إسلام ويب

بعد ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من الحصار في شعب أبي طالب، وبعد ما أصابه من الحزن على فقد عمه الشفيق، الذي كان يرد عنه أذى المشركين، ثم موت زوجته الرءوم المحبة خديجة، بعد ذلك كله أراد الله مكافأة نبيه على صبره وتحمله وتجلده لهذه الأحزان، فهيأ له رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم رحلة المعراج إلى الملكوت الأعلى، حيث رأى من آيات ربه الكبرى، فكان في ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وأي تسلية.

تابع خروج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة لدينه

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة درسنا بعضها ولم نستكملها، فإليكموها وافية نافعة بإذن الله تعالى.

قال المصنف: [خروج الحبيب صلى الله عليه وسلم] من أين خرج، ولِم خرج؟ وماذا استفاد من خروجه، وماذا تم له؟

قال: [ خروج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف] والطائف معلومة معروفة، وهي من ديارنا أيها المؤمنون [يطلب النصرة لدينه] لما لم يجد من ينصره في مكة رأى أن يذهب إلى الطائف ليتصل ببعض الشخصيات ذات الأثر في المجتمع علهم يمدون له يد العون والمساعدة، من أجل أن يبلغ دعوة الله عز وجل.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ولسائر المؤمنين: [وبعد أن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب ] الذي كان العضد القوي الذي يشد من أزره صلى الله عليه وسلم [الذي كان عضده القوي، وحماه المنيع] وحقاً ما استطاع مجرم ولا مشرك ولا ظالم أن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً أيام عمه أبي طالب ، ثم لما توفي تجرءوا على الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: [خرج إلى الطائف يطلب ناصراً من ثقيف ينصره على قومه] وثقيف من قبائل العرب الأشداء الأقوياء، مُعترف لهم بذلك [ويعينه على إبلاغ دعوته] وهي القائمة على مبدأ: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. من قال هذه الكلمة صادقاً موقناً تهيأ لأن يعبد الله وحده وبكل ما شرع، وتهيأ أن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم محاب الله ومكارهه من طريقه صلى الله عليه وسلم، وما كان يطلب الرسول إلا هذا، أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال: [خرج وهو راجٍ أن يقبل أهل الطائف منه ما جاءهم به من الله عز وجل] والمؤمن يرجو ربه ولا ييأس ولا يقنط [ولما وصل الطائف قصد ثلاثة أنفار من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافها] ومن هم؟ [وهم الإخوة الثلاثة: عبد يا ليل بن عمرو بن عمير ومسعود وحبيب وكان عند أحدهم امرأة من قريش، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم من نصرته] على الإسلام [والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!!] يعني: أنه يمزق ثياب الكعبة إن كان ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق!! وهي معصية ما فوقها معصية عندهم. هذا الأول.

[وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟! وقال الثالث: والله! لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردَّ عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك!!] وهذا أسوأ من الاثنين.

وللموعظة: لو أن داعية من دعاة المسلمين اليوم واجه مثل هذه الكلمات لأصيب بصدمة نفسية ولم يرفع رأسه بعد ذلك يدعو إلى الله! ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم تحمّل، وحُق له أن يتحمّل.

[فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم] من عند أولئك الأشراف، سادات ثقيف، الذين رأى فيهم أنهم قد يجيبونه إلى ما يدعوهم إليه [وهو يائس من خير ثقيف] وهو كذلك. فإذا كان أشرافهم وعظماؤهم وخيرتهم فعلوا هذا فكيف بباقي الناس [وقد طلب إلى الإخوة الثلاثة أن لا يذكروا ما دار بينهم إلى قريش] يعني: إن كنتم لم تجيبوني وأسمعتموني ما آذاني فأطلب وأرجو منكم أن لا تذكروا هذا لقريش، فلا تقولوا أتانا وفعلنا وقلنا [فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم] والسفهاء: جمع سفيه وهو من لا رشد له كالأطفال، والعبيد: الخدم [يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه -صلى الله عليه وسلم-] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم تدمى عقباه ويصيح به الصبيان والمجانين والعبيد ويسخرون به فأين نحن منه؟!

