إسلام ويب

في المحرم من السنة الحادية عشرة جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى الشام، وأمّر عليه أسامة بن زيد، ولصغر سنه حاول البعض مع النبي صلى الله عليه وسلم استبداله بأمير آخر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى ذلك، وفي أوائل ربيع الأول بدأ مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذن له، وفي هذه الفترة كان أبو بكر خليفة رسول الله في الصلاة بالناس.

بين يدي الدرس

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

وبين يدي الدرس أقدم مسألتين:

معنى كلمة بهلول، وكفارة من حلف بغير الله أو قال لصاحبه: تعال أقامرك

الأولى: اعتذاري إلى الأبناء والإخوة المصريين، فقد فهموا مني أني لما أقول: (البهاليل) أن هذه الكلمة فيها عيب.

والبهاليل: جمع بهلول، وهو الذي يغلب خيره شره، ويا ليتنا حقاً بهاليل.

ففهموا أن هذه الكلمة فيها انتقاص، بل فيها ثناء عطر، فكلمة (بهاليل) تعني أن فيهم خيراً كثيراً.

ولهذا تجد أحدهم يحلف بالنبي -ويفعل هذا أكثر العوام- فأقول له: لا تقل: (والنبي) قل: (لا إله إلا الله)، فيقول: (والنبي) لا أعود، بمعنى: أن هذه الكلمة قد تأصلت فيه، فأصبحت لا تزول عنهم.

لكن ما هو الحل؟ قلت لهم ولكم ولنفسي: من يجري على لسانه الحلف بغير الله، ولم يقصده، ولكن اعتاده، فليقل بعده: (لا إله إلا الله) تمحها، وليس هذا استنباطاً مني أو اجتهاداً، بل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما شاهد أصحابه يحلفون بالأيمان الجاهلية باللات والعزى، ولا لوم في ذلك على شخص له أربعين سنة وهو يعبدها، وقد أسلم من يومين أو من سنة فأنى يزول ذلك من لسانه! أي: أن هذا الأمر صعب.

وكذلك في مكة كانوا مولعين بالقمار؛ لأنهم تجار وفارغون، فإذا سافروا إلى اليمن في الشتاء وإلى الشام في الصيف، وعادوا بأرزاقهم لا يشعر أحدهم إلا ويقول: تعال أقامرك، فقال لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لأخيه: تعال أقامرك ) أي: ألعب معك القمار جرياً على السنة الماضية، قال: ( فليتصدق بصدقة )، فما حددها ريالاً .. عشرة .. تمحو تلك الخطيئة.

البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الصالحة

المسألة الثانية: أن إحدى المؤمنات بعثت بزوجها الآن تبشركم بأنها رأت الجنة ودخلتها، وقد قدمنا أنه لابد من صك، فما من مؤمن تقي تتحقق ولايته إلا ويرى الجنة قبل أن يموت، وبهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:62-64] والبشرى في الحياة الدنيا فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أنزل عليه القرآن وأسند إليه بيانه، فقال: ( البشرى: الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له )، ولهذا آمل من الطلبة أن لا يتركوا ولاية الرحمن ولا ليلة.

بعث جيش أسامة إلى الشام في السنة الحادية عشرة

قال: [ودخلت السنة الحادية عشرة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم] مضت عشر سنوات، وعشناها مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، والآن في آخر سنة وهي السنة الحادية عشرة.

قال: [وكان أول أحداثها:

بعث جيش أسامة إلى الشام] أي: وكان أول أحداث السنة الحادية عشرة: بعث جيش أسامة بن زيد مولى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام غازياً ومجاهداً في سبيل الله.

قال: [إن آخر بعث] أي: بعثه الحبيب صلى الله عليه وسلم [في الجهاد المحمدي: هو بعث أسامة بن زيد الحِب بن الحب رضي الله عنهما] أي: هو وأبوه، و(الحِب) بمعنى المحبوب، فـأسامة هو حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وأبوه كلاهما يحبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال: [ففي المحرم] أي: في شهر المحرم [وبعد العودة من حجة الوداع] شهر الحج ثم شهر المحرم [رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث بعثاً إلى الشام] وقد كان البعث الأول على رأسه جعفر بن أبي طالب واستشهد هو وزيد مولى الرسول صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة، خيار الأصحاب، وأنقذهم الله على يد خالد بن الوليد وتمت هذه الحادثة، والآن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث أيضاً بعثاً آخر إلى الشام للدعوة إلى الإسلام.

قال: [وأن يكون أسامة بن زيد الشاب الذي لم يتجاوز من العمر ثماني عشرة سنة هو قائد هذا الجيش الذي عقد لواءه رسول الله صلى الله عليه وسلم].

عجيب هذا! أسامة الذي في الثامنة عشرة أو دونها يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ويقلده القيادة، ويمشي وراءه أبو بكر وعمر .

فكان هذا الشاب حقيقاً أن يكون حِب رسول الله صلى الله عليه سلم؛ لأن والده استشهد في الشام، فأراد أن يمكنه من أن يقتل الكفار الذين قتلوا والده، وحتى يذهب عنه الحزن والكرب والهم فقال له: قُدِ الجيش يا أسامة.

قال: [وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين] فحدد له المنطقة أيضاً.

قال: [وتكلم بعض طاعناً في أسامة لصغر سنه] أي: كيف أن هذا الصغير يقود الجيش؟

قال: [فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل)] أي: لا لوم ولا عتاب، فقد قالوا عن زيد : كيف أن مولى من موالي العرب يقود الجيوش؟

قال: [وذلك لكون كل من زيد وأسامة ولده مولى وليس بسيد]، لكن مولاهم وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: من هنا تعرفون أن أي كلمة يطعن بها في شخص ما ينبغي أن تقال أو تكرر أو تعاد، ما رضي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: [وتجهز الناس للخروج، وفي هذا الجيش كبار المهاجرين والأنصار كـأبي بكر وعمر وغيرهما، وبينما الناس في التجهيز والإعداد للخروج إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدئه مرضه الذي قبض فيه، فوقف الجيش في انتظار شفاء الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يمضِ إلا أسبوع واحد ويقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتحق بالرفيق الأعلى، ويبقى جيش أسامة في انتظار ماذا يحدث بخصوصه، وولي أمر المسلمين أبو بكر ، وأنفذ جيش أسامة كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبّ؛ وذلك نزول من الصديق على رغبة الحبيب في تنفيذ ما يحب، فرضي الله عن أبي بكر وأوفاه، فاللهم اجعل الجنة مأوانا ومأواه].

لقد سمع أبو بكر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان جيش أسامة واقفاً ينتظر الأمر من القيادة كما أعده الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتظر حتى قبض الرسول صلى الله عليه وسلم، وما إن بويع أبو بكر بالخلافة حتى أمضى هذا الجيش بقيادة أسامة، ولو كان غيره من الضعفاء لما استطاع أن يقوم بذلك.

نتائج وعبر من بعث جيش أسامة إلى الشام

قال: [نتائج وعبر:

إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها كالآتي:

أولاً: بيان مواصلة الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى آخر أيامه من حياته] فمن يوم ما أذن له في الجهاد في السنة الأولى من الهجرة أو الثانية، وهو من غزوة إلى أخرى حتى آخر حياته.

وأنتم أيها المجاهدون، عدوكم بين جنبيكم، إنه الشيطان، ومعه النفس الأمارة بالسوء، ومعه الدنيا الخداعة الغرارة، ومع كل ذلك الهوى والميل الفطري إلى الراحة والمعصية، فهذه الجحافل نجاهدها ليل نهار، والله نسأل أن ننتصر ولا ننكسر.

أما جهاد الكفار فالحمد لله أراحنا الله منهم، ويوم ما يقول إمام المسلمين: حي على الجهاد، نقول: بسم الله. ومادام لم يعلن عن الجهاد لعدم توفر أسبابه وعوامله فما يسعنا إلا أن نحمد الله عز وجل، ولكن يبقى جهاد النفس، والشيطان، والهوى، والدنيا، فالصراع بين هذه الأمور عظيم وكبير، فبسم الله لا نضع السلاح حتى نلقى الله عز وجل.

فهمتم هذا؟ أو تريدون أن نقول: بسم الله، قوموا جاهدوا اليهود في فلسطين! وأنتم لا تستطيعون لأنكم لستم أهلاً لهذا، ولابد من إمام وقيادة عليمة رشيدة حكيمة.

قال: [ثانياً: جواز إسناد قيادة الجيوش إلى الشاب الكفء المقتدر إذا كان في قيادته ذوو الرأي والمشورة من كبار السن من كهول وشيوخ]، أما إذا كان ما معه إلا شباب فلا ينفع، لكن إذا كان يحتضنه مثل أبي بكر وعمر فلا خوف عليه، وقد أخذنا هذا من قيادة أسامة ، وأقرها أبو بكر وعمر والصحابة، وقد خرج معه أبو بكر خليفة المسلمين وعمر وعلي والقيادة كلها، ولو أننا ولينا علينا حاكماً وهو شاب، واخترناه لصلاحه، فننظر هل حوله شيوخ يشدون من أزره، ويوجهونه، ويبينوا له الطريق، فإن وجدنا حوله من هم أهل للقدرة على هذا فلا بأس، وإن لم نجد إلا شباباً مثله فإن النار سوف تحرقنا.

قال: [ثالثاً: بيان أن الطبع البشري لم يتبدل]، فالطبع البشري لا يتبدل، وإنما يروض رياضة خاصة، فيصبح كطباع الملائكة، ولابد من الرياضة والتربية الملازمة.

