اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبر من غزوة أحد للشيخ : أحمد القطان
يعز من يشاء، ويذل من يشاء، نسأله سبحانه أن يجعل شتات المسلمين دولة، وذلهم عزاً، وضعفهم قوة، ويأسهم رحمة، وقنوطهم رجاء، وأن يجعل فقرهم غنى، وشتاتهم وتمزقهم جماعة، أسأله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، وأن يبعث فيهم قائداً ربانياً يسمع كلام الله ويسمعهم، وينقادون إلى الله ويقودهم، ويحكم بكتاب الله ويحرسه، اللهم نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرضا إلا بك، ومن الطلب إلا منك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم، تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين!
وأصلي وأسلم على قائدي وقرة عيني ومعلمي محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الهداة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين، وأسأله أن ينصر المجاهدين في كل مكان، ويكرم الشهداء، ويفك الأسرى، ويجبر المكسورين، ويشفي المرضى، ويرحم الموتى، إن ربي على ذلك قدير.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
وبين الماضي والحاضر زمنٌ طويل، ولكن القرآن العظيم يختصر الزمان وينقلنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعقد مجلس الشورى، يشاور أصحابه في معاركه، لا يستبد، يستفيد منهم وهو المعصوم، يستشيرهم في معركة أحد كما استشارهم في بدر ، فيجمع كبار الصحابة على أن يتحصنوا في المدينة فإذا دخل الكافرون عليهم قاتلوهم قتالاً مستميتاً يشارك فيه النساء والأطفال براجمات الحجارة من فوق الدور، ويلتحم المجاهدون في الطرقات في حرب شوارع حتى يفتح الله لهم، ولكن الشباب المتحمس -وهذه هي طبيعة الشباب- قالوا: يا رسول الله! كيف لا نخرج إليهم وقد أتونا؟ هل نحن جبناء؟ بل نرى الخروج يا رسول الله! وسيرى الله منا ما لم يره في بدر، وكثير منهم لم يشهد بدراً، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس قاعدة الشورى لأمته أن الأغلبية تريد الخروج للقتال فتنازل عن رأيه، وقد وافقه وزيراه أبو بكر وعمر ، وقام رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول يتشبث برأيه بالقتال داخل المدينة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حضرته جنازة فصلى عليها ودخل بيته في يوم الجمعة، وخرج على المسلمين وإذا مظهره الخارجي هو الجواب والقرار الأخير، والشباب قد تنازلوا عن رأيهم، وقالوا: لكأننا أكرهنا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال؟
وإذا به يخرج عليهم وعلى رأسه المغفر ولامة الحرب، وقد لبس درعين يظاهر بينهما، ولبس سيفه وكامل عدته، قالوا: يا رسول الله! كأننا أكرهناك على القتال نرضى ما ترضى، قال: (ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لامة الحرب أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) الأمة التي تتذبذب بعد اتخاذ القرار الأخير وتتردد في قتال عدوها وهو يأخذ أرضها شبراً شبراً، قطعة قطعة، يهدر الدماء، ويسلب الأموال، ويهتك الأعراض، وحتى هذه اللحظة لم يكن هناك قرارٌ حاسم لمحاربة العدو الجاثم، ما كان يعرف ذلك محمدٌ صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان يعلم نتيجة المعركة وأنه سيكون فيها ذبح لأنه في تلك الليلة رأى رؤيا حق، رأى ثلمة في ذبابة سيفه، ورأى بقراً تنحر، ورأى حصناً حصيناً أدخل يده فيه.
فلما أصبح الصباح قص على الصحابة الرؤيا، وأولها قائلاً: (أما الثلمة في السيف فأحد أقاربي يقتل -وكان حمزة سيد الشهداء- وأما البقر التي تنحر نفر من أصحابي، وأما الدرع الحصينة فهي المدينة ) على ساكنها صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والسلام، ومع هذه الرؤيا أصر على الثبات والتوكل على الله، واستسلم لقدر الله ينفذه خطوة خطوة، فإن يستشهد ويقتل أصحابه ويذبحون فإن ذبحهم محدود المكان ومحدود البشر ومحدود الزمن، ولكن يوم أن يخل في قاعدة الشورى فإنها سوف تكون مطلقة الزمان، يأتي كل سلطان وخليفة من بعده يتردد في أخذ القرار ويتردد في أخذ الشورى فتكون الطامة الكبرى على أمة محمد، أصر متوكلاً على الله ماضياً في قدر الله لا يتردد؛ لأن الشورى هي أساس حياة هذه الأمة، ويوم أن يستبد الحاكم والسلطان فالويل كل الويل على هذه الأمة.