[وألجئوه إلى حائط -أي بستان-] اضطروه إلى أن يدخل هارباً بنفسه إلى هذا البستان [لابني ربيعة عتبة وشيبة ، وعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة عنب فجلس تحتها مستظلاً بها، فلما اطمأن وسكنت نفسه] أي: هدأ روعه وألمه وتعبه [قال: ( اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين! أنت ربُ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسعُ لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )] وبعض أهل العلم يضعفون هذه الرواية، وأنا أكاد أجزم أن هذا لن ينطق به إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه قال: (إلى من تكلني؟!) فليس في هذا شيء، ومعناه: إلى من تكلني؟ إلى فلان وفلان! أي: تول أنت أمري. وهذه دعوة نقولها نحن دائماً: اللهم! لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحدٍ سواك طرفة عين. فأنا أقول: هذه الكلمات النورانية لا يستطيع أحد أن يخترعها أو ينفثها من صدره غير محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأعيدكموها لأني معجب بها:

( اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، ) لأنهم رموه بالحجارة ( يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ).

[ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من مناجاته ربه عز وجل] كان يتكلم سراً مع الله، والله يسمعه ويراه [ورآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة : دعوا غلاماً لهما] أن تعال يا غلام (خادم) [يقال له: عدّاس ، وأمراه أن يأخذ قطفاً من عنب فيضعه في طبق، ثم يذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضعه بين يديه، ويقول له: كل من هذا] أي: كُل من هذا الذي وضعته بين يديك [ففعل عداس ] ما أمر به من قبل المالكين [فلما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: "بسم الله" ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله! إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد] يعني: بسم الله عند الأكل لا يعرفها أهل هذه البلاد، وحلف على ذلك [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ومن أي البلاد أنت يا عداس ؟! وما دينك؟ )] لم يكن يعرفه من أين [قال: نصراني] مسيحي [وأنا رجلٌ من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟! فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ )] يعني كيف عرفته؟! [( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي. فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه، ويديه وقدميه )] لأن المسيحي خير من المشرك، وإلى اليوم المسيحي خير من ألف شيوعي ملحد [وهنا نظر ابنا ربيعة أحدهما للآخر] متعجبين [وقال له: أما غلامك فقد أفسده عليك] قال لأخيه: أما غلامك -خادمك- فقد أفسده عليك [فلما جاءهما عداس ، قالا له: ويحك يا عداس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي! ما في الأرض شيء خيراً من هذا] الله أكبر! [لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي] وقصة يونس عليه السلام معروفة [فقالا له: ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه] كلام رائع! فما داما يعرفان أن له دين، فلم لا يكون لهم هم أيضاً دين؟!

[وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً من الطائف بعد أن أيس من خير ثقيف] لا خير عندها [حتى إذا كان بنخلة] وهو واد بين مكة والطائف موجود حتى الآن [قام من جوف الليل يصلي] لأن الصلاة فرضت [فمر به نفرٌ من الجن الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الأحقاف في قوله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29]] الآيات.. وهم من جن نصيبين] ما إن سمعوا القرآن حتى صاح بعضهم ببعض: أنصتوا! -والرسول يصلي ويقرأ- وما إن فرغ حتى قالوا: هيا نعود إلى ديارنا نحمل هذه الدعوة، وجاء هذا مفصلاً في سورة الأحقاف؛ إذ قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ .. [الأحقاف:29-32] الآيات.

وحسبهم أن نزلت فيهم سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، إلى آخر الآيات، وكلها فرحة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فيستحيل أن يكون هذا ليس كلام الله أو يكون هذا ليس برسول الله، والله يدخل في رحمته من يشاء.

قال: [وكانوا سبعة نفر وحملوا رسالة الله تعالى إلى قومهم منذرين، كما نزلت سورة (الجن) في شأنهم أيضاً، وفيها من أخبارهم الكثير].

نتائج وعبر من مقطوعة (خروجه صلى الله عليه وسلم لدعوة أهل الطائف يطلب النصرة لدينه)

قال: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نذكرها إزاء الأرقام الآتية:

أولاً: بيان ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم يأسه مهما عظم البلاء، يدل على ذلك خروجه إلى الطائف يطلب النصرة.

