إسلام ويب

الإيمان بالله يعمل الأعاجيب في حياة معتنقيه، ويعطي ثماراً يانعة نافعة، وليس أدل على ذلك مما ذكره الشيخ هنا عن أثر الإيمان في تحرير الإنسان، فقد أنجب الإيمان أئمة كانت لهم مواقف يسجلها التاريخ في صفحات ناصعة البياض، منهم: عمر بن عبد العزيز.. أبو حنيفة.. أحمد بن حنبل.. ابن سيرين.. كما كان للإيمان أثر كبير في بقاء اليقين برجوع القدس إلى حظيرة الإسلام، وأن النصر سيكون حليف المسلمين في قتالهم ضد اليهود.

الإيمان جسر جنات النعيم

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله بالإيمان والإسلام والقرآن والإخوان والصيام، الحمد لله الذي يجمع بين القلوب ويؤلف بين الأرواح، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي جعلنا مسلمين من أبوين مسلمين، فله الحمد في الأولى والآخرة، وأصلي وأسلم على قائدي وقدوتي وحبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، والتابعين ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

وأسألك اللهم لأمة محمد في مشارق الأرض ومغاربها قائداً ربانياً، يجعل شتاتها دولة، وضعفها قوة، وذلها عزاً، وفقرها غناءً، وخوفها أمناً، ويأسها رجاءً، وقنوطها رحمة، وهزائمها انتصاراً، وجهلها علماً، وضلالها هداية.

وأسألك اللهم أن تنصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، الصادقين المخلصين الذين يعلون كلمتك، وينشرون دينك، ويحاربون أعداءك.

اللهم سدد رميهم، واجبر كسرهم، وفك أسرهم، واغفر ذنبهم، واربط على الخير قلوبهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم على من عاداهم. آمين.

وأسألك اللهم أن تكرم إخواننا الشهداء الذين فاضت أرواحهم إلى حواصل طير خضر في الجنة، تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، وأسألك أن تثبت إخواننا الغرباء في كل مكان، الغرباء في عقيدتهم، الغرباء في إخلاصهم، الغرباء في إيمانهم، الغرباء في توحيدهم.

وأسألك اللهم أن تفرج عن إخواننا المسجونين والمأسورين في أرض العدو وفي كل مكان، اللهم فرج همومهم، واكشف غمومهم، ونفس كروبهم، وأعدهم إلى أهليهم ووالديهم وأولادهم وأزواجهم، وأدخل سرور العيد وفرحة الصوم إلى قلوبهم، وإن كان الابتلاء والتمحيص في السجن والاعتقال، فأسألك اللهم لهم أنس الذكر، وحلاوة الإيمان، ونور اليقين، وبرد الرضا، وبركة الدعوة، وإجابة الدعاء، وأن تجعل جنتهم في قلوبهم لا يصل أحد إليها، وأن تجعل سجنهم خلوة، ونفيهم سياحة، وموتهم شهادة، ودماءهم مسكاً.

وأسألك اللهم أن تؤلف وتوحد بين قلوب المسلمين، وتردهم إلى الإسلام رداً جميلاً.

اللهم حرر الأقصى وفلسطين، وأرنا في أعدائنا وأعدائك عجائب قدرتك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً برحمتك يا أرحم الراحمين!

نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، أنت ربنا وأنت رب العالمين، هذا زرع الباطل نما وبلغ حصاده، فقيض له يداً من الحق حاصدة تستأصل جذوره، وتقتلع شروره، اللهم عليك باليهود، اللهم حقق فيهم نبوءات نبيك صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود فتقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).

أما بعد:

أيها الأحباب: إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ويجمعنا في مستقر رحمته، آمين.

الإيمان أخطر حدث في حياة الإنسان، هو قاعدة كل خير، الإيمان يربط بين المادة والروح، وبين الدنيا والأخرى، وبين البعيد والقريب، الإيمان يربط بين الدنيا وجنات النعيم، قال تعالى في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].

هذا عطاء الإيمان، عمل صالح في الدنيا، وجنات تجري من تحتها الأنهار في الأخرى، وتحميد وتسبيح وتهليل في جنات النعيم لله رب العالمين.

ما أجمل حياتهم! إنها مشرقة نيرة، فيها الطهارة والنقاء وفيها الخير، وعطاء الإيمان لا ينفد.

الإيمان ودوره في قلوب الرجال

الإيمان هو الذي جعل المرأة شريفة عفيفة.

قال لي يوماً من الأيام أحد الشيوعيين: أعطني دليلاً مادياً على منفعة الإيمان، أنا لا أؤمن بالإلهيات، ولا بالروحانيات، ولا تقل لي: حياة أخرى وغيب، أنا أريد دليلاً مادياً في الدنيا يبين فضل هذا الإيمان الذي تؤمنون به.

