اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الانتفاضة في عيون المجتمع للشيخ : أحمد القطان
الحمد لله الذي جعل القدس والأقصى انطلاقاً وعزاً وانتصاراً وجهاداً لأمة الإسلام، كلما خبت فيها أرواح المجاهدين حيت من جديد، وانتعشت لصيحة الله أكبر.
الحمد لله الذي جعل الحجارة التي بلا ثمن أفتك وأضر على اليهود من الطائرة التي تشترى بالملايين.
أحبتي في الله: إن كان اليهود اليوم يكسرون أطراف المسلمين في فلسطين ، فقد سبقهم أولياؤهم من قبل في الحملة الصليبية ، حيث ذبحوا سبعين ألفاً من المسلمين في القدس الشريف، وخاضت الخيل بدمائهم، وظلت أشلاء القتلى في كل مكان، فقيَّض الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة صلاح الدين فوحد صفوفها وجيوشها وقياداتها، وزحف إلى القدس تناديه أبيات من الشعر على لسان الأقصى الأسير:
يا أيها الملك الذي>>>>>لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة>>>>>يشكو بها البيت المقدس
كل المساجد طهرت>>>>>وأنا على شرفي أنجس
فصاح صلاح الدين لبيك لبيك يا أقصى!
وجاء بجحافله، وحاصر القدس، وقام الصليبيون بتشكيل لجنة للتفاوض والصلح معه، وسبق ذلك أن قدموا الرشوة إلى أحد قادته، حتى إذا ما تفاوضوا معه للصلح تقدم ذلك الرجل يؤيدهم.
قالوا: يا صلاح الدين! إن دينك يأمرك بالسلام، ونحن ندعوك إلى السلام، لا تدخل هذه الأرض المقدسة عنوة وفتحاً وجهاداً وإنما ادخلها صلحاً وسلاماً احتراماً للأديان الثلاثة، فقال القائد الذي أخذ الرشوة، ويوجد في كل أمة وفي كل جيش ضعفاء النفس أمام لمعان الذهب والإغراء المادي، قال: صدقوا يا صلاح الدين ! فالله يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61].
فقال له: خسئت يا عدو الله!!
هكذا بدون ألقاب، وبدون رتب، وبدون نياشين، يرد عليه هذا الرد الحازم القوي: خسئت يا عدو الله! أنت عربي وأنا كردي، ولكني أفهم منك لكتاب الله، فإن الله يقول لمثل حالنا وموقفنا هذا، ونحن نحاصرهم ونحن أقوياء: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
فالمسلم عندما يكون قوياً، وحكومته قوية، وهو فاتح، وأعداؤه أصبحوا أذلة مستضعفين، لا يصالحهم حتى يأخذ ما أخذوه منه عنوة بالقوة، فإن للقوة روحاً تسري في قلوب الجنود المكسورة المجروحة، إن استشهاد سبعين ألف مسلم في القدس لا يشفيها معاهدة سلام أبداً، لهذا دخل صلاح الدين جهاداً وفتحاً.
ومرت الأيام بعد الأيام، وأعاد التاريخ نفسه، والأمة اليوم يذبحها اليهود أولياء النصارى، كما يقول الله في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51].
الدور الأول قام به النصارى هناك، والدور الثاني يقوم به اليهود اليوم، يذبحون الأطفال، ويجهضون النساء، ويكسرون الأطراف، وبعد مرور أربعين عاماً على قضية فلسطين من (48م) إلى (88م) ولدت الانتفاضة من جديد.
ورقم الأربعين رقم حساس بالنسبة لليهود، فقد كان فيه التيه في أرض سيناء، وبلغني أنه في التوراة موجود: بعد أربعين من استقرارهم في فلسطين سيتعرضون إلى ملحمة، وهذا الملحمة أخبر عنها حيي بن أخطب وهو على خندق الذبح في أسواق المدينة ، بعد أن عرض عليه للمرة الأخيرة الإسلام فأبى، حيث سأل عن قيادات يهودية فقالوا له: قتلوا، قال: ما قيمة الحياة وما طعم الحياة بعد هؤلاء، فشق جيبه من يمين، ومن شمال حتى لا ينتفع بثوبه الجديد، كطبيعة يهودية موجودة منذ القدم إلى الآن، دائماً يخربون بيوتهم بأيديهم حتى لا ينتفع بها، قال: اقتلوني إنها ملحمة كتبت على بني إسرائيل. فهم يعلمون أنها ملحمة، ولكن عليَّ وعلى أعدائي. هكذا هم يفكرون.
