إسلام ويب

الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، وقد أطبق التابعون على إثبات القدر خيره وشره من الله، وأنه لا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فهو الفعال لما يريد، خلافاً للقدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم من خير وشر، فقد جعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، مع أنه سبحانه هو خالق الخير والشر، وإرادته للخير إرادة شرعية، وإرادته للشر إرادة كونية قدرية، فهو يقدر الكفر كوناً ولا يرضاه شرعاً سبحانه وتعالى.

باب ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الجزء العاشر من كتاب (الإبانة) وهو الثالث من كتاب القدر ] وذكر فيه الإمام ثلاثة أبواب:

قال: [ باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين، وقول ابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب القرظي ، ووهب بن منبه ، وطاوس اليماني ، ومكحول ، وعكرمة ، وعطاء ، وقتادة .. وغيرهم.

الباب الثاني: بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية، وفيه رسالة لـعبد العزيز بن الماجشون .

الباب الثالث: باب فيما يروى عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر، وقول الأوزاعي ].

نسبة القدرية القول بالقدر إلى الحسن البصري وبطلان ذلك

قال: [ الباب الأول: باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين.

اعلموا رحمكم الله! أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه ] يعني: ليس معهم دليل من الكتاب على إثبات مذهبهم.

ثم قال: [ ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال من أهوائهم مخترعة، وفي أنفسهم مبتدعة، فحجتهم داحضة -أي: ذاهبة لا قيمة لها- وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم -أي: أحكام الله تعالى بأحكام العباد-، ومشيئته بمشيئتهم، وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؟ فيدعي أن إمامه في ذلك هو الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين، وسيداً من ساداتهم وعالماً من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان، ويرميه بالإثم والعدوان؛ ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه.

وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر، ورده على القدرية ما يسخن الله به عيونهم، ويظهر للسامعين قبيح كذبهم إن شاء الله تعالى وبه التوفيق ].

أي: أن أهل البدع دائماً يتشبثون بقول لرجل من أهل السنة، وهذه سمة وعلامة تميز أهل البدع دائماً: أنهم لا يركنون في الغالب في مواجهة الخصم إلى علمائهم؛ لأنهم يعتقدون أننا لا نعتبر علماءهم، فمثلاً: لو أراد شيعي أن يحاججنا في مسألة من مسائل النزاع لا يحتج بكلام أئمته، وإنما يحتج بكلام لإمام معتبر عندنا، وهذا المبتدع إما أن يكون فهم الكلام فهماً غير مراد، وإما أن يكون هذا النص عن إمامنا غير ثابت، وإما أشياء أخرى.

ولذلك إذا كان هناك نص في البخاري يدعو إلى محبة أهل البيت، فالشيعة يتشبثون جداً بهذا النص، ويلزموننا أن نكون وإياهم سواء في محبة أهل البيت، بدليل ما قد ورد في البخاري عندنا من وجوب محبة أهل البيت، نعم، نحن نحب أهل البيت، ونتقرب إلى الله بحبهم؛ فهم عترة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بحبهم واتباعهم ما داموا على الكتاب والسنة، فالشيعة يحتجون بهذا.

ودائماً نقول لهم: لم تحتجون بحديث في البخاري ؟ يقولون: لأنه كتاب معتمد عندكم، إذاً: إذا كان معتمداً عندنا فنحن الذين نحتج به لا أنتم، وإذا جاز لكم أن تحتجوا بما عندنا من أدلة؛ فإما أن تحتجوا بما في البخاري كله، وإما ألا تركنوا إلى دليل يوافق هواكم.

ولذلك من شأن أهل البدع أنهم ينتقون من كلام الخصم ما يوافق هواهم، ويغضون الطرف عن بقية كلامه، حتى وإن كان مناقضاً لما قد يحتج به الخصم، أو صاحب البدعة.

ظهر من الحسن البصري عليه رحمة الله كلام يفهم على وجهين، فقد تكلم في القدر بكلام محتمل، يعني: له وجه حسن ووجه غير حسن، وجه يوافق القدرية، ووجه يوافق أهل السنة فيما يتعلق بمسألة في القدر.

وإذا كان كلام الإمام الحسن البصري يفهم على وجهين فإنه يصار لما صرح به مراراً وتكرارً على جهة الإثبات، فهو له كلام في إثبات القدر لا نهاية له، وكلام محتمل يحتمل النفي ويحتمل الإثبات، فكلامه الذي يحتمل وجهين لا بد أن يحمل على كلامه الذي يحتمل وجهاً واحداً.

فأهل البدع احتجوا بكلام للحسن يحتمل وجهين، والقاعدة العلمية تقول: إذا كان الكلام يحمل عدة معان ولا مرجح ولا قرينة؛ فحينئذ هذا الموطن موطن نزاع ينبغي اعتباره واحترامه، لكن إذا كان الكلام يحتمل عدة معان، ولي كلام آخر ليس له إلا معنى واحد، فلا بد أن يحمل كلامي الغامض على كلامي الصريح الواضح.

هذه جزئية من الدفاع عن الإمام.

الجزئية الثانية: أنه قد ثبت بالنص الصريح الصحيح أن الحسن قال هذا الكلام في وقت غضب، ولا شك أن الرجل إذا قال كلاماً في وقت الغضب فإنه لا يدرك معناه، أو لا يقصد المراد منه ظاهراً، وهذا الكلام معفو عنه، ولذلك قال الأعرابي الذي فقد راحلته في الصحراء ثم وجدها: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهل يحق لأحد أن يتشبث بهذا؟ لا، فكذلك لا يحق لأهل البدع أن يتشبثوا بكلام الحسن البصري عليه رحمة الله إمام البصرة في زمانه، وسيد معظم من سادات التابعين؛ لا يحل لهم أن يحتجوا بكلامه، وإلا لو جاز لهم أن يحتجوا بهذا لقلنا لهم: يجب عليكم أن تحتجوا ببقية كلامه، فلماذا انتقيتم منه هذا النص فحسب، بل له في القدر ما يزيد على مائة نص، فلم تحتجون بواحد وتنسون بقية هذا العدد؟ لا شك أن الحامل على ذلك هو مرض قلوبهم.

الأمر الثالث: أن الحسن قال ذلك في موعظة، وليس في مجلس علم، ليس في مجلس تقرير المسائل العلمية بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، وإنما قال ذلك في مجلس وعظ، وذلك في مكة، والمعلوم أن مجالس الوعظ يتساهل فيها المرء في الوعيد الشديد، ويتعدى ربما الحد أو الخط العلمي على حسب حال السامع؛ حتى يهدده ويخوفه من الله عز وجل، وأنتم تعلمون قضية الاحتجاج بالضعيف فيما يتعلق بفضائل الأعمال أو بالوعظ والإرشاد.. وغير ذلك.

ولا تجد إماماً من الأئمة مهما كان متفنناً في علوم الحديث له مسلك في الوعظ إلا ويحتج بالضعيف وما دون الضعيف، كـابن الجوزي مثلاً هو شيخ الوعاظ معروف، وله كتاب في الموضوعات، وهو من أقوى وأشد الكتب، حتى غالى ونسب الوضع إلى صحيح مسلم في حديث من الأحاديث، قال: حديث موضوع وإن كان في مسلم ، ومع ذلك لو قرأت له كتاباً في الوعظ لوجدته قد ملأه بالأحاديث الموضوعة والباطلة والمنكرة فضلاً عن الضعيف، وإن كنا لا نوافق على هذا أيضاً، ونعتقد أن المواعظ لا تبنى إلا بما صح عن الله تعالى، وعن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.

لكني أقرر ما كان عليه العلماء وأئمة العلم والدين، فلا يمكن أبداً لعاقل أن يقول: أنا آخذ من كلام فلان نصاً وأدع مائة نص، لا يمكن إلا أن يكون صاحب هوى.

أقوال الحسن البصري في إثبات القدر

قال: [ عن حميد قال: كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: إن الأمر في يدي أصنع به ما شئت ]، وهذا نص يبين اعتقاد الحسن أن الأمور كلها بيد الله عز وجل.

[ وقال: من كذب بالقدر، فقد كذب بالقرآن ].

والمعلوم أن من كذب بالقرآن فقد كفر.

[ وعنه قال في قول الله تعالى: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119] قال: خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ]. أي: قبل أن يخلقهم علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، فجعل قسماً من خلقه في النار، وجعل قسماً من خلقه في الجنة قبل أن يخلقهم.

قال: [ وعن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت مع الحسن ، فقال لي رجل إلى جنبه: سله عن قوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، قال: فسألته عنها فقال: ومن يشك في هذا؟ ما من مصيبة بين السماء والأرض إلا في كتاب من قبل أن تبرأ النسمة ] أي: من قبل أن يخلق الله تعالى فاعلها، علمها فكتبها، فهي عنده في كتاب مكنون وفي رق منشور.

قال: [ وعن قرة بن خالد قال: سمعت رجلاً يسأل الحسن عن قول الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] قال: خلقهم للاختلاف ] أي: لاختلاف مصائرهم: فهذا في الجنة وذاك في النار.

[ وقال حميد : قال رجل للحسن : يا أبا سعيد! من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله! وهل خالق غير الله؟ الله خلق الشيطان، والله خلق الخير، والله خلق الشر فقال الشيخ: قاتلهم الله كيف يكذبون على هذا الشيخ؟! ] يعني: كيف يفتري القدرية الكذب على هذا الإمام الذي لم يقل يوماً من الأيام: إن الله تعالى لم يخلق الشر؟!

[ وقال ابن المبارك : جالست الحسن ثنتي عشرة سنة، فما سمعته يفسر شيئاً من القرآن إلا على إثبات القدر.

وعن يونس وحميد قالا: كان تفسير الحسن كله على الإثبات.

وعن منصور بن ذازان قال: سألت الحسن ما بين (الحمد لله رب العالمين) إلى (قل أعوذ برب الناس) ففسره على الإثبات ].

يعني: سألته عن القرآن كله من أوله إلى آخره فما فسره إلا على جهة إثبات القدر.

[ وقال حميد : كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أقول: الأمر بيدي، ولكن أقول: إذا أذنب أحدكم ذنباً فلا يحملنّ ذنبه على ربه، ولكن يستغفر الله ويتوب إليه ] يعني: لا يحل لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية، وهذا الكلام قررناه من قبل، وقلنا: الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب التي تنزل بالعبد دون المعايب التي تصدر منه.

قال: [ وقال كثير بن زياد : سألت الحسن عن هذه الآية: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60] قال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل ] يعني نحن لنا مشيئة، ولا علاقة لله تعالى بأفعال العباد.

[ وعن يونس بن عبيد عن الحسن في قول الله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:8-10] قال الحسن : قد أفلحت نفس أتقاها الله، وقد خابت نفس دساها الله ].

يعني: الذي يلهم النفس تقواها وفجورها ويزكيها ويدسيها هو الله عز وجل.

قال: [ وعن يحيى بن كثير العنبري قال: كان قرة بن خالد يقول لنا: يا فتيان لا تغلبوا على الحسن ؛ فإنه كان رأيه السنة والصواب ].

يعني: لا يضحك عليكم أحد ويقول: إن الحسن كان قدرياً، بل كان في باب القدر من أهل السنة، فلا يفتننكم أحد في هذا الإمام.

قال: [ وقال عوف : سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى ].

فمن يقول: إن الأمور كلها بيديه لا بد أنه سيبطل الأمر والنهي، ومن يقول: إن الله تعالى ما شاء الشر وما أذن في خلقه وإيجاده؛ فلا بد أنه يصل في نهاية الأمر إلى أن الأمر والنهي في الكتاب والسنة لا قيمة لهما.

قال: [ وعن ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن ونحن عنده، فقال: يا أبا سعيد أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل شهر رمضان، إنها ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله عز وجل كل خلق وأجل وعمل ورزق إلى مثلها ].

أي: من العام المقبل، وهذا يسمى عند العلماء: التقدير السنوي.

قال: [ وقال خالد الحذاء : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أخبرني عن آدم خلق للسماء أو للأرض؟ فقال: ما هذا يا أبا منازل ؟ -يعني: هذا سؤال عجيب أن يصدر منك- ثم قال: لا، بل للأرض، قال: قلت: فكان يستطيع أن يعتصم؟ -أي: من ذنبه الذي ارتكبه- قال: لا، فقلت: أرأيت لو استعصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له بد من أن يأكل منها؛ لأنه للأرض خلق ]، فهذا كلام إنسان يؤمن بالقدر، وأن الأمور كلها تجري بقدر.

قال: [ وعن ابن علية قلت: يا إمام فلو اعتصم؟ قال: فلم يكن له بد من أن يأتي على الخطيئة ]؛ لأنه قد كتبت عليه في اللوح المحفوظ، علمها الله تعالى منه فكتبها عليه.

قال: [ وعن الحسن قال في قول الله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم:32] قال: قد علم الله من كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة ] أي: إلى الجنة أو إلى النار، إلى الخير أو إلى الشر.

احتجاج أهل الباطل بالمتشابه والمحتمل من كلام العلماء والرد عليهم في ذلك

وهناك جماعة مبتدعة من الجماعات العاملة على الساحة لو أتيتهم وقلت لهم: إن عملكم هذا غير مشروع، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة؛ قالوا: الشيخ ابن باز أفتى بمشروعية هذا العمل. نقول لهم: هل تأخذون بكلام الشيخ ابن باز كله وبفتاواه كلها؟ لا، ونقول: لم لم يردوا إلى عالم من علمائهم؟ لأنهم يعلمون أنهم لا عالم عندهم ابتداء، ولكنهم يقولون: عندنا علماء، لكن حين النقاش والنزاع والمناظرة يعجزون أن يثبتوا أن في جماعتهم عالماً.

والعجيب كيف يكون هذا العمل صحيحاً وليس له رجل من أهل العلم يحله ويجيزه لهم؟! وأنا لا أتصور أن جماعة تحترم عقلها وتحترم منهجها لا يكون من بين أبنائها علماء، وبدل العالم عشرة وعشرون ومائة، لكنهم يحتجون بكلام رجل معتبر عندنا، ولا يحتجون بكلامه كله؟ وإنما يحتجون بكلام مشتبه يحتمل الرأي والرأي الآخر لهذا الإمام.

وأذكر أنه في عام (1983م) ذهب بعض الطلبة يسأل الشيخ ابن باز عن حكم عمل الجماعة الفلانية؟ قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي. وهذا كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدخل الجنة عجوز).

قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي، ثم هرعت إليه الجماعة، وقالوا: يا شيخ بلغنا أنك قلت كذا وكذا؟ قال: نعم أنا قلت هذا، قالوا: كيف، نحن لسنا سلفيين؟ قال: ألا تحبون السلف؟ قالوا: نعم، نحن نحب السلف، قال: هل يسعكم مخالفة السلف في العقيدة؟ قالوا: لا، لا يسعنا، بل لا بد أن نكون على مذهبهم في الاعتقاد، قال: أليس تتبعونهم فيما أحلوا وفيما حرموا؟ قالوا: نعم، نتبعهم، قال: إذاً: أنتم سلفيون.

هذه هي شهادة الشيخ، وقالها مداعبة، فيحتجون بها علينا ويقولون بمشروعية العمل الذي هم فيه، ودائماً يحيلون هذا الكلام للشيخ ابن باز.

والشيخ ابن باز رحمه الله يذكرنا بالإمام البخاري؛ فقد كان لطيف العبارة جداً، ولطيف النقد إلى أقصى حد، فما دام يرى احتمال العمل، وأنه يمشي ولا بأس به، وله من جوانب الخير الشيء الكثير؛ كان يترفق جداً في نقد العمل، فقال هذه الكلمة التي تحتمل معان متعددة، فهم قد يحتجون بها أو يحتجون به.

قال: [ كذب على الحسن ضربان من الناس: قومُ القدر رأيهم، فهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم.

وقوم في قلوبهم له حسد وبغض، يقولون: ليس من قوله كذا وكذا، وليس من قوله كذا وكذا ].

فينتقون من كلام الحسن كلاماً يوافق أهواءهم.

قال: [ وعن خالد الحذاء قال: قدمت من سفر فإذا هم يقولون: قال الحسن : كذا وكذا، فأتيته فقلت: يا أبا سعيد ، أخبرني عن آدم خلق للسماء أم للأرض؟ قال: بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة، قال: لم يكن منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:162-163]، قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله له ذلك ].

يعني: الشياطين لا تضل أحداً إلا إذا كتب الله تعالى له الضلال من قبل في الأزل.

ثم قال: [ وعن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر: فقلت: سمعت الحسن يقول: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [هود:48] قال: نجّى الله نوحاً والذين آمنوا معه وأهلك الممتعين، فجعلت أستقريه الأمم -أي: أمة أمة، ونبياً نبياً- قال بلال : وما أراه إلا كان حسن القول في القدر ].

يعني: ما أجاب إلا بإجابة موافقة لكلام الصحابة والتابعين في القدر.

[ وعن حمزة بن دينار قال: عوتب الحسن في شيء من القدر فقال: كانت موعظة فجعلوها ديناً ].

انظر هذا الكلام الجميل، فالكلام الذي فيه شيء من التجوز في الموعظة لا نتوقف عنده، وإنما يكون غرض الواعظ أن يعظ الناس في باب من الأبواب، والموعظة تكون في الغالب ارتجالية خاصة عند السلف، فما كانوا يحتاجون إلى ما نحتاج إليه نحن اليوم من الإعداد والحفظ والمدارسة، أو المراجعة والسؤال والجواب.. وغير ذلك، كان الواحد منهم إذا جاء إلى مجلس مثل هذا ليعظ في باب من الأبواب، كما كان ابن الجوزي يفعل، كانت بغداد كلها تجتمع له، فيقولون: يا إمام عظنا والملوك والأمراء والسلاطين وكل أصحاب الوجاهات والهيئات موجودون، فكان يقيم واحداً من مجلسه فيقول له: اضرب بيتاً من الشعر -وانظر إلى براعة ابن الجوزي- فيضرب بيتاً فينسج ابن الجوزي على قافية هذا البيت أي: على آخر حرف في البيت ينسج موعظة عظيمة شعراً أو نثراً لبعض الوقت، لا يخطئ هذه القافية.

وهذا لا يوجد في هذا الزمان، لكن قد يقال: عظنا يا شيخ في المحبة، أو عظنا عن الجنة والنار، وأما أولئك فكانوا ينطلقون بلا حدود، ومن ينطلق بلا حدود لا بد أن تصدر منه هفوات، لكن لو رجعت إلى أصوله العلمية تجد أنها تختلف تماماً عن مواعظه، ولذلك كتب هؤلاء العلماء في العلم كتباً أصيلة، وأما مواعظهم ففيها شيء من التجاوز، فلما عوتب الحسن في شيء من القدر قد بدا منه، قال: كانت موعظة فجعلوها ديناً.

كما وجد على الساحة الآن أن بعض الأفاضل تكلم بكلام يفهم منه تكفير مرتكب الكبيرة، ولا شك أن هذا ليس مذهباً لأهل السنة، بل هو مذهب الخوارج والمعتزلة، لكن المعتزلة جعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، فهو ليس مؤمناً ولا كافراً، ولكنهم خلدوه في نار جهنم في الآخرة.

فحينئذ لما كُلِّم الشيخ في ذلك اعتذر عن هذا، واعتذر على الملأ في نفس المكان الذي بدرت منه هذه البادرة، وليس عليه بعد ذلك شيء، وله كلام كثير فيما يتعلق بأحكام الكبائر وفق منهج أهل السنة، ولكن الصياد صاد هذا الخطأ، ثم صار ينفخ فيه هنا وهناك، ويغبش ويشوش على هذا الشيخ.. وغير ذلك من الكلام الكثير.

وأحد الحجازيين كذلك تكلم بكلام يفهم منه أن العاصي مخلد في النار، والمعصية أو العاصي اسم يطلق على من ارتكب كبيرة وصغيرة، ولا يتصور ابتداءً أنه يقصد الصغيرة؛ لأن هذا أمر لم يقل به إلا غلاة الخوارج، وهذا من أبرأ الناس عن مذهب الخوارج، كما أن له كلاماً آخر مضبوطاً على الأصول العلمية فيما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة.

ولما عرض هذا الكلام على الشيخ الألباني رحمه الله قال: هذا كلام، وإن كان فيه تجوز إلا أنه في معرض الوعظ، ولا يلام فاعله، إنما يستحب له أن يعتذر عنه، حتى لا يؤخذ عليه ويسجله التاريخ في صحيفته.

وهذا الكلام حق، فـالحسن لما عوتب في شيء من القدر قال: كانت موعظة فجعلوها ديناً.

إثبات السلف أن القدرية تكذب على الحسن في نسبة مذهبها إليه

ثم قال: [ وعن ابن عون قال: كنت أسير في الشام فناداني رجل من خلفي، فالتفت فإذا هو رجاء بن حيوة ، فقال: يا ابن عون! ما هذا الذي يذكرون عن الحسن ؟ قلت: إنهم يكذبون على الحسن كثيراً ].

[ وعن ابن عون قال: لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت؛ لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً -حتى يبرأ الحسن من هذه الكلمة- ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل ].

يعني: نحن تصورنا أن هذه الكلمة كلمة يسيرة، ولا أحد يتوقف عندها؛ لما ينقضها من نصوص عدة لنفس الإمام، وما كنا نتصور أنها تبلغ الآفاق، وهذا أمر ملاحظ بيننا تجد الواحد لما يقعد يتكلم كلاماً صحيحاً لا أحد يقول له شيئاً، وعندما يقول كلمة واحدة فيها غلط وخطأ ترى من ينشرها ويشيعها بين الناس من المنصورة ومن البحيرة ومن سنغافورة، فلماذا الإخوة المستمعون ما نبهوه.

إذاً فالخطأ في المحاضرة أو عند الأسئلة كان بإمكان أحد السامعين للخطأ أن يقول لي: هل يجب علينا الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به أم لا؟ فقد أكون أخطأت فهم السؤال.

فالإيمان بالقضاء والقدر والرضا به واجب، ولكننا لا نرضى بالقدر الكوني، فمن القضاء ما هو قضاء شرعي، ومنه ما هو قضاء كوني، أو قدر شرعي ديني مبني على المحبة والرضا، وقدر قدري كوني، وهذا في باب المعاصي، فهل نحب المعاصي ونرضاها؟ لا.

إذاً: الإجابة المحكمة: أننا نؤمن بالقضاء والقدر، والإيمان به واجب، وهو ركن من أركان الإيمان.

وأما الرضا فنحن نرضى بالقضاء الشرعي، ولا نرضى بالقضاء الكوني في باب المعاصي؛ لأن المعاصي يبغضها الله عز وجل؛ ولذلك قال ابن عون : [ لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً، ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل، وكان ابن عون يقول: بيننا وبينكم حديث الحسن ].

أي: مجالس التحديث العلمي التي كان الحسن يحدث فيها، وليس إذا طلعت منه كلمة في مجالس الوعظ نجعلها ديناً ونحتج بها، لا، بيننا وبينكم كلامه العلمي المؤصل في مجالس التحديث، وأما دون ذلك فلا.

ثم قال: [ وقال أبو هلال : رفعت إلى حميد بن هلال وأيوب وهما قاعدان عند باب عمرو بن مسلم فذكرا الحسن وفضله، فقال حميد : لوددت أنه أسهم على أهل البصرة غرم كثير يؤخذون به وأن الحسن لم يتكلم بتلك الكلمة ] يعني: التي طار بها أهل البدع.

[ قال سفيان : سمعت أبي - وكان ثقة - عن العلاء بن عبد الله بن بدر قال: دخلت على الحسن وهو جالس على سرير هندي فقلت: وددت أنك لم تتكلم في القدر بشيء، فقال: وأنا وددت أني لم أكن تكلمت فيه بشيء ].

ألا يكفي هذا النص الصحيح على اعتبار أنه تكلم بكلام خالف فيه أهل السنة؟ ألا يكفي هذا برجوعه وتوبته، إذاً فلماذا نحتج بكلام مخالف للأصول بعد التوبة.

[ قال حماد بن زيد : سمعت أيوب يقول: إن قوماً جعلوا غضب الحسن ديناً.

وعن المبرك عن الحسن في قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [الأعراف:179] قال: خلقنا ].

[ وعن الحسن في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] قال: عهد ربك ألا تعبدوا إلا إياه.

وعن عاصم الأحول قال: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالحق -قال ذلك مرتين-، إن الله عز وجل قدر خلقاً، وقدر أجلاً، وقدر بلاءً، وقدر مصيبة وقدر معافاة، وقدر معصية ] يعني: قدر تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً.

ثم قال: [ فمن كذب بشيء من القدر؛ فقد كذب بالقرآن ].

[ وعن خالد الحذاء قال: قدم علينا رجل من أهل الكوفة، وكان مجانباً للحسن لما كان بلغه عنه في القدر، حتى لقيه فسأله رجل أو سئل الحسن في حضرة الكوفي عن قول الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، قال الحسن : لا يختلف أهل رحمة الله، (ولذلك خلقهم) قال: خلق أهل الجنة للجنة، وخلق أهل النار للنار، فكان الرجل يذب عن الحسن ].

فالكلمة السابقة إما أن تكون صدرت من الحسن في مكة كما جاء في بعض الروايات، وإما في البصرة حيث موطنه ومنزله، فطارت إلى الكوفة فسمعها رجل من أهل السنة في الكوفة، ولما سئل الحسن في حضرته، وتكلم بكلام منضبط في القدر؛ كان هذا الكوفي بعد ذلك يدفع عنه كل من ينال من عرضه.

قال: [ وعن حميد قال: قدم الحسن مكة فكلمني فقهاء مكة أن أكلمه فيجلس لهم يوماً يعظهم فيه، فكلمته، فقال: نعم، فاجتمعوا وهو على سرير فخطب يومئذ، فسألوه عن صحيفة طولها من هاهنا إلى ثمة -يعني: سألوه عن صحيفة عريضة طويلة، فسألوه عنها من أولها إلى آخرها- فما أخطأ يومئذ إلا في شيء واحد، قال: أربعون شاة بين رجلين فقال: منها شاة ].

أي لما سئل: يا إمام! أربعون شاة بين رجلين هل فيها زكاة؟ قال: واحدة، من كل أربعين شاة شاة، قالوا: يا إمام هذا خليط بين اثنين، قال: في كل أربعين شاة خليط أو لا.

وهذا مذهب له، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إذا كان الاثنان ترعى غنمهما مختلطة سوياً، وتبيت سوياً.

ومذهب الجمهور غير ذلك، لكن لا يقال: إنه أخطأ؛ لأن هذا مذهب له.

ثم قال: [ فقال رجل: يا أبا سعيد ، من خلق الشيطان؟ فقال: سبحان الله! وهل من خالق غير الله؟ -أي: الله خلق الشيطان، وخلق الخير، وخلق الشر- فقال رجل: ما لهم قاتلهم كيف يكذبون على هذا الشيخ؟!

وعن الحسن في قول الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين الإيمان ] يعني: وقعوا في الكفر، ومن الذي أوقعهم في الكفر؟ إنه الله، أراده لهم إرادة كونية قدرية.

[ قال حميد : قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة ففسره جميعاً على الإثبات.

وسألته عن قوله تعالى: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشعراء:200] قال: الشرك سلكناه في قلوبهم.

وسألته عن قوله: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63] قال: أعمال سيعملونها لم يعملوها بعد ] يعني: علم الله تعالى ما هم عاملون، وهذا إثبات في القدر.

[ وسألته عن قوله: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:162-163] قال: ما أنتم عليه بمضلين، إلا من هو صال الجحيم.

وعن حميد قال: سألت الحسن عن هذه الآية: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19] قال: اقرأ ما بعدها، فقرأت: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] قال: هو هكذا، خلق هكذا ] يعني: علم الله تعالى منه ذلك فخلقه على علم أزلي.

ثم قال: [ وقال حميد : عن الحسن أنه كان إذا قرأ سورة هود فأتى على قوله تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48] حتى يختم الآية، قال الحسن : فأنجى الله نوحاً والذين آمنوا معه وأهلك الممتعين؛ حتى ذكر الأنبياء، كل ذلك يقول: أنجى الله فلاناً، أنجى الله فلاناً وأهلك الممتعين ]، فالنجاة والهلاك بيد الله عز وجل.

مناظرة بين رجل من أهل السنة مثبت للقدر وغيلان الدمشقي القدري

[ وعن غالب بن عبيد الله العقيلي عن الحسن قال: اختلف رجل من أهل السنة وغيلان الدمشقي في القدر، فقال: بيني وبينك أول رجل يطلع من هذه الناحية، قال: فطلع أعرابي قد طوى عباءة فجعلها على عاتقه، فقالا للرجل: قد رضينا بك فيما بيننا، قال: قد رضيتما؟ قالا: نعم، قال: فطوى كساه وربعه ثم جلس عليه، ثم قال: اجلسا بين يدي، فقال للسني: تكلم فتكلم، ثم قال لـغيلان تكلم فتكلم، قال: قد فهمت قولكما -يعني: قد فهمت أصل الخلاف الذي بينكما- فأيداني بثلاث حصيات، قال: فصفهن بين يديه وفرق بينهن، ثم قال للسني: قلت أنت: لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، ولا يزحزحه من النار إلا برحمة الله؟ قال: نعم.

ثم قال لـغيلان : قلت أنت: لا يدخل الجنة إلا بعمله، ولا يدخل النار أحد إلا بعمله؟ قال: نعم، قال: فهذا رجل قال: لا أعمل خيراً قط ولا شراً قط، ولا أدخل هذه ولا هذه أفمتروك هو بلا جنة ولا نار ].

يعني: أنت قلت: يدخل الجنة والنار فقط بالعمل، وهذا يقول: يدخل الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، فقال لـغيلان: الرجل لا يعمل خيراً ولا يعمل شراً، فإذا كان دخول الجنة والنار متعلقاً بالعمل إذاً فهذا لا يدخل الجنة ولا يدخل النار، فأين سيذهب؟!

ثم قال: [ وقد قال الله عز وجل: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]؟! فقال غيلان : لا، فقال لـغيلان : قم مخصوماً؛ فقال الحسن : ذلك هو الخضر عليه السلام ].

يعني: أن الرجل الذي كان يقضي بينهما هو الخضر عليه السلام، سواء كان الخضر أو غير الخضر فهذه مسألة نزاع، وإذا قلنا هو الخضر فسنتوصل بعد ذلك إلى مسائل أخرى متعلقة بـالخضر ، لكن ابق على ما أنت عليه ولا تخرج عن ذلك، واعتقد أنه الخضر إذا كنت تعتقد ذلك، أو أنه غير الخضر، سواء كان ذلك في مجال الإثبات والتدقيق العلمي صحيحاً أو غير صحيح، فهذا غير مهم الآن.

قال: [ وقال الحسن : جف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتبرئة من الله للمشركين ].

ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير في القدر

قال: [ وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: نظرت في بدء الأمر ممن هو -يعني: في أصل الخليقة بخيرها وشرها ممن هو- فإذا هو من الله، ونظرت على من تمامه؛ فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه؛ فإذا ملاكه الدعاء ].

يعني: إذا كان ابتداء الأمر وانتهاؤه من الله عز وجل بخيره وشره؛ فنحن لا نملك إلا الدعاء أن يصرف الله عنا البلاء والشر، وأن يرزقنا الخير.

[ عن مطرف قال: ليس لأحد أن يصعد فوق بيت فيلقي نفسه، ثم يقول: قدر لي ]؛ لأن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المعصية.

[ ولكنا نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء؛ علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا ]، وهذا كلام جميل وقوي.

[ وعنه قال: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه، حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه.

وعنه قال: إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر وإليه يصيرون ]، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام دائماً يقول لأصحابه الذين يسألونه: (يا رسول الله، أترى ما نحن عاملون ألشيء مضى وانتهى، أم لشيء أنف؟ قال: بل لأمر قد فرغ منه، جف به القلم، وطويت به الصحف، قالوا: يا رسول الله، فلم العمل إذاً؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

فقوله: (إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر، وإليه يصيرون) أي: يصيرون إلى ما قدر وكتب في اللوح المحفوظ، وهم عاملون بعلم الله السابق الجلي.

ما روي عن محمد بن سيرين في القدر

قال: [ عن محمد بن سيرين قال: إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قبله يأمره وينهاه.

وقال ابن سيرين : ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علماً جعله كتاباً ].

يعني: ليس بمستغرب إثبات علم الله تعالى الأزلي، ولا بد من إثبات علم الله؛ لأن من أنكر هذه المرتبة ورد علم الله، وقال: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها؛ فقد خرج من الملة.

ويلزم من ذلك إثبات أن الله تعالى علم في الأزل كل ما يعمله العاملون، فكتبه عليهم، وسجله في صحائفهم، فما هي الغرابة في هذا، ألا تثبتون علم الله وأنه أزلي سابق على خلق الخلق؟ بلى، ألا تثبتون أن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش؟ فإما أن تقولوا: إن الله لم يكن عالماً ثم علم، وإما أن تقولوا: إن الله تعالى عليم وعلمه أزلي ليس مخلوقاً ولا حادثاً؛ لأن صفات الله تعالى كلها غير مخلوقة، فحينئذ نقول: إن الله تعالى في باب القدر علم ما العباد عاملون، فكتبه في اللوح المحفوظ ليس ظلماً للعباد؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وتمييزه بالعقل عن بقية الحيوانات والمخلوقات، وتركيب الهدى والضلال فيه والخير والشر؛ علم أنه إذا عرض عليه الخير يأنف منه ويمقته ويقدم على الشر، فلما علم الله تعالى أن عبده هذا سيختار الشر مع قيام الحجة عليه؛ كتب ذلك عليه، فلا غرابة ولا ظلم حينئذ.

[ وقال ابن سيرين : يجري الله الخير على يدي من يشاء، ويجري الشر على يدي من يشاء ] أي: أن الخير والشر بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى شاء الشر، وأذن في وجوده وخلقه، وأن المرتكب لذلك والعامل والمباشر والمكتسب للشر والخير بجوارحه هو العبد.

[ وعن عثمان البتي ؛ قال: دخلت على ابن سيرين فقال لي: ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت به عليه، قال: فرفع شيئاً من الأرض فقال: ما يزيد على ما أقول لك مثل هذا، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً وفقه لمحابه وطاعته، وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك اتخذ عليه الحجة، ثم عذبه غير ظالم له ].

يعني: من أراد به شراً أقام عليه الحجة بالكتب والرسل وبالعقل المميز، ثم أهلكه بعد ذلك غير ظالم له.

ما روي عن سعيد بن جبير في القدر

قال: [ عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] قال: كما كتب عليكم تكونون؛ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ]. يعني: كما كتب عليكم في الأزل تكونون؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

قال: [ وعنه في قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] قال: ألزمها فجورها وتقواها.

وعنه في قوله: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.

وفي قوله: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف:37] قال: ينالهم ما كتب عليهم من شقوة أو سعادة، من خير أو شر ].

ما روي عن مجاهد بن جبر المكي في القدر

[ عن مجاهد بن جبر المكي في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27] قال: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها.

وعنه في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها.

وفي قول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30] قال: الدين والإسلام، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] قال: لدينه.

وعنه في قوله تعالى: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:117] قال: بمن قدر له الهدى والضلالة قبل أن يخلقهم.

وعن مجاهد في قوله: [ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] قال: في أم الكتاب ].

و(كل) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم، (وكل شيء) أي: من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهدى وضلال، وإيمان وكفر، كل ذلك في أم الكتاب مكتوب قبل أن يخلق الله تعالى الخلق.

قال: [ وعن مجاهد في قوله: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] قال: ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها: شقي، أو سعيد.

وعن مجاهد في قوله تعالى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63] قال: لهم أعمال لا بد لهم أن يعملوها ] أي: خطايا من دون تلك الكبائر هم لها عاملون.

[ وعن حميد بن قيس الأعرج قال: صليت إلى جنب رجل يتهم بالقدرية، فلقيت مجاهداً فأعرض عني، فقلت له، فقال: ألم أرك صليت إلى جنب فلان؟ قلت: إنما ضمتني وإياه الصلاة ] أي: أنا لم أعرف أنه بجانبي، وإنما هذا بسبب الصلاة.

ما روي عن محمد بن كعب القرظي في القدر

قال: [ عن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد ].

يعني: أن الخلق منذ آدم إلى قيام الساعة لو اجتمعوا على أن يعصوا الله تعالى بمعصية لم يأذن فيها ما قدروا على ذلك، وهذا معناه: أن المعاصي لا تكون إلا بقدر الله عز وجل، وأنه أرادها إرادة كونية قدرية، وليست إرادة شرعية دينية؛ لأن الله تعالى يبغض المعاصي، ولا يأذن سبحانه أن يكون في الكون إلا ما أراد من خير أو شر، فلو أراد إنسان أن يطيع الله تعالى طاعة لم يأذن الله بها لا يستطيع أن يفعلها مع أنها طاعة.

فمثلاً: لو ذهبت في قضاء حاجة أخيك وأنت في غاية الحماس، ولكن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن هذه الطاعة وهذه الخطوات لا تتم؛ فسيبعث الله لك أي شيء يصرفك عن هذه الطاعة؛ لأن الله لم يأذن بها مع أنها طاعة.

والشر كذلك؛ يذهب الإنسان من هنا إلى هناك لأجل ارتكاب معصية معينة، ولكن الله تعالى بعزه وسلطانه وجبروته ما أراد أن تقع هذه المعصية فيصرفه عنها، وإذا أراد الله تعالى أن تكون منك المعصية قدرها عليك، ويسر لك أسبابها؛ لأنه علم أزلاً أنك ستختار هذا الطريق، وليس في هذا أدنى احتجاج بالقدر على المعصية أبداً، ولا يقول قائل: ربنا هو الذي قدرها علي.

قال: [ وعن ابن وهب قال: قال رجل لـمحمد بن كعب القرظي: ما أبعد التوبة! قال: فتبسم، قال: بل ما أحسن التوبة وأجملها ] يعني: كان عليك أن تقول: ما أحسن التوبة لا ما أبعد التوبة؛ لأن معنى قولك: (ما أبعد التوبة) أنك أنت الذي تملك التوبة، يعني: إذا كنت أريد أن أتوب أتوب، وإذا ما أريد أن أتوب لم أتب، لا؛ التوبة بيد الله عز وجل، والذي بيد الله لا يصح وصفه بالبعد.

[ فقال الرجل: أرأيت إن قمت من عندك فأتيت المنبر فعاهدت الله عنده ألا آتي الله بمعصية أبداً، قال: فمن أعظم ذنباً منك، أو أعظم جرماً منك إذا تأليت على الله ألا ينفذ فيك أمره ].

أي: كأن يقول شخص: أقسم بالله ثلاثاً لا أعصي الله أبداً، فما يدريك بذلك؟!

وقد كان الشيخ الألباني يقول بعد كل خطبة جمعة: قولوا ورائي: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا على ألا نفعل. فأنت مطلوب منك أن تستغيث وتجأر إلى الله عز وجل بالدعاء أن يحول بينك وبين المعصية، أما أن تحلف بينك وبين الله ألا تأتيه بمعصية أبداً فإذاً هو لمن يغفر؟ ومن يرحم؟ ويتوب على من؟ فستعطل كثير من أسمائه وصفاته، وإلا فالمعصية تقع بقدر الله، والطاعة تقع بقدر الله عز وجل، لكن الله تعالى يعاقب على المعصية، ويثيب على الطاعة.

ومعنى كونه قدر المعصية أي: أذن في خلقها وإيجادها، ولكنه يبغضها ويكرهها ويحذر منها، ورتب عليها العقوبات المناسبة، فلكل معصية عقوبة تناسبها؛ حتى لا يأتي شخص ويقول: ألست تقول: إن كل شيء بقدر؟ فأنا زنيت وسرقت وقتلت وشربت الخمر، فلماذا تضربونني وتعذبونني على ذلك؟ كما حصل في زمن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما شرب شارب الخمر، فقال له عمر : ما الذي حملك على ذلك وأمر بضربه؟ قال: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟! قال: نعم نضربك بقدر الله. يعني: الذي قدر عليك المعصية أيضاً قدر عليك العقوبة.

قال: [ قال محمد بن كعب القرظي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو على المنبر بيده اليمنى، قال: (هذا كتاب بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، قال: ثم قبض يده اليمنى ومد اليسرى فقال: هذا كتاب الله بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينتقص منهم، وليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاء حتى يقال: كأنهم هم هم، بل هم هم، ثم يستنقذهم الله عز وجل قبل الموت ولو بفواق ناقة، حتى يسلك بهم طريق أهل السعادة، وليعمل أهل النار بعمل أهل السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ثم يسلك بهم ولو بفواق ناقة طريق أهل الشقاوة، والشقي من شقي بقضاء الله، والسعيد من سعد بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم) ].

يعني: لا أحد منا يضمن على الله تعالى الجنة، ولكن يجتهد المرء قدر طاقته في طاعة الله عز وجل، والذي يختم له به هو في علم الله، وكم من إنسان عمل بطاعة الله دهراً من عمره، ثم ارتد قبل موته ومات على الردة، وكم من إنسان حارب الله تعالى ورسوله، وأراد الله تعالى له الهداية قبل موته بأيام أو بلحظات؛ فتاب وآمن، وربما لم يصل ولم يصم ولم يزكِ، تاب ومات فصار من أهل الجنة وكأنه لم يعمل شراً قط، بل نطق بشهادة التوحيد ومات على ذلك، فإذا كانت الأعمال بالخواتيم، وكلنا مرهونون بعلم الله عز وجل، وعلم الله تعالى نافذ لا محالة في الخلق؛ فعلينا بملاك الأمر وهو الدعاء والتضرع أن يجعلنا الله تعالى وإياكم من أهل السعادة، ولا يجعلنا من أهل الشقاوة.

ثم قال: [ عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت الأقوات قبل الأجساد -يعني: كان الرزق موجوداً قبل خلق المرزوق- وكان المقدر قبل البلاء -يعني: كان المكتوب في اللوح قبل البلاء- ثم قرأ: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] ] أي: التقى ماء المرأة وماء الرجل على الأمر المكتوب في اللوح المحفوظ في الأزل، أو كان مقدراً معلوماً لله مكتوباً في اللوح المحفوظ، فلا غرابة حينئذ.

قال: [ وعن سليمان بن حميد أنه كان جالساً مع محمد بن كعب القرظي فحدثهم عن امرأة قدمت من المجوس ومعها ابن لها، فأسلمت وحسن إسلامها، فكبر ابنها فكذب بالقدر، ودعا أمه إلى ذلك، فقالت: يا بني! هذا دين آبائك المجوس، أفترجع إلى المجوسية بعد إذ أسلمنا؟ قال سليمان بن حميد : كان نافع مولى ابن عمر قريباً من مجلسه، فسمع حديثه فأقبل على القرظي فقال: صدقت، والذي نفسي بيده إنه لدين المجوسية ].

يعني: إنكار القدر هو دين المجوس، ولذلك جاء النص المرفوع: (القدرية مجوس هذه الأمة)؛ لأن إنكار القدر هو دين المجوس.

قال: [ عن القرظي في قوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]قال: قضيت ما أنا قاض ] يعني: سيقع منكم ما قد علمه الله تعالى في الأزل وكتبه.

[ وعن أبي داود أن محمد بن كعب القرظي قال لهم: لا تجالسوهم -أي: أهل القدر؛ بل أهل البدع عموماً- والذي نفسي بيده لا يجالسهم رجل لم يجعل الله عز وجل له فقهاً في دينه، وعلماً في كتابه إلا أمرضوه ].

في نفس هذا الكتاب مر بنا باب النهي عن صحبة ومجالسة قوم يمرضون القلوب. وهم أهل البدع، إلا لرجل عالم متمكن فله ذلك؛ يقوم بالرد عليهم وإقامة الحجة عليهم؛ ولذلك قال هنا: لا يجالسهم رجل لم يجعل الله عز وجل له فقهاً في دينه، وعلماً في كتابه إلا أمرضوه.

وهذا يدل على أنهم لا سلطان لهم على من كان صاحب علم وفقه.

ثم قال: [ والذي نفسي بيده لوددت أن يميني هذه تقطع -على كبر سني- وأنهم أتموا آية من كتاب الله ] يعني: هم حين يحتجون بآية يأخذون منها ما يوافق هواهم في الظاهر، يأخذون أولها ويتركون آخرها أو العكس.

ثم قال: [ ولكنهم يأخذون بأولها ويتركون آخرها، ويأخذون بآخرها ويتركون أولها، والذي نفسي بيده لإبليس أعلم بالله منهم، يعلم من أغواه، وهم يزعمون أنهم يغوون أنفسهم ويرشدونها ].

يعني: أن القدرية يتصورون أن الغواية والرشاد بأيديهم، وإبليس يعرف أن الله تعالى هو الذي أغواه، فإذاً إبليس أحسن منهم، فهل إذا مرض إبليس يوجد أحد يعوده لا أو إذا مات يوجد من يصلي عليه ويشيعه؟ لا، فإذاً من باب أولى القدرية إذا ماتوا فلا تشيعوهم، وإذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا جلسوا فلا تجالسوهم، وهذه هي وصية أهل العلم دائماً للأمة.

ما روي عن وهب بن منبه في القدر

قال: [ وعن وهب بن منبه قال: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله عز وجل وفي التوراة: إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الخير وخلقت من يكون الخير على يديه، فطوبى لمن خلقت الخير أن يكون على يديه، وإني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الشر وخلقت من يكون الشر على يديه، فويل لمن خلقت الشر أن يكون على يديه ].

هذا النص موجود في التوراة، فقد كان رحمه الله كثير الرواية من الكتب السابقة.

[ وعنه قال: الكتب بضع وتسعون كتاباً -يعني: الكتب السماوية التي نزلت من السماء بضع وتسعون كتاباً- قرأت منها بضعاً وسبعين كتاباً، فوجدت في كل كتاب منها: من يزعم أن إليه شيئاً من المشيئة فقد كفر ].

يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين الخلائق، ولم يخالف في ذلك إلا المجوس ومن بعدهم من القدرية.

[ وعن يزيد الخرساني قال: بينما أنا ومكحول إذ قال: يا وهب بن منبه! أي شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرم محمداً بالنبوة لقد قرأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتاباً، منه ما يسر ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئاً من قدر الله فهو كافر بالله، فقال مكحول : الله أكبر ].

يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين جميع الشرائع.

ما روي عن طاوس بن كيسان اليماني في القدر

قال: [ عن طاوس اليماني قال: اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم ] أي: هذا مسلك خطير جداً، والكلام فيه بحساب دقيق جداً؛ فحين تكلم الحسن البصري ، وكذلك مكحول حمل أهل البدع كلامهما في القدر على حسب أهوائهم، ولم يلتفتوا إلى ما جاء عنهما من الإثبات للقدر.

[ وعن ابن طاوس عن أبيه في قول الله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] قال: وأنا قدرتها عليك ].

أي: وما أصابك من سيئة فمن نفسك كذباً واختلاقاً، ومن الله عز وجل خلقاً وإيجاداً؛ ولذلك قال: (وأنا قدرتها عليك).

ما روي عن مكحول الشامي في القدر

قال: [ وعن أيوب قال: سمعت مكحولاً يقول لـغيلان : لا تموت إلا مفتوناً ] أي: غيلان الدمشقي ، وسيأتي الكلام عن هذا.

قال: [ وعن محمد بن عبد الله الشعيثي قال: سمعت مكحولاً يقول: بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده ].

أي: بئس ما خلف غيلان الدمشقي محمداً عليه الصلاة والسلام على قومه وأمته.

ثم قال: [ وحلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق فيخرج منه ].

يعني: كان مكحول إذا رأى غيلان يمشي في السوق يرجع من السوق ويخرج منه.

قال: [ قال أبو داود السجستاني : كان غيلان نصرانياً.

عن إبراهيم بن مروان قال: قال لي أبي: قلت لـسعيد بن عبد العزيز : يا أبا محمد ! إن الناس يتهمون مكحولاً بالقدر، قال: كذبوا، لم يكن مكحول بقدري.

وعن الأوزاعي قال: لم يبلغنا أن أحداً من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ، ومكحول ، فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل ].

يعني: افتراء وكذب على الحسن ومكحول .

قال: [ وقال الأوزاعي : لا نعلم أحداً من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ، ومكحول ، ولم يثبت ذاك عنهما.

قال أبو مسهر : كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولاً ويدفعه عن القدر ].

ما روي عن عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وغيرهم في القدر

قال: [ عن عكرمة في قول الله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] قال: لا يرجعون إلى التوبة.

وعن عطاء الخراساني في قول الله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] قال: من عظامهم وجلودهم، وذلك كتاب حفيظ.

وعن قتادة في قوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18] قال: حكيم في أمره، خبير بخلقه.

وعن سعيد بن أبي عروبة قال: جاء رجل إلى قتادة فقال: يا أبا الخطاب ما تقول في القدر؟ فقال: رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم؟ قال: بل رأي العرب، قال: إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم أنشده بيتاً من شعر.

قال أبو داود : وحدثت عن الأصمعي عن وهيب عن داود بن أبي هند قال: اشتقت القدرية من الزندقة، وأهلها أسرع شيء ردة، هكذا قال الأصمعي .

وقال زياد بن يحيى الحساني : ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى ].

وإن كنا نفرح بكل من يأتي بأسباب العتق من النار، لكن لنعلم أن البلايا والفتن ما ظهرت في الأمة إلا من كثرة من دخل في الدين من المجوس واليهود والنصارى.. وغيرهم؛ فمعظم الشر كان منهم.

ما روي عن زيد بن أسلم وأبي صالح وسعيد بن عبد العزيز وأبي حازم في القدر

قال: [ عن زيد بن أسلم قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس.

قال الله عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

وقال الملائكة: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32].

وقال شعيب: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا [الأعراف:89].

وقال أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

وقال أهل النار: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106] ] أي: التي كتبتها علينا في اللوح المحفوظ.

ثم قال: [ وقال أخوهم إبليس: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] ]، فإبليس يعترف بأن الغواية بيد الله عز وجل، والقدري يقول: لا، نحن إذا شئنا أغوينا، وإذا شئنا أرشدنا، يعني: أن الغواية بأيدينا.

قال: [ عن أبي العالية في قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30].

وعن أبي صالح في قوله: يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف:37] قال: نصيبهم من العذاب ] أي: العذاب المذكور في الكتاب.

[ وعن سعيد بن عبد العزيز: لما نزلت: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] قال وأبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا ] أبو جهل مع أنه فصيح أضله الله وأعماه عن المراد، والله عز وجل يقول: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فظاهر الآية أن الله عز وجل يخيرنا بين الإيمان والكفر، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد من ذلك التهديد والوعيد، فالحق واضح والباطل واضح، فالذي يريد أن يختار يختار، مع أنه لا يختار إلا بقدر.

قال: [ لما نزلت: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزلت: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] ].

فأهل البدع أخذوا أول الآية وتركوا آخرها، فنقول لهم: إما أن تأخذوا آخرها مع أولها، وإما أن تتركوا النص كله، وقد صنف في قضايا الإيمان والكفر في هذا الزمان أناس، ولم ينصفوا فيما كتبوا؛ فإنهم أخذوا من الآيات ومن أقوال أهل العلم ما يوافق مذهبهم الذي يذهبون إليه، وهذه هي طريقة أهل البدع، مع أن هؤلاء الكتاب ليسوا من أهل البدع.

قال: [ عن أبي حازم قال: إن الله عز وجل علم قبل أن يكتب، وكتب قبل أن يخلق ].

أي: علم سبحانه ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فالعلم والكتابة أسبق من العمل والعامل لها، علم سبحانه ذلك بالعلم الأزلي السابق.

ثم قال: [ فمضى الخلق على علمه وكتابه ].

يعني: جرى من الخلق أعمال الخير والشر التي علمها الله تعالى منهم، فكتبها في اللوح المحفوظ.

[ وعن الحسن بن محمد بن علي قال: لا تجالسوا أهل القدر.

وقال حماد: ولا أعلمني إلا قد سمعته من ثابت مراراً أن الحسن بن علي كان يقول: قضي القضاء، وجف القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا ].

يعني أن كل الذي يعمله العباد ما هو إلا ترجمة عملية لعلم الله السابق، وكتابة هذا العلم في اللوح المحفوظ.

أقولي قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الإبانة - ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net