إسلام ويب

في هذا الدرس يتحدث الشيخ عن أبواب الخير وكثرتها، مبيناً بعض أحوال الذين تظهر عليهم المعاصي والفسوق، لكن لو تتبع الشخص حالهم لوجد أن لهم باباً من أبواب الخير يعملون فيه ويبذلون جهدهم، فلا يحكم الإنسان على المسلم العاصي بجنة أو نار؛ لأن هذا لا يكون إلا لله عز وجل.

أبواب البر كثيرة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لنعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، الحمد لله بالإيمان، الحمد لله بالإسلام، الحمد لله بالقرآن.

اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على قدوتي وحبيبي وقرة عيني محمد النبي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

اللهم أعنا على صيام رمضان إيماناً واحتساباً لوجهك الكريم، اللهم ثقل به الميزان، وحقق به الإيمان، وفك به الرهان، وأخسئ به الشيطان، واجعل لنا في أول هذا الشهر رحمة، وفي أوسطه مغفرة، وفي آخره عتقاً من النار.

اللهم أدخلنا ووالدِينا ووالدِِيكم والسامعين يوم القيامة من باب الريان الذي يدخل منه الصائمون.

وأسألك اللهم أن تشفي مرضانا الذين لم يصوموا، وأن تغفر لهم وتعافيهم، وأن ترحم موتانا وموتى المسلمين، وأن تغفر لميتنا وهو من رواد مسجدنا هذا، مسجد الشِّعْب، المرحوم عبد العزيز، ونسأل الله سبحانه أن يكتب له أجر رمضان كاملاً: (إنما الأعمال بالنيات).

اللهم اجعل قبره وقبور المسلمين روضة من رياض الجنة، وأمدهم بالرَّوح والريحان، والنور والإيمان، والبر والرضوان، وإذا صرنا إلى ما صاروا إليه فاجعل قبورنا مدَّ البصر، واجعلها من روضات الجنات إنك على ذلك قدير، واجعلنا لجميع المسلمين هَيِّنِيْنَ لَيِّنِيْنَ، سَمْحِيْن حَبِيْبِيْن قَرِيْبِيْن مُبَشِّرِين ومُيَسِّرِين، ولا تجعلنا مُعَسِّرِين ومُنَفِّرِين برحمتك يا أرحم الراحمين!

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، ولا تجعل من بيننا شقياً ولا محروماً.

اللهم اجعلنا للناس والمسلمين كالأرض الذلول، وكالسحاب يظل القريب والبعيد، وكالمطر يسقي مَن يحب ومن لا يحب.

أما بعد:

أيها الأحباب: إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه، ومستقر رحمته، وأن يجعلنا للمسلمين رحمة، ولا يجعلنا عليهم نقمة. آمين، آمين.

أبدأ حديثي هذا (المواقف الإيمانية) من موقف حدث لي هنا في الكويت منذ ثلاثة أيام، حيث قمت بزيارة إلى بيت الزكاة العامر، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيه، وفي القائمين عليه, والمساهمين فيه. آمين.

وكنت عند مدير بيت الزكاة، وأخذتُ أتحدث معه حول هذه الفريضة العظيمة، وكيف أن الكويت بفضل الله تنتقل الآن تدريجياً إلى أداء هذه الفريضة كاملة، وفي المستقبل -إن شاء الله- سيضاف إلى بيت الزكاة أو زكاة جديدة لمؤسسات جديدة، وهكذا دواليك دواليك حتى لا يبقى أحدٌ عنده حق للفقير في ماله إلا ويؤديه إن شاء الله تعالى.

الموقف الإيماني: أنني قلتُ له: يا أخي! من الذي يمدكم في هذا البيت بالمال والزكاة؟ قال: أذكر لك أسماءً، ولكن اعتبرها سراً، حيث أننا لا نريد إشاعتها رغبة من أصحابها؛ لأنهم يريدون وجه الله سبحانه وتعالى بهذا العمل، فقلت له: اذكر لي بعض الأسماء، فقال: فلان .. وفلانة .. وذكر لي عدة أسماء رجالٍ ونساء من أهل هذا البلد، فذهلت ذهولاً عجيباً، حيث أنه أول ما عرض من هذه الأسماء أسماء أناسٍ ما كنتُ أتوقع أن يخرج منهم خير، فضلاً عن أن يخرج منهم زكاة، وعجبتُ وقلتُ: أهؤلاء يدفعون هذا؟ قال: نعم. قلت: ويرفضون أن تُذكر أسماؤهم؟ قال: نعم. قلت: ويريدون بذلك وجه الله؟ قال: نعم. فقلت: سبحانك ربي لا إله إلا أنت، علمتني درساً، وبكيت ساعتها، وانهمرت دموعي لِمَا رأيت من لطف الله في عباده، وفضله، وبره، وإحسانه.