الحرب العالمية الثانية: الأصابع التي كانت تعمل في الخفاء، لو نظرت إليها لوجدتها أصابع يهودية.
الحرب العالمية الثالثة والتسلح الرهيب، لو بحثت لوجدت هناك حكومات خفية تعمل في الظلام، وتنظيمات سرية يهودية تحت أستار وأسماء مختلفة حتى يدمروا الأرض، ولكن الله جعل توازن القوى في هذه الأرض رحمة منه سبحانه، ويخبر الناس: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [العنكبوت:22] فمهما بلغوا من التسلح في الأرض والتسلح في السماء فالأرض بيد الله لا بأيديهم، والسماء بيد الله لا بأيديهم.
ولدت فلسطين أبناءها وخرجت من الأربعين، وكان نفاسها الطويل مملوء بالجراح، تطهرت فلسطين من نفاسها بعد تجريدها من سلاحها فتسلحت بالحجارة، والشياطين يدورون في جسدها حتى وصلوا قلبها القدس.
وعند طهرها لم تتبخر بأنواع البخور والعطور، ولكنها تبخرت بدخان الإطارات المحروقة التي أضواؤها تخترق الحراسات في ظلام الليل، عندما تأتي الدوريات اليهودية إلى المدن والقرى وأمامها الحجارة والكمائن، وينزل الشبان الملثمون كالأسود والنمور في ظلام الليل يرصدون تلك الآليات، وما أن تقف عند مدخل مدينة أو قرية إلا وقد انهالت عليهم القنابل الحارقة التي طوروها الآن، وبماذا طوروها؟
لم يطوروها بذرة ولا بصاروخ، وإنما أضافوا إلى الجاز أو الصابون بعض ذرات التبن التي تساعد على الاشتعال والالتصاق في أجساد اليهود.
لا شك أنها سخرية من السخريات للآليات التي تصدأت في العالم الإسلامي اليوم، إضافة تبن إلى بنزين وجاز، يعتبر تطوراً في السلاح الاستراتيجي الذي أزعج اليهود الآن ستة وسبعين يوماً.
إن فلسطين تطهرت يوم مولد أبنائها، وغسلت العالم الفلسطيني بدم الشهيد، ذلك الدم المسكي المبارك، وآن لها الآن أن تمسك كتاب الله بيديها وتتلوا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5].
ذلك الفيل الصليـبي لـأبرهة القديم، يقوده أبو رغال العربي الذي يساعد أبرهة الصليبـي لهدم بيت الله الحرام، تتجدد تلك الصورة في كل زمان من أزمان أمتنا، فجاء أبو رغال ومعه الفيل الصليبـي بالإضافة إلى الدب الروسي لكي يهدموا الأقصى بأيدي الهجرة اليهودية التي يقول الله عنها: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء:104].
وبعد هذا اللفيف من كل مكان يقول الله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:7] وسجَّل الشباب المسلم في فلسطين التاريخ من جديد، وبهذا التسجيل سجِّرت عروش، وسجلت بصمات الشباب الدامية وثائق الجهاد، وتسابقت أسماء الشهداء في سجل الخلود.
تطهرت فلسطين من نفاسها، وآن لها أن تمسك القرآن وتتلو: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:11-12] .. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:4] .. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:14-17].
ورمي الله سبحانه وتعالى المنطلق من قاعدة: (شاهت الوجوه) التي كان محمد صلى الله عليه وسلم يرددها ويذكر بها المؤمنين المستضعفين في كل زمان ومكان، سواء كان استضعافاً مادياً، أو استضعافاً روحياً: فالاستضعاف المادي في بدر: أخذ صلى الله عليه وسلم من حجارة الأرض وحصبائها ثم رماها في وجوه الكافرين، وقال: (شاهت الوجوه)، والاستضعاف الروحي في الكثرة المادية الهائلة في حنين: يوم أن قيل: لن نغلب اليوم من قلة، أيضاً أخذ من حصباء الأرض في هاتين المعركتين ورماها في وجوه الكافرين وهو على ظهر بغلته، عن يمينه العباس وعن شماله أبو سفيان بن الحارث، وهو يقول: (شاهت الوجوه، شاهت الوجوه، أنا النبي لا كذب).
