه وسلم يقول للناس ولأصحابه: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ) فيا أصحابي! من عنده حاجة ولا يستطيع أن يصل بها إلي فاحملوه أنتم وأبلغوني إياها، ( فإنه من أبلغ حاجة عبد لا يستطيع إبلاغها إلي آمنه الله يوم الفزع الأكبر ) أي: أمنه الله يوم الفزع الأكبر.

مرة أخرى: معاشر المستمعين والمستمعات! نقول: [وكان صلى الله عليه وسلم يقسم وقته ثلاثة أجزاء] هيا نقسم أوقاتنا نحن، وإلا نحن خير منه؟!

هيا نقسم أوقاتنا ثلاثة، قال: [ثلاثة أجزاء: جزءاً منه لربه] فلتكن صلاتنا وذكرنا وعبادتنا ثمان ساعات، وهذا أهم شيء، وإذا كنا نشتغل بالعبادة والصلاة ونقضيها في ساعة ونصف أخذنا حصتنا، فثمان ساعات للعبادة.

قال: [وكان صلى الله عليه وسلم يقسم وقته ثلاثة أجزاء: جزءاً لربه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة] أي: يطلب الخاصة أن يساعدوا العامة [ويقول: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي) ] لأنه الحاكم [( فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله )أو أمنه الله ( يوم الفزع الأكبر ) أي: يوم القيامة].

قال: [وكان الحسن ] أي: ابن فاطمة وابن علي رضي الله عنهما [يقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد )] أي: بتهمة أحد [( ولا يصدق أحداً على أحد )]. فهذا الحسن الحبيب يقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد، ولا يصدق أحداً على أحد ) إلا بالبينة العادلة التي تثبت ذلك.

قال: [وكان يتجلى خلق العدل في الحبيب صلى الله عليه وسلم بصورة واضحة تمام الوضوح، يدعو كل مؤمن إلى التخلق به ائتساء به صلى الله عليه وسلم، وهو أسوة كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة].

وهكذا يتجلى خلق العدل في الحبيب صلى الله عليه وسلم بصورة واضحة، وهذا يدعو كل مؤمن إلى التخلق به ائتساء به صلى الله عليه وسلم، وهو حقاً أسوة كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة.

كيف رأيتم خلق العدل؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الزهد المحمدي

قال: [الزهد المحمدي] أي: كيف كان يزهد في هذه الأوساخ الدنيوية، والأعراض الفانية الباطلة، كيف كان يزهد فيها؟

نستمع إلى بعض الوقفات.

قال: [إن المراد بالزهد الزهد في الدنيا، وذلك بالرغبة عنها، وعدم الرغبة فيها، وذلك بطلبها طلباً لا يشق ولا يحول دون أداء واجب، وسد باب الطمع في الإكثار منها والتزيد من متاعها، وهو ما زاد على قدر الحاجة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )، وقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأقلهم رغبة فيها، حتى كان الزهد خلقاً من أخلاقه الفاضلة وسجية من سجاياه الطيبة الطاهرة].

أعيد قراءة هذه الفقرات فتأملوا! قال: [إن المراد بالزهد] يا عباد الله ويا إماء الله! [الزهد في الدنيا؛ وذلك بالرغبة عنها، وعدم الرغبة فيها] فمن رغب فيها طلبها في الليل والنهار من الحلال والحرام، ومن رغب عنها تركها ولا يطلبها إلا بحسب سنة الله في الطلب، فما جاء منها مرحباً، وما لم يجئ كذلك.

قال: [وذلك بطلبها طلباً لا يشق] أي: يطلب الدنيا طلباً لا يشق على نفسه؛ فيسهر الليل كاملاً ويعمل النهار.

قال: [ولا يحول دون أداء واجب] أي: يطلب الدنيا، لكن هذا الطلب لا يمنعه أن يؤدي واجباً، فما يقف بينه وبين واجب أبداً، فالواجب أولاً، [وسد باب الطمع في الإكثار منها والتزيد من متاعها] هذا معنى الزهد: سد باب الطمع في الإكثار، فهو لا يريد أن يكثر ماله أبداً، والتزيد من متاعها، [وهو ما زاد عك قدر الحاجة] ما به الحاجة اطلبه طلباً لا يشق، ولا تطلب طلباً في إضاعة ما أوجب الله من العبادات، بل اطلبه في حدود طاقتك.

