إسلام ويب

جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، والله أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو كانت في جانب المناهي كالمعاصي، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية، التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية.

معنى قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

في الدرس الماضي تعرضنا لتفسير قول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -أي: ينازعونه فيه، فيأخذون منه ويردون عليه- فأنزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:47-49].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع في ماء زمزم، وقد ابتلت أسافل ثوبه، فقلت له: قد تُكلم في القدر -أي: أن الناس قد خاضوا في القدر- فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48].

ثم قال: لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه.

يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق خير والشر، فخير الخير السعادة. وشر الشر الشقاوة].

أنواع الذين تكلموا في القدر

وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له تفسير أوضح من هذا الكلام في تفسير هذه الآية في شفاء العليل، فقال رحمه الله في الباب التاسع في تفسير قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. بعد ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مخاصمة قريش للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: والمخاصمون في القدر نوعان -أي: الذين تكلموا في القدر نوعان من الناس-:

أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، أي: أنه لا يعتقد أن الأمر والنهي صدر من الله عز وجل، كالذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148].

والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق.

والطائفتان خصماء الله عز وجل.

قال عوف : من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، ولذلك لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الإيمان بالقدر.

وقال: إن الله تبارك وتعالى قدر أقداراً، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى.. كل ذلك من عند الله عز وجل.

قال الإمام أحمد : القدر هو قدرة الله عز وجل، إذا شاء أمراً قال له كن فكان.

قال: واستحسن ابن عقيل -وهو أبو الوفاء بن عقيل- هذا الكلام جداً حينما سمعه عن الإمام أحمد، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو بلا شك كما قال، فالقدر هو قدرة الله عز وجل، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها.

وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم.

مراتب القدر

ومراتب القدر أربع، وأولها: مرتبة العلم.

أي: علم الله عز وجل بما هو كائن إلى قيام الساعة.

فالله عز وجل علِم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما علم ذلك كتبه.

وهذه هي المرتبة الثانية، فكل شيء بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ الذي لا يلحقه محو ولا تبديل ولا تغيير، فالمحو والتبديل والتغيير إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، ولذلك يقول الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] أي: الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً، ولا تبديلاً ولا تغييراً غير الذي فيه.

فالله عز وجل كتب علمه الأزلي، وما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، ولا يخفى عليه شيء قبل أن يخلق الخلق.

ولذلك روى مسلم في صحيحه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ولا بد أنه حينما عَلِمه كَتَبه، والله عز وجل عالم وعليم سبحانه وتعالى، فعلم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك منه خلق القلم، وهو أول مخلوق لله عز وجل على أرجح الأقوال، كما في الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب القلم.

فأول مرتبة هي إثبات العلم لله عز وجل، فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، وكل ذلك لديه مشاهد معلوم، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية.

وهذا بخلاف ما يقوله صناديد القدرية: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن أي واحد من الحاضرين إذا أراد أن ينصرف من المسجد فإن الله تعالى لا يعلم إلى أين ينصرف يميناً أم شمالاً، زاحفاً على يديه أم ماشياً على قدميه؟ فالله لا يعلم ذلك إلا بعد أن يمشي العبد! وهذا بلا شك كفر، ولذلك أجمعت الأمة على كفر من أنكر العلم الأزلي السابق لله عز وجل.

والله عز وجل علم ذلك فكتبه، فالذي ينفي العلم عن الله عز وجل لا بد وأنه ينفي الكتابة، والقلم يكتب الذي كان في علم الله بأمر الله عز وجل، فإذا كان النافي ينفي العلم فلا بد وأن ينفي الكتابة كذلك.

المرتبة الثالثة: وهي مرتبة عظيمة، ولعلها بيت القصيد، وهي: مرتبة المشيئة والإرادة لله عز وجل.

والمشيئة أو الإرادة نوعان: مشيئة دينية شرعية، مبناها على المحبة والرضا، وموضوعها الأمر والنهي.. قال الله افعل، أو نهي الله فلا تفعل، فقول الله افعل مثل: صل، صم، زك، حج، مر بالمعروف وانه عن المنكر.. فكل ذلك شرع، فلو فعلته فإن الله يحب ذلك، ولو أن الله تبارك وتعالى نهاك عن المعاصي وأتيتها.. فالله تعالى يبغض ذلك.

إذاً: فالإرادة أو المشيئة الشرعية الدينية: هي كل أمْر أمَر الله عز وجل به وهو يحبه، فالصلاة عمل يحبه الله عز وجل، وكذلك الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من أوامر الإسلام..، فإذا أتاها العبد دخل في محبة الله عز وجل هو وعمله؛ لأن الله أمره فأطاع الأمر.

والله تبارك وتعالى لا يُحب الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، وغير ذلك من المعاصي، وإنما يبغض ذلك، فحينما أبغضها نهانا عنها، ولا يتصور أن الله تعالى ينهانا عن شيء وهو يحبه.

