إسلام ويب

العدل خلق عظيم من أخلاق الإسلام، تميز به المسلمون في حياتهم على مر العصور، والله تعالى يحب العدل والعادلين، والعدل من أعظم الواجبات التي أمر الله تعالى بها، ووعد عليها الأجر العظيم والثواب الجزيل، وللعدل مجالات يجب على المسلم أن يعمل به فيها، حتى تقوم الحياة وتستمر؛ لأنه إذا ضاع العدل ضاع الإنسان وقيمه.

خلق العدل والاعتدال

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة..

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، الكتاب الحاوي للعقيدة والآداب والأخلاق والعبادات والمعاملات، فهو إذاً: خلاصة الشريعة بكاملها.

وقد انتهى بنا الدرس إلى [ الفصل الخامس: في خلق العدل والاعتدال] كيف نظفر بهذا الخلق ونحصل عليه.. العدل والاعتدال؟

هيا بنا نسمع ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نسأل الله أن يرزقنا العدل والاعتدال في كل شئون حياتنا!

[المسلم ] هذه الكلمة العذبة الحلوة الطيبة: المسلم، أي: الحسن الإسلام، العريق في هذا الوصف، المسلم الكامل الإسلام، الذي أسلم قلبه ووجهه لله، من أسلم الشيء يسلمه؛ إذا أعطاه، ومنه السلم في البيع والشراء، أسلم قلبه فلا يتقلب قلبه طول حياته إلا في طلب رضا الله، وأسلم وجهه إلى الله فلا ينظر إلى غير الله [يرى أن العدل بمعناه العام من أوجب الواجبات وألزمها ] إي والله! العدل من أوجب الواجبات وألزمها، فلا يحل لمؤمن أن يحيف أو أن يجور أو أن يعدل عن الطريق [ إذ أمر الله تعالى به ] أي: بالعدل [ في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90] ] هذا خبر الله عز وجل من سورة النحل، فالله يأمر عباده المسلمين بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فتؤدي العبادة على أتم وجوهها وأحسن هيئاتها؛ لأنك تعبد الله وأنت تراقبه عز وجل. وأما إيتاء ذي القربى: فهو إعطاء القرابة حقوقهم، فلا تبخس أحداً حقه منهم. هذا نظام الإسلام، العدل.. الإحسان.. إيتاء ذي القربى [ وأخبر تعالى أنه يحب أهله ] أي: أهل العدل والإحسان [ فقال تعالى: وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9] ] أي: اعدلوا في قولكم وعملكم وأحكامكم وقضائكم [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] ] اللهم اجعلنا منهم! فالله يحب المقسطين العادلين الذين لا يحيفون ولا يجورون ولا يميلون أبداً. [والإقساط] ما هو الإقساط؟ الإقساط ليس تقسيط البضاعة والدراهم بل [العدل، والمقسطون العادلون ] الإقساط العدل والمقسط هو العادل الذي لا يحيف ولا يجور ولا يظلم [ وأمر به تعالى ] أي: بالعدل [ في الأقوال كما أمر به بالأحكام ] فإذا قلت فاعدل في كلامك، وإذا حكمت بين اثنين أو أكثر فاعدل في حكمك، فكما أمر بالعدل في الأحكام أمر به في الأقوال، إذا قلت فلا تحف فتكذب أو تجور أو تخفي حقاً وتغمطه [ قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] ] يا عباد الله! أيها المسلمون! إذا قلت يا عبد الله فاعدل، فالله تعالى يقول: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا في القول وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أي: من أقربائك فلا تحف ولا تجر بل قل العدل، ولا تغطي ولا تستر، قل العدل ولو كان المقول فيه من قرابتك [ وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] ] كلام من هذا؟ كلام الله جل جلاله. وإذا قلتم وتكلمتم فاعدلوا في كلامكم، لا تشم رائحة الجور أو الميل أو الحيف أو مراعاة للقرابة أو الصداقة أو المال أو الجاه وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] سواء حكمت بين اثنين أو بين قبيلتين، سواء كنت قاضياً أو حاكماً أو لم تكن كذلك، وإنما حكموك فاحكم بينهم واعدل [ ولهذا ] من أجل هذه التعاليم الإلهية [ يعدل المسلم في قوله وحكمه ويتحرى العدل في كل شأنه؛ حتى يكون العدل خلقاً له ] من أخلاقه [ ووصفاً لا ينفك عنه ].