قال: [وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( ازهد في الدنيا يحبك الله )]، لأنه إذا زهد في الدنيا رغب في الآخرة، وإذا رغب في الآخرة أخذ يعمل الصالحات، وتجنب المكروهات المحرمات، ومن هنا زكت نفسه وطابت وطهرت، ومن هنا أحبه الله عز وجل.

إذاً قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله) لأن الزهد في الدنيا معناه الرغبة في الآخرة، فهما ضرتان متلائمتان، فإذا أقبل على الآخرة زهد في الدنيا، وإذا أقبل على الآخرة أكثر من الصالحات وقلل من السيئات، وحينئذ تطيب نفسه وتطهر، والله يحب الطيبين المطهرين.

وعجب لهذه الحكمة: (ازهد في الدنيا يحبك الله)، فلا تفهم: ازهد في الدنيا وازهد في الآخرة أيضاً، فما يقول هذا عاقل، لكنك إذا زهدت في الدنيا فإن هذا معناه: أنك رغبت في الآخرة وأعطيتها وقتك وجهدك.

قال: [( وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )] أي: ازهد فيما عند الناس فما تلتفت إلى أموالهم ومتاعهم وما هم فيه فيحبك الناس، أما إذا ما زهدت فيما عندهم: ما هذا وكيف لكم، وأعطونا وأنتم كذا.. والله ما يحبونك.

فصلوا على أبي القاسم، عجباً لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم!

وأنت إذا كنت في القرية أو في الحي أو في المدينة، والناس عندهم أموال، فازهد أنت تجدهم يحبونك، أما إذا التفت إليهم تدعوهم وتسألهم تقول: ما شاء الله، هذا عندكم وهذا كذا والله لا يحبونك، وقد أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيا نحفظ هذه الحكمة المحمدية: ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )، لماذا نصبنا يحبَك؟ لأنها في جواب الطلب، فالأمر افعل كذا والجزاء كذا، والحركة هنا أظهر من السكون: ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) وهذا والله لحق، وقد جربناه ونجحنا، ومن أحبه الله وأحبه عباده بقي أفضل منه؟ ما في كمال أعظم من هذا: حب الله وحب الناس، فقد أصبح كرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: [وقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأقلهم رغبة فيها، حتى كان الزهد خلقاً من أخلاقه الفاضلة وسجية من سجاياه الطيبة الطاهرة]، والسجية هي الطبيعة والفطرة.

مواقف يتجلى فيها خلق الزهد عند النبي صلى الله عليه وسلم

قال: [وها هي مواقف يتجلى فيها الزهد المحمدي:

أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح] فالأحاديث التي نوردها ليس فيها ضعيف أو باطل، بل أحاديث ثابتة صحيحة [يقول: ( لو كان لي مثل أحد ذهباً )]، تعرفون جبل أحد؟ اخرج عند الباب وشاهد [(لو كان لي مثل أحد ذهباً لما سرني أن يبيت عندي ثلاثاً إلا قلت فيه هكذا وهكذا إلا شيئاً أرصده لدين )]. أي: لو كان لي مثل أحد ذهب لما سرني أن يبيت عندي ثلاثاً أي: ثلاث ليال، إلا قلت فيه: هكذا وهكذا، أعطيت من هذا وهذا، إلا شيء أرصده للدين.

قال: [فهذا أكبر مظهر للزهد الصادق الذي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يعيش عليه ويتحلى ويتجمل به]. فهيا يا أصحاب الرواتب مثلنا، قسموها ثلاثة.

مرة ثانية: قال: (لو كان لي مثل أحد ذهباً لما سرني) أي: لما أفرحني (أن يبيت عندي ثلاث إلا) أي: ما يبقى عندي ثلاثة أيام وقد قسمته ( إلا قلت فيه هكذا وهكذا إلا شيئاً أرصده لدين ) الذي عليه دين هو علي.