ثانياً: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً بل أستاذاً في الحكمة] وهذا الذي نعيش عليه ونعتقده، فرسول الله ليس حكيماً فقط، بل أستاذ ومعلم الحكمة، أما قال الله تعالى فيه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] وكل سنة حكمة، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، فإذا قال كلمة قالها في موضعها، وإذا تحرك حركة كذلك، أو فكر تفكيراً فإنه لا يخرج عن دائرة الحكمة.

فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه. ومثال ذلك: لو أن أحد العمال أصابه إعياء وتعب، فزحزح من حوله في المسجد لينام! وهل هذا مكان للنوم؟! هل وضع النوم في مكانه؟ لا. إذاً هذا خطأ ليس من الحكمة. فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، فلا يخطئ.

قال: [فانظر كيف اختار النفر الثلاثة إذ كانوا سادة ثقيف] وهذا لحكمته صلى الله عليه وسلم، لما أراد أن يطلب عوناً ومساعدة من ثقيف لم يأت أصحاب الصعاليك والفقراء، بل اختار أشرف أهل البلاد، وأقدرهم وأقواهم على أن يقفوا إلى جنبه إذا أراد الله ذلك، فلم يصح بالعوام؛ لأن هذا غير نافع، فمن الحكمة أن يختار من هم أهل للقيام بهذه الدعوة، فإذا هم عجزوا ورفضوا فغيرهم من باب أولى ألف مرة [فلو أجابوا دعوته لأجابت كل أهل الطائف، فلما رفضوها علم أن غيرهم سيرفضها، فلذا لم يتصل بأحد غير النفر الثلاثة] هل تجلت لكم الحكمة أم لا؟ لقد وضع صلى الله عليه وسلم طلبه ورسالته في الموضع اللائق بها؛ إذ لو استجاب أولئك الثلاثة لمشى أهل الطائف وراءهم.

[ ثالثاً: بيان سوء معاملة أهل الطائف، ومع هذا لم يدعُ عليهم صلى الله عليه وسلم بل دعا لهم] ولما حاصر الطائف بعد الهجرة شهراً كاملاً ما استطاع أن يدخلها؛ لأنها بلاد محصنة بالحصون، ورجع عائداً فقال الصحابة: ( ادع عليهم يا رسول الله! فقال: اللهم! اهد ثقيفاً وأت بهم ) فما وصل المدينة حتى جاء وفدهم يعرض استسلام الطائف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو كان من إخواننا لكان يلعنهم طوال الليل [فقال: ( اللهم! اهد ثقيفاً وأت بهم )، واستجاب الله تعالى له فيهم فأتوا بعد حصارهم وآمنوا وأسلموا.

[رابعاً: بيان فضل عداس ، وشهادته بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خامساً: بيان مكان لقاء الجنّ النبي صلى الله عليه وسلم] وقع هذا في بطن نخلة [وحملهم رسالة الإسلام إلى أقوامهم] وكان أقوامهم في ذلك اليوم بمدينة نصيبين بالشام. كان الجن يسكنون هناك، عندهم عاصمة تسمى نصيبين، فحملوا الرسالة إلى قومهم، ووُجد من المؤمنين من حمل هذه الرسالة أيضاً، ولكن العبرة كون الجن يقفون هذا الموقف، ويحملون دعوة الله.

إذاً: انتهت هذه المقطوعة، وأنتم تلاحظون أن الكلام مشروحاً مفصلاً لا يحتاج إلى شرحنا.

الإسراء بالحبيب صلى الله عليه وسلم والعروج به إلى الملكوت الأعلى

قال: [الإسراء بالحبيب صلى الله عليه وسلم والعروج به إلى الملكوت الأعلى] الإسراء: مصدر أسرى يسري إسراءً به، وسرى يسرى السّري. وكان الإسراء من مكة إلى بيت المقدس في لحظات، والعروج من بيت المقدس إلى الملكوت الأعلى، إلى مستوى سمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم صرير الأقلام.