ولذلك نقول: إن المناهي -وهي المعاصي والمخالفات الشرعية- مبناها على بُغض الله عز وجل، ولكننا نقول: إن الإرادة الربانية أذِنت في وقوعها، فأعظم ذنب هو الشرك بالله عز وجل، والشرك موجود في الأرض، والقتل موجود، والسرقة موجودة، والزنا موجود، وشرب الخمر موجود.. وكل المعاصي موجودة، ولا يتصور أن يقع في الكون شيء بغير إرادة الله، فلو أن شخصاً قال: أنا سأقتل شاء الله أو أبى، فلا يتسنى له القتل أبداً. ولا يمكن، فهذا إجرام وكفر بالله العظيم.

لذلك فنحن نقول: إن القتل وقع بإرادة الله، والذي كسب القتل وفعل القتل بيديه هو العبد.

اختلاف الناس في أفعال العباد

إن جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو في جانب المناهي كالمعاصي.. كل ذلك يقع بإذن الله وإرادته، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئته وإرادته الكونية القدرية، أي: أن الله عز وجل قدر أن تقع هذه المعاصي في الكون.

فالقدرية بمعنى: أن الله هو الذي قدرها وخلقها، وأذِن في وقوعها.

والكونية: أنها أفعال تقع في الكون وفي حياة الناس.

وكل المعاصي عبارة عن ترك أمر، أو فعل نهي.. ترك أمر لله عز وجل، أو فعل أمر نهى الله عز وجل عنه، فلو أن العبد ترك طاعة لله قد أمر بها، أو أتى معصية لله عز وجل قد نهى عنها؛ فإننا نقول: إن ذلك مخلوق لله عز وجل، ولكن العبد قد اكتسبه كما اكتسب الطاعة بيديه، ولكن المعاصي مبناها على بغض الله عز وجل، فالمعاصي واقعة في الكون بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر.

إذاً: قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، هذا لفظ عام يشمل الطاعات والمعاصي، والخير والشر، والقدر حلوه ومره، وخيره وشره، ولذلك جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] قال: هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.

وهذا تفسير غريب جداً، والغرابة هذه لا تخرج إلا من قلب نوّره الله عز وجل بنور الإيمان.

وقوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] معنى الآية هو: تخصيص وقصر الخوف من الله عز وجل على أهل العلم، فأهل العلم هم أعلم الناس بالله عز وجل، فكلما ازداد المرء علماً ازداد خشية لله عز وجل، فهذا تفسير لظاهر الآية.

وابن عباس أتى بمعنى أعمق من هذا المعنى الظاهر، فيقول: العلماء الذين يخشون الله عز وجل هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.

يقول: وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل -أي: بالتفسير- ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرون فمُنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، فالذين ينكرون القدر سينكرون أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، فهم لا يقرون بها على وجهها، ولا يأتون بهذا التأويل على وجهه.

ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، فالله تعالى يأذن لهذا بالطاعة، ويأذن لهذا بالمعصية، أي: أنه ييسر لهذا الطاعة وييسر لهذا المعصية، لأن الله علم أزلاً أنه إذا خلق فلاناً بين له الطريق وبين له الحق من الباطل على لسان رسله وأنبيائه، وكتبه التي أنزلها عليهم، وقد ضربت لك مثلاً في الدرس الماضي وهو لو أن غاية أو هدفاً أمامك له طريقان أحدهما معبد ممهد وميسر، والثاني طريق وعر صعب فيه شوك، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين لتصل إلى هدفك، فأي الطريقين ستسلك؟ إنه السهل، فالله عز وجل خلق المعاصي وخلق الطاعات، وخلق الجنة والنار، فإذا سلكت المعاصي وصلت وبلغتك إلى النار، وإذا سلكت الطاعات بلغتك إلى الجنة، فأنت حينئذ تختار لنفسك، فإذا كنت تريد النار فاسلك طريق المعاصي، وإذا كنت تريد الجنة فاسلك طريق الطاعات، فالعبد له اختيار.

ولذلك فإن الله عز وجل لا يُعذب عبداً على معصية اقترفها وهو لا يعلم أنها معصية، أو فعلها ناسياً أو مخطئاً (إن الله رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فلو أتاك السلطان وأكرهك على فعل معصية ففعلتها، ولو كانت هذه المعصية هي كلمة الكفر، وعذبك عذاباً لا طاقة لك به: إما أن تنطق بها، وإما أن يفتك بك، حينما لم يكن لك قِبل بهذا العذاب ونطقت بكلمة الكفر فإنك لا تكفر، فانظر إلى رحمة الله عز وجل، فإنه يرفع عن عباده الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإنما ذلك وقتها)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، والتفريط أن يكون الإنسان مستيقظاً فيأتي وقت صلاة العصر مثلاً فيقول: لا يزال الوقت بدري حتى يأتي وقت المغرب، ويقول: العشاء ممدودة إلى الفجر.. فهذا تفريط؛ لأن الله تعالى جعل ميقاتاً محدداً للصلاة فقال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: موقتاً بوقت.