معاشر المستمعين! لو علمنا هذا من صبانا وتدارسناه والله ما كنا نحيف ولا نجور، ولكن الجهل وظلمة القلب صاحبها لا يهتدي!

وا أسفاه أن يعيش المسلمون في الشرق والغرب جاهلين بالله وتعاليمه، بالإسلام وأحكامه وشرائعه!

ولهذا يعدل المسلم في قوله إذا قال، وفي حكمه إذا حكم، ويتحرى العدل ويطلبه في كل شأنه؛ حتى يكون العدل خلقاً من أخلاق المسلم ووصفاً لا ينفك عنه، فلان عادل، فلان من أهل العدل.

[ فتصدر عنه ] أي: عن هذا المسلم العادل [ أقواله وأعماله عادلة بعيدة عن الحيف والظلم والجور، ويصبح بذلك عدلاً لا يميل به هوى، ولا تجرفه شهوة أو دنيا، ويستوجب محبة الله ورضوانه وكرامته وإنعامه، إذ أخبر تعالى أنه يحب المقسطين، وأخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عن كرامتهم عند ربهم ] تأمل! ما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم [ بقوله: ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور ) ] المقسطون بيضاً كانوا أو سوداً، عرباً أو عجماً، أغنياء أو فقراء. المقسطون بما علمتم على منابر من نور إلى يمين الرحمن يوم القيامة. أية منزلة أعظم من هذه المنزلة؟! فلهذا لن نجور ولن نحيف ولن نبعد عن الحق ولو كنا نحكم على أنفسنا أو أهلينا أو أقاربنا.من هم المقسطون؟ [ ( الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) ] من الوظائف.

[ وقال صلى الله عليه وسلم: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ] من هؤلاء السبعة؟ [ ( إمام عادل ) ] حاكم عادل [ ( وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ) ] من صباه [ ( ورجل معلق قلبه في المساجد ) ] إذا خرج من المسجد يعود إليه لا يكاد يفارقه [ ( ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) ] رجلان تحابا في الله طول حياتهما يجتمعان على الله ويفترقان على الله وحبه [ ( ورجل ) ] فحل [ ( دعته امرأة ذات منصب وجمال ) ] ليطأها [ ( فقال: إني أخاف الله ) ] رفض الوصول إليها ومواقعتها [ ( ورجل تصدق بصدقة ) ] قليلة أو كثيرة [ ( فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) ] يخفي الصدقة ولا يظهرها حتى لا يقال: فلان يتصدق، أو فلان بخيل أو شحيح، يخفيها حتى لا تعلم الشمال ما أنفقت اليمين، إذ الصدقة تكون باليمين، من يمينه يضعها في يمين الآخر [ ( ورجل ذكر الله خالياً ) ] ليس معه أحد في بستانه.. في سيارته.. في مسجده.. على سجادته في بيته [ ( ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) ] بالدموع شوقاً إلى الله، أو خوفاً منه تعالى، بكى وفاضت عيناه بالدموع. كم رجل هؤلاء؟ سبعة. اللهم اجعلنا منهم أجمعين! أرأيتم قيمة العدل؟!

