إسلام ويب

لقد حثنا الله تعالى على أن نطلب منه أن يهدينا الصراط المستقيم، ومن استقام على هذا الصراط نجا في مروره على صراط الآخرة، ومن لم يستقم عليه في الدنيا فإن مروره على صراط الآخرة يكون بحسب ما كان عليه في الاستقامة على دين الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

القراءات الواردة في قوله تعالى: (الصراط)

قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قراءة الجمهور بالصاد، وقرئ (السراط)، وقرئ بالزاي ].

فيها ثلاث قراءات: (اهدنا السراط المستقيم) (اهدنا الصراط) (اهدنا الزراط) بالسين والصاد والزاي، وهذه كلها متقاربة في المخرج، والمشهور منها القراءة بالصاد والسين، وكذلك قراءة الزاي فهي معروفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهي لغة بني عذرة وبني كلب ].

أي: القراءة الأخيرة بالزاي.

استحباب الثناء على الله في أول الدعاء

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولما تقدم الثناء على المسئول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: (فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسئوله ].

كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].

فهذا من الأدب وهو من أسباب الإجابة إلى قضاء الحاجة، فتثني على المسئول ثم تسأله حاجتك، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يسأل ولم يحمد الله ويصلي على نبيه قال: من أراد أن يدعو فليحمد الله، ويصلي على نبيه، ثم يسأل حاجته.

والله تعالى علمنا في كتابه الثناء عليه بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:1-5]، ثم يأتي في الدعاء بسؤال الحاجة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:2-6].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسئوله، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة؛ ولهذا أرشد الله إليه؛ لأنه الأكمل.

وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] ].

هذا نوع من التوسل، أن تتوسل بفقرك وحاجتك إلى الله، وموسى يخاطب ربه يقول: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] أي: أنا فقير لما أنزلت علي ومحتاج إليك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد يتقدمه مع ذلك وصف مسئول كقول ذي النون: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

وصفه بأنه معبود بحق لا إله غيره سبحانه ونزهه عما لا يليق به، ثم سأل حاجته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد يكون بمجرد الثناء على المسئول كقول الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء ].

والظاهر أنها (حباؤك) فتكون: حباؤك إن شيمتك الحباء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء ].

الشاهد: إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

يعني: فكونه يثني معناه سؤال الحاجة، فيثني على الممدوح الملك، فإذا أثنى عرف أنه يريد عطاء فيعطيه، ولهذا قال:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء

أي: هل أذكر حاجتي أم يكفيني أنك تعطي؟ ولو لم يذكر حاجته فيكفي أنه يثني.

فإن قيل: هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) من هذا الباب؟

فالجواب: أن كل العبادات من هذا الباب، حتى الصلاة والصيام وغيرها كلها دعاء في المعنى، فكل عبد لله يدعو ويسأل ويقول: يا رب! اغفر لي، فهو دعاء بلسان المقال، وإن كان يصلي ويصوم فهو دعاء بلسان الحال، ما صلى وصام إلا ليطلب الثواب والأجر، فهو داع في المعنى.

وإذا سأل ربه: اغفر لي وارحمني فهو داع بلسان المقال، وإذا صلى وصام فهو داع بلسان الحال، وكل عبادة من هذا الباب: فالذاكر والمصلي والصائم والمتصدق والمجاهد وغيرهم، كلهم يدعون الله في المعنى ويسألون الله.

فإن قال قائل: هل يثني على الله عز وجل ولا يسأل حاجته؟

فالجواب: يكفي الثناء على الله عز وجل، وإذا سأل فليثن على الله أحياناً ويسأله، فيفعل أحياناً هذا وهذا.

فإن قيل: هل هذا الدعاء (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) ثناء؟

فالجواب: نعم هذا من الثناء على الله.

أقسام الهداية

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والهداية ههنا الإرشاد والتوفيق ].

الهداية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: هداية توفيق وتسديد، وخلْق الهداية في القلوب، وجعل الإنسان يقول الحق ويرضى به، وهذه لا يقدر عليها إلا الله، كما قال سبحانه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] في قصة أبي طالب .

القسم الثاني: هداية دلالة وإرشاد ووعظ وتبليغ، وهذه يقدر عليها الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقدر عليها غيره من المصلحين والدعاة، وهذه جعلها الله لنبيه كما في قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

أي: لترشد وتدل، ومنه: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير والشر.

ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] يعني: دللناهم، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] يعني: دلهم وأرشدهم وبين لهم طريق الحق وطريق الباطل، طريق الخير وطريق الشر.