قلت له: ما اسمك؟ قال: فلان بن فلان بن فلان، فقلت له: لولا الإيمان لكنت لقيطاً، فولَّدت عنده صدمة رهيبة، ماذا تقول يا شيخ؟

قلت: نعم، لولا الإيمان لما كنت فلان بن فلان الشرعي، لخانت أمك أباك يوم أن يخرج من البيت إلى العمل، وتصبح أنت ابناً غير شرعياً، ما الذي جعل أمك تحفظ عرضها، وتصون شرفها، لولا مراقبتها لربها ومولاها، كانت تخاف أباك وهو عندها في البيت، الآن هو مسافر، الآن هو غائب، لا رقيب من البشر، وبقي الرقيب الذي في السماء، فحفظها حتى كنت أنت ابناً شرعياً يا مسكين! فسكت وكأنه ألقم حجراً، وكما قال الله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258].

الإيمان وأثره في إنشاء الرجال العظماء

الإيمان هو الذي جعل تلك البنية الصغيرة في عهد عمر الفاروق ، يوم أن أخذ يعس الناس ويتفقد الرعية رضوان الله عليه، وإذا بامرأة تقول لابنتها: قومي، فاخلطي اللبن بالماء (تغش الناس) فقالت ابنتها المؤمنة، يا أماه! إن أمير المؤمنين نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت: وأين أمير المؤمنين؟ إنه الآن لا يرانا.

فقالت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا.

الله أكبر! هذا هو الضمير الإيماني الذي لا يحتاج إلى شرطي، ولا يحتاج إلى مخفر، ولا قاض، ولا محكمة، ولا محامي دفاع، ولا شركات تأمين، ضمير إيماني.

يأخذ ماله بأدب واحترام، ويؤدي ما عليه، ويشهد على نفسه قبل أن يستشهد، والله إن الناس في راحة وفي سعادة يوم أن يكون هناك الضمير الإيماني، الفاروق اهتز من رأسه إلى أخمص قدمه عندما سمع هذه البنية، وعاد مرة ثانية، وعقد بين أولاده اجتماعاً طارئاً، وقال: أي بنيَّ! من منكم يريد أن يتزوج من خير نساء المدينة؟

وهنا تلاشت كل الحواجز، ابن السلطان! ابن أمير المؤمنين! الحسيب! النسيب! الذي لا يتزوج إلا أميرة أو سلطانة تناسب مركزه الاجتماعي، هذه كلها انهارت أمام عطاء إيماني واحد.

قال عاصم: من يا أمير المؤمنين؟ لم يقل له: ابنة حاتم الطائي أكرم العرب، ولا ابنة فلان بن فلان أشجع العرب، وإنما قال: اذهب إلى ابنة بائعة اللبن. ابن السلطان يتزوج بنت لبانة فقيرة مسكينة، ترتزق من الزبدة والجبنة! فذهب إليها عاصم وخطبها وتزوجها، لا لشيء إلا لإيمانها، فكان هذا الزواج الميمون الذي أنجب بنتاً مباركة اسمها ليلى ، فتزوجها عبد العزيز الأموي، فأنجبت له الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله وعنه وأرضاه، هذه هي زبدة الإيمان، خليفة راشد ملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً، سنتان وخمسة أشهر حكم فيها بسنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم بعد ذلك ضرب مثلاً لكل من يهجم على الإسلام، ويقول: إن الإسلام قد استنفد أغراضه، إن الإسلام قد نزل لجيل معين هو جيل الصحابة، وإن الإسلام لا يصلح لكل زمان ولا يصلح لكل مكان.

جاء عمر بن عبد العزيز والناس يتحدثون عن العمارات والبنايات، وعن الصيد والقنص والأرصدة، وهذا اشترى جارية بوزنها ذهباً، وهذا اشترى حصاناً بوزنه ذهباً، وفي خلال سنتين وخمسة أشهر فقط حولهم إلى: حفظ ابني المصحف، وهذا يقول: حفظ ابني الكتاب الفلاني، وهذا يقول: حفظ ابني الدرس الفلاني، وأصبحت أحاديث الناس كلها في الدين والتقوى.

وخرج الأغنياء والأثرياء بزكاتهم يبحثون عن فقير، فلم يجدوا فقيراً في مملكة تمتد من الشام إلى الحجاز إلى العراق إلى مصر، إلى آخر حدود الهند والسند. إمبراطورية الإسلام في عهد عمر بن عبد العزيز حوت دول الجامعة العربية كلها، ونصف الدول الإسلامية، ليس فيها فقير واحد، لم يكن في عهدهم نفط مثل نفطنا اليوم، أما لو ظهر النفط في عهد عمر بن عبد العزيز لجلست القطط على كراسي من ذهب، نعم. لأن عمر بن عبد العزيز قال للناس: اشتروا العبيد وحرروهم وأعتقوهم في سبيل الله بأموال الزكاة، لا يوجد فقير.

وكلها من محاصيل وأموال بسيطة، ولكن الله بارك؛ لأن الإيمان والإسلام هو الذي كان يحكم الإنسان، لم تكن أموالهم تعرف بنوك أمريكا وإنجلترا وسويسرا. لا تدخل أموال في هذه البنوك الخبيثة إلا وينزل فيها الخبث، وتنزع منها البركة، العدو يستفيد والصديق يتضرر.