قال: [ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم لـعمر] اسمع ما قال لـعمر بن الخطاب [وقد دخل عليه] أي: دخل عمر على رسول الله في فراشه في تلك الحجرة [فوجده على فراش من أدم] أي: فراش من جلد [حشوه ليف] أي: ليف النخل، ليس بصوف ولا قطن [فقال] أي: عمر رضي الله عنه [إن كسرى وقيصر ينامان على كذا وكذا]، إن كسرى ملك فارس، وقيصر ملك الروم ينامان على كذا وكذا من الفرش [وأنت رسول الله صلى الله عليك وسلم تنام على كذا وكذا؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: ( ما لي وللدنيا يا عمر، إنما أنا فيها كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها)] أي: ما لي وللدنيا يا عمر ، إنما أنا فيها كمسافر استظل بظل شجرة ساعة القيلولة ثم راح وترك الشجرة والظل، وهذه هي الدنيا، والله لهي الدنيا هكذا، ما منا إلا وتاركها [فكان هذا أقوى مظهر من مظاهر الزهد المحمدي الصادق].

وموقف آخر، قال: [عرض عليه ربه تعالى] أي: بواسطة جبريل عليه السلام [أن يحول له الأخشبين ذهباً وفضة؛ وذلك بعد عودته من الطائف جريحاً كئيباً حزيناً] وذلك لما ما وجد أبداً من يصغي أو يسمع كلامه في مكة، وطالت المدة فخرج إلى الطائف، فنالوا منه، ضربوه بالحجارة، وأدموا عقبيه، فعاد في كرب وهم وحزن، فأراد الله أن يخفف عنه ذلك، فقال: إن ربك يعرض عليك تحول الجبلين إلى ذهب وفضة لمسح دموعه.

قال: [فقال: (لا يا رب، أشبع يوماً فأحمدك وأثني عليك، وأجوع آخر فأدعوك وأتضرع إليك )]. الله أكبر.. الله أكبر! هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا رب) أي: لا تحول لي الجبلين ذهب وفضة، لماذا؟ قال: ( أشبع يوماً فأحمدك وأثني عليك) وهكذا: أيما مؤمن شبع بطعام أي طعام فيقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، وإذا جاع رفع يديه إلى الله ودعا ربه، فهو يتنقل من خير إلى خير، بخلاف لو كان دائماً شبعان يحمد فقط، والصنف الثاني ما عنده إلا الدعاء والضراعة: ( وأجوع يوماً آخر فأدعوك وأتضرع إليك ) وهذه وحدها لو نرجع فيها عاملين بها كفانا.

فجبريل عليه السلام يقول: بسم الله، يقول ربك يا محمد؛ ويعرض عليك تحويل هذين الجبلين إلى جبلي فضة وذهب، وأنت كئيب حزين عدت من الطائف، فيقول: ( لا يا رب! ) لماذا؟ قال: ( أشبع يوماً فأحمدك وأثني عليك، وأجوع يوماً فأدعوك وأتضرع إليك )، فهو بين الحمد والثناء والضراعة والدعاء.

ومعنى هذا يا أبنائي على الأقل ما نأكل الربا، ما نسرق أموال الناس، لا نخدع ولا نغش، لا نكذب ولا نزور، ولا نقول الباطل، ونصبر على ما آتانا ربنا، فإن جعنا دعونا وتضرعنا، وإن شبعنا حمدنا الله وأثنينا عليه، ونكون على منهج الحبيب صلى الله عليه وسلم.

قال: [وأكبر مظهر لزهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا سؤاله المتكرر: ( اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً )، وفي لفظ: ( قوتاً ) أي: بلا زيادة ولا نقصان، وكان يقول: ( قليل يكفي خير من كثير يلهي، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى أو أطغى )].