وقد سألني أحد الأبناء من أهل الحلقة: ما معنى اللوامة؟

فقلت له: يا بني! كررنا القول في هذا مرات، وقلنا: النفس في أول أمرها أمارة بالسوء، أي: كثيرة الأمر بالقبائح، واقرءوا: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] وهذه كلمة يوسف الصديق ابن الصديق، وليست كلمة زليخا ، قال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، فهذه النفس الأمارة بالسوء إذا كانت في جسم مؤمن رباني صادق يعمل على تربيتها فترة من الزمن تصبح لوامة، فإذا فعلت سوءاً تلومك عليه؛ لأنها خطت خطوة في طريق الهداية، فأصبحت وإن كانت تأمر بالسوء، لكن لما تفعله تلوم وتشعر بالألم في نفسك، فهذه النفس أخذت تنجو، وإن واصلت رياضتها ليل نهار، وعاماً بعد عام، فإنها تصل إلى مستوى تكون فيه مطمئنة، قال تعالى في الأولى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، وقال في الثانية: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، وقال في الثالثة: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28]، ولهذا كان من دعائنا ودعاء حبيبنا: ( اللهم إنا نسألك نفساً مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك الليل والنهار )، فالنفس المطمئنة لا ترتاح إلا لذكر الله، وإذا جاءت معصية لا تستطيع أبداً أن تجلس مجلساً فيه باطل، وما تقدر عليه أبداً.

قال: [فقد طعن في إمارة زيد وإمارة أبيه، وفي حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم]، أما قال: ( طعنتم في أبيه من قبل )؟ ووجه الطعن أن منهم من قال: هذا شاب، كيف؟! ومنهم من قال: هذا من الموالي، ليس بشريف. وهذا الطعن يجري على ألسنة الناس ولو بدون قصد إساءة.

قال: [رابعاً: بيان كمال أبي بكر الصديق ، وصادق ودّه، وعظم طاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً؛ وذلك بإنفاذه جيش أسامة وفي أصعب الظروف وأشدها حلوكة].

خاتمة الجهاد المحمدي ببيان عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه

قال: [خاتمة الجهاد المحمدي ببيان عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه]، السرايا جمع سرية، وهي الجماعة تسري بالليل.

قال: [لقد غزا صلى الله عليه وسلم ستاً أو سبعاً وعشرين غزوة في خلال سنوات هجرته العشر؛ باشر القتال بنفسه في تسع غزوات منها، وهي: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف] هذه الغزوات باشر القتال فيها بنفسه.

قال: [وباقي الغزوات أعدها وحضرها إلا أنه لم يباشر القتال فيها بنفسه، وإنما بواسطة أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهي: ودّان وهي الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة، ثم بدر الأولى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان، ثم غزوة نجران بالحجاز، ثم حمراء الأسد، ثم بني النضير، ثم ذات الرقاع، ثم بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة ذي قَرَد]. فهذه غزوات أيضاً، لكن ما قاتل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن شهدها وحضرها.

قال: [وأما سراياه صلى الله عليه وسلم فقد بلغت نحواً من خمس وثلاثين سرية وبعثاً، وقد مرت هذه السرايا والبعوث وتلك الغزوات مفصلة واحدة بعد أخرى في سنوات الهجرة العشر المباركة، والحمد لله أولاً وآخراً].

بداية مرض الحبيب صلى الله عليه وسلم

قال: [وآخر أحداثها وأجلها: مرض الحبيب صلى الله عليه وسلم ووفاته].

قال: [بداية مرضه صلى الله عليه وسلم] أي: كيف كانت.

قال: [في أوائل شهر ربيع الأول]، ففي شهر المحرم أعد جيش أسامة ، ثم مر شهر صفر ثم شهر ربيع الأول.

قال: [وفي يوم الأربعاء بالذات بدأ وجع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فأصابه صداع وحمى، وقبل هذه البداية المؤلمة ببعض الأيام خطب صلى الله عليه وسلم الناس فنعى إليهم نفسه، وهم لا يشعرون]، أي: تكلم بكلام نعى فيه نفسه إليهم، وهم لا يشعرون.

قال: [إذ صعد المنبر فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: (إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله)، فبكى أبو بكر ، فعجب الناس من بكائه؛ بكى لأنه فهم أن المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن مِن أمنِّ الناس علي في صحبته وماله: أبا بكر )]، كأنه يهيئه للخلافة ويرشحه، فقوله: (إن من أمن) أي: أن أبا بكر أكثر الناس منة على النبي صلى الله عليه وسلم في صحبته وماله.

قال: [( ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر )]، الخوخة هي الموجودة الآن، وقد كان الأصحاب يفتحون أبواباً من بيوتهم ليسهل عليهم دخول المسجد والخروج منه، وكان أبو بكر من بينهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبق من معنى لهذه الأبواب إلا باب الصديق .. إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه.