محمد بن سيرين رحمه الله وحفظه للأمانة

ومن عطاء الإيمان أيها الأحباب: إمامٌ من أئمة التابعين هو محمد بن سيرين رضوان الله عليه، هذا الرجل الورع، اشترى يوماً علباً من زيت الزيتون، هذا الدهن المبارك الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ائتدموا وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة) واشتراه بآلاف الدراهم، برأس ماله كله ديناً، ففتح أول علبة وإذا فيها فأر ميت، كان يكفيه رحمة الله عليه أن يخرج هذا الفأر وما حوله، أو يرمي العلبة كلها وما فيها، ولكنه قال: لا، لعل هذا الفأر كان ميتاً في المعصرة، وفي الصهريج الكبير الذي حوى الزيت كله، فأصبح ضميره الإيماني بين أخذ ورد، بين إقدام وإحجام، تقدم وتأخر، أبيعه أم أهرقه؟ واستقر الأمر في النهاية على أنه يرميه في المزبلة ولا يبيعه تقوى من الله رب العالمين.

فحمل الزيت كله، ورماه في الصحراء، فلما حل موعد دفع المال، قال لصاحب المال: ليس عندي مال، زيتك وجدت فيها فأراً ميتاً فأهرقته، وأبيت أن أبيعه على المسلمين فأغشهم، فقال: أشكوك للسلطان، قال: افعل، فشكاه إلى السلطان، فحجزوا عليه، فلم يجدوا شيئاً عنده سوى حصير، وصندوق خشب، وإبريق، فهذه كل أثاث بيته، فأودعه القاضي في السجن، وظل محمد بن سيرين في سجنه.

توفي أنس بن مالك رحمة الله عليه، فلما قرءوا وصيته: لا يغسلني ولا يكفنني ولا يصلِّ عليَّ ولا يدفنني إلا محمد بن سيرين .

فاحتار الناس ماذا يفعلون؟ فذهبوا إلى السلطان والقاضي، فقال: وصيته على العين والرأس، أطلقوا سراحه يغسله ويكفنه ويصلي عليه ويدفنه، فذهبوا إلى محمد بن سيرين في السجن، فقالوا له: أذن لك السلطان في تشييع جنازة أنس ، فقال: لا والله! لا أخرج من سجني حتى يأذن لي صاحب الدين والمال.

توقع الواحد اليوم يأتي له إفراج من السلطان ولو دقيقة، يطير من الفرحة. فذهبوا إلى صاحب الدين؛ وأخبروه الخبر، قال: أذنت له أن ينفذ وصية أنس بن مالك ثم يعاد بعد ذلك إلى السجن حتى يعود إليَّ مالي.

فأخرجوه ونفذ الوصية، ثم عاد إلى السجن باختياره دون حراسات مشددة، ودون رقابات، فرق له السجان، فجاءه السجان في الليل، وقال له: يا إمام! إني آذن لك أن تذهب خفية إلى أهلك بالليل، وإذا صليت الفجر في غلس عدت إلى السجن، وهكذا كل ليلة، تخرج في الليل وتذهب تنام مع زوجتك وأولادك وتأخذ راحتك، وبعد صلاة الفجر في الظلام تعود ولا يعلم أحد، فقال له ابن سيرين: لا يا سجَّان، لن أكون أول من يعلمك خيانة السلطان؛ لأنك إذا خنت الوالي، وخنت السلطان؛ خنت الأمة؛ لأن هذا السلطان الذي يحكم بما أنزل الله هو رمز الأمة ورمز الدين كله، فخيانته تنحدر على خيانة أدنى واحد في الأمة، وظل في سجنه حتى قضى الله عنه دينه سبحانه وتعالى على يد المحسنين.

الإيمان الرباني ودوره في تخويف الأعداء

أيها الأحباب الكرام: هنا صورة من صور عطاء الإيمان في حياة الإنسان، والإيمان السياسي له دور عظيم، وهو الذي يزعج اليهود اليوم، أما الإيمان الإقليمي، الإيمان اللغوي، الإيمان الإبليسي، الإيمان المادي، الإيمان الشرقي، الإيمان الغربي، هذا كله لا يخوف اليهود، الذي يخوف اليهود: الإيمان الرباني.

لهذا فهم يرتجفون عندما يسمعون اسم محمد صلى الله عليه وسلم وهو في قبره، ومع هذا يعلمون أن له أثراً خفياً في أرواح المؤمنين، وإذا تحرك هذا العطاء الإيماني وصار جهاداً في سبيل الله، تحت صيحة: الله أكبر الله أكبر! فلن يبقى يهودي واحد في فلسطين.

وهكذا -أيها الأحباب الكرام- اليهود عندما دخلوا القدس بعد (67م)، قالوا: هذا بيوم خيبر، انظر عبر التاريخ، يوم خيبر هو الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على ظهر ناقته، وقد تحسرت فخذاه استعداداً للقتال في سبيل الله.