يا طلاب الدنيا! تعالوا، اسمعوا الحبيب يقول: ( اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً )، أي: قوتاً كافياً، وفي لفظ: (قوتاً) أي: بلا زيادة ولا نقصان، وكان يقول: ( قليل يكفي خير من كثير يلهي ) والله العظيم: قليل من المال يكفيك، خير من كثير يلهيك عن عبادة الله وذكره، ( وما قل وكفى خير مما كثر وألهى )، أي: ما قل وكفى الحمد لله خير مما كثر وألهى أو أطغى؛ لأن بعضهم إذا كثر المال يطغون طغياناً، وبعضهم يلهون عن الآخرة ويعرضون.

قال: [وهو قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير )]. هاه! ماذا نقول بعد هذا؟ لا إله إلا الله!

قال: قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي من رفوف البيت، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ماذا؟ في ثلاثين صاعاً من شعير )، أبى أن يقول: أنا جائع، ولو سأل المسلمين لماتوا جوعاً، ولشبع رسول الله، ولكن لم يسأل أحداً أبداً، ولم يطلعه على حاجته.

قال: [وبالتأمل في هذه المواقف تتجلى الحقيقة واضحة، وهي أن الزهد الحق كان خلق النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: ( الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له )]. والذي فقد عقله الذي يجمع الدنيا، ويشتغل بها ليل نهار ويعرض عن ربه من أجل المال.

قال: [فصل اللهم وبارك وسلم على عبدك ورسولك أزهد الزهاد وأفضل العباد إلى يوم التلاقي والميعاد].

اللهم صل وبارك وسلم على عبدك ورسولك أزهد الزهاد وأفضل العباد إلى يوم التلاقي والميعاد.

الأسئلة

نجيب عن بعض الأسئلة إن شاء الله.

حكم إهداء قراءة القرآن للميت

السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم، سائل يقول: إذا كان يريد القرآن ووهب قراءته لوالديه وهما ميتان، هل يصل إليهما ثواب تلاوته، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟

الشيخ: يقول السائل: إذا مؤمن قرأ سورة من القرآن أو جزءاً أو ربع جزء أو ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني وهبت ثوابي هذا لأبي أو أمي الميتين، فهل يجوز هذا أو لا يجوز؟

مرة ثانية: يقرأ القرآن في المسجد .. في بيته، ثم يقول: اللهم اجعل ثواب ما قرأته لأبي أو أمي أو لمن شاء من الأموات؟

الجواب: هكذا لا يصح، لكن لابد من تعديله وتصويبه؛ فيقرأ القرآن بنية التملق إلى الله والتزلف إليه، ليقضي حاجته، ثم إذا فرغ رفع كفيه إلى الله، وقال: اللهم اغفر لأبي وارحمه، اللهم أعل درجته، اللهم ألحقه بالصالحين متوسلاً إلى الله بتلك القراءة، أما أن يهدي الثواب، وهو لا يملك، وما يدريك أنك أثبت؟ كم من قارئ لم يثب على قراءته، وهذا عدم فهم فقط.

والمسألة متكررة عند الناس: الذي يقول: أنا قرأت القرآن: اللهم اجعل ثواب هذه القراءة لفلان، بهذه الطريقة لا تصح، لا ينتفع بها، لكن كيف ينتفع بها؟ أولاً: يقرأ القرآن لله، فيتملق ويتزلف إليه، فإذا فرغ رفع يديه إلى الله وسأله المغفرة والرحمة أو علو الدرجة لمن أراد له ذلك من الأموات، ومعنى هذا توسل إلى الله بقراءة كلامه، ثم لما توسل طلب، فيعطى. أما بطريقة عسكرية: أعط ثواب كذا، فهذا باطل ولا واجه به الله عز وجل، من أين لك أنك تملك: أعط لفلان وفلان، وهذا كله ناشئ عن الجهل وعدم البصيرة، تقول: رب أعط كذا وكذا فهل تأمر الله أنت؟! وإنما تقرأ القرآن بنية التوسل إلى الله والتزلف إليه بتلاوة كلامه، وأنت خاشع ثم يقول: اللهم اغفر لأبي وارحمه، اللهم أعل درجته، اللهم ألحقه بالصالحين متوسلاً إلى الله بتلك القراءة.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 128 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net