وارتقى الرماة على الجبل وبدأت المعركة حاسمة تقدمها أبطال المسلمين بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقاتل معهم أشد القتال إلا أنه لا يقتل، إذا تمكن من قتل عدوه عفا عنه على أمل أن يتوب ويهديه الله بعد ذلك، وعلي بن أبي طالب يصفه وهو في ميادين القتال فيقول: [إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق والحلق -أي: الحديد والعيون من شدة القتال والغبار- لذنا برسول الله صلى الله عليه وسلم] يجعلونه ترساً ودفاعاً من السهام والسيوف والرماح والنصال، ودارت معركة حامية حقق الله فيها نصراً مؤزراً للمسلمين فلا ترى إلا حمزة معلماً بريشة يهز بسيفه الكافرين فلا يقف أمامه أحد؛ حتى أنك إذا رأيته يضرب الرءوس لا تدري هل أصابها أو أخطأها من شدة الضرب، يظل رأس الفارس مكانه وهو مقطوع! فإذا اهتز وقع الرأس عن يمينه أو عن شماله، وترى طلحة والزبير وسعداً وغيرهم من الأبطال الأشاوس مثل أبي بكر وعمر وسعد بن معاذ وسعد بن الربيع والمهاجرون والأنصار حتى اجتاحوا الكافرين وكان عدد المقاتلين من المسلمين سبعمائة وخمسة وعشرون مقاتلاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، وقد انخذل المنافقون بقيادة ابن سلول ورجع بثلث الجيش، ومع هذا حقق الله وعده ونصره، واجتاحوا معسكر الكافرين وولت نساؤهم تصعد الصخور والجبال، وأخذ المسلمون في نهاية هذا النصر المؤزر يجمعون الغنائم.
وفي هذه اللحظة كانت هناك بعض القلوب التي لم تكتمل التربية فيها، فنزل الرماة من الجبل بعد أن ظنوا أن المعركة قد انتهت، وأصبحت هناك ثغرة وما أكثر الثغور اليوم التي تركت بلا حراسة ولا حماية في عالمنا، ثغر واحد في ميدان محمد صلى الله عليه وسلم يترك تحدث فيه المجازر والمآسي، فكيف بمئات الثغور؟! قال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: لا تنزلوا. وذكرهم بالأمر العسكري النبوي، فعصوه ونزلوا يجمعون الغنيمة، ومن كان يراقب الموقع وقد ارتاح؟ خالد بن الوليد ومعه مائتا فارس، والمسلمون عندهم خمسون فارساً، خالد بن الوليد من بدء المعركة وهو يرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أعلم وأفهم منه عسكرياً يوم أن سد تلك الثغرة، فتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم درساً خطيراً في العسكرية والاستراتيجية، إذ ظل ينظر إلى ذلك الثغر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصعود الرماة إليه حتى نزلوا، فلما نزلوا استدار وصعد عليه وقتل البقية الباقية، ثم انحدر بخيالة خلف الجيش وهو يجمع الغنائم، فلما التفت الفاروق وإذا خالد يحاصر القوم من خلفهم فأطبقوا عليهم من خلفهم وأمامهم، وتحول النصر إلى هزيمة.
في مثل هذا الجو الساخط المضطرب في زخم القتال وصليل السيوف وقصف الرماح، واختلاط الرجال بالرجال إذا به صلى الله عليه وسلم يلتفت فيرى أبي بن خلف فصاح بالقوم أبي بن خلف واختطف الحربة من أحدهم وانتفض، يقول علي: [فتطايرنا من حوله كما يتطاير الذباب عن ظهر البعير] وجاء الرجل يشتد على حصانه، وما أن اقترب حتى مد النبي صلى الله عليه وسلم الرمح فدخل نصله في ترقوته وفار الدم وكان يخور كما يخور الثور ثم سقط ميتاً.