وفتح نصف خيبر بالسيف، والنصف الثاني كانوا فلاحين وخدماً يخدمون أرض المسلمين، وظلوا فلاحين وخدم -أهل ذمة- حتى عملوا حركة خيانة من خياناتهم، حيث ذهب أحد الصحابة اسمه رافع، وأحضر بعض الفلاحين من أرض مصر -أقباط- فاتفقوا مع اليهود في خيبر على قتله، قال الأقباط لليهود في خيبر: ماذا تفعلون؟

هذا مسلم، ومن أصحاب نبيهم، واستأجرنا فلاحين، ما رأيكم في أن نغتاله في البر ونأخذ ماله ولا يعلم أحد؟

فقال اليهود: افعلوا ذلك ونحن نعطيكم تكاليف الرحلة، وأجرتكم كفلاحين، ومصاريف العملية والاغتيال كلها، ونوصلكم مرة أخرى إلى بلدكم، فقام الأقباط واغتالوا هذا الرجل وألقوه في الصحراء بعد أن قطَّعوه.

وصل الخبر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشكل قوة خاصة (كمندوز إيماني) وحاصر اليهود في خيبر، ورفع عليهم لافتة صغيرة من كلام محمد صلى الله عليه وسلم تقول: (لا يبقين دينان في جزيرة العرب ) والعهد الذي بيننا وبينهم عهد أهل الذمة، فإن خانوا فلا عهد لهم، عند ذلك أجلاهم عمر عن بكرة أبيهم، فلم يبق يهودي واحد في أرض خيبر.

محمد صلى الله عليه وسلم في قبره في عهد عمر ، طرد اليهود جميعاً بأربع كلمات؛ فلهذا اليهود اليوم يحسبون ألف حساب للكلمات النبوية، وأكثر ما يزعجهم: (تقاتلون اليهود فتقتلونهم) في مجزرة بني قريظة الذين خانوا الله ورسوله، ووضعوا أيديهم في أيدي الكفار، الرسول صلى الله عليه وسلم عرض عليهم الإسلام العرض الأخير، وحفر لهم خنادق في السوق، وجمع الناس حتى ينظروا كيف يعامل اليهود عبر التاريخ إذا خانوا الله ورسوله، وجيء بقائدهم حيي بن أخطب ، وعرض عليه الإسلام للمرة الأخيرة، فقال: لا، قتل فلان؟ قالوا: نعم، قتل سلام بن مشكم ؟ قالوا: نعم، قتل سلام بن أبي الحقيق؟ قالوا: نعم، قتله رافع، قتل كعب بن الأشرف ؟ قالوا: نعم.

قال: ما قيمة الحياة بعدهم، إنها ملحمة كتبت على بني إسرائيل، ذكرت في التوراة ولا بد أن يخوضوها.

انظر من ذلك الزمان يعرفون أن وراءهم مجزرة رهيبة، ملحمة تطحنهم طحناً، ومع هذا يتشبثون بالحيلة والنصب والغش، والكذب، والسرقات، والدجل، والدول، وهيئة الأمم، ومجلس الأمن ، والمجالس الدولية، والمحاكم الدولية، هذه كلها يتشبثون بها، كذلك القرارات والمعاهدات، حتى يعيشون أكبر وقت ممكن على الحياة، وإلا فإن خلفهم موت، وتوراتهم يذكر فيها الموت، مجزرة وملحمة تطحنهم في أرض فلسطين ، فلهذا قال حيي بن أخطب : ملحمة كتبت على بني إسرائيل، نذوق بعضها. وكان ثوبه جديداً فشقه من اليمين إلى اليسار؛ كي لا يستفيد منه المسلمون، وقال: الآن اذبحوني، فذبحوه.

مثلما فعلوا في المستعمرات التي في سيناء ، والبيوت التي بنوها، والمزارع والمصانع هذه كلها دمروها تدميراً، وسلموا أرض سيناء أرضاً خالية، فاليهود عندما دخلوا القدس لم يذكروا أحداً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يقولون: هذا بيوم خيبر، (محمد مات وخلف بنات) ولكنهم يعرفون أنه وإن كان ميتاً فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء:104] وعد الآخرة: الذي هو يوم الملحمة المذكورة في التوراة والإنجيل والقرآن، وفي الأحاديث، واليهود كلهم يعرفونها، والله الآن يجمعهم: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء:104] أي: جمعناكم من الدنيا كلها في أرض فلسطين ونطحنكم بعدها طحنة واحدة، ولكن بأيدي الموحدين، أهل عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:7].

هذا عطاء من؟

لولا بقاء الإيمان في قلب الإنسان لذهب هذا كله، وليئسنا من إعادة الأقصى وفلسطين ، وهذا الإيمان وعطاء الإيمان في كل قرن أوجد الله له مجددين وفاتحين، وأوجد الله له أبدالاً: إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد:38] فهؤلاء الأبدال موجودون بإذن الله رب العالمين، إذا تولى العرب يأتي الله بالمماليك .. فإذا تولى المماليك أتى الله بالأكراد .. تولى الأكراد فأتى الله بالعثمانيين الأتراك .. تولى الأتراك أتى الله بالأفغانيين .. تولى الأفغانيون يأتي بخلق آخر، الخلق خلق الله، والأرض أرض الله، والسماء سماء الله، والدين دين الله، يضعه فيمن يشاء من عباده: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128] هذا عطاء الإيمان السياسي الذي يزعج المتآمرين في الليل والنهار.