مظاهر العدل

قال: [ وللعدل مظاهر ] تشاهد [ كثيرة يتجلى فيها ] العدل ويظهر [ منها]:

أولاً: العدل مع الله تعالى

[ أولاً: العدل مع الله تعالى ] فلا تظلم ربك، واعدل مع الله خالقك [ بأن لا يشرك معه في عبادته وصفاته غيره ] العدل مع الله أن لا تظلمه بأن تصرف عبادته لغيره، بأن تعبد معه غيره، بأن تصفه بصفات منزه عنها، هذا كله ظلم وليس بعدل، فالعدل مع الله تعالى أن لا تشرك معه في عبادته وصفاته غيره من سائر المخلوقات. كيف نصل إلى هذا المستوى؟ نصل متى قرعنا باب الله وطلبناه. إذاً: العدل مع الله تعالى بأن لا يشرك معه في عبادته وصفاته غيره من سائر الكائنات [ وأن يطاع فلا يعصى] يطاع الله في ماذا؟ يطاع في أمره ونهيه، إذا قال: افعل افعل. قال: لا تفعل لا تفعل. هذه هي الطاعة في أمره ونهيه [ ويذكر فلا ينسى] هل فيكم من ينسى الله يوماً كاملاً؟ والله ما كان ولا ساعة، لا يُنسى الله، إذ كيف تنساه وأنت قائم حي بسببه ولأجله؟! فلهذا المؤمنون ذاكرون الله، ليس هناك ساعة يغفلون فيها عن الله أبداً [ويشكر فلا يكفر] أي: الله تعالى، يشكر على آلائه وإنعامه وإفضاله، فلا نكفر نعم الله علينا، ننظر إلى سمعنا فنقول: الحمد لله. إلى بصرنا فنقول: الحمد لله. نمشي فنقول: الحمد لله. كل حياتنا من الله؛ فنشكره على كل حركة من حركاتنا.

عرفنا العدل مع الله كيف يكون؟ يكون بأن لا تشرك معه غيره في عبادته، فخصه وحده بالعبادة ولا تلتفت إلى المشركين الذين يدعون مع الله، أو يذبحون لغير الله، أو ينذرون لغير الله، فأنت من أهل: لا معبود إلا الله.. لا إله إلا الله.

ثانياً: العدل في الحكم بين الناس

[ ثانياً: العدل في الحكم بين الناس بإعطاء كل ذي حق حقه، وما يستحقه ] فإذا كنت حاكماً فأنت مأمور بأن تعدل وتحكم، يجب أن تعدل بين الناس، وإن توليت الحكم بدون أمر من إمام المسلمين كأن تحاكم إليك اثنين أو ثلاثة فيجب أن تعدل في الحكم ولا تجر ولا تحف.

ثالثاً: العدل بين الزوجات والأولاد

[ثالثاً: العدل بين الزوجات والأولاد فلا يفضل أحداًعلى آخر، ولا يؤثر بعضهم على بعض ] يفضل هذا عن هذا.

فيا من تحته امرأتان أو أكثر يجب أن تعدل بينهن، فهذه لها فراشها، وهذه لها فراشها، هذه ليلتها وهذه ليلتها، هذه كسوتها وهذه كسوتها.. العدل، وكذلك بين الأولاد -كما علمتم- كثيرون يعطون لبعض أولادهم ويحرمون الآخرين، فهذا يعطيه عمارة كاملة وهذا يعطيه -مثلاً- أدنى شيء، لا. بل يجب العدل.

رابعاً: العدل في القول

[ رابعاً:العدل في القول ] في الكلام [ فلا يشهد زوراً ] اعدل إذا تكلمت، إذا شهدت فلا تشهد شهادة زور ولا تقل كذباً أو باطلاً.

العدل في القول؟ كيف العدل في القول؟ العدل في الحكم؟ والقول؟ نعم. يعدل فيه، فالعدل في القول أولاً: فلا يشهد زوراً. تعرفون شهادة الزور أم لا؟ يقول: فلان كذاب، كذبت عليه، فلان الدابة له وهي لغيره، شهادة الزور تكون في المحكمة وخارج المحكمة، فلا يحل لمؤمن أبداً ولا لمؤمنة أن يشهد بالباطل وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] أولياء الله.