فشاهت وجوه اليهود اليوم بحجارة مسلمة مؤمنة، إن فلسطين الآن بعد طهرها تسجد لرب العرش لا لأرباب العروش، إنها اليوم تقرأ آية الكرسي لا آية الكراسي، فلسطين الآن تقضي أيام صيامها الماضية، لا تصوم شهراً إنما الآن دخلت في الشهر الثالث، وأوشكت على قضائه، فأهل رام الله يخرجون بالخبز، وأهل غزة يخرجون بالخبز، ويخرج أهل الخليل ويلتقون بأهل المخيمات في الطريق، كل واحد منهم يأخذ الخبز؛ خبز أطفاله ونسائه الجياع ليؤثر به جيرانه وإخوانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
وزاد التهاب المجاهدين هناك يوم أن قام شابٌ فلسطينيٌ بطعن تاجر يهودي، فقام قريب التاجر وركب شاحنته واجتاح سيارتين للفلسطينيين وقتل منهم أربعة وجرح تسعة، فثار الناس وأخذوا الجثث، وحاول اليهود بكل قواتهم أن يحجبوا بين الناس وبين جثث الشهداء، فتفانى الشهداء والأبطال على تحصيل هذه الجثث، وأخذوها خطفاً من اليهود، وساروا بها على ما بها من دماء وجراح يرددون: الله أكبر لا إله إلا الله، والتقى أهل الضفة مع أهل غزة مع أهل جباليا، وبدأت الانتفاضة مسيرتها بإذن الله رب العالمين.
في أولها انتفاضة، ثم بعد ذلك ارتقت إلى ذروة سنام الإسلام؛ إلى الجهاد في سبيل الله.
والشعراء لهم في هذا المجال إبداع، والله تعالى يقول: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً [النساء:84].
يا تلاميذ غزة علمونا>>>>>بعض ما عندكم فقد نسينا
علمونا بأن نكون رجالاً>>>>>فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو>>>>>بين أيدي الأطفال ماساً ثمينا
كيف تغدو دراجة الطفل لغماً>>>>>وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب إذا>>>>>ما اعتقلوها تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا>>>>>بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا بكل قواكم>>>>>واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح>>>>>فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش>>>>>فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحاً>>>>>ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا>>>>>منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن>>>>>وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة لا تعودوا>>>>>لكتاباتنا ولا تقرءونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا>>>>>نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القتل السياسي والقمع>>>>>ونبني مقابراً وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا>>>>>واطرحوا من رءوسنا الأفيونا
علمونا فن التشبث بالدين>>>>>ولا تتركوا الرسول حزينا
يا أحباءنا الصغار سلاماً>>>>>جعل الله يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض الخراب طلعتم>>>>>وزرعتم جراحنا نسرينا
هذي ثورة المنابر والذكر>>>>>فكونوا على الشفاة لحونا
أمطرونا بطولة وشموخاً>>>>>واغسلونا من قبحنا اغسلونا
إن هذا العصر اليهودي وهمٌ>>>>>سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة ألف أهلاً>>>>>بالمجانين إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي ولى>>>>>من زمان فعلمونا الجنونا
أصبحت كل الأمهات في غزة أم طفل الحجارة، إذا ألقى اليهودي عليه القبض تقدمت أي امرأة تسير في الشارع واشتبكت مع اليهودي واليد الأخرى تنزع الطفل منه، تدفعه وتنزع الطفل منه، يشتمها .. يضربها .. يهينها، فتجتمع معها الثانية والثالثة والرابعة، فيحتار اليهودي فيدور حوله ثم يلتفت فلا يرى الطفل، وقد انطلق هناك عبر الأفق لا ليأوي إلى صدر أمه، أو يأخذ حلاوة كعادة أطفال اليوم، إنما يعود مرة ثانية إلى الجبال يتلمس بيديه الأرض، فإذا ما وقعت على حجر ثمين لا يقدَّر بثمن عاد مرة ثانية يطبع بدماء أنامله بصمات الخلود والشهادة عند الله رب العالمين.