فهذه فلانة من الناس لو نظر إليها الناظر لوَصَمَها بالكفر والفسوق، فهي متبرجة، وطويلة اللسان في الكلام الذي لا ينفع، أي: ليس في التسبيح والتهليل والتكبير، ولكنني رأيتُ أنها كفلت مئات اليتامى، وقدمت لشراء ثلاث مقابر للمسلمين في ديار المسلمين، وتقدمت لبناء ثلاثة مساجد.. إلى آخره، وأخذ يعدد لي المدير أعمال البر التي تقوم بها.

عندها احتقرت نفسي كثيراً، وقلتُ صدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) من قال: إن هذه غير مسلمة؟ ليس بيدنا دليل وبرهان واضح بيِّن على كفرها، حتى يجعل الله أعمالها هباءً منثوراً، فهي مسلمة، وزوجةُ مسلم، ابنةُ مسلم؛ لكنها عاصية، تبرجها هذا عصيان ما لم تستحله.

انظر -لا إلى علم هذه المرأة أو هذا الرجل- إلى لطف الله، الله له أبواب كثيرة يُدخل عبادَه منها، ولعل أبوابه الكثيرة هذه من السهل أن يدخل منها المتدين، فالله سبحانه جعل باباً للصلاة، وباباً للصيام، وباباً للزكاة، وباباً للحج، وباباً للبر، وباباً للطاعة، وباباً للتسبيح، وباباً للجهاد، أبوابٌ لا تستطيع أنت بمفردك أن تحصيها، وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر عباد الله أن يجتهدوا في الطاعة، فقال: (ولن تحصوا) أي: مهما حاولتَ أن تحصي أبواب الخير فلن تستطيع؛ لأن أبواب الخير لا تستطيع أن تدخل منها أنت وحدك كلها، نعم. صحيحٌ أن هذا حدث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر أبا بكر بالجنة، وأن لها ثمانية أبواب، ثم قال: (ومن الناس من يدخل من هذه الأبواب الثمانية -أي: من أبواب الخير كلها- وقال: وأنت منهم) وبشر أبا بكر الصديق بأنه منهم، ولكن لطف الله بتعدد هذه الأبواب: أن يجذب إليه حتى مَن أبى بالمعصية، أي: أن الناس يتبعون شهواتهم، ويكونون في غفلاتهم، ولكن تفاجأ أن الله أدخلهم من باب لم تكن لك بالحسبان.

الناس يتجهون عن ربهم مدبرين، والله يأتي بهم مُرَبَّطين ومقَرَّنِين بالسلاسل، إلى أين مربطون بالسلاسل؟ إلى جنات النعيم، وليس إلى الجحيم، وهذا ثابت في الحديث: (ومن الناس من يُقاد إلى الجنة بالسلاسل).

سأضرب لكم أمثلة من الأحاديث والقصص لتروا ذلك:

لا يأس ولا قنوط من رحمة الله

فهذا رجل عابد صالح في مغارة، يقوم الليل ويصوم النهار، وله أخ فاسق ولم يكن كافراً، إنما كان يتعاطى المعاصي في جميع أنواعها، وهذا الزاهد إذا نفد قوته كان لا يخالط الناس، فهو معتزل في مغارة في جبل، فإذا نَفَدَ قُوتُه نزل إلى القرية يشتري، وفي الطريق يمر على أخيه، فيقول له: أقْصِر! أقْصِر، أي: أقْصِر عن الذنب، اترك هذه المعاصي، وتعال معي إلى الطاعة، وإلى العبادة، فيقول له أخوه: دعني وربي .. اتركني وربي؛ لكن تكرار نصيحة الصالح، وامتناع الطالح ثار الغضبَ عند الصالح، فقال: -والله- لن يغفر الله لك. كل الذي فات من هذا الصالح محبوب ومطلوب، صيامه، وقيامه، ونصيحته، وبذله للأسباب، وأخذه للقوت، فهذا كله عمل طيب وطاعة؛ لكن أين المعصية الكبرى العظيمة التي ارتكبها هذا الصالح؟ هي: أنه أقسم أن الله لا يغفر لهذا، يقول الحديث: (فأُتي بهما، فقال الله: أين المُتَأَلِّي عليَّ؟ ...) أي: أين الذي أقسم عليَّ وهو يعلم بأنني لا أغفر لهذا، وأقحم نفسه في مقام الغيب: (... ولم يعلم سعة رحمتي ومغفرتي؟ والله يعلمه ...) فقال: (خذوه إلى النار، وخذوا أخاه إلى الجنة).