ومن الغريب -أمة هابطة- أن تجد عند المحكمة اثنان أو ثلاثة إذا طلبتهم للشهادة يشهدون معك، أعطه عشرة ريال يشهد لك. وصلنا إلى هذا المستوى لما هبطنا!!

خامساً: العدل في المعتقد

[ خامساً: العدل في المعتقد، فلا يعتقد غير الحق والصدق، ولا يثني الصدر على غير ما هو الحقيقة والواقع ] ومعنى هذا أنه يجب أن نعرف عقيدتنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نحيف فيها ولا نجور، ولا نعتقد إلا الحق، أما الباطل فلا نعتقده ولا نقول به، وإن كان لابد من معرفة الحق والباطل ومن ثم تعدل وتقول الحق ولا تقول الباطل. والآن إن شاء الله تهيأنا للعدل؟ الله يعلم أننا نعدل في قولنا في عملنا في عبادتنا في سلوكنا.. دائماً العدل؛ لأن ربنا يأمر به، ولأنه يحب أهل العدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] كيف نظفر بحب الله، كيف نحصل عليه؟ بهذه الأسباب.

مثال عال للعدل في الحكم

قال: [ وهذا مثال عال للعدل في الحكم ] تأملوا! [ بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس ] من عمر هذا؟ هذا أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، هذا خليفة أبي بكر بعد وفاته ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والذي لا يعجبه ذلك فهو من أهل الخسة والانحطاط والعياذ بالله، فانظر هذا الموقف لتتجلى صورة الحكم بالعدل

قال: [ بينما عمر بن الخطاب جالس إذ جاءه رجل من أهل مصر فقال: يا أمير المؤمنين! ] ناداه بعنوان الإمارة يا أمير المؤمنين! [هذا مقام العائذ بك ] موقفي هذا عندك موقف العائذ المستجير بك [ فقال عمر : لقد عذت بمجير ] اذكر حاجتك [ فما شأنك؟ ] يا هذا [ قال: سابقت على فرس ابناً لـعمرو بن العاص ] وعمرو بن العاص كان والياً على مصر، [ فسبقته ] سابقت هذا الشاب فسبقته [ فجعل يقمعني بسوطه ويقول: أنا ابن الأكرمين، أنا ابن الأكرمين، فبلغ ذلك عمراً أباه فخشي أن آتيك ] فبلغ ذلك عمرو بن العاص أن ولده سبق وأنه يطعن في هذا المؤمن، فخاف أن آتيك يا عمر وتحكم بيننا [ فحبسني في السجن فانطلقت منه، فهذا الحين جئتك ] عرفتم القضية؟ شاب تسابق مع شاب آخر، السباق على الخيل، فاز هذا الرجل ونجح وسبق، فالمسبوق ابن الوالي العام ، فذاك ما دام ابن الوالي عز في نفسه كيف يغلب؟ كيف يسبقه هذا؟ فأخذ يطعنه ويضربه، فبلغ هذا الخبر عمرو بن العاص ، فخشي أن آتيك يا عمر فحبسني في السجن حتى ما أصل إليك، فانطلقت منه فهذا الحين جئتك [ فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص وهو أمير على مصر ] كتب إليه كتاباً ماذا قال فيه؟ قال في هذا الكتاب: [ إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم ] احضر الحج [ أنت وولدك فلان ] كتاب عمر قال لـعمرو بن العاص في مصر: إذا وصلك كتابي هذا فاحضر أنت الموسم أنت وولدك فلان الذي ضرب [ وقال للمصري: أقم حتى يجيء ] عمرو بن العاص وولده. ابق معنا في الحجاز في المدينة [ فقدم عمرو فشهد الحج ] جاء في الموسم [ فلما قضى عمر الحج وهو قائد مع الناس، وعمرو بن العاص وابنه إلى جانبه، قام المصري، فرمى إليه عمر بالدرة ] عصا يسوق بها الناس ويؤدب بها الناس [ وضربه فلم ينزع حتى أحب الحاضرون أن ينزع من كثرة ما ضربه ] هذا الولد [ وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين. فقال: يا أمير المؤمنين! قد استوفيت واشتفيت. قال: ضعها على صلعة عمرو . قال: يا أمير المؤمنين! قد ضربت الذي ضربني. قال: أما والله لو فعلت ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع. ثم قال لـعمرو : يا عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! ] أرأيتم وجه العدل كيف؟ واضحة هذه الصورة أم لا؟! مسابقة بالخيل سبق مؤمن آخر، المسبوق هو ابن الأمير، فغضب وعز عليه كيف ينتصر علي هذا العامي أو هذا البعيد؛ فضربه، فرفعت القضية إلى عمر ، فجاء في الحج عمرو بن العاص وولده وتم الذي سمعتم، أعطاه الدرة وقال: اضرب حتى تعب من الضرب. ثم قال: اضرب صلعة عمرو . قال: لا. أنا أضرب الذي ضربني. هذا عدل آخر، هذا مظهر عجيب من مظاهر العدل.