فاضطر اليهود إلى تكسير أطرافهم وأيديهم وأرجلهم، ثم أطلقوهم بعد ذلك، وقد شاهدنا الأعاجيب؛ مشلول كسَّروا وجهه ورأسه فعاد يدرب يده الأخرى على الكاراتيه لكي يقاتل بها، إن هذه البطولات النادرة كنا نقرأ عنها في تاريخنا البعيد، يوم أن قام أبو مجلز في معارك القادسية بعد أن فتحوا بطنه بضربة رمح، واندلقت أقتابه على الأرض، حملها وأمسك بها وانطلق إلى جيش الفرس يقول: الله أكبر. حتى سقط دونه شهيداً.
روح الإيمان والجهاد بدأت تنبعث من بيوت الله يوم أن تحررت، وبقيت ملايين المساجد معتقلة.
المصحف المحبوس في المساجد انطلق الآن، وأخذ المسجد دوره الجهادي الذي كانت تنطلق منه جحافل خالد وسعد وسعيد وشرحبيل وعمرو.
عاد الناس الآن يوجِّهون المجاهدين في الليل والنهار من مكبرات الصوت في المساجد، فإذا هجم اليهود بأسلحتهم المطاطية والذخيرة الحية، وقنابل الغاز والرصاص المتفجر داخل الجسم؛ بدأت مكبرات الصوت من هذه القرية تنادي القرية التي أمامها: عندكم سيارة إسعاف أنجدونا عندنا جرحى، وتأتي سيارة الإسعاف يفتح لها طريق خاص لكثرة تراكم الحجارة، والحجارة لها دور حساس، ليس فقط ترمى بالمقلاع أو باليد، بل إن آليات اليهود الآن عاجزة أمام حواجز الحجارة التي يجرها الشباب ليلاً، فأصبحت الآليات المجنزرة لا تستطيع العبور من أمام حواجز وجدران الحجارة عبر الطرق.
ونشر في القبس سؤال لأحد المجاهدين: لم لا تستخدمون المسامير وشظايا الحديد لتعطيل عجلات السيارات؟
قال: إنهم الآن لا يأتوننا بسيارات، إنهم الآن يأتوننا بمجنزرات، والمجنزرات لا تعرقلها إلا كتل الحجارة الكبيرة، فنحن في الليل نتعاون بالحبال على جر الحجارة، معوقات أمام تقدم اليهود دفاعاً عن عرضنا وأرضنا، وإذا بثثنا المسامير فسيارات الإسعاف لا تصل إلينا.
فالحجارة التي ستنادي: يا مسلم .. يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، أصبح دورها الآن يظهر في بدء الجهاد الحقيقي في فلسطين، حجارة تمنع تقدم الآليات، حجارة تنزف وجه اليهودي، حجارة تطير من يد مجاهد صغير؛ فيطير معها الرعب، وإن كانت تسقط عند قدم اليهودي فإن الرعب يخترق قلبه، وهذه جيوش لا يقدر عليها أحد وتأتي من قاعدة: كن فيكون من الله رب العالمين: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12].
قذائف الحق عندما تنزل بأيد صادقة متوضئة يكون لها دور عظيم: نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ تصيبه في الدماغ: فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18].
1- أن أسطورة الحدود الآمنة التي يدندن حولها اليهود وينشدونها انتهت الآن، فليس هناك حدود آمنة ما دام قلب فلسطين ملتهباً، وهل إذا التهب جسم الإنسان من الداخل ينجو خارجه؟ لا.
تطَّلع على قلوبهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن حال الكافرين في النار، من بركة هذه الانتفاضة قضية التعايش السلمي التي أصبحت الشعوب تدجَّن بها انتهت حتى داخل فلسطين.
فالشباب بعد (67م) ظن اليهود أنهم تحت ضغط الضرورة والحاجة وطلب الخبز عملوا في مصانع اليهود، أنتجوا منتجات اليهود، لبسوا الجنز، خالطوهم في مدارسهم وفي جامعاتهم، فقالوا: قضينا على الشعب الفلسطيني، لكن لما جاءت الصحوة الإسلامية هناك ونظَّمت نفسها، واستعانت على إنجاح خططها بالكتمان، ما إن عاد أولئك الشبان من مصانعهم إلى بيوت الله راغبين راهبين، حتى عادوا خلقاً جديداً، وروحاً جديدة تسري في جسد فلسطين كله.