الوحيد الذي قتله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وعد، ووعد الأنبياء صدق؛ فهم لا يخلفون الميعاد -وما أكثر العهود والوعود التي أخلفت في عالمنا هذا- واحتدم القتال حول النبي صلى الله عليه وسلم، إذا التفت يميناً ترى أبا دجانة سماك بن خرشة وعلى وجهه وجبينه عصابة الموت الحمراء، وقد أمسك السيف بيمينه، وقد انحنى سيف رسول الله وهو يضرب به يهد الكافرين هداً، ولما أن رفع السيف على آخر مقاتل يريد أن يقطع رأسه فإذا هي هند بنت عتبة امرأة سقطت اللأمة عن رأسها وهي تقاتل، فعف ورفع السيف عنها ولم يقتل به امرأة احتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم، أين هذا الاحترام لمن يقتلون النساء في لبنان وفي أفغانستان بأموال دفعها المسلمون -مع الأسف الشديد- يجرون النساء ويهتكون الأعراض ويسفكون الدماء ويقطعون الأطفال الأبرياء والصبايا العذارى؟!
وأبو بكر وعمر يقاتلون عن يمينه وشماله، وجاءت نسيبة العامرية تضرب من أمامه ومن خلفه وتدفع أبناءها دفعاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ، قال: سليني؟ قالت: أسألك رفقتك في الجنة، قال: اللهم اجعلها رفيقتي في الجنة) وينظر أين سعد بن الربيع؟ فإذا هو في ميدان القتال ينـزف دماً، قالوا: [يا سعد! يسأل عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بلغوا رسول الله مني السلام وقولوا له: إن سعد بن الربيع يجد رائحة الجنة، وبلغوا الأنصار ألا يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه إلى الله].
وكان أنس بن النضر وسعد بن معاذ والناس يبكون، والإشاعة تعصف: قتل محمد، قتل محمد، وكان يظن ابن قمئة لما رأى مصعب بن عمير يحمل الراية أنه الرسول صلى الله عليه وسلم -حسبه الرسول- فقطع يده وقتله وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الراية وأعطاها علي بن أبي طالب واجتمع الكفار على الرسول صلى الله عليه وسلم فاحتضنه أبو دجانة على صدره يدور به والسهام تضربه من كل جانب والسيوف والنصال، فسقط به بحفرة وغطاه بجسده، وجاء كعب بن مالك فنظر والناس يقولون: قتل رسول الله، فرأى عيني الرسول تبرقان بكل حيوية وشجاعة، فقال: أبشروا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صه حتى لا يعرف الكافر موقعه.
ثم بعد ذلك جاء وحشي الذي أمرته هند بنت عتبة أن يقتل حمزة على أن تعتقه، يقول: فأخذت أتحرى حمزة وهو يهد الكافرين هداً حتى جاءه شجاع بن عبد العزى فضرب رأسه كأنه أخطأه وإذا رأسه قد قطع يقول: فضربته بالحربة في أحشائه فخرجت من بين رجليه فالتأم على الجرح وجاء ليجري ولكنه سقط ومات، فأخذت الحربة وذهبت إلى الخيمة ودارت معركة رهيبة ظهرت فيها البطولات العظيمة، بطولات كبيرة: مصعب بن عمير يستشهد على العلم وهو يحمله، وسبعة من الأنصار رضي الله عنهم يستشهدون، وذلك الرجل أنس بن النضر عندما رأى الصحابة قال: [ما بكم قاعدون؟ قالوا: قتل رسول الله، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، ثم قاتل حتى استشهد فلم تعرفه أخته إلا ببنانه].