وأما الهداية بمعنى: التوفيق والتسديد وخلق هداية القلوب، وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضى به، فهذه لا يقدر عليه إلا الله، كما ذكره الله عن النبي في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما بذل جهده ووسعه في هداية عمه أبي طالب لكي يسلم، ولكنه لم يقدر له الإسلام لحكمة بالغة؛ فأنزل الله هذه الآية تسلية له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

ومنها هذه الآية الكريمة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يعني: وفقنا وسددنا للحق واجعلنا نقبله ونرضاه ونختاره ونعمل به.

بيان كون التأمين بعد الفاتحة على الدعاء أم على الثناء

فإن قيل: هل يؤمن على الثناء أم على الدعاء بالسؤال؟

الجواب: لا تؤمن إلا على الدعاء بالسؤال، وإذا كان يقتضي ذلك الثناء الذي بمعنى الدعاء فتمنع منه كما أنك لا تؤمن على صلاتك ولا على صيامك.

حكم دعاء المصلي خلف الإمام وهو يقرآ

فإن قال قائل: هل يدعو المصلي خلف الإمام وهو يقرأ؟

فالجواب: أن الأولى الإنصات في الصلاة إلا في صلاة النافلة إذا كان يصلي وحده، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في صلاة الليل، فكان يقف عند آية الرحمة فيسأل الله من فضله، ويقف عند آية العذاب فيتعوذ، ويقف عند آية التسبيح فيسبح، وإذا كان الإنسان خلف الإمام فإنه ينصت، إلا إذا سكت الإمام فإنه لا بأس بذلك.

فإن قال قائل: هل رفع اليدين من شروط قبول الدعاء؟

فالجواب: أن رفع اليدين من شروط قبول الدعاء إلا في المواضع التي لم يرد الرفع فيها، التي دعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرفع، فلم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه بعد الفريضة، وفي آخر التشهد في الدعاء لم يرفع يديه صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يرفع يديه في خطبة الجمعة إلا إذا استسقى فإنه يرفع يديه، ويرفع المأمومون أيديهم.

فإن قيل: أول ما يبدأ الإمام في القنوت يمجد الله جل وعلا هل يرفع معه اليدين؟

فالجواب: الأمر واسع في هذا.

فإن قيل: هل يجوز رفع اليدين في النافلة؟

فالجواب: أنه لا بأس؛ لأن الأصل أن رفع اليدين شرط في قبول الدعاء، كما في الحديث: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، ومنه قصة الرجل الذي يطيل السفر يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فالظاهر أنه يرفع يديه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ].

الأصل تتعدى، فهنا حذف أحد التائين، وقد تعدى الهداية بنفسها أي: تتعدى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فتضمن معنى: ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: بينا له الخير والشر.

وقد تعدى بإلى كقوله تعالى: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:121]، فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:23]، وذلك بمعنى: الإرشاد والدلالة. وكذلك قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف:43] أي: وفقنا لها وجعلنا لها أهلاً ].

إذا تعدت بإلى تكون بمعنى الدلالة والإرشاد، وإذا تعدت بنفسها فمعناها الإلهام والتوفيق.

معنى الصراط

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فقال الإمام أبو جعفر بن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي :

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم

قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه.

ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول، فروي أنه كتاب الله ].

الصراط المستقيم هو متابعة الرسول فيما جاء به من الشرع، وبعضهم قال: الصراط: هو القرآن، وقيل: هو الرسول، وقيل: هو الإسلام، وكله حق، فمن اتبع القرآن وعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو على الإسلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعيد -وهو ابن المختار الطائي [.

صوابه سعد وليس سعيد ، وصوابه: أبو المختار الطائي وليس ابن المختار .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعد -وهو أبو المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصراط المستقيم كتاب الله) ].

وهذا سند ضعيف فيه الحارث الأعور شيعي متهم بالكذب، لكن الأقرب أنه موقوف على علي رضي الله عنه، ورفعه لا يصح.

ورواه ابن جرير من حديث حمزة بن حبيب الزيات، وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: (وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد روي موقوفاً عن علي رضي الله عنه وهو أشبه والله أعلم ].

(وهو أشبه، والله أعلم) يعني: وهو أقرب، أي: أنه موقوف على علي وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وهو الحديث الطويل المعروف: (وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) فهذه خطبة وموعظة ولا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال: (الصراط المستقيم) كتاب الله، وقيل: هو الإسلام ].

وكلها حق فالصراط المستقيم هو كتاب الله، وهو الإسلام، من عمل بكتاب الله فهو في الإسلام، والمسلم يعمل بكتاب الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال جبريل لمحمد عليهما السلام: قل يا محمد: اهدنا الصراط المستقيم)، يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وقال ميمون بن مهران : عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: ذاك الإسلام.

وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير : عن أبو مالك ، وعن أبو صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ].

السدي الكبير عن مرة عن ابن مسعود ثقة، أما السدي الصغير فهو كذاب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (اهدنا الصراط المستقيم) قالوا: هو الإسلام.

وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر : (اهدنا الصراط المستقيم) قال: هو الإسلام ].

عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف من جهة حفظه، فهو سيئ الحفظ لكنه شاهد لما سبق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أوسع مما بين السماء والأرض. وقال ابن الحنفية في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره ].

محمد بن الحنفية : هو محمد بن علي بن أبي طالب ، سمي بالحنفية لأن أمه من سبايا بني حنيفة، فتسرى عليها علي رضي الله عنه وولد منها محمد ، فصار يلقب: محمد بن الحنفية وإلا فهو محمد بن علي بن أبي طالب .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: هو الإسلام.

وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث -يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتوحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه؛ فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم).

وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به.

ورواه الترمذي والنسائي جميعاً عن علي بن حجر عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به، وهو إسناد حسن صحيح، والله أعلم ].

هو كما قال إلا رواية بقية ففيها عنعنته وهو مدلس؛ لكن الإسناد السابق عند ابن جرير والإمام أحمد ليس فيه بقية ، فالحديث صحيح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال مجاهد : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: الحق، وهذا أشمل، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم أنبأنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالية : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، قال عاصم : فذكرنا ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح.

وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة؛ فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً ولله الحمد.

وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي - أعني اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] - أن يكون معنياً به وفقْنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل وذلك هو الصراط المستقيم؛ لأن من وفِّق لما وفِّق له من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم.

بيان المراد بسؤال المؤمن الهداية مع اتصافه بها

فإن قيل: فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك؟ وهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟

فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى، في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله، فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] الآية ].

قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] هذه آية عامة، اهْدِنَا بمعنى: وفقنا لطريق الحق، وثبتنا عليه حتى الممات، ووفقنا لما لا نعلمه أن نعلمه ونعمل به، فالعبد محتاج إلى أن يثبته الله على ما وفقه له من الحق، ومحتاج إلى أن يعلمه الله ما يجهله، ومحتاج إلى أن يوفقه الله للعمل بالشيء الذي تعلمه؛ لأن من الناس من يعلم ولا يعمل بعلمه، فالإنسان محتاج في كل أحواله إلى الهداية، وإلى سؤال الله إياها؛ لأنها ضرورة لا يستغني عنها الإنسان، فحاجة الإنسان للهداية أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى الهواء، وهذا خلاف ما يقوله بعض الناس: إن المؤمن قد هدي فكيف يسأل الله الهداية؟ فالمؤمن محتاج إلى ما يثبته على ما هو عليه من الحق، ومحتاج إلى أن يعلمه الله الشيء الذي جهله، وهو كثير، وكذلك محتاج إلى أن يوفق للعمل بالشيء الذي تعلمه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم ].

إثبات زيادة الإيمان ونقصانه

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] يعني: اثبتوا على الإيمان، وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة كثيرة في هذه المسألة، وإذا أطلق الإيمان فإنه يشمل فعل الأوامر واجتناب النواهي، ومن المعلوم أن من فعل الواجب زاد إيمانه، ومن قصر فيه أو فعل منهياً عنه نقص إيمانه.

ومن الأدلة أيضاً في هذه المسألة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وقوله تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، وقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2].

ومن الأدلة في هذه المسألة من السنة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده)، وحديث: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه). كل هذه الأدلة من الكتاب والسنة فيها دلالة على زيادة الإيمان، وهو قبل زيادته يعد ناقصاً بالنسبة إليه بعد الزيادة، ومن أدلة نقص الإيمان حديث: (أن النساء ناقصات عقل ودين) والدين هو الإيمان إذا أطلق، فهذا الحديث واضح الدلالة على النقص.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] ، وقد كان الصديق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سراً ].

هكذا ورد في السنن أن الصديق كان يقرأ الفاتحة في الركعة الثالثة من صلاة المغرب، ثم يقرأ بعدها قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، وهذا لو فعله الإنسان فهو حسن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمعنى قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] : استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره ].



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الفاتحة [11] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

https://audio.islamweb.net