أبو حنيفة وحفظه لأعراض المسلمين

وعطاء الإيمان السلوكي الخلقي: أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه، وأنا أحرص على ذكر نماذج من الأئمة حتى ينزل حبهم واحترامهم في قلوبنا، شاب صغير يقول: من هو أبو حنيفة؟ من هو كذا؟ هؤلاء أئمة وعلماء حفظ الله بهم الدين.

كان أبو حنيفة تاجراً، ولم يكن حاله كمال بعض الناس اليوم شعارهم والعياذ بالله: (الغاية تبرر الوسيلة) عند أبي حنيفة الوسيلة شرعية، والغاية شرعية، اذهب الآن إلى السوق وانظر المحلات والدكاكين، كل شخص قد وضع له بنتاً مثل العروسة، مزينة، وملونة، ومزخرفة، وعلمها فن الكلام والجذب، والابتسامة، والغمزة، واللمزة، والهمزة، ويأتي الواحد لا يريد أن يشتري، ومن ثم يشتري كل ما في الدكان، تحتال عليه، وبعد أن يخرج يفتش الجيوب وإذا بنصف الفلوس قد ذهبت، كيف خدعتني؟! كيف كذبت عليَّ؟! أنا لا أحتاج كل هذا، وانظر هذا وهذا، هذا على ذوقي .. وهذا على لوني .. وهذا أجمل .. وهذا أحلى .. ويا سلام! ويا قمر! ويا عسل! ومن ثم لا يبقى عنده شيء.

أبو حنيفة يبيع ملابس خام، فجاءت امرأة، وكان حراماً أن تقف المرأة تبيع متبرجة في دكاكينهم وأسواقهم، جاءت امرأة من بعيد، فجلست وقد وضع لها كرسياً خارج الدكان، حتى لا تقع خلوة داخل الدكان -الآن كل المحلات يوجد فيها غرفة جانبية مظلمة (لعوير وزوير والذي ما فيه خير) يسمونها غرفة قياس الملابس تصنع للناس، إلا من رحم الله- أجلسها على كرسي خارج الدكان، ماذا تريدين يا أمة الله؟ وقد أطرق برأسه إلى الأرض، وأشاح بوجهه عنها.

قالت: أريد قماش كذا .. لون كذا .. حرير كذا .. فأخرج لها، وقدم لها واختارت واشترت وانصرفت، وهو دائماً لا يربح ربحاً فاحشاً، ويتساهل مع الناس، والذي لا يملك المال يقرضه وينظره ويعفو عنه، كان الناس في خير وسماحة وكرم وجود، لم يكن عندهم أزمة مناخ، عندهم إيمان، عندهم: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] عندهم: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوْعَدُون [الذاريات:22] فقامت المرأة من الكرسي، وجاء شاب مباشرة يريد أن يشتري، فجلس مكانها، فقال: قم يا بني! فقام الشاب وقال: نعم أيها الإمام. قال: ما كان ينبغي لك أن تجلس على كرسي امرأة حتى يبرد من بعدها فتجلس عليه.

انظر ليس مهماً عنده أن يشتري منه أو لا يشتري منه، المهم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهل هذا المنكر هو أغاني جاكسون أو صور، أو علب، أو مخدرات، أو خمور؟! لا. إنه كرسي دافئ جلست عليه امرأة، انتظر حتى يبرد ثلاث دقائق، بعد ذلك اجلس عليه، حتى لا يدخل عليك الشيطان من مدخل دفء المرأة التي كانت على الكرسي.

يا لها من أمانة! لم يضع في اعتباره هذا أنه يرضى أو لا يرضى، المهم وضع في اعتباره رضا الله سبحانه وتعالى، وقام الشاب وامتثل، هذا الشاب الطهور، ذو اليد المتوضئة والجبين الساجد، وقف حتى برد الكرسي، ولمسه فلما رآه بارداً جلس عليه، ثم قدَّم طلبه واشترى حاجته، هذا هو العطاء الإيماني أيها الأحباب الكرام.

أحمد بن حنبل رحمه الله وثباته على الدين

الإمام أحمد رحمة الله عليه، إمام أهل السنة والجماعة ، الإمام المبتلى، أعطيكم صورة من صور إيمانه وهي: ثباته على عقيدة أهل السنة والجماعة، ولولا العطاء الإيماني ما ثبت هذا الرجل حيث فتن في عهده مئات العلماء.