فعطاء الإيمان سريع، وعطاء القرآن نفاث، أما سمعتم عمير بن الحمام أمام خطبة النبي القصيرة صلى الله عليه وسلم، والأعداء كثرة مالاً وسلاحاً وطعاماً -ومعهم فرقة ترفيه في بدر-:(من قاتل المشركين اليوم صابراً محتسباً اليوم أدخله الله الجنة) عمير بن الحمام لم ينتظر أمامها أكل تمرة وألقاها من يده، وقال: [لئن صبرت حتى آكلك إنه لزمن بعيد] كسر غمده، وجرد سيفه، وانطلق ركضاً لا مشياً:
ركضاً إلى الله بغير زاد
إلى التقى وطلب المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة للنفاد
إلا التقى والبر والرشاد
وقاتل واستشهد في الحال.
فدفق الإيمان وفيضه سريع يوم أن يؤدي المسجد دوره، المسلم عندما يسمع خلف الإمام آيات الجهاد كأنها تتنزل الآن، ويعلم أن أرضه مغصوبة وعرضه مهدد، ولقمة العيش مسلوبة، فيكون للحرف القرآني نحت داخل قلبه لا ينمحي، لا يستوي من يستمع إلى القرآن وهو قرير العين، مملوء البطن، هادئ البال منعماً مترفاً، ومن يسمعه وهو يفترش الحصى وشوك القتاد، كما يقول الشاعر المسلم، وهو يصف حال المجاهدين هناك في فلسطين:
صمتاً وقد نطق الرصاص وحسبنا>>>>>أن الرصاص إلى الجهاد ينادي
في سفح نابلس اللهيب معارك>>>>>وعلى جبال القدس صوت جهادِ
كلٌ يصيح بنخوة عربية>>>>>كلٌ يردد صرخة استشهاد
أتودعوني حيث أقتل صابراً>>>>>بيد اليهود وتستباح بلادي
يا نائمين على الحرير وما دروا>>>>>أنا ننام على فراش قتادِ
متلفعين دم المعارك مالنا>>>>>إلا الحصى في القفر ظهر وسادِ
نغدو على النيران يذكيها لنا>>>>>غدر اللئام وخسة الأوغادِ
ونبيت لا ندري أنصبح بعدهـا>>>>>أم أن عين الموت بالمرصادِ
يا نائمين وما دروا أنا هنا>>>>>لسنا نذوق اليوم طعم رقادِ
ظهر الجيل الثالث في فلسطين يدوخ اليهود بعد أن ظنوا أنهم قد قضوا عليهم.
2- الانتفاضة أعادت الثقة لهذا الدين، وأن المستقبل لهذا الدين، وأنه إذا وجد الرجال قامت دولة الإيمان والإسلام.
3- الانتفاضة بينت أهمية العمل من الداخل قبل العمل من الخارج، والرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل حصون خيبر من داخلها، قال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] جمع اليهود سيهزم من الداخل لا من الخارج.
4- ومن بركات هذه الانتفاضة نجاح التجربة العملية وترك الكلام والخطب الكثيرة عبر سنين طويلة، كذلك تشجيع بعض الجبناء والمترددين في قضية الجهاد وتحرير فلسطين كلها، وبعضهم الآن لا يزال يلوك العبارات القديمة الميتة.
5- ومن بركات هذه الانتفاضة أنها كشفت كثيراً من الحقائق، ورفعت كثيراً من الأقنعة، وعرت تماماً أناساً اكتسوا الزيف.
6- هذه الانتفاضة أعلنت فشل التطبيع، وسقوط المعاهدات.
7- هذه الانتفاضة أوجدت الإيثار والجود والتكافل الإيماني الإسلامي بين الناس، فالمحن تجمع بين الناس.
8- هذه الانتفاضة بينت أن الشعب الفلسطيني الآن أصبح محصَّناً، والأخطار تُحَصِّن، والابتلاءات تفتن ذَهَبَ الناس حتى يعدو خالصاً.