ثمرة طيبة للعدل

والآن [ ثمرة طيبة للعدل ] ما هي؟

قال: [ من ثمرات العدل في الحكم: إشاعة الطمأنينة في النفوس ] وإذهاب المخاوف عنها [ روي أن قيصر ملك الروم أرسل إلى عمر بن الخطاب رسولاً ] سفيراً [ لينظر أحواله ويشاهد أفعاله ] بلغهم الجلال والكمال والانتصارات، فملك الروم بعث ولد من أولاده أو رسول من رجاله ليشاهد العدل في مدينة الرسول وبين المسلمين كيف هم يعيشون، كيف عمر يعيش، في أي قصر من القصور؟

قال: [ فلما دخل المدينة ] أية مدينة؟ مدينة رسول الله [ سأل عن عمر ] أين عمر ؟ [ وقال: أين ملككم؟ ] عمر ملك في نظرهم كما في بلادهم [ فقالوا: ما لنا ملك بل لنا أمير ] ما عندنا ملك وإنما عندنا أمير [ قد خرج إلى ظاهر المدينة ] خرج من الشرق أو الغرب خارج المدينة، فخرج هذا السفير في طلبه يبحث عن عمر خارج المدينة [ فخرج في طلبه فرآه نائماً فوق الرمل ] وجد عمر نائماً فوق الرمل، لا سجادة ولا سرير ولا شيء، والله العظيم نائم على الرمل [ وقد توسد درته ] عصاه توسدها هي الوسادة، والفراش الرمل، [ وهي -أي: الدرة- عصى صغيرة كانت بيده يغير بها المنكر ] كما البوليس عندهم عصى أيضاً يغيرون بها المنكر [ فلما رآه على هذه الحال وقع الخشوع في قلبه ] هذا ملك ينام على الرمل بعيداً من المدينة، يتوسد عصا! فارتعدت فرائص هذا الكافر [ وقال: رجل يكون جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته وتكون هذه حالته! ] تعجب كيف يكون رجل جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حاله! [ ولكنك يا عمر عدلت فنمت، وملكنا يجور فلا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً ] ماذا قال؟ قال له: ولكنك يا عمر عدلت فنمت، ما يخاف لأنه ما ظلم أحد في حكمه، من يريد أن ينتقم منه؟ ولكنك يا عمر عدلت فنمت وملكنا -ملك الروم- يجور فلا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً وعمر آمناً سليماً.