ظهرت المعتزلة، وتوصلوا إلى الجاه والسلطان، والوزارة والاستشارة، في عهد المأمون والمعتصم والواثق ثلاثة خلفاء من بني العباس يملكون الدنيا، أبوهم هارون الرشيد كان يقول للسحابة: أمطري أنّى شئت، فإن خراجك يأتي إلي بإذن الله. لا أحدد لك مكاناً، اذهبي مصر، أو الشام، أو الشرق، أو الغرب، أو أفريقيا، أو أذربيجان، اذهبي كل مكان، سيأتي إما من أرض المسلمين، أو جزية عن يد وهم صاغرون من أرض الكافرين، انظر إلى قوة مملكته.

الإمام أحمد رحمة الله عليه، استدعاه المأمون في قضية خلق القرآن، وأنه ليس كلام الله بل هو مخلوق، والمخلوق يجوز في حقه الصواب والخطأ، ولو قلنا: إنه مخلوق، إذاً لا بد أن نعدله، ونصلحه، ونخطئه كما نخطئ أي مخلوق، وهذا مدخل رهيب لو أدركه طواغيت هذا الزمان لما بقي بلد واحد يحكم بما أنزل الله، لكن كثيراً من الحكام يقول: لا والله. القرآن جيد، لكن هناك ظروف سياسية لا تسمح لي في المنطقة، وأنا مهدد أمنياً، يأتي بأعذار، وأن هذه القوانين من إنجلترا ومن فرنسا صحيح هي قوانين متخلفة بالنسبة للقرآن، القرآن حكم خمسة عشر قرناً، والقرآن له تاريخ طويل في العدالة، لكن نحن مضطرون، أي: يعتذر، يقول: القرآن أفضل، لكن لا يقدر يطبقه.

لكن في عهد أحمد بن حنبل والمأمون كان الناس يحكمون بما أنزل الله، ويقيمون الحدود والشريعة الإسلامية، إلا أنها قضية عقدية أن الله تكلم بهذا القرآن، وهي صفة من صفات الله، ليس كمثله شيء في كلامه سبحانه وتعالى، لكن المعتزلة يقولون: هو مخلوق.

جيء بالإمام أحمد، وفي الطريق رفع يديه إلى الله وقال: اللهم إني أسألك ألا تجمعني بـالمأمون، فمات المأمون، فصار من بعده المعتصم، فساقوه إلى المعتصم في رمضان وهو صائم وكان رمضان في الحر، فقال له: يا إمام! قلها ولو مرة واحدة: أفكك بيدي وأكرمك، قال: أعطوني دليلاً من كتاب الله وسنة رسوله أقول به، فسكتوا، فقام هتافة التهريج، ووعاظ السلاطين والمطبلون والمزمرون، قالوا: اقطع عنقه يا أمير المؤمنين ودمه في رقابنا.

هذه الفتاوى ذات البلايا، يا أمير المؤمنين! مثلك من يقف في الشمس!

يا أمير المؤمنين! اتق الله في نفسك فأنت صائم.

يا أمير المؤمنين! رمضان! صيامك! الرسول يقول: قل: إني صائم، تقف في الشمس من أجل هذا؟ اضرب عنقه، وجاء الجلادون يستعرضون، أنا أقتله بعشرين جلدة، هذا يقول: أنا أقتله بخمس عشرة جلدة -تنزيلات- أنا أقتله بعشر، وهكذا، إلى أن استقر الجلد على رجل عملاق، لو ضرب الفيل بسوطه لدكه، قال: دونك والرجل، فضرب أول سوط، فخشي الإمام أحمد فتنة السوط ولم يخش القتل وهو صائم، فقال له رجل ممن سجن معه: يا إمام! اثبت، إن عليَّ في ديوان أمير المؤمنين في الملف ألف سوط، مرة عشرة، ومرة مائة، ومرة خمسون، كلها في الحرام وفي الخمر وفي السرقة، وأنت ما تثبت من أجل الحق، جاءه التثبيت على يد شخص فاجر، وهؤلاء العلماء الفطاحلة الذين حفظوا، وقرءوا وختموا يفتون بقتله.

انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى ينصر الدين بالرجل الفاجر! فثبت الإمام أحمد كلما تذكر هذا اللص المجلود ألفاً من أجل الباطل، وهو لا يصبر من أجل الحق، فجلدوه .. وجلدوه .. وجلدوه .. ثم ذهبوا به إلى الزنزانة، وأرسلوا له بعض العلماء يراودونه، انظر عطاء الإيمان، وهو صائم، قالوا: يا إمام تهلك نفسك والله نهاك وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29] قال: قم وانظر، مَنْ خلف قضبان هذا السجن؟ فنظر وإذا الناس كالبحر قد أخذوا أقلامهم ودفاترهم، قال: ماذا ترى؟ قال: أرى أناساً يحملون الأوراق والأقلام، قال: كلهم ينتظرون جوابي، أترضى أن أدخل بهؤلاء النار؟ قال: لا. قال: إذاً انصرف، فأدخلوا عليه الطعام لكي يفطر، قال: لا، أريد أن ألقى الله صائماً.