9- هذه الانتفاضة الآن ستمنع الهجرة من الخارج إلى الداخل، وهم يحاولون تهجير مائتين وخمسين ألف يهودي من روسيا إلى فلسطين، ولا أظن أنه سيوافق يهودي واحد بعد أن سمع وشاهد ما حدث في فلسطين أن يهاجر إليها.
والاتفاقيات بين يهود العالم المبثوثين في العالم الإسلامي أو غير الإسلامي سيقدمون رِجلاً الآن ويؤخرونها، وأما الذين في الداخل وبالأخص أصحاب روءس الأموال سيفكرون ألف مرة كيف يسربون أموالهم من فلسطين إلى خارجها ليتبعوها بعد ذلك، بماذا حصل هذا؟
بطفل وحجر!
10- وكذلك تبين أن هذه الانتفاضة ألغت ما يسمى الفرق بين اليهودية والصهيونية، فالصهيوني هو اليهودي، واليهودي هو الصهيوني، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل هذا الفصل الخدَّاع الذي جعل كثيراً من الناس المسلمين والعرب يقولون: اليهود أحبابنا خاصة إذا كانوا من حزبنا يسارياً أو اشتراكياً أو إلى آخره! لا.
والرسول صلى الله عليه وسلم حدد هوية المسلم: يا مسلم! يا عبد الله! في أي قضية؟ في قضية المقاتلة التي ليس فيها ذمية، هذا الحديث ألغى الذمية ساعتها: (تقاتلون اليهود فتقتلونهم) ولم يقل: تأسرونهم، لم يقل: تفادونهم، في هذه المرحلة التي يتحدث عنها الحديث لا ينفع اليهود إلا القتل؛ لأنهم لا يعرفون معك إلا القتل: (تقاتلونهم فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم .. يا عبد الله! هذا يهوديٌ خلفي تعال فاقتله) فاقتله لا فأسره، معاهدة (جنيف) لا دور لها حينها، كما لا دور لها الآن في فلسطين.
كسِّرت أطرافهم، بقرت بطون النساء، سقطت الأجنة من الأرحام، ومعاهدة (جنيف) ليس لها دورٌ أبداً، إنما هي جهاز تخدير فقط: (هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر يهود) امتدت العمالة حتى إلى عالم الأشجار، فما بالك بما تبقى من عالم الإنسان، وأصبح الحجر الجماد يتكلم يوم أن صمت الجميع فتحولوا إلى جبهة صموت وتردي.
من أين أبدأ يا عيون الشعر يا وطن الجدود
من عنتريات الإذاعة والتشدق بالوعيد
أم من سيوف كالهباء تلوح من أيدي القعيد
أسماء أبطال وأفعال المناكيد العبيد
يتهافتون على الموائد يأكلون من الوعود
فئران في ساح الوغى وفي المحافل كالأسود
حشدوا القرارات الطويلة في مواجهة اليهود
من أين أبدأ يا عيون الشعر يا وطن الجدود
من راجمات أو مدافع ما تصدت لليهود
من طائرات تقصف الأيتام والشعب الشريد
صبوا جيوشكم لتذبحوا الشعب الطريد
من أين أبدأ يا عيون الشعر يا وطني المجيد
من صرخة الأيتام ما انتفضت لها همم الرقود
من عين طفل صائح أين الأب الحاني الودود
أماه قد هدموا الجدار وفتشوا صور الجدود
ما بال صدرك بعثروه فكيف يا أمي يعود
هل بين أحشاء النساء ينقبون عن الجنود
حشدوا القرارات الطويلة في مواجهة اليهود
يا إخوتي! انقشع الضباب ولاح فجركم الوليد
كل السيوف تكسرت لم يبق إلا ابن الوليد
طوبى لمن طلب الشهادة في مقارعة اليهود
لا صلح لا تفويض لا تفريط في وطن الجدود
لا للدويلة رشوة ثمناً لآهات الشهيد
الله أكبر في قلوب الشعب تقصف كالرعود
في فتية الإيمان لا خورٌ ولا جبن العبيد
الراكعين لربهم والدائمين له السجود
القارئين لسورة الأنفال في زمن الركود