قال: [وفي جوف الليل يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه أبا مويهبة ويقول: ( يا أبا مويهبة ! إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي )، فلما وقف بين أظهرهم] أي: بين أظهر الموتى في قبورهم [قال: ( السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه )]، هذا أعظم إنذار! [ ( أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى )]، وقد تم هذا كما علمتم.

قال: [( ثم أقبل على أبي مويهبة وقال: يا أبا مويهبة ! إني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها )]، أي: عرض الله عليه أن يعطيه خزائن الدنيا، وأن يحييه ولا يميته إلى نهاية الدنيا.

قال: [( ثم الجنة -خير بين هذا وذاك- فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال أبو مويهبة : بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها والجنة )]، أي: ما فهم أبو مويهبة ، فالرسول خير بين هذا وهذا، فقال له أبو مويهبة: خذها أنت كلها. وهذا فهم أبي مويهبة رضي الله عنه.

قال: [( فقال: لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة )] فقد سبق القدر [( ثم استغفر صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ثم انصرف ) فبدأ برسول صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه، إذ دخل على عائشة بعد رجوعه من البقيع فوجدها تشكو صداعاً] وهو ألم في الرأس معروف [وتقول: ( وا رأساه! )] تتأسف وتتحسر [ ( فقال: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه! ثم قال لها: وما ضرك لو مت قبلي فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقالت عائشة: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك )]، هذا شأن الضرة، والطبينة أنتم تسمونها الضرة.

قال: [( قالت عائشة رضي الله عنها: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم )]، وكان ضحكه الابتسام. [( وتتام به وجعه )] أي: استمر معه [( وهو يدور على نسائه حتى استعز به )] أي: اشتد به الألم [( وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها، فدعا نساءه فحضرن، فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي )]، أي: بيت عائشة ، وبيت عائشة هي تلك الحجرة [( فأذن له )].

المصطفى يمرض في بيت عائشة

قال: [في بيت عائشة .

وبعد أن أذن له أمهات المؤمنين في أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله عنها خرج صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله، هما: العباس وعلي ، وهو عاصب رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها، ثم حمّي صلى الله عليه وسلم، واشتد به الوجع، فقال: ( هريقوا علي سبع قرب من ماء )]، جمع قربة، وقد كانت القرب موجودة [( من ماء )] ليخفف عنه حرارة الحمى [( حتى أخرج إلى الناس )]، أي: أتمكن من خروجي إلى الأمة في المسجد [( فـأعهد إليهم، قالت عائشة : فأقعدناه في مخضب لـحفصة بنت عمر )] من بيتها تملكه [ ( ثم صب عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم )] أي: يكفي، يكفي [( ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، ثم ازداد مرضه، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس )] فقد حضرت الصلاة [( فقالت عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لا يُسمِع الناس من البكاء )] أي: لا يستطيع [( فمر عمر فليصل بالناس. وكررت عليه عائشة القول، فكرر الإجابة حتى قالت عائشة لـحفصة : قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس )] توسلت بـحفصة [( فقالت له، فقال صلى الله عليه وسلم: مه! إنكن لأنتن صواحب يوسف )] أي: صواحب يوسف الصديق اللائي اجتمعن وقطعن أيديهن.

قال: [( مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقام أبو بكر يصلي بالناس، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج بين رجلين: العباس )] أي: عمه [( وعلي بن أبي طالب )] أي: ابن عمه [( لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه: أن لا يتأخر، وقال للرجلين: أجلساني إلى جنبه )] أي: إلى جنب أبي بكر [( فأجلساه إلى جنب أبي بكر ، أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، والناس يصلون بصلاة أبي بكر )، وفي مرضه هذا قال لـعائشة : ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم )]، كانت خيبر في السنة السادسة، وقد أطعمته اليهودية لحماً، فأكل منه بعد أمر أصحابه أن لا يأكلوا، واعتذرت وعفا عنها أيضاً، وهو يذكر أن ألم ذلك السم يعاوده الآن، وقد تمكن منه، فقال: ( ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري -عرق الحياة- من ذلك السم ).

قال في الحاشية: [يعني صلى الله عليه وسلم: الشاة المسمومة التي قدمت له بخيبر وأكل منها، فلم تضره في ذلك الوقت، واستمر الداء كامناً حتى ظهر في هذه الأيام، وقد مات أحد أصحابه لما أكل منها كما تقدم في فتح خيبر، والأبهر عرق في الإنسان إذا انقطع هلك صاحبه].

نكتفي بهذا القدر، والعودة إن شاء الله الأسبوع الآتي، ونبكي مع أصحاب رسول الله لما يبكون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 115 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net