صائم في الليل وصائم في النهار؛ لأنه لا يتوقع أن يعيش إلى الصباح، إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، أتوا به في اليوم الثاني وعرضوه على آلة السلخ، يربطون يده ورجله، ولها عجلات تدور حتى يخلعون أكتافه، في هذه اللحظة خشي على عورته، فأخذ السلاسل والحديد وربطها في سرواله حتى لا تنفك، تتماسك السلاسل والحديد معها، ونزلوا به ضرباً حتى انقطعت، فلما انقطعت والناس والخليفة والعلماء كلهم ينظرون وهذا إمام ذو حياء ودين.

فنظر إلى السماء وتمتم بكلمات، قال: اللهم إني أسألك! عز جارك، وجل ثناؤك، يا من ملأت بنورك أركان عرشك! أسألك ألا تهتك ستري وتكشف عورتي أمامهم، فمن تحت طاولة التعذيب، ظهرت أيد كأنها النور وشدت ملابسه وعقدتها عقدة لا تنفك، والناس ينظرون، ولكنهم لم يعتبروا، طغى حب الجاه والسلطان والتعصب والتقليد الأعمى على قلوبهم، وظل الإمام ثابتاً وأودعوه في السجن، فمات المعتصم .

جاء الواثق ؛ فأمر الإمام أحمد بتشكيل تنظيم سري لكي يقضى على هذا الطاغوت بسبب هذه البدعة الضالة، فألقي القبض على التنظيم السري، وأحضر القائد حالاً، وذبحه الواثق بالسكين بيده من الوريد إلى الوريد، وجيء بالإمام أحمد وعرض للتعذيب شهوراً وأياماً وهو ثابت لا يتزحزح، إلى أن ساق الله سبحانه وتعالى في عهد الواثق رجلاً من مصر فدخل على الواثق وقال: يا أمير المؤمنين! إنها عنقي ودمي، دعني أنا أبدأ، كلهم يبدءون يسألون ونحن نجيب، لا، أنا أسأل وهم يجيبون.

فقال الواثق : تقدم، فاجتمع حوله -كالنحل حول يعاسيبها- علماء المعتزلة من كل صوب، فقال لهم: الأمر الذي تدعون له، علمه رسول الله أم جهله؟ فقام كل واحد ينظر إلى الآخر، فقد وقعوا في حيرة، إن قالوا: علمه، أين الدليل على أنه علمه في كتاب الله وسنة رسول الله، لا يوجد دليل، وإن قالوا: جهله، إذاً هم أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر، فلو قال كل شخص: أنا أعلم من محمد فهو كافر، فسكتوا؛ فنطق رئيسهم وقال: علمه.

قال: لما علمه دعا إليه أم سكت؟ فقاموا يفكرون، ثم قالوا: سكت.

قال: وأبو بكر وعمر علما أم لم يعلما؟ قالوا: علما.

قال: دعوا إليه أم سكتا؟ قالوا: سكتا، قال: ألا يسعكم السكوت الذي وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر؟ فبهتوا واحتاروا ولم يجدوا جواباً، وكان ولي العهد المتوكل موجوداً يسمع الحوار بين الطرفين، وضحك ضحكة حتى استلقى على قفاه، وهذه ضحكة الخلفاء والسلاطين، فهم لا يضحكون مثلنا.

فلما ضحك، وأخذ يردد: ويحكم! هذا المتوكل رحمة الله عليه، الذي هداه الله في هذه اللحظة قذف الله النور في قلبه، قال: آه ألا يسعكم ما يسع رسول الله وأبا بكر وعمر؟! فقضى الله على الواثق وجاءت الخلافة إلى المتوكل، انظر سنوات معدودة من ثلاث إلى أربع سنوات، أربعة خلفاء ذهبوا بسرعة، والذي ذهب بهم الله سبحانه وتعالى، لكي ينصر دينه سبحانه.

تولى المتوكل فأخرج كل العلماء المسجونين، وأخرج الإمام أحمد ، وجاء بـالمعتزلة ووضع فيهم الحديد والسلاسل، وأحضر أجهزتهم كلها ووسائل التعذيب، وسائل (الجستاب) والألماني كلها أحضرها.

كان عندهم برميل من براميل الزيت فوضعوا له بابين، ووضعوا فيه مسامير طويلة من حديد، وبعد ذلك يدخلون الإنسان فيه ويغلقون عليه البراميل، وإذا مال يميناً دخلت المسامير فيه، وإذا مال شمالاً دخلت المسامير فيه، حتى تنهار قواه وتنهار قدماه، فيقع يميناً أو شمالاً وتدخل المسامير فيه ويموت، تعذيب بطيء وهم مسلمون يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله! لكن انظر كيف يتفننون عندما تختلف العقيدة.