آمنت بالقرآن دستوراً وهدياً للجنود
آمنت بالفردوس داراً للمجاهد والشهيد
في المسجد الأقصى تحرره الجبابرة الأسود
يا قوم حي على الجهاد فإنه النصر الأكيد
سنخوضها حرباً مقدسة ونهزأ بالقيود
أنا مسلم أخشى الإله ولا أخاف من العبيد
فلتنهضوا ولتمسحوا عار المذلة والخمود
إن لم تقوموا بالزحف من يا إخوتي سوف يقود
لنكون نحن شرارها ونكون نحن لها وقود
الله أكبر في قلوب الشعب تقصف كالرعود
ويقول الشاعر أيها الأحباب الكرام:
أكذا يصدق الخبر>>>>>أكذا يصنع الحجر
أكذا صوته هدر>>>>>أكذا طال واشمخر
بارك الله ساعداً>>>>>ما توانى ولا فتر
ران دهراً مكبلاً>>>>>بالأكاذيب والغدر
ثم هبت رياحه>>>>>تعصف الغدر بالثأر
فاختزى كل مدع>>>>>من تباكى ومن مكر
يا فلسطين هللي>>>>>هب أبناؤك البرر
هكذا الحق ينجلي>>>>>هكذا الحق ينتصر
هكذا ترجع البنى>>>>>هكذا البغي يندحر
قد فعلتم بعزمكم>>>>>خير ما يفعل البشر
واستجبنا لفعلكم>>>>>كالجلاميد والصخر
نحن أهلٌ لنصركم>>>>>بالأغاني ولا فخر
ذلكم جُلُ عزمنا>>>>>فاقبلوا مننا العذر
سامحونا فإننا>>>>>عظمنا لان وانتخر
لا تلوموا سكوتنا>>>>>فالعتاب المرير شر
ما علمنا بفعلكم>>>>>نحن عمي بلا بصر
ما انتبهنا لصوتكم>>>>>إن في أذننا وقر
ليس في وجهنا حيا>>>>>لا نبالي بما ظهر
لا رجاء لنجدة>>>>>كيف يرجى من الخور
إن طلبتم سلاحنا>>>>>فهو صدأ بلا شرر
أو سألتم معونة>>>>>كان إعواننا أضر
كل سيف بكفنا>>>>>صار طبلاً على وتر
فاستعينوا بعزمكم>>>>>إنه واضح الأثر
واستمدوا برجمكم>>>>>في حصى الأرض ما زخر
ودعونا وشأننا>>>>>جنبوا عنكم الهدر
واتركوا عنكم الخنا>>>>>واحذروا زيف مؤتمر
واستزيدوا بصبركم>>>>>وفق الله من صبر
تقول جريدة معاريف: ومن موجة لأخرى قوتهم تزداد وقوتنا تندحر.
وتقول يديعوت أحرنوت: إن ما نشهده هو البداية، ونحن على أبواب رحلة جديدة في هذه الأرض الملعونة، وتحولت أرض الميعاد المقدسة وحائط المبكى، شعب الله المختار يسميها الآن الأرض الملعونة، وصدق الله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78].
وتقول أله مشمار: إن الأرض تحترق من تحت أقدامنا، ولا يمكن لأي قبضة حديدية أن تعيد الهدوء للأراضي المحتلة.
وتقول جروزلاين بوست: إن طريق الجحيم يمر في غزة.
وتتساءل جميع الصحف العبرية: هل نستطيع الاحتفاظ بهذه الأراضي إلى الأبد.
ويروي ويقول أسميري: لقد ولد للشعب الفلسطيني جيلٌ جديد، جريء بصورة لا مثيل لها، ما لا يجعل بمقدور أي قوة في الأرض -انظر إلى تصريح المؤرخين هناك والخبراء: قوة في الأرض، وليس في فلسطين - السيطرة عليه لمدة طويلة، إن المارد الفلسطيني خرج من القمقم، والقمع لا يكون هو الحل الصحيح.
عباد الله! لقد أصبح لنا دور ينادي الله به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11] نفتح باب الجهاد المالي بالطاعات والأموال لعلها أن تكون شهادة لنا، يوم أن تجتمع الخلائق خيرها وشريرها، برها وفاجرها في عرصات يوم القيامة، فيأتي الدرهم والدينار ينادي على رءوس الأشهاد: أنا إيمان فلان، أنا إيمان فلان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الانتفاضة في عيون المجتمع للشيخ : أحمد القطان
https://audio.islamweb.net