ومن السهولة أن تتردد مثل هذه الكلمات عند بعض الصالحين، فلان هذا ما له غَفَّارِيَّة، ألا تسمعون هذه العبارة تتردد بين الحين والحين؟ وقد نتورط فيها نحن عندما نكل ونمل، وليس هناك أشد من موقف يونس بن متى مع الكفار، وليس مع المسلمين، يوم أن خرج من القرية مغاضباً فضيق الله عليه ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة بطن الحوت، إلى أن سبح وتاب واستغفر، فأخرجه الله مرة أخرى، ورده إلى الكفار، فآمن مائة ألف أو يزيدون.

فكيف بمن يتبرم ويتضايق، بل أكثر من التبرم والتضايق من أن يَصِمَ فلاناً ويصنف الناس: هذا مغفور له، وهذا غير مغفور له، هذا في الجنة، وهذا في النار.

وهذه مصيبة عظيمة قد تحبط العمل، والإنسان لا يشعر.

فعندما أقول: إن لله أبواباً -يا عباد الله- لا تحصوها ولن تحصوها، يدخل العباد بها إلى الله، فهذا يدخل من باب بر والديه، وهذا يدخل من باب صلة الرحم، وهذا يدخل من باب النفقة، وهذا يدخل من باب القرآن، وهذا من باب الأمر بالمعروف، وهذا من باب الجهاد.. وهذا وهذا، لا أستطيع أن أعدد وأحصي، فإذا رأيت مسلماً على معصية، فلا يمنعك كلامي من نصحه، بل الميثاق والعهد الذي أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذه القرآن على أمة محمد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، وكتابه، ورسوله، وأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا الكلام لا يقف أمام النصيحة؛ لكن لا يتعدى النصيحة إلى تصنيف الناس وتكفيرهم وتفسيقهم، وترتقي القضية إلى أن يجعل الإنسان نفسه إلهاً، ويبدأ يقول: هذا في الجنة .. وهذا في النار .. وهذا مغفور له .. وهذا غير مغفور له.

خطورة تتبع خطوات الشيطان

انتبهوا -أيها الأحباب- فإن للشيطان مداخل قد تودي بعمل الإنسان من طريق الطاعة والعبادة وهو لا يعلم، وكلكم يعرف قصة ذلك العابد من بني إسرائيل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] بأنه رجل تقي نقي صالح لم يستطع الشيطان أن يأتيه من خلال المعاصي الواضحة البينة المكشوفة المحسوسة، فمن أين جاءه؟

جاءه عن طريق الطاعة والعبادة، وله حيل ومكائد عظيمة انتبهوا إليها.

جاء الشيطان وتلبس بفتاةٍ حسناء، آية في الجمال، فصرعها، ولها إخوان أشقاء، فلما رأوا أختهم مصروعة بذلوا لها أسباب العلاج من طب ومن غيره، إلى أن عجزوا، والإنسان لا يرضى أن يرى حبيباً له مصروعاً يتخبط ويزبد ويصارخ ويتشنج، فلما تعبوا من علاجها، وفي ليلة ناموا فيها، فجاء هذا الشيطان الخبيث إلى واحد منهم، فقال: علاج أختك عند العابد الفلاني في المكان الفلاني، خذوها ليقرأ عليها، فحملوها، وقالوا: يا فضيلة الشيخ! إن قراءتك مباركة، أنت إنسان صالح.. تقي.. مؤمن، ومن هذا المدح، وهذه أختنا مصروعة، وهذه كذا وكذا، فاقرأ عليها بعض الآيات؛ لعل الله سبحانه وتعالى يشافيها، ونكاية في المكيدة والمكر: أول ما يضع هذا العابد من بني إسرائيل يده على رأس هذه المصروعة ويبدأ يقرأ يخرج الشيطان، انتبهوا إلى الحيلة، هذا مما يبين لك بأن الإنسان قد يعتبر نفسه ولياً من الأولياء أو ارتقى إلى منـزلة جبريل، فيأتي الإنسانَ شعورٌ بذلك -والعياذ بالله- عندما يضع يده ويطيب المريض.