الناس يتمايزون بعقائدهم، فانتبهوا إلى هذه الخطورة، لا تذهبوا إلى جيفارا واستالين ولينين وتانقو وكاسترو، وانظروا هنا ما حدث لأجل خلاف في قضية عقدية واحدة، انظر كيف وضعوا لهم براميل فيها مسامير حتى تقضي على من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وكان عندهم الخلاَّعات يربطون بها يده وقدمه، ويجرون العجلة حتى تنخلع الأكتاف، وكان عندهم سياط خاصة، إذا ضرب الجلد فتح فتحة طويلة عريضة، تخرج منه قطعة من الدم الأزرق المتحقن، وهذا أكثر ما كان يعاني منه الإمام أحمد لما عفي عنه وخرج من السجن، جلس على دكة، وجاءه الحجامون بالأمواس، وأخذوا يفتحون ظهره، ويخرجون منه شرائط دم متحقن من ضرب السوط الذي كان ينزل عليه، ويأتي الجلادون يتوبون على يديه، يا إمام! نحن نعتذر، نحن كنا نعمل بأمر السلطان، وهذا غصب علينا، ونحن لنا أولاد وكذا، فيضحك ويقول: لقد عفوت عنكم وعن أمير المؤمنين يوم أن دخلت قدمي اليمنى قصر أمير المؤمنين قبل التعذيب، قالوا: عفوت؟ قال: نعم، قالوا: ولِمَ؟ قال: لأن يوم القيامة يرفع لواء اسمه لواء العفو لا ينضوي تحته إلا من عفا وأصلح وأجره على الله.

قلوب كبيرة، لا تنتصر ولا تثأر لنفسها، وما لنفوسها حظوظ، حظها عند الله سبحانه وتعالى، ويأتي المتوكل بفضل الله رب العالمين وينصر أهل السنة ، ويقمع البدعة، ويحفظ الله الدين، وهذا عطاء من عطاء الإيمان، أقام الله به الحجة، ونصر به الدين، وثبت به المسلمين على الحق، وعصمهم به من الانحراف.

الإيمان له تأثير على النفوس

إن للإيمان عطاءً تجده في نفسك، يوم أن يكون كالسيف المصلت على الضمير، يقومك عند كل اعوجاج، وكما تعلمون أن الصيام شعبة من شعب الإيمان، فالله يقول عن الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] هو الذي منعك من أن تكذب، وأن تغش، وأن تغدر، ووالله لولا الإيمان لصارت حياتنا حياة ذئاب.

وإذا أردتم أن تروا الصورة الحقيقية فاذهبوا إلى أمريكا، وأوروبا، وانظروا إلى حياة الناس هناك كيف تتم؟ انظروا! ما يفعل بهم مرض الإيدز والهربس والأمراض الجنسية، وعطاء الإيمان في وطننا الإسلامي والعربي أين؟

حالة واحدة عن طريق نقل الدم، مع أن شعوبنا الإسلامية والعربية أكثر من شعوبهم في أوروبا وفي أمريكا أكثر منهم بكثير، ومع هذا آخر التقارير تقول: إن ما يقارب من عشرين مليون أمريكي وأوروبي في منطقة أمريكا وأوروبا بعد أربع سنوات يكون عدد المصابين بالإيدز نصفهم قد ماتوا.

يقتلون في لبنان حفنة، وفي الفلبين حفنة، وفي فلسطين حفنة، انظر الله سبحانه وتعالى كيف يضربهم ضرباً بفيروس لا يرى بالعين، هذا عطاء الإيمان: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] (لا يفعل القوم الفاحشة حتى يعلنوا بها، إلا فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبل) فيا له من عطاء نظيف! وعطاء جميل! وعطاء عادل! وعطاء مشرق: أوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

اللهم إنا نسألك إيماناً ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.

اللهم اجعل الدنيا بأيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، وارزقنا منها ما تقينا به فتنتها، واجعل حظنا الأوفر والأكبر يوم لقائك، اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا فيما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاك، واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجو أحداً غيرك.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، وارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، اللهم كما صنت جباهنا من السجود لغيرك، فصن أيدينا عن أن تمتد لأحد سواك يا أرحم الراحمين!

نسألك اللهم بعزتك وذلنا إلا رحمتنا، وبقوتك وضعفنا إلا قويتنا، وبغناك وفقرنا إليك إلا أغنيتنا، هذه نواصينا بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، عبيدك سوانا كثيرٌ كثير، وليس لنا ربٌ سواك، نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه يا أرحم الراحمين!

اللهم أصلح أولادنا وبناتنا وأزواجنا وأرحامنا، واجعلهم عقباً صالحاً لا ينقطع، اللهم إنا نسألك عمراً مديداً طيباً مباركاً مملوءاً بالباقيات الصالحات إنك على ذلك قدير، نسألك اللهم حسن الاعتقاد، وإخلاص النية، وصلاح العمل، ونور اليقين، وحلاوة الإيمان، وبرد الرضا، وبركة الدعاء، وإجابة الدعوة، وأنس الذكر، اللهم إنا نسألك الثبات يوم الفتنة، والإطعام يوم الجوع، والسقيا يوم الظمأ، والستر يوم العورة، يا رب العالمين! هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علنيا إنك أنت التواب الرحيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أثر الإيمان في تحرير الإنسان للشيخ : أحمد القطان

https://audio.islamweb.net