الاعتدال والأدلة عليه من الكتاب والسنة

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ وأما الاعتدال ] الذي علمناه العدل فما هو الاعتدال ؟ [ وأما الاعتدال فإنه أعم من العدل ] أي: أكثر انتشاراً [ فهو ينتظم كل شأن من شئون المسلم في هذه الحياة، والاعتدال هو الطريق الوسط بين الإفراط والتفريط ] الوسطية بين الإفراط والتفريط [ وهما الخلقان الذميمان ] الإفراط مذموم والتفريط أيضاً مذموم [ فالاعتدال في العبادات: أن تخلو من الغلو والتنطع، والإهمال والتفريط ] الاعتدال في العبادات كيف يكون؟ يكون بأن تخلو العبادة من الغلو والمبالغة الزائدة والتنطع، وتخلو من الإهمال والتفريط، فلا يهملها ولا يفرطها ولكن يأتي بها على الوجه المطلوب لا إفراط ولا تفريط، فإنه إذا أفرط غالى وابتدع البدع، وإذا فرط ترك السنن والواجبات [ وفي النفقات: ] الاعتدال في النفقات يكون بماذا؟ [ الحسنة بين السيئتين ] عمر بن عبد العزيز جاء من الشام وهو خليفة المسلمين، ابنته متزوجة في المدينة، فسأل: كيف حالكم؟ فقالت: الحسنة بين السيئتين لا إفراط ولا تفريط وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] [ فلا إسراف ولا تقتير، ولكن القوام بين الإسراف والتقتير، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] وفي اللباس: حد بين الفخر والمباهاة، ولباس الخشن والمرقعات ] الذين يريدون العلو والكبرياء يلبسون لباساً يفخرون به ويباهون، هذا لا يجوز، والذين يتنطعون يلبسون الخشن الغليظ المشوه بدعوى الخشوع والتخشع والتقشف، يدعي أنه ولي الله، زاهد في الدنيا تماماً، ما يلبس ثوب جديد، والاعتدال لا هذا ولا ذاك [ وهو في المشي: حد وسط بين الاختيال والتكبر، وبين المسكنة والتذلل ] الاعتدال في المشي، من أفرط يتكبر في مشيته، ومن انكسر وذل وانكسر وانحنى مبالغة أيضاً في التواضع، والجانبان محرمان [ وهو في كل مجال وسط لا تفريط ولا إفراط ولا شطط ].

معاشر المسلمين!أنتم معنا في هذا؟ في المشي الوسط اعتدل، ما تمشي متكبراً ولا تذل وتنكسر كالمساكين، لا هذا ولا ذاك، في الثياب كذلك، في الأكل والشرب كذلك.

قال [ والاعتدال أخو الاستقامة، وهي من أشرف الفضائل وأسمى الخلائق ] والأخلاق [ إذ هي التي توقف صاحبها دون حدود الله فلا يتعداها ] الاستقامة خلق يقف بصاحبه عند حدود الله فلا يتعداها ويتجاوزها، ولا يفرط فيها ويضيعها [ وتنهض به إلى الفرائض فلا يقصر في أدائها أو يفرط في جزء من أجزائها، وهي التي تعلمه العفة فيكتفي بما أحل له عما حرم عليه ] ما هذه؟ إنها الاستقامة [ ويكفي صاحبها شرفاً وفخراً قول الله تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16]. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13] ] عرفنا الاستقامة؟ لا يترك واجب ولا يفعل محرم، العدل عدل، وفي كل شئون حياته حتى في الأكل لا يأكل حتى يصاب بالتخمة، بل يقتصد.

قال: [ ويكفي صاحبها شرفاً وفخراً قول الله تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] ] عندما أصابهم الجدب والقحط [ وقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14] ].

اللهم اجعلنا منهم، اللهم ارزقنا الاستقامة، اللهم ارزقنا الاستقامة، اللهم ارزقنا العدل والاعتدال، وأبعد عنا يا الله الجهل والظلم والفساد! وتوفنا وأنت راض عنا! وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة منهاج المسلم - (62) للشيخ : أبوبكر الجزائري

https://audio.islamweb.net