وهذا طلحة بن عبيد الله قاتل حتى لم يدعوا مكاناً في جسمه إلا أصابوه، وخر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم جريحاً يقول: دونكم أخاكم فقد أوجب، فيحملونه فيقوم مرة ثانية يقاتل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الانسحاب واحتضنه جبل أحد، فإن كانت أرحامه وعشائره لم تؤويه ولم تحويه، فهذا أحد جبل من جبال الجنة يحتضنه بين صخوره يحميه من كل الجهات صلى الله عليه وسلم.
وجاء أبو سفيان وقال: كان في القتلى مثلة لم آمر بها، والمثلة: أنهم قطعوا أنف حمزة وأذنيه وشقوا بطنه وأخرجوا كبده، ثم قال: يوم بيوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ردوا عليه لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال: أُعل هبل، قال: ردوا عليه: الله أعلى وأجل، فرد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وثبت المسلمون ثبات الجبال الراسيات.
وفي نهاية المطاف ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الميدان، وإذا به يرى ملائكة تنزل ومعها ماء من السماء تغسل أحد الشهداء، قال: (انظروا صاحبكم تغسله الملائكة، اسألوا أهله، فذهبوا إلى زوجته فسألوها فقالت: لقد كان جنباً لما سمع حي على الجهاد ولم يتمكن من الاغتسال) دخل المعركة وهو جنب وأبى الله إلا أن يرفع روح الشهيد بعد أن يغسله في ميدان المعركة.
إن الأيدي المتوضئة والأجساد المتطهرة هي التي يحقق الله على يديها النصر في كل زمان ومكان، إن أمتنا أمة طهارة وليست أمة نجاسة، أبى الله سبحانه وتعالى أن يسجل حنظلة في سجل الشهداء إلا بعد أن أنزل على جسده الطاهر ماءً طهوراً تغسله الملائكة، فأخذ في ميدان المجاهدين لقباً جديداً وهو: غسيل الملائكة!!
هذه أمتنا وهذا تاريخها.
أحبتي في الله: تدبروا كثيراً وتفكروا، واربطوا بين الماضي والحاضر، وسلطوا أنوار الماضي على ظلمات الحاضر لتكشف لكم الزيف والخداع والعمالة الخئون، ولن يكون نصر إلا بعد أن نطيع الله ورسوله، ما شفع للمسلمين من الهزيمة والقتل في أحد أن كان من بينهم خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، ما شفع لهم من القتل والهزيمة أن كان بينهم عمر الفاروق وأبو بكر الصديق ، ما شفع لهم أن كان من بينهم خير القرون من المهاجرين والأنصار، نزلت بهم الهزيمة ونزل بهم القتل، فماذا نقول الآن وليس من بيننا عمر ولا أبو بكر ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعصي الله بأكل الربا في الليل والنهار أكثر من ثلاثين عاماً، يصبر الله علينا صبراً لم يصبره أحد ونحن نحاربه بالربا، ثم نريد أن ننتصر على العدو! كيف ينتصر مسلم أعلن الحرب عليه يوم أن أصر على الربا؟
كيف ننتصر على أعدائنا ولا يوجد دولة تحكم بالإسلام حكماً صحيحاً إلا من رحم الله وقليل ما هم؟
كيف ننتصر على عدو نحن نحكم منهجه في حلالنا وحرامنا وفي أخذنا وعطائنا وفي أموالنا وشرائعنا كلها؟
كيف ننتصر على عدونا والصحابة خالفوا مخالفة واحدة وما شفع لهم وهم خلص الناس؟
أحبتي في الله: لا نصر إلا بعد أن ننصر الله، وصدق الله سبحانه: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] وقال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
اللهم انصر الدين وأهله، ورد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم أرنا في أعدائنا وأعدائك عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، برحمتك يا أرحم الراحمين!
أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله العاصمة من القواصم، وأتلو عليكم بعض آية من كتاب الله نزلت في غزوة أحد تدبروها وتفكروا فيها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121] إذاً من أول المعركة والله سميع عليم، وفي كل المعارك الله سميع عليم، من أطاعه نصره، ومن عصاه خذله؛ لأنه سميع عليم: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:122-127] الله هو الذي يقطع طرفاً من الذين كفروا، أسقط الأفغان حتى الآن تسعمائة طائرة حربية ما بين (نفاثة) إلى (هيلوكبتر) مقاتلة وهذا تقرير صحيح صريح، يتحدى الجهاد الإسلامي كل الجيوش الإسلامية والعربية المعاصرة أنها تسقط ربع هذا العدد أو أقل من ربعه إن استطاعت؛ لأن النصر ليس بالعدد، إنما النصر بيد الله من نصر الله نصره الله، من أعز الله أعزه الله، هذه قاعدة لا تتخلف وسنة من سنن الله.
لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] سبحانه أو يتوب عليهم كما تاب على خالد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان وعلى زوجته وعلى زوجة عمرو بن العاص وزوجة عكرمة بن أبي جهل ، وعلى معظم الذين قاتلوا في أحد ، تاب الله عليهم وشرح صدورهم للإيمان والإسلام وكانوا أبطالاً وفرساناً في الفتوحات الإسلامية الكبرى.
من يعطي مثل الله؟
من يرحم مثل الله؟
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38] فمالنا إلا ربنا -أيها الأحباب- الوقت لا يتسع أن أقرأ عليكم أكثر من ذلك، ولكن إن شاء الله إذا تهيأ الوقت الآخر سنعود إلى تفصيلات أدق في هذه الغزوة، فما ذكرت منها شيئاً حتى الآن، وما هو إلا سرد تاريخي قصصي، ولكن في ثناياه العبر والحكم والدروس التي يجب أن نعرض واقعنا الأليم عليها موقفاً موقفاً، ودرساً درساً، ونفصله تفصيلاً؛ لتشفي أمراضنا، وتقلل بلاءنا، وترفع وباءنا الذي نحن فيه؛ وليحقق الله فينا وعده ونصره، والله لا يخلف الميعاد سبحانه وتعالى.
أختم الخطبة الثانية بهذه الآيات الكريمة العظيمة التي أدخَلها الله سبحانه وتعالى في خضم الدماء وصليل السيوف وصراخ الأبطال، لقد أدخل الله موضوع الربا في هذه المعركة وكأنه يقول: إن الذين يأكلون الربا مصيرهم سواء طال الزمان أم قصر، الهزائم والحروب والويلات! ففي هذه الآيات التي نزلت في غزوة أحد بعد قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132].
إذا لم نطع الله ورسوله لا نرحم، وهذا شيء معروف ومفهوم، طاعة الله ورسوله في الشعائر التعبدية، طاعة الله ورسوله في الشرائع القانونية، طاعة الله ورسوله في الاقتصاد، وفي أداء الزكاة، وفي أداء الفرائض، وفي العسكرية والجهاد، وفي التربية والتعليم، وفي السلوك والأخلاق، في كل أمر وفي كل سكنة وحركة، وإلا لن تكون الرحمة: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] هذه نزلت في أحد وكأن الله يقول: إن بعض العلائق التي تمت بينكم وبين اليهود المرابين في المدينة إن هذه العلاقات والعهود والعقود الباطلة كانت من الأسباب التي استذل الشيطان بها المقاتلين وحول النصر إلى هزيمة، وإنما النصر والهزيمة في ميادين القلوب لا في ميادين الحروب، إن انتصرنا على أنفسنا والشيطان في قلوبنا نصرنا الله في دروبنا وحروبنا، هذه قاعدة لا تتخلف: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
انتبهوا -عباد الله- إلى هذه المعاني وأرجو أن تقرءوا هذه السور عندما تعودوا إلى بيوتكم، اقرءوا هذه الآيات في سورة آل عمران ابتداء من مائة وواحد وعشرين إلى آخر الآيات التي نزلت في غزوة أحد .
نسأل الله سبحانه وتعالى علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، نسأله نصراً مؤزراً، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وعلى أرض لبنان؛ وفي الأفغان وفي الفليبين ، اللهم اجعل الشورى بين المسلمين، اللهم اجعلهم يحرمون ما حرمت، ويحلون ما أحللت، لا إله إلا أنت، لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك خاصمنا وإليك حاكمنا؛ فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبر من غزوة أحد للشيخ : أحمد القطان
https://audio.islamweb.net