فإذا نزلت من المغارة أو ابتعدت عنه أو ذهبت البيت صرعها مرة ثانية، فيردونها مرة ثانية، فأوحى إليهم بأن اتركوها عنده كم أياماً، وهذا يبين بأن الشيطان قوي ولا يفيد فيه قراءة واحدة أو ثانية أو ثالثة، قال: فابنوا غرفة صغيرة بجوار مغارة وصومعة هذا العابد، واتركوا البنت، وأعطوه المأكل والمؤونة، بحيث أنه إذا أراد غداءً يعمل هو لنفسه غداءً، ويوصِّل لها غداءها.

فكل ما صرعها الشيطان يقرأ عليها، وكل ما صرعها الشيطان يقرأ عليها، إلى أن تطيب، قالوا: -والله- هذا كلام جميل، فتشاوروا فيما بينهم، وفعلاً جاءوا إلى هذا الرجل الصالح، وقالوا: نعرف أنك صالح، ونعرف أن الخلوة حرام، ونحن لا نريدك أن تختلي بها، انظر، سوف نبني لها داراً، فبنوا لها داراً مقابل المغارة، حتى لا تصير خلوة مباشرة، ووضعوا البنت فيها، وأقفلوا الباب، وأعطوه المفتاح، وقالوا: يا فضيلة الشيخ! إذا رأيت البنت انصرعت أو صرخت اقرأ عليها، ثم اعطها غداءها، واقرأ عليها في اليوم مرة أو مرتين، ونحن نمر بعد كم يوم، وهذا الرجل الصالح التقي الذي يقوم الليل ويصوم النهار، أخذ يعمل طعام الإفطار، فقال: لا يجوز لي أن أدخل عليها في غرفتها، بل أضع لها عند الباب، ثم أرميه بحجر، أو أصوِّت، فتخرج، انظروا هذه خطوات الشيطان التي يسميها الله في القرآن خطوات، فيقول: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] فهذه خطوة.

فخرجت وأخذت الطعام وأكلت وأعادت الإناء، وفي اليوم الثاني جاءه الوسواس الخناس في نفسه، والذي هو شيطان آخر مخصوص بالوسوسة، قال: اتق الله، هذه وحيدة، غريبة، مريضة، مستوحشة، بعيدة عن أهلها، بعيدة عن إخوانها، معزولة معك، هل من التقوى ومن الدين أن ترمي طعامها عند الباب؟ حتى أنك لا تجلس أنت مقابلها أمام بعض مغارتك حتى تستأنس بك! ما هذا الجفاء؟ ما هذه القسوة؟ فقال: -والله- هذا صحيح، فوضع الطعام أمام الباب، وجلس هو أمام المغارة ينظر إليها وتنظر إليه وتأكل.

الخطوة التي تلي: يأتي الشيطان فيقول له: اجلس بجوارها، لا تدخل معها إلى الداخل، أنت في الشارع، هذه ليست خلوة، هذا في الشارع العام، فجلس.

الخطوة الأخيرة: قال له: أدخل طعامها إلى الداخل، فأدخل طعامها إلى الداخل، فصارت الخلوة، وإذا صارت الخلوة كان الشيطان ثالثهما، وهذا شيطان مخصوص للزنا فقط، إذا صارت الخلوة جاء شيطان للزنا والفاحشة، وبدأ الشيطان يوسوس له إلى أن زنى بها.

ولما زنى بها حملت، وبدأت تظهر علامات الحمل عليها، فتورط، أصبح الآن في ورطة عظيمة وقع فيها، بين الجاه الذي هو فيه والسُّمعة التي هو فيها! وبين الدين، انظر التمزق -والعياذ بالله- الذي يحدث لهذا الإنسان! بداية من خطوة واحدة من خطوات الشيطان إلى أن جاءه وقال له: لماذا أنت حامل لهذا الحمل، وهذه الجريمة، وهذه المشكلة؟ الحل بيديك، قال: وما الحل؟ قال: الحل أن تقتلها وتدفنها، وإذا جاء إخوانها فقل لهم: الشيطان صرعها، فقرأتُ وقرأتُ وقرأتُ وقرأتُ عليها فلم يظهر أمر، فقَتَلَها الشيطان، وسيصدقوك، فقال: صحيح.

وحفر القبر، وجهز كل شيء، وبعد ذلك وضع الحبل في رقبتها وأدخل لها الطعام، وخنقها، فماتت هي وجنينها، فوضعها في القبر ودفنها، وجلس يتباكى؛ لأنه الآن انتهى أمره -نسأل الله العافية- الآن أوغَلَ نفسه وهبط إلى أسفل، فقد كان في الدرجة الأولى فوق، وبدأ بالخطوة الأولى ينـزل إلى الدرك والظلام الدامس.

فجاء إخوانها يسألون: أين أختنا؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! أختكم صرعها الشيطان، وتمكن منها اليوم، فقرأتُ عليها .. وقرأتُ، فخرج من وجهها ومن قلبها وماتت، فقالوا: ماتت؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! فأين هي؟ قال: مدفونة، وهذا قبرها، فذهبوا إلى القبر وبكوا وترحموا عليها وذهبوا إلى البيت.

جاء إليهم الشيطان في البيت، وجاءََ أحدَهم في المنام: فقال له: أين أنت يا غافل! أختكم ما ماتت، بل زنى بها هذا العابد وخنقها ودفنها، والحبل ما زال في رقبتها، والجنين في بطنها. ثم تركه وذهب إلى الثاني، وتركه وذهب إلى الثالث في المنام، وتركه، وهكذا! حتى جاء الصبح وكلهم رأوا نفس الرؤيا، وهذا الحلم هو الذي هو من الشيطان، كما في الحديث: بأن الرؤيا ثلاثة:

1- رؤيا من الله صالحة.

2- أوحديث نفس.

3- أو تلاعب شيطان.

وهذا من تلاعب الشيطان. فكل الإخوة يحكون لبعضهم البعض، أنا رأيت، وأنا رأيت، إذاً: لا يمكن أبداً أن تكون هذه المسألة إلا حقاً، فذهبوا مباشرة إلى هذا الإنسان، فقالوا: احفر، فقال: ماذا أحفر؟! لا يجوز، هذا ميت، وحرمة الميت دفنه، قالوا: احفر، فحفر، وإذا الحبل في رقبتها مثلما رأوا، وملابسها، فمباشرة ربطوه وذهبوا به إلى الوالي الذي هو السلطان، فقرر واعترف، فصلِب وهو حي على أساس أن ينفذ عليه حكم القتل.

انظروا إلى حال هذا العابد الصالح والناس ينظرون إليه، وهو مصلوب، والعالم ينظر إليه، والناس تحته، وفي هذه اللحظة، جاءه الشيطان متلبساً بصورة إنسان في هذه المرة، فكما تعلمون بأن الشطيان الرجيم عنده مقدرة -والعياذ بالله- في التحول، قال: انظر، تعرفني؟ قال: أنا سبب الذي حدث كله، من أوله إلى آخره، وإن كنتَ عرفت قوتي، وعرفتَ مقدرتي، ومثلما ورطتك، قادر على أن أخلصك وأسُلَّك مثلما تسل الشعرة من العجين، قال: صحيح، أنت الذي فعلت هذا الشيء؟ قال: نعم. وأنا سأخلصك، قال: تخلصني؟ قال: نعم. قال: إذاً: خلصني، قال: بشرط، قال: وما هو هذا الشرط؟ قال: تسجد لي الآن، قال: أأسجدُ لك؟ قال: نعم. الآن سَيَفُكُّوكَ قبل أن يصلبوك، فإذا سجدتَ لي أخرجتُك مثلما ورطْتُك، قال: أسجد لك. وأول ما فكوه خرَّ ساجداً له! فأدبر الشيطان يضحك، ويقول: هذا الذي أردتُ، أن تشرك بالله رب العالمين، وأن تعبد مع الله إلهاً آخر، فكل هذا الذي مضى ما له أثر، مثل هذه السجدة التي سجدتَها لي، فمضى، ومباشرة أخذوه وشنقوه.

انظروا إلى هذه النهاية المأساوية لهذا الإنسان الذي انتهت به هذه النهاية التعيسة!