ولو أن رجلاً متعوداً أن يصلي جماعة، ففاتته الجماعة أو فاته الفرض، وفي الأسبوع المقبل تذكر أنه كان في الأسبوع الماضي قد نام وذهبت عليه صلاة العصر، ففي أي وقت تذكر هذا الفرض فأذن وأقام وصلى الفرض الذي فاته؛ يُحسب له أداء كما لو أنه صلى الفرض في وقته، وإن صلى الظهر قبل الفجر، أو صلى العصر بعد العشاء فإنه يُعتبر قد صلى الفرض في وقته، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليصلها إذا ذكرها فإنما ذلك وقتها)، فأنت من الممكن أن تذكرها في أي وقت في غير وقتها، لكن إذا قمت فصليت فقد أديت الصلاة في وقتها؛ لأنه ليس في النوم تفريط ولا حرج على الناسي.

ففي هذه الحالة لو أن العبد أتى طاعة لله عز وجل فنقول: إن الله تعالى هو الذي يسر له أمر الطاعة، ولو أن العبد اقترف معصية فالله تبارك وتعالى لا يحب المعاصي، ولذلك نهى عنها، وأرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل لك عقلاً تُميز به الأعمال.

فالسارق حينما يسرق فإنه يعرف أنه يقترف معصية، فإنه إن لم يكن يعرف أنها حرام فهو يعلم أيضاً أنها عيب، ويعرف أنها اعتداء على حق الغير، ثم يتلفت يميناً وشمالاً وينتهز خلسة من الناس وغفلة منهم؛ ليسطوا على غنيمته بزعمه، لأنه يعلم أن هذا فعلاً قبيحاً سيئاً، وهذا في حالة علمه بالشريعة، وأن الله حرم ذلك، وقل أن تجد في الناس من يجهل ذلك، وكذلك كل من يأتي معصية لله عز وجل فإنه يعلم أنه على معصية.

فالإرادة لله عز وجل إرادتان: إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، فقد أحب الله الصلاة وأمر بها، وكره الزنا وشرب الخمر وبقية المعاصي فنهى عنها.

فأعمال العباد المكتسبة قد أذن الله في وقوعها من طاعات ومعاص؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله عز وجل.

قال ابن عباس: العلماء هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها ولو كانوا يقرون بها، فمُنكر القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها.

وأفعال العباد هي كسبهم لأعمالهم، فلا أستطيع أن أتكلم من غير إذن الله عز وجل، ولو أني أريد أن أتكلم شاء الله أم أبى لا أستطيع؛ فإنه سيخرسني، ولو لم يخرسني فإنه أيضاً يحاسبني يوم القيامة.

فمن الممكن أن أتكلم بالخير، أو بالشر، فإذا أذن الله تعالى أن نتكلم بالخير فهو الذي أذن أن نتكلم بالشر، ولو شاء الله ألا نتكلم بالشر لمنعنا أن نتكلم بالشر، وما استطعنا أن نتكلم بحرف واحد من كلام الشر.

فحركات شفتاي ولساني وأضراسي ومخارج الحروف وحلقومي وغير ذلك.. كلها حركات أو أعضاء اجتمعت على إخراج الحروف من مخارجها الطبيعية، بحيث تعطي جملاً مفيدة، لها معنى مفهوم لدى السامع، فالذي أذن في هذا كله هو الله عز وجل، لكن الذي تكلم على الحقيقة هو العبد.

فأفعال العباد هي من خلق الله عز وجل، ولكنها باكتساب العبد نفسه، فالذي يمسك الورقة مثلاً بيديه حقيقة هو العبد، والله تعالى هو الذي أذن له أن يمسك بهذه الورقة، وشل غيره، فما يستطيع أن يحرك ساكناً، فلما تقول له: أعطني الورقة هذه، يقول: أنا مشلول لا أستطيع أن أعطيك الورقة، فهل أذن الله تبارك وتعالى لهذا المشلول أن يأخذ الورقة؟ لا، ولو أذن الله تعالى له بذلك لجعله قادراً على مسك الورقة وإن كان مشلولاً؛ لأنه على كل شيء قدير.

ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، وأفعال الرب هي كالكلام مثلاً والغضب، والرضا، والسخط، والمجيء، والإتيان، والنزول إلى سماء الدنيا وغير ذلك.. وهذه أفعال الرب تبارك وتعالى الفعلية.

فالله تبارك وتعالى يتكلم على الحقيقة، والقرآن الذي بين أيدينا هو كلام الله عز وجل، ومعنى (على الحقيقة) بحرف وصوت يُسمع، فالله تبارك وتعالى يتكلم كلاماً حقيقياً لكن ليس ككلامنا، فهو كلام يليق بذاته العلية تبارك وتعالى.

فلو أني سألت واحداً: كيف يتكلم المولى عز وجل؟ فإنه لا يستطيع أن يجيبني؛ لأن كيفية فعل الرب تبارك وتعالى غير معلومة لدى العