إسلام ويب

عجائب القرآن لا تنقضي ولا تنفد، ومن ذلك أن في آيات القرآن متتابعة في الوضع متشابهة في الموضوع، ومنها ديباج القرآن وهي الحواميم، وفيها حكم عظيمة وعظات بليغة.

كلمة عن مرض الشيخ المغامسي وإجرائه عملية القلب

الملقي: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:

سيكون هذا اللقاء بإذن الله عز وجل لقاء خاصاً في مكانه وفي موضوعه، فهو من المدينة النبوية ومن جوار المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونتحدث عن (ديباج القرآن الكريم) فنبين المقصود بهذا اللفظ والصور التي تدخل فيه وسبب تسميتها بذلك، ثم نحاول أن نقف وقفات إيمانية وتاريخية وأدبية مع بعض الآيات والمقاطع من هذه السور.

في بداية اللقاء يسرني ويشرفني أن أرحب بضيفنا الكريم، ضيف البرنامج الدائم، فضيلة الشيخ: صالح بن عواد المغامسي خطيب مسجد قباء.

أهنئ ضيفنا على الصحة، ونسأل الله عز وجل أن يجمع له بين الأجر والعافية.

لا شك أن تعبك خلال الفترة الماضية ابتلاء ونسأل الله عز وجل أن لا يحرمك أجره.

الشيخ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فمعلوم أن القنوات الفضائية ليست منابر شخصية يتحدث الإنسان فيها عن نفسه، ولسنا أول الناس ابتلاءً ولن نكون آخرهم، وليس ما تعرضنا له ابتلاءً عظيماً، لكن مجمل القول أنه كان بنا مرض روماتيزم في القلب، وكان الأطباء يرون أنه لابد من التدخل الجراحي، فكنا لأمور عدة ندفعها مرة بعد مرة حتى أراد الله جل وعلا أن نجري العملية الجراحية في مركز الأمير سلطان لجراحة القلب بالرياض.

والعملية في مجملها تبديل صمامين، يعني: الصمام الأبهر والأورطي بصمامين معدنيين، والحمد لله على فضله ونعمه وعطائه وإحسانه، وقد تمت العملية بنجاح، وذلك بفضل الله ورحمته ودعاء المسلمين الصالحين، لكن معلوم أن العملية كان فيها شق للصدر، وإخراج للقلب وخياط معدن فيه فلها توابع ولها عوارض، وتحتاج إلى وقت، ولكن الحمد أننا نستطيع أن نصلي فرضين أو ثلاثة أحياناً في المسجد، والأطباء يقولون: هذا يحتاج إلى ثلاثة أشهر، وقد مضى تقريباً منها شهر ونصف تقريباً، والله جل وعلا قد من علينا بفضله بالصحة قبلها، ومتعنا بالعافية بعدها، وهو جل وعلا ذو الفضل، هذا مجمل ما يمكن أن يقال.

وأنا أقول لكل أخ مؤمن وأخت مؤمنة تعاطف معنا: إن هذا من دلائل بره وإحسانه، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقهم من عفوه الواسع، وأن يسترهم بستره الجميل، وأن يمدهم بعافيته الطيبة، وأن يزيدهم من إحسانه الذي لا منتهى له، وأن يؤتيهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيهم عذاب النار.

وثمة إخوة وأخوات وقفوا وقفات أشد من غيرهم، لكن ليس هذا مقام الحديث عن الناس، ونسأل الله أن يوفقنا وإياهم لكل خير، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء، والحمد لله على فضله وإحسانه، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.

التعريف بديباج القرآن

المقدم: نسأل الله لك الشفاء، وأن لا يحرمك أجر هذا المصاب.

وندخل إلى موضوعنا وهو ما يتعلق بـ(ديباج القرآن)، قبل أن نقف مع هذه الآيات وقفات مختلفة، لا شك أن المرء قد يحتاج إلى التذكير بالمراد بهذا المصطلح، وأهم السور التي يمكن أن تندرج فيه.

الشيخ: (ديباج القرآن) لفظ نقل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وصف به سبع سور متتابعات من كلام الله، وكلهن سور مكيات، وهذه السور تبدأ بقول الله جل وعلا (حم) ولهذا يسميها بعض أهل العلم (ذوات الحواميم) أو (آل حم)، و(آل حم) أفضل عند البعض من قولهم (ذوات الحواميم).

وسميت بديباج القرآن لأنها آيات خلت من الأحكام، وإنما فيهن رقائق وعظات وعبر ومواعظ، وأخبار الأولين وقصصهم، والإنسان إذا رأى في قلبه قسوة، ثم قدر له أن يقرأ هذه السور السبع، يجد في نفسه تغيراً كثيراً، لما فيهن من عظيم الرقائق وجليل المواعظ، وعظيم التذكير الذي يرقق الله به قلوب العباد.

وهن سور: (غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان والجاثية، وتختم بالأحقاف)، فهذه السور السبع هن: آل حم.

اللجوء إلى الله

اللجوء إلى الله عند البلاء

المقدم: نبدأ بقوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65]، الآية تشير إلى مسألة الدعاء، ويكثر الحديث عن آداب الدعاء وعن أوقاته المفضلة، لكن هنا مسألة لعلنا نسلط الضوء عليها:

وهي: أن الإنسان قبل الدعاء وقت الضيق يكون في حالة معينة، فعندما يفرج الأمر، أو يتحقق مراده ينتقل إلى حال أخرى، فنريد أن نقارن بين هذين الحالين، والواجب على المسلم في كفاح هذا الشيء.

الشيخ: هذه القضية من أعظم القضايا التي تعرض لها القرآن، وهي: أن الإنسان حال الضراء، كالمنقطع في البحر أو في البر أو المحيط أو ما أشبه ذلك يجد نفسه في حالة شدة، فيتضرع بالدعاء، حتى حال كثير من أهل الإشراك يتضرعون إلى ربهم جل وعلا، لكن الله جل وعلا أخبر أن كثيراً من عباده إنما ينقلب حالهم بعد تضرعهم، وذلك بعد أن تنجلي البلوى، ويكشف الله الضر، ويرفع الله الكرب، فيكون منهم تغير في الحال، رغم أنهم في حال الاضطرار كانوا يتضرعون إلى الله تضرعاً شديداً، وتأصيل هذا علمياً أن يقال:

يجب أن يُعلم أن الناس -مهما تباين حالهم- ففقرهم إلى الله واحد، فالذي انقطع به الأمر في عرض البحر فهو على لوح، حاجته إلى ربه جل وعلا كحاجة من يجلس بين أهله وأبنائه وذويه وعصبته في بيته؛ لأنه لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، فهذا إذا أراد الله أن ينفعه نفعه لوحه، وهذا إذا أراد الله أن يخذله خذله من حوله.

فالحاجة في حقيقتها واحدة، والفقر إلى الله واحد، لكن الإنسان إنما يعرف هذا الفقر إذا انقطع واشتد به الكرب، وأضر به الحال، فيشتد تضرعه إلى ربه جل وعلا.

والله جل وعلا عالج هذه القضية -كما قلت- في آيات عظيمة، قال الله في الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا -قال الله-: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:189-190].

وقال جل وعلا: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12]، وقال تبارك اسمه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، والألف واللام في الإنسان للجنس، أي: هذا الأصل في الإنسان.

فإذا تبين للعبد أنه في كل أحواله فقير إلى الله جل وعلا، تأدب مع ربه بعد رفع الضراء، وتأدب مع ربه بعد كشف البلوى، فكشف البلاء ورفع الضراء وإغاثته من الحال التي كان عليها يجب أن تكون أعظم دافع وأجل سبب في زيادة الطاعة والإيمان، والتقرب والازدلاف إلى الله تبارك وتعالى.

وهذه حقيقة غابت تماماً عن المشركين الأوائل، حتى يتنبه عباد الله الصالحون وأولياؤه المقربون إلى خطر هذا الأمر، فيكون منهم بعد رفع الضر عظيم الأوبة والإنابة إلى ربهم تبارك وتعالى.

شكر النعمة بعد زوال البلاء

الملقي: هل يعني هذا أن الإنسان يستمر على هذا الاضطرار إلى الله عز وجل في كل حال، فلا شك أنه يكون أحوج عند البلاء؟

الشيخ: المقصود أن يعظم الشكر، وقد نعى الله على أولئك، يقول الله عنهم: مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12] يعني: تناسى الأيام الخوالي والأحوال السابقة، وكأنه لم يلجأ إلى الله جل وعلا طرفة عين، ولهذا قال الله: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ [الإسراء:67] إلى أن قال: أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:68] أي: أن حاجتكم إلى ربكم في البحر، كحاجتكم إلى ربكم في البر: أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ -أي: البحر- تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:68-69]، هذا كله من تأديب الله جل وعلا لعباده وأوليائه، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بالقرآن.

التعريف ببعض المناطق التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والسيرة النبوية

وادي الأحقاف

الملقي: الآيات التي وردت في بعض سور (ديباج القرآن)، لعلنا نحاول أن نستثمر بعضها، فنربط بين المكان وبين صاحبه.

ففي سورة الأحقاف يقول تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21] فما المراد بالأحقاف؟

الشيخ: (الأحقاف) جمع حقف، وهو الرمل الطويل المعوج العظيم، قال امرؤ القيس في معلقته:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتهىبنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

فقصد بذلك: الأرض المطمئنة.

والحقاف: واد ذو رمل طويل، وعقنقل أي: منعقد، وهذا شيء معروف في لغة العرب.

والأحقاف في جنوب اليمن عند حضرموت، غير بعيدة عن عمان حالياً، هذا الوادي الذي كان يسكن فيه عاد، وهم قوم هود عليه الصلاة والسلام، وهو المقصود بقول الله: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [الأحقاف:21]، وهو أول أنبياء الله من العرب، وبعده من العرب صالح، ثم شعيب، ثم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد سمى الله جل وعلا سورة (هود) باسمه، وسمى سورة باسم الوادي الذي كان فيه قومه وهو: الأحقاف.

بئر أريس

الملقي: ما دام الحديث عن الأماكن ونحن في المدينة، فلنتحدث عن بعض الأماكن غير المشهورة فيها عند بعض الناس مثل (بئر أريس)؟

الشيخ: (أريس) كلمة في اللغة الشامية القديمة، بمعنى الفلاح، ولهذا جاء في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : (وعليك إثم الأريسيين) أي: الفلاحين، فقد كان أكثرهم أهل فلاحة.

وهذه البئر تقع شمال غرب مسجد قباء الآن.

هذه البئر كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدها ويأتيها، جاء في حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بئر أريس، ثم جاءه أبو بكر وعمر وعثمان ، وفيه قال: (بشر أبا بكر بالجنة .. وبشر عمر بالجنة .. وبشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه).

هذه البئر عرفت بعد ذلك (ببئر الخاتم) ولذلك قصة، وهي:

أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كاتب الملوك والأمراء في زمانه اتخذ خاتماً منقوشاً عليه (محمد رسول الله) يقول أهل التاريخ والسير: لبسه أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبسه عمر ، ثم لبسه عثمان ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

في سنة ثلاثين من الهجرة -أي بعد ست سنين من ولاية عثمان - ذهب إلى بئر أريس، وله معها ذكريات؛ وبقدر الله حرك الخاتم فسقط الخاتم في البئر، فلما سقط الخاتم في البئر غُم عثمان رضي الله عنه غماً شديداً؛ لأنه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بنزح البئر وإزالة الماء حتى يستخرج الخاتم، لكن لم يجد له أثراً، فهل أخذه أحد الموالي أو العبيد أو من أنزلهم عثمان ؟ هذا وارد.

هل جرفه الماء؟ الله أعلم؛ لكن الخاتم لم يوجد له أثر.

وهذه الحادثة تمسك بها الخوارج في أن عثمان رضي الله تعالى عنه تغير بعدها، فقالوا: لما تغير في حكمه غير الله عليه، فأزال عنه الخاتم!

وهذا ضعف عقل؛ لأن هذه الأشياء القائمة على الشبه لا تقاوم الحقائق، وأعظم الحقائق أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راضٍ عن عثمان وزكى عثمان تزكية عظيمة، وقال: (بشره بالجنة على بلوى تصيبه)، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج عثمان ابنتيه الواحدة بعد الأخرى، فـعثمان رضي الله تعالى عنه من أعظم الصحابة قدراً بعد الشيخين أبي بكر وعمر .

فلا يمكن أن تحسب الحسابات بمثل هذا، لكن الخروج على ولاة الأمر نبتة سوء تنشأ في القلب، فإذا نشأت في القلب لا يجد صاحبها حرجاً أو مانعاً من أن يعتذر بأي عذر يذكر فيه سبب خروجه.

النزع من البئر القليلة الماء والكثيرة الماء

الملقي: لقد ذكرت بئر أريس وأن عثمان أمر بنزح الماء، فهل نفرق بين نزح الماء، وبين كون الماء قليلاً في أصله؟

الشيخ: نعم، يوجد تفريق، فقد يكون الماء كثيراً فينزح، أي: يزال، حتى يصل الإنسان إلى مقصوده من البئر، وهو في الغالب يبحث عن شيء مفقود، وهذا هو الذي حصل لـعثمان .

أما إذا كانت البئر قليلة الماء -وتسمى في اللغة بئر ذمة- بحيث لا يمكن للدلو أن يملأ إذا رمي، فيلزم من هذا وجود مائح، والمائح: رجل ينزل في البئر إذا قل ماؤها ليغرف من داخلها، والعرب تعرف المائح، ومنهم ناجية بن جندب السلمي الصحابي رضي الله عنه.

ويروون في التاريخ أنه رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فمروا على بئر قليلة الماء، فنزل ستة ماحة، منهم ناجية رضي الله عنه، فجاءته جارية من بني مازن معها دلوها فأعطته الدلو وقالت تشجعه وتغريه حتى يملأ لها دلوها:

يا أيها المائح دلوي دونكَإني رأيت الناس يحمدونكَ

يثنون خيراً ويمجدونكَخذها إليك اشغل بها يمينكَ

فأجابها رضي الله تعالى عنه وأرضاه:

قد علمت جارية يمانيةأني أنا المائح واسمي ناجية

وطعنة ذات رشاش واهيةطعنتها تحت صدور العادية

ثم حمل لها الماء.

فالمقصود: أن المائح هو الذي ينزل إلى البئر إذا كانت قليلة الماء، أما النزح فمسألة أخرى كما بينا وتكون عند البحث عن المفقودات في الغالب.

سقيفة بني ساعدة

الملقي: قبل أن نخرج عن هذا المحور نذكر سقيفة بني ساعدة، فإن الناس يسمعون بقصتها كثيراً، فنريد أن نحدد مكانها، فأنا أحدث المشاهد الكريم وأنا قريب من المسجد، وبالتحديد في فندق أنوار المدينة (موفمبيك)، وقد فهمت منكم قبل اللقاء أنها قريبة من هذا المكان، فنريد تحديد المكان، ثم الإطلال على قصة هذه السقيفة؟

الشيخ: نحن الآن في فندق أنوار المدينة (موفمبيك) أو في وقف الملك عبد الله حفظه الله ووفقه وسدده.

والوقف يقع شمال الحرم، فالحرم جنوبنا، فنحن في شمال الحرم، وهو في الشمال الغربي منه، وأنا أرى الآن من هاهنا الشجيرات الموجودة وهي سقيفة بني ساعدة، بيننا وبينها عشرون متراً أو ثلاثون متراً.

ساعدة رجل من الخزرج في الجاهلية لم يسكن المدينة، لكن أبناءه من اليمن سكنوا المدينة، ومنهم سعد بن عبادة ، رضي الله عنه وأرضاه.

ففي هذا الموقع شمال غرب الحرم كان لهم ظلة، هذه الظلة عرفت بأنها سقيفة بني ساعدة، وكانوا يجلسون فيها دائماً قبل الإسلام، لكنها اشتهرت تاريخياً بأن حدثت فيها بيعة الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

فإن الأنصار أوساً وخزرجاً اجتمعوا في السقيفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليتدارسوا أمر الخلافة، حتى جاءهم أبو بكر كما هو معلوم وأبو عبيدة وعمر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في قصة معروفة.

الذي نريد أن نقف عنده أن الطبري رحمة الله تعالى عليه وابن هشام نقلا في السير أن الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه قال فيما قال يحث أصحابه على عدم السمع للمهاجرين.

فإن أبوا فاجلوهم عن هذه البلاد، أي: أخرجوهم من المدينة، ثم قال:

أنا جذيلها المحككوعذيقها المرجب

هذا القول، قال الدكتور أحمد عوض أبو الشباب في تحقيقه لكتاب (موسوعة الخلفاء الراشدين) للشيخ محمد رضا الذي تبع الطبري وابن هشام : إن هذا غير صحيح، ولا يمكن أن تثبت هذه القصة، وأنا أقول: بل أجزم أنه لا يمكن أن تثبت، ويستحيل على أنصاري شهد بدراً أن يقول لقومه من غير نكير منهم: أجلو المهاجرين عن هذه البلاد.

فالرواية في ظني مكذوبة لا تصح، والذي حصل هو مشاورات وأخذ وعطاء، وقد تعلو الأصوات ويحصل اللغط، لكن لن تكون هناك ألفاظ غير مقبولة شرعاً.

روضة خاخ

الملقي: جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث علياً والزبير إلى (روضة خاخ) فنريد تحديد مكان هذه الروضة، والتعريف بهذه القصة؟

الشيخ: روضة خاخ تقع عند حمراء الأسد، وحمراء الأسد خارج حد الحرم بعد ذي الحليفة، وأهل المدينة يعرفون حمراء الأسد.

أما من ليس من أهل المدينة، فنقول له: إنه يراها إذا تجاوز ميقات ذي الحليفة، يعني: كأن نقول: هناك خط جدة القديم، فإذا وصل ذا الحليفة فإن مسجد أبيار علي على يساره، فتوجد هناك إشارة مرور يتجاوزها، فإذا تجاوزها وصل كلية المعلمين عن يمينه تركها حتى يصل إلى الإشارة الثانية، ثم يتجه جنوباً لخط الهجرة السريع حتى يأتي حمراء الأسد، قبل أن يصل الخط تأتي هناك (روضة خاخ) هذا مكانها.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الروضة علياً والزبير ، وذلك أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه ممن شهد بدراً اجتهد في أن تكون له يد عند قريش، فأراد أن يخبرهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، فنزل الوحي بخبره، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير ؛ لأن الكتاب كان مع امرأة، فأخذا الكتاب من المرأة ورجعا، لأن علياً والزبير فارسان عظيمان من فوارس الإسلام لا يضعان قوتهما مع امرأة.

فأحياناً الإنسان يعرف خصمه، فأنت عندما تنزل لخصمك يظن الناس أنه ند لك، فليس كل أحد من الخصوم ينزل الإنسان له، والإنسان العاقل إذا أخذ حاجته قضي الشر، فلا يفتح على نفسه أبواب السوء كمن يريد أن يبغي وينتصر وينتقم لنفسه.

حرث الدنيا وحرث الآخرة

الملقي: أنتقل إلى قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

نحرر معنى هذه الآية عموماً والمراد بزيادة (الحرث) هنا، والتفريق بين حرثي الدنيا والآخرة؟

الشيخ: هذه من أعظم آيات القرآن تأثيراً في القلوب، وهي من ضمن ديباج القرآن.

و(حرث الدنيا) قال علي رضي الله عنه: المال والبنون.

(وحرث الآخرة) قال علي رضي الله عنه وأرضاه: الباقيات الصالحات.

والله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]، فاختلف العلماء في المراد بالزيادة هنا، هل هي زيادة في الثواب، أو زيادة في العمل؟

فالقائلون: بأنها زيادة في الثواب قالوا: دل عليه قول الله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] أي: يزيدها، وقول الله جل وعلا في آية أوضح من هذه: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، وأضرابهما من الآيات في القرآن.

وأما القائلون بالزيادة في العمل الصالح وهذا الذي أميل إليه فقالوا: إن هذا أعم، لأنه يلزم منه الأول؛ لأن الله جل وعلا إذا وفق عبداً للازدياد في الأعمال الصالحة نجم عن هذا زيادة الثواب؛ لأن الثواب مرتبط في أصله بالعمل.

فهذا المعنى العام للآية، لكن هذه الآية وقعها على العلماء أشد، في أن الإنسان لا يكون يريد بعلمه ولا بالقرآن خاصة ثواب الدنيا.

وأنا سأذكر الآن نموذجاً رأيته بعيني على عدم تفويت الثواب، وهو أحد مشايخي.

فشيخنا هذا حفظه الله تعالى ورعاه قد صار عمره فوق الستين وما زال حياً يصلي في الحرم، ولا يفوته المغرب والعشاء وسأعلق على عدم فوات المغرب والعشاء في الحرم.

ذات مرة دخل المسجد، فأحد طلاب العلم تبع الشيخ ليعرف أين يضع نعله! فلما خرج الشيخ أخذ هذا الشاب نعلي الشيخ فوضعهما بين قدميه، يعني: ما خرج الشيخ إلا وفوجئ بأن هذا الشاب يضع النعلين بين يديه، فحدق النظر فيه ثم لبس النعلين وقال: جزاك الله خيراً.

وخرج معه، بعد أيام خرج هذا الشاب فإذا بالشيخ يحمل النعلين ويضعها بين قدميه!

ما الذي أراد الشيخ أن يقوله؟ هو لا يريد أن يثيبه أحد على أنه عالم، إنما يريد الثواب من الله، وهذا من معرفة الله، وهذه هي حقيقة العلم الحق الذي أراد الله من العلماء.

وهذا الشيخ زارني في مرضي هذا إلى المنزل وله عليّ فضل كبير، لكن طلب بأدب أن يزورني في العصر؛ لأنه لا يستطيع أن يترك الحرم بين المغرب والعشاء، وأنا قد كنت حددت الزيارة للناس بين المغرب والعشاء؛ لأني لا أستطيع أن قابل الناس إلا ساعة من النهار، فجعلتها بين المغرب والعشاء.

فقلت للأخ الذين كان ينسق بيني وبينه: لو حدد الشيخ أي وقت فسنقبل، لأن له مكانته، فلما قدم استقبلته عند الباب، وكان في نفسي شيء أريد أن أحققه من قديم، وهو أن أقبل رأسه، ولم أستطع أن أقبل رأسه طوال معرفتي به، رغم أنني أعرفه منذ أكثر من ثلاثين سنة، فأقسمت عليه عند الباب وقد رآني بعكازي فرق لي، فخفض برأسه فقبلت رأسه، فلما رفعت رأسي أقسم بالله أن يقبل رأسي، أي أنه رد الدين عاجلاً، وإنما رضيت لأنه شيخي وعمره فوق الستين فلا أستطيع أن أعصي أمره ما دام في غير معصية الله، فقبل رأسي ولم أستفد شيئاً.

وهذه رسالة ثانية، وكان عليّ أن أفهم هذه الرسالة من صنيع الشيخ مع ذلك الشاب، لأنني أعرف قصته مع الشاب، ثم أدخلته الدار، فجزاه لله عني وعن المسلمين خيراً.

المقصود: أن التعامل مع الله شيء عظيم، والله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]، هذا وعد رباني: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20] وهذا إطلاق قيدته آية الإسراء: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18].

فالمقصود عموماً: أن وقع هذه الآية على العلماء أشد، فليس العلم بالفصاحة والبلاغة وتحقيق أمور شخصية وتسهيل أمور دنيوية، وقد يبتلى العلماء بهذا، لكن لا يكون هذا رغبتك الأصلية ولا طلبك، ولا أنك طلبت العلم لتوسع لك الأبواب وتصدر لك المجالس، فهذا والعياذ بالله قمة الضياع، نسال الله العافية.

من نعيم الجنة أن أهلها لا يذوقون الموت إلا الموتة الأولى

معنى الاستثناء في قوله (إلا الموتة الأولى)

الملقي: في سورة الدخان ذكر الله عز وجل نعيم أهل الجنة، ثم قال بعد ذلك: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56]، ما هي أقوال أهل العلم حول هذا الاستثناء؟

الشيخ: ذكر الله في الجنة نعيماً عظيماً، وقال جل وعلا بعد أن ذكر جملة من النعيم: كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54] ثم قال: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56]، الأولى: بمعنى السالفة، يعني: الموتة التي سبقت وسلفت في الحياة الدنيا.

البلاغيون يقولون: إن هذا الاستثناء من تأكيد الأمر بما يضاده لكن العلماء اختلفوا في معنى (إلا) فقال شيخ المفسرين الطبري : إن (إلا) هنا بمعنى (بعد)، وهذا الذي أرجحه، والعلم عند الله، فيصبح معنى الآية: لا يذوقون فيها الموت بعد الموتة الأولى.

وقال ابن عطية في المحرر الوجيز : إن (إلا) بمعنى (سوى) أي: لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى.

ولا يختلف المعنى لكنه قوله (بعد) أقوم.

أما أصحاب الصناعة النحوية كـالفراء والزجاج رحمة الله تعالى عليهم جميعاً فقالوا: إن (إلا) على بابها، لكن الاستثناء هنا منقطع، يصبح المعنى: لا يذوقون فيها الموت، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.

وقلنا: إن شيخ المفسرين يقول: إنها بمعنى (بعد) وهذا الذي يغلب على الظن عندي رجحانه، لكنني لم أجد ورود (إلا) بمعنى (بعد) في الشعر العربي، ولعله إن شاء الله أنه موجود، لكنني لم أبحث بحثاً قوياً حتى أجزم بالاختيار، بسبب المرض والعلم عند الله.

الأمور المنفية في الجنة

ويفهم من الآية نفي الموت في الجنة، ونحن نقول -والعلم عند الله-: إن المنفي في الجنة أحد عشر شيئاً بناءً على النصوص والقواعد، وهي:

1- الهرم: فكبر السن غير موجود في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفنى شبابهم).

2- النوم: قال صلى الله عليه وسلم: (النوم أخو الموت)، وليس في الجنة نوم.

3- الموت: بنص هذه الآية: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان:56].

4، 5- الخوف، والحزن: قال تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

6- الليل، فلا يوجد في الجنة ليل.

7- النهار: ولا يوجد في الجنة نهار، لأنه لا يسمى نهاراً حتى يفصل بالليل، ولا يوجد في الجنة ليل.

8- الظلمة: لا توجد في الجنة ظلمة، يعني: أحياناً نكون في النهار ونكون في ظلمة، فعندما تدخل غرفة ليس فيها إضاءة فهذه ظلمة وإن كنا في النهار، لكن ليس في الجنة ظلمة.

9، 10- الحر والبرد: فلا يوجد في الجنة حر يتأذى منه أهلها، ولا يوجد فيها برد يتأذى منه أحد.

11- الخروج: فلا يخرج من الجنة أحد؛ لأن الله قال: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57]، فليس هناك خروج من الجنة، كما لا يوجد خروج من النار.

من أخبار الزجاج والمبرد

الملقي: عندما حررت مسألة الاستثناء في الآية: ((إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى))، ذكرت رأي الفراء والزجاج ، والمسلم يعرف أن لهما باعاً كبيراً في العلم، والمتتبع لسيرة هذين العلمين يجد أخباراً ممتعة، فنريد أن نلطف اللقاء بشيء من هذه الأخبار؟

الشيخ: الفراء : أبو زكريا يحيى بن زياد من أئمة مدرسة الكوفة، سمي بـالفراء لأنه كان يفري الكلام، يعني: كان عظيم الفصاحة والبلاغة.

هذا الرجل كان فذاً في أخبار العرب وأشعارها وأيامها، وله علم بالفلسفة والنجوم، وله علم بالنحو، وينسبون إليه الكلمة الشهيرة أنه هو القائل: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، فتمر عليه (حتى) كثيراً، فرأى أن الاسم بعدها يقع مرفوعاً، ويقع في أحوال منصوباً، ويقع في أحوال مجروراً، فقال: أموت وفي نفسي شيء من (حتى) يعني: لم أفك لغزها بعد.

وكان يقال عنه: إنه أمير المؤمنين في النحو، وعاشَ منعماً، فقد كانت له حظوة عند بعض الولاة، وله حظوة عند المأمون ، وكان له علاقة قوية بالمدرسة الكوفة.

أما الزجاج : فهو أبو إسحاق إبراهيم السري رحمة الله تعالى عليه، هذا الرجل سمي بـالزجاج لأنه كان يخرط الزجاج .

وقد كان نحوياً، عاصر ثعلباً وثعلب إمام كوفي معروف، وأخذ أيضاً عن بعض أئمة الكوفة، لكن فيه ميل لمدرسة البصرة التي إمامها سيبويه إمام النحاة بلا جدال ولا منازعة.

دخل الزجاج ذات مرة على ثعلب -واسمه أحمد بن يحيى من المعمرين جاوز التسعين رحمة الله تعالى عليه- فوجد عنده أبا موسى الحامض ، فذكرا فيما ذكرا يونس والمبرد من أئمة نحاة البصرة، فذماهما، وذما كتاب سيبويه (الكتاب) وأخذا ينتقصانه، فاغتاظ الزجاج فذهب إلى كتاب كان ثعلب رحمه الله قد ألفه واسمه (الفصيح)، فأخذ ينقد كتاب الفصيح، انتقاماً من ثعلب ؛ لأن ثعلباً انتقد كتاب سيبويه ، فوجد عشرة أخطاء، وقد ذكرها السيوطي في المزهر، وذكرها صاحب الياقوتة الظاهر، وكذلك ذكرها صاحب معجم الأدباء.

المهم: أنه اعترض عشرة اعتراضات على كتاب كان قدره عشرين ورقة، حتى قالوا: إن ثعلباً رحمه الله أصبح يتبرأ من الكتاب.

ومرت الأيام حتى ظهر ابن خالويه الذي كان نديماً في حلب لـسيف الدولة وكان له مقارعات مع المتنبي فاعترض على الزجاج ؛ لأنه كان يميل إلى رأي الكوفيين.

والحق أن الزجاج نحوي، أما ابن خالويه فهو من أهل علم اللغة وله باع طويل فيها، أما باعه في النحو فقصير كما قرره أئمة هذا الشأن.

هذه بعض أخبار الفراء والزجاج رحمة الله على الجميع.

من أخبار الكسائي

الملقي: قد تحدثت عن إمام نحاة البصرة، فنريد حديثاً عن إمام نحاة الكوفة؟

الشيخ: الكسائي هو إمام أهل الكوفة، وهو إمام في القراءات والنحو، والكسائي طلب علم النحو كبيراً، وجلس عند الخليل بن أحمد شيخ سيبويه ، فلما طلب العلم على يد الخليل أعجب الكسائي بـالخليل فسأل الكسائي الخليل : من أين لك هذا العلم؟

قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فذهب إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة، وأخذ ما عندهم، ثم عاد إلى مناطق أخرى يجمع العلم، ثم عاد إلى الكوفة، فالتف حوله أهلها، وقدر له أن المهدي استدعاه في قضية، فلما استدعاه أعجب به، فلما أعجب به تعرف على الرشيد بن المهدي ، ولهذا كان ذا حظوة كبيرة بعد ذلك عند الرشيد .

وهو ممن نال النعم، وفرح بعلمه، وليس مثل سيبويه الذي مات مغبوناً.

ومن أئمة العلم في زمانه محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة .

أراد الرشيد يوماً أن يذهب إلى فارس فأخذ معه محمد بن الحسن والكسائي ، وكلاهما كان ذا حظوة عنده، فلما مر على بلدة اسمها رنبويه -من قرى إيران الآن- مات محمد بن الحسن والكسائي في يوم واحد، فلما ماتا في يوم واحد صلى عليهما الرشيد ودفنهما فقال: اليوم دفنت كذا وكذا في رنبويه.

الأوصاف الخلقية لأولي العزم من الرسل

الملقي: قال تعالى في سورة الأحقاف: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فمن هم أولو العزم؟

ونريد أن نتحدث عن الصفات الخلقية لهؤلاء الأنبياء؟

الشيخ: أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أما نوح فلا أعلم أثراً صحيحاً في وصفه خلقياً، وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد قال عنه عليه الصلاة والسلام: (أنا أشبه ولده به)، أي: أنه كثير الشبه به صلى الله عليه وسلم.

أما موسى عليه الصلاة والسلام فهو آدم، أي: أسمر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: (كأنه من أزد شنوءة)، وأزد شنوءة قبيلة من اليمن، وكلمة شنوءة من شنأ أي أبغض، قال جل وعلا: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، لكنها هنا مدح، أي: قوم كانوا يترفعون عن الأدناس ويبغضونها.

المهم أن موسى عليه السلام طويل جسيم، يميل لونه إلى السمرة.

أما عيسى عليه الصلاة والسلام فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنه أحمر ربعة من الرجال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كأنه خارج من ديماس)، الديماس الحمام، لكن الإنسان لابد أن يكون فطناً وهو يتأمل السنة، فالحمام قديماً غير الحمام الآن، فكان قضاء الحاجة كان يسمى بالكنيف، ولا يسمى حماماً، والحمام قديماً هو مكان الاغتسال، مثلما نقول: حمامات تركية، حمامات بخارية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كأنه خارج من حمام)، أي كأنه يتجدد نوره.

أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أكثرت كثيراً من وصفه صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا من المكرر الذي يحلو فأقول:

النبي عليه الصلاة والسلام كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، سبط الشعر عريض ما بين المنكبين.

سبط الشعر: أي: أن شعره غير ملتوٍ ولا مسترسل.

في جبينه عرق يدره الغضب، أي: إذا غضب في ذات الله يمتلئ جبينه دماً.

أزج الحواجب، أي: دقيق الحواجب -من غير قرن، أي: غير ملتقصة-.

أشم الأنف طويل شعر العنيين كبير الفم، أبيض مشرباً لونه بحمرة، كث اللحية، الشيب فيه ندرة، له شيب في رأسه، وشيب في صدغه الأيمن، وشيب في صدغه الأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته، كأن عنقه إبريق فضة.

من نقرة نحره إلى أسفل سرته خيط شعر ممتد، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.

ما بين كتفيه من الخلف شعيرات بيض كأنها بيضة حمامة ناتئة عن الجسد قليلاً، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- عندما يمشي يتكفأ تكفؤاً، كأنما ينحدر من مكان عالٍ، كان الشمس تجري في وجهه صلوات الله وسلامه عليه.

قال شوقي :

ريم على القاع بين البان والعلمأحل سفك دمي في الأشهر الحرم

رمى القضاء بعيني جؤذر أسداًيا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم

إلى أن قال:

الله قسم بين الخلق رزقهموأنت خيرت في الأرزاق والقسم

إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعمفخيرة الله في لا منك أو نعم

يا أفصح الناطقين الضاد قاطبةحديثك الشهد عند الذائق الفهم

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام لهوأنت أحييت أجيالاً من الرمم

جاء النبيون بالآيات فانصرمتوجئتنا بحكيم غير منصرم

آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم

هذه مدينتك هذه دارك، هذه البلد التي اختارها الله أن تكون مثوى له صلى الله عليه وسلم، ونحن الآن على مقربة من مسجده صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

نسيان الإمام قراءة الفاتحة في الصلاة السرية

السؤال: إمام مسجد نسي الفاتحة في صلاة سرية، فما الحكم؟

الجواب: ما دام إماماً فقراءة الفاتحة ركن بلا شك، فإذا نسي أن يقرأ الفاتحة في ركعة، تصبح تلك الركعة كأنها لم تؤدّ، فيعوض تلك الركعة، فلو سبح الناس؛ لأنهم يظنونها خامسة فليبق واقفاً؛ ويقرأ الفاتحة بصوت مرتفع حتى يبين للناس أنه لديه عذراً، ثم يسجد سجود السهو قبل السلام.

الأكل من الوليمة المنذورة

السؤال: من نذر وليمة فهل يأكل منها؟

الجواب: من نذر وليمة فهذا بحسب نذره، فإن نذر ألا يأكل منها فلا يأكل، وإن بيت أن يأكل منها فليأكل منها، والأصل أن لا يأكل إلا إذا بيت في أول نذره أو قال: إنه سيأكل منها.

أحسن طريقة لحفظ القرآن

السؤال: ما هي أحسن لتيسير حفظ القرآن الكريم؟

الجواب: أعظم طريقة لحفظ القرآن القيام به في الليل، ثم بعد ذلك قراءته كثيراً؛ لأنه يتفلت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من منّ الله عليه بحفظ القرآن يقول: إن القراءة بعد صلاة الفجر لها وقع أفضل، وكثرة المراجعة للقرآن الكريم، هذا كله مما يعين على الحفظ.

أما مراعاة بداية الحفظ وتلقين اللفظ على المشايخ فهذا لا بد منه، لكن لا يحفظ حفظاً عاجلاً، مثل ما يسمى بالدورات المكثفة، فقد ثبت بالتجربة أن أكثرها قد لا يؤدي المراد، لكن الأفضل للإنسان أن يقرأ السورة أو الآية نفسها كثيراً، كعشرين مرة، ثم ينتظم بتؤدة، ولا يتعجل.

والدورات المكثفة لو كانت على سبيل المراجعة لمن حفظ فلا بأس، أما في الحفظ ابتداء فأظن أنها لا تؤتي ثمرة.

وصية لأهل البلاء

السؤال: ما وصيتكم لأهل البلايا عموماً؟

الجواب: أوصي بالاستعانة بالله جل وعلا على كل حال، هذا من أعظم ما يصبر الإنسان، وكذلك علم العبد أن مقاليد الأمور بيد الله جل وعلا، إن كان داعية أو كان مريضاً، أو حرم نعمة الولد، أو غير ذلك من أنواع الابتلاء.

علم الإنسان بأنه لا يقع في هذه الدنيا إلا ما أراده الله وأذن به وقدره وكتبه في الأزل، يعين الإنسان على التصبر، وليعلم كل أحد أن الدنيا معبر أو ممر:

لم تخلق لتعمرها ولكنلتعبرها فجد لما خلقت

فإذا علم الإنسان أن الأيام دول، وأنها إلى زوال، وأن هناك وقفة بين يدي الله، ازداد تصبراً، ويستعين بالله جل وعلا على هذا، والله يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] فيكثر من الصلاة.

الموقف من إصدار قرار بحلق اللحى

السؤال: في بعض الدوائر الحكومية عندنا أصدر بعض المسئولين قراراً بحلق اللحية، ومن لم يلتزم بهذا القرار فإنه يتعرض للفصل عن العمل، وحرمانه من الحقوق، ووضعه في القائمة السوداء، فما توجيهكم في ذلك، ونحن ملتزمون بإعفائنا للحية، فماذا علينا أن نفعل؟

الجواب: حلق اللحية حرام اتفاقاً، قال صلى الله عليه وسلم: (أعفوا اللحى)، لكن نقول: نسأل الله جل وعلا أن يهدي المسئولين الذين أصدروا هذا القرار حتى يتراجعوا عن قرارهم.

وأنا أنصح الأخ السائل بأن يذهب إلى أهل الرأي والفضلاء من مشايخ الإمارات -وهم كثر في الإمارات وهو بلد إسلامي عريق عظيم، وحكامها لا نعلم عنهم من حيث الجملة إلا كل خير- فيذهب هو وجملة من أهل الفضل إلى من أصدر القرار ويبينون له أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الله تبارك وتعالى بيّن هذا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يهدي من أصدر القرار إلى الرشد وأن يعود عن قراره هذا.

كيفية تربية الطفل

السؤال: من لديه طفل عمره سنتان، فكيف يربيه؟

الجواب: في أول الأمر يكثر من الدعاء له، ثم يتجنب في السنين الأول أن يذكر له الحلال والحرام، والأحكام الفقهية، لكن يتكلم كثيراً عن الجنة، وعن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلم عن سيرته عليه الصلاة والسلام تدريجياً، حتى إذا بلغ دخل معه في أمور الحلال والحرام.

حكم من نسي آية من الفاتحة

السؤال: ما حكم من نسي آية من سورة الفاتحة في الصلاة؟

الجواب: هذا غالباً يكون وسوسة، وأنا أخاف أن أقول للسائلة أن تعيد الصلاة، فتدخل في عالم الوسوسة؛ ففي الغالب أن الإنسان لا ينسى الفاتحة، لكن لو وقع هذا يلزمها إعادة الفاتحة إن كانت في الصلاة.

معنى حديث الكاسيات العاريات

السؤال: ما معنى حديث: (نساء كاسيات عاريات

الجواب: المقصود من الحديث جملة، قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، نوع من التسريحات، لكن هذا مرتبط أصلاً بسلوك المرأة، يعني: الأصل في زينة النساء الجواز، لكن إذا كان الشعر قد جمع بعضه فوق بعض حتى أصبح كسنام الإبل، فهذا منهي عنه شرعاً، وإنما لعن في الحديث دلالة على ذهاب حيائها في الأصل، نسأل الله العافية.

كتب في المدينة وفضائلها

السؤال: نريد أن أن تدلونا على كتاب عن المدينة وفضائلها.

الجواب: هنا عدة كتب، فمن كتب العصور القديمة (دار الوفاء) للسمهودي ، و(المغانم المطابة في معالم طابة)، ومن كتب المتأخرين: (الدر الثمين في معالم البلد الأمين) للشنقيطي ، هذه كتب نافعة.

وهناك كتاب اسمه: (أخبار الوادي المبارك) لأخينا الأستاذ محمد حسن شراقة رحمة الله عليه، له كتاب قيم اسمه: (أخبار الوادي المبارك) لكن هذا يتعلق بوادي العقيق فقط.

وإذا أردت جزئيات، فهناك كاتب اسمه: عبد الغني إلياس -إن لم أنس الاسم- له مؤلفات بالتصوير جيدة عن المدينة المنورة، ولأخينا الدكتور البكري -أستاذ في جامعة طيبة- جهود في التعريف بالبقيع وغيره، هذه جملة كتب تعين الإنسان على معرفة أسماء المدينة وفضائلها.

فضل سورة التكاثر

السؤال: هل ورد ذكر فضل لسورة التكاثر؟

الجواب: لم يرد فيما أعلم فضل لسورة التكاثر، السور التي ورد فيها فضل معدودات: البقرة، آل عمران، الكهف، الفلق، الناس، قل هو الله أحد، وسورة تبارك فيها حديث ضعيف، لكن ضعفه يسير، رواه الترمذي ، أما سورة التكاثر فلا أعلم نصاً صريحاً في فضلها، إلا إن لم أطلع عليها هذا وارد.

أما ما ورد في غير هذه السور فأكثره ضعيف.

وأنا لا أقول ذلك على سبيل الحصر، فهذه سورة القدر ليس فيها فضل، لكن فيها إخبار.

ناشئة الليل

السؤال: ما هي ناشئة الليل المذكورة في سورة المزمل؟

الجواب: قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].

(ناشئة الليل) هي على الصواب -فيما نعلم- أن تكون صلاة بين منامين، أي أن الإنسان ينام أول الليل، ثم يقوم يصلي، ثم ينام قبل الفجر، فهذه هي ناشئة الليل، وهي أشد وطئاً وأقوم قيلاً، قال الإمام السعدي رحمة الله عليه: يكون فيها تواطؤ القلب مع اللسان، يعني: فترة سكون وتنزل إلهي، فهذه أشد وطئاً وأقوم قيلاً.

فضل قراءة الواقعة

السؤال: ما فضل قراءة سورة الواقعة؟

الجواب: هناك أثراً يقول: من قرأ سورة الواقعة ضمن الرزق أو كفل الرزق، هذا منقول عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا أعلم له سنداً صحيحاً إلى ابن مسعود ، وإنما ذكره ابن سعد في الطبقات، فلا أعلمه مسنداً إسناداً صحيحاً إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

أما في فضل سورة الواقعة فلا أحفظ حديثاً صحيحاً في فضلها.

حكم الصلاة خارج المسجد النبوي في المدينة

السؤال: ما حكم الصلاة في حدود حرم المدينة، أي: هل الذي يصلي خارج المسجد النبوي يكتب له أجر مثل الذي يصلي داخل المسجد، يعني: ألف صلاة، كما في فتوى الشيخ: عبد العزيز بن باز في الحرم المكي؟

الجواب: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وهذا محل اتفاق، والصلاة داخل حدود حرم مكة -خارج المسجد- مختلف فيها، وجمهور العلماء على أنها مثل الصلاة في الحرم بمائة ألف صلاة، وهذا اختيار الشيخ ابن باز رحمة الله تعالى عليه.

أما مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاتفاق على أن الصلاة فيه بألف صلاة، أما الصلاة في المدينة خارج المسجد فالمتفق على أنها مثل غيرها لا تضاعف.

نعم الصلاة في الساحات نحن نرجح أنها بألف صلاة؛ لأن ساحة المسجد إذا كان لها حدود فهي ملحقة بالمسجد، أما إذا لم يكن لها حدود -كما قرر بعض علماء الحنابلة وذكره ابن قدامة في المغني- فلا تلحق بالمسجد.

ومعنى: (ليس لها حدود) أي: ليس لها سور، فهذه لا تلحق بالمسجد، أما إذا كان لها سور كما هو حال المسجد النبوي، فهذه تلحق بالمسجد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة القطوف الدانية ديباج القرآن الكريم للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

https://audio.islamweb.net