سعة رحمة الله جل وعلا

يؤتى بالإنسان يوم القيامة وقد تخطفته الزبانية إلى النار، فوُزِنَت أعمالُه الحسنة والسيئة، فالله والملائكة يقول له: انظر! أما لك عمل؟ والله يعلم أن له عملاً، ولكن أخفاه الله مفاجأة له، لكي يعلمنا نحن في الدنيا ألا تحتقر المسلمين ولا نحتقر الناس.

قال: يا رب! لا أعلم إلا أنني ذو مال، فكنتُ أُنْظِرُ الموسِِر، أي: إذا استدان مني الناس، فإني أنظر الموسر الذي عنده ما يسدد عليه فلا أطالبه، وما ألح عليه، وما آكل قلبه إلى أن يسدد، وأتجاوز عن المعْسِر، فهذا الذي تسلف مني وتدين مني إذا كان غنياً وعنده مال، فإنني لا آكل قلبه ليعطي فلوسي، ولكن حتى يعطي هو بنفسه، والثاني الفقير: إذا عرفتُ أنه معسر تجاوزتُ عنه. فقال الله للزبانية وهم يأخذون من اليمين والشمال إلى النار، قال: تجاوزا عن عبدي.

انطلق الآن إلى الجنة، وكان مأخوذاً إلى النار.

يقول الحديث: (ليس له عمل قط إلا هذا) أنه كان يتجاوز عن الفقراء والمساكين، بشرط أن يكون موحداً؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا موحد.

خطورة تيئيس الناس من رحمة الله

أنا أضرب هذه الأمثلة حتى لا نتورط في بعض الأمور، مثل: هذا فلان ما عنده لحية، أو هذا ثوبه طويل، أو هذا يقنت في صلاة الفجر، أو من هذه الأعمال التي يعملها بعض المسلمين في بعضها طاعة، وفي بعضها معصية، إننا نأخذ هذا الإنسان هو وحسناته وأعماله كلها ونشطب عليها، ونعتبره لا شيء، من القائل في الحديث القدسي: (لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لغفرتُها لك ولا أبالي)؟ أليس الله؟

من القائل: (لو جئتني بقراب الأرض خطايا، لجئتك بقرابها مغفرة، ما استغفرتني ولم تشرك بي

حديث قدسي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم.

فكثير من الناس أصحاب الذنوب والمعاصي-أحبتي في الله- تذوب ذنوبهم، وتذوب معاصيهم في بحر الحسنات.

ففي رمضان، أتدرون ماذا قال الله عن رمضان هذا الذي أنتم فيه؟

الله يقول في غير رمضان: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ثم الله يزيد ويزيد حتى تصل إلى سبعمائة، أضعاف! فالعشرة هذه يضاعفها الله سبعمائة، ولكن ماذا قال عن رمضان؟ قال: إلا الصيام، أي شهر رمضان، قال: (إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به) ولم يعرف أحد من مخلوقاته أجر هذا الصيام الذي هو سيجزي به، علمنا الجزاء في غير رمضان، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف لمن يشاء، لكن الآن قضية إنسان مسلم صائم، وأنت تعرف لعله كان على معصية صغيرة أو كبيرة، فلا تجعلك هذه الكبيرة أو هذه الصغيرة أن تجعل عليها علامة خطر، وتقول: هذا انتهى.

بالأمس اتصلت بي امرأة بالهاتف وهي تبكي، تقول: يا شيخ! أنا أريد أن أسألك، أنا أعترف بأن الحجاب الإسلامي واجب على النساء، لا أنكره، لكن حتى الآن نفسي ضعيفة، كل الجو الذي أعيش فيه من أقارب ومن أرحام ومن صديقات لا يوجد فيهم امرأة محجبة؟ هي تقول هذا الشيء، لكن أقبل علينا شهر رمضان وأنا صمت، فلما صمتُ بعض النساء المحجبات يقلن لي: صيامك غير مقبول، وصلاتك غير مقبولة، والآن أنا أفكر أنني أفطر، فلا صيامي مقبول، ولا صلاتي مقبولة، فأنا من أهل النار يا شيخ؟ ثم بكت.

انظروا! كيف يجني الإنسان على الإنسان من خلال فتوى لا يعلمها، ولم يعلم هذا الإنسان الذي يفتي بهذه الفتوى أن بغياً من بغايا بني إسرائيل -وليست امرأة متبرجة، أخذت هذا التبرج من عادة أو من تقاليد أو من تشبه- إنما هي بغي، زانية محترفة للزنا ويهودية، أبى الله إلا أن يدخلها جنته عن طريق كلب عطشان، قال صلى الله عليه وسلم: (فمرت على بئر فشربت، وإذا بكلب يكاد يأكل الثرى من الظمأ، قالت: أصاب هذا ما أصابني من الظمأ، فنـزعت نعلها، وسقته، فشكر اللهُ لها، فغفر لها، فأدخلها الجنة) ليس هذا تشجيع على التبرج، ولكن ليس هذا أيضاً فتح باب لتيئيس عباد الله من الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53].

الدعوة الصحيحة أن تقولوا لها: بأي وجه ستلقين الله يوم القيامة وأنت لم تتحجبي، قولوا لها: محمد صلى الله عليه وسلم له حوض، عدد أكوابه بعدد نجوم السماء، كيف ستمدين يدك إلى هذا الحوض تشربين منه وأنتِ لِمَ تتحجبي، والآية القرآنية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] قل لها: أتريدين أن تُحْشَري مع بناته وأزواجه؟ فتقول: نعم. أريد أن أُحشر معهن؟ وقل لها: إذاً: تحجبي. فتقول: -إن شاء الله- أتحجَّب. بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة يُوجَّه الناس وينصحون. فمثل قول القائل: أنتِ صائمة اليوم؟ فتقول له: نعم. صائمة اليوم، فيقول: متبرجة؟ فتقول: نعم. متبرجة، فيقول: ما لك صيام، ولا لك صلاة، وأنت كافرة، فهذا تيئيس من رحمة الله سبحانه وتعالى وتقنيط وتنفير للعباد.

الحث على تقوى الله

أحبتي في الله: هذا الذي قلتُه صورة من صور التقوى في رمضان. كثير من العلماء يحدثكم حول التقوى في رمضان.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فيقولون: اتقوا رمضان، إن سابه أحدٌ أو شاتمه، فليقل: إني صائم. التقوى في رمضان أن يصوم لله، ويقوم إيماناً واحتساباً. تقوى رمضان أن يصل أرحامه، لكن من يذكر لكم هذا الجانب الذي يتورط فيه كثير من الناس اليوم.

فلهذا احرصوا -أيها الأحباب- على دفع الخير وتكثيره، وتحبيب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى، وذكر نعمته ومغفرته، وذكر الآيات الكثيرة، خاصةً في هذا الشهر العظيم حتى يقبل الناس على الله، ولا ييأسوا من رحمة الله سبحانه وتعالى، وأن يفتحوا أبواباً على ربهم، فيدخلوا عليه. قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] هذه طاعات وعبادات: وَمَحْيـَايَ وَمَـمَاتِي [الأنعام:162] كل العمر وما فيه: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِـمِينَ [الأنعام:162-163].

قال الإمام ابن القيم رحمة الله عليه: الأولية هنا في قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الله سبحانه وتعالى يدعو عباده أن يدخلوا عليه من جميع أبوابه، وأن يكون لهم السبق في ذلك، وأنا أول المسلمين صياماً، وأنا أول المسلمين صلاة، وأول المسلمين جهاداً، وأول المسلمين زكاةً، وأول المسلمين حجاً، وأول المسلمين عمرة، وليكن هذا شعارك أيها الداعية، فيكون لك في كل عبادة نصيب، وفي كل فضل سهم، وإن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل، قال سبحانه وتعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].

أيها الأحباب الكرام: قال سبحانه وتعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

وقال سبحانه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].

اللهم اجعلنا للمسلمين مبشرين وميسرين، ولا تجعلنا معسرين ومنفرين،اللهم لا تدع لنا في جمعنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءاً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا عدواً إلا قصمته.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا،اللهم ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين!

اللهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد.

اللهم أعطنا إيماناً ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة،اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين،اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد، من أراد بنا والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده،اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك، وبرك وإحسانك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا أرحم الراحمين!

اللهم فرج عن إخواننا الدعاة المسجونين، اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وسَلِّم دينهم، وصن عقولهم، وفرج همهم، واكشف غمهم، برحمتك يا أرحم الراحمين!

اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إن أنت التواب الرحيم.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مواقف إيمانية للشيخ : أحمد القطان

https://audio.islamweb.net