قال: [نبدأ الحديث بسم الله، ثم بالسؤال التالي: متى كان الإسراء والمعراج؟

إنه في السنة العاشرة من سني البعثة النبوية إنه -الإسراء والمعراج- كان مكافأة ربانية على ما لاقاه الحبيب صلى الله عليه وسلم من أتراح وآلام وأحزان] ظل عشر سنوات وهو يتجرع الغصص ويتلقى الآلام والكروب والأحزان، فأراد سيده أن يكافئه بالإسراء والمعراج، أي: تعبت يا عبدنا من أجلنا، والآن نريح عليك. وجماعتنا الآن يريحون على أنفسهم في لندن وباريس، ويتركون المسجد النبوي والأنوار ويقولون: نروح على أنفسنا! وقد نددنا بهذه الحركة وقلنا: لا ينبغي لأحد أن يشجع المؤمنين على ترك ديار النبي والذهاب إلى بريطانيا وغيرها حاملاً نساءه وأطفاله. ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي

قال: [إذ كان بعد حصارٍ دام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب] وهو شعب بين جبلين ليس فيه إلا الحجارة السوداء الحارة، حوصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا يسمح لأحد أن يدخل عليهم، أو يبيعهم شيئاً أو يشتري منهم شيئاً، واستمر هذا الأمر ثلاث سنوات.

قال: [وما لاقى أثناءه] أثناء الحصار في الشعب [من جوع وحرمان] واضطروا إلى أكل ورق الشجر حتى تقرحت شفاههم، رسول الله وأسرته ومن معه من آل أبي طالب [إنه كان بعد فقد الناصر الحميم] هذا الإسراء كان بعد فقد النبي صلى الله عليه وسلم الناصر الحميم وهو أبو طالب [وفقد خديجة أم المؤمنين] والآن صحت المناسبة.. فهناك مؤمن من إخواننا رأيته يبكي -ونحن نصلي- في المحراب على ميتته فظننتها أمه، فعزيته وقلت له: اصبر! ثم جاءني أحد الإخوان وأخبرني أن زوجته هي من مات، وهو يطلب أن أدعو الله له. وأقول: إن مصيبة الزوجة قد تكون أعظم من مصيبة الأم، فـخديجة رضي الله عنها لا نستطيع أن نقدر ما كانت تقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: يا حي يا قيوم! ويا أرحم الراحمين! ويا رب العالمين! اغفر لهذه المؤمنة التي فقدها زوجها عبد الرحمن ، اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها واعف عنها، اللهم ارض عن خديجة وبلغها سلامنا يا رب العالمين.

قال: [إنه كان بعد خيبة الأمل في ثقيف، وما ناله من سفهائها وصبيانها وعبيدها، بعد هذه الآلام، كافأ الحبيب حبيبه، فرفعه إليه وقربه وأدناه] وتعرفون حادثة الإسراء، اقرءوا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، كان صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ فجاء الملكان وقاداه إلى الحرم حتى بئر زمزم، وأجريت له عملية شق الصدر، وحشي صدره بالنور والعلم والحكمة؛ حتى يقوى على أن يعايش أهل الملكوت الأعلى، ثم أسري به إلى بيت المقدس، وهناك ربط البراق في حلقة باب بيت المقدس، وجمع الله له الأنبياء أجمعين فصلى بهم إماماً، فكان إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ثم عرج به سماءً بعد سماء إلى أن انتهى إلى الفردوس الأعلى، ثم ارتفع إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام، ثم كلمه الله كفاحاً بلا واسطة وجهاً لوجه، وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.

ومن عجيب أحداث هذه القصة أنه كان يتردد على موسى، فموسى جرب بني إسرائيل وعرفهم، فأول الصلوات كان خمسين صلاة، فما زال يراجع ربه حتى أبقاها خمساً، ومع هذا من المسلمين من لا يقوم بها، وهي خمسة فقط، فكيف لو كانت خمسين؟!

قال: [وخلع عليه من حلل رضاه ما أنساه كل ما كان قد لاقاه من حزن وألم ونصب وتعب، وما قد يلاقيه في سبيل إبلاغ رسالته ونشر دعوته، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ذكر الله الذاكرون، وما غفل عن ذكره الغافلون].

كيفية الإسراء به صلى الله عليه وسلم

قال: [وكيف كان الإسراء؟ لقد كان الإسراء من بيت أم هانئ ] وأم هانئ هي أخت علي بن أبي طالب فهي بنت أبي طالب [حيث أُخرج الحبيب منه إلى المسجد الحرام إلى ما بين الحجر والحطيم، حيث أجريت له عملية شق الصدر فأخرج القلب وغُسل بماء زمزم المبارك] فماء زمزم ماء مبارك. هل يوجد ماء عمره ستة آلاف سنة؟ إن زمزم عمره ستة آلاف سنة، وحسبكم ما عرفتم أن ( زمزم طعام طعم وشفاء سقم ) و( زمزم لما شرب له ) إذ كان بهمزة جبريل، ليس بآلات الصين، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يغسلون جراحاتهم بماء زمزم، وتشفى بإذن الله، وإلى الآن لو أن مؤمناً صادق الإيمان أقبل في صدق يشربه للعلاج والشفاء لشفي، أما إن كان مزعزع العقيدة مضطرب النفس فإنه لا يحصل على شيء إلا أن يشاء الله.

قال: [ثم أُتي بطست من ذهب مملوء إيماناً وحكمة فحشي القلب بذلك الإيمان وتلك الحكمة، ثم أعيد القلب كما كان. ثم أُتي بدابة وهي البراق] دابة تدب على الأرض بأرجلها الأربع تسمى البراق [فركبه إلى بيت المقدس، فربطه في حلقة باب المسجد، ودخل المسجد فصلى فيه، ثم وضع له معراج ممتد ما بين السماء الدنيا فاستفتح جبريل] فعرج بصحبة أخيه في الرسالة جبريل عليه السلام، حتى انتهيا إلى السماء الدنيا [فسئل عمن معه؟ فأخبر أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أُذن له، ففتح لهما، وهكذا سماء ًبعد سماء حتى انتهيا إلى السماء السابعة، وقد لاقاهما في كل سماء مقربوها من الملائكة والأنبياء، فلقيا في الأولى آدم عليه السلام، وفي الثانية يحيى وعيسى عليهما السلام، وهما ابنا الخالة، وفي الثالثة يوسف عليه السلام] الصديق ابن الصديق [وفي الرابعة إدريس عليه السلام، وفي الخامسة هارون عليه السلام، وفي السادسة موسى عليه السلام، وفي السابعة إبراهيم عليه السلام] أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام [وكان صلى الله عليه وسلم يلقى في كل سماء من الترحيب ما تقرُ به عينه وينشرح له صدره، وتطيب به نفسه -وهو لذلك أهل- ثم رفعت له سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة، وألوان متعددة باهرة، وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة، وفراش من ذهب، وغشيها من نور الرب جل جلاله ما غشيها، ورأى صلى الله عليه وسلم في هذا المكان جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض، وهذا ما دل عليه قوله تعالى من سورة النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:13-17].

إذ ثبت ينظر إلى المكان الذي حُدد له النظر إليه فلم يتجاوزه، وهذا غاية الأدب منه صلى الله عليه وسلم كما رفع له البيت المعمور فإذا هو يدخل كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتي بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذ اللبن، فقيل له: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.. ثم رفع وأدني حتى انتهي إلى مستوى سمع فيها صرير الأقلام، وهنا قربه ربه وناجاه -وإن لم يره-؛ لأنه نور كيف يراه؟!

وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، ولما رجع عائداً مر بموسى عليه السلام فسأله؛ فأخبره، فطلب إليه أن يعود إلى ربه يسأله التخفيف؛ لأن موسى جرب بني إسرائيل ولم يجد لهم عزماً، فخشي أن يحصل لأمة محمد ما حصل لأمته، فعاد الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى حبيبه جل جلاله وعظم سلطانه يسأله التخفيف؛ إذ فرضها أولاً خمسين صلاةً، فما زال يراجعه سائلاً التخفيف حتى كانت خمساً بدل الخمسين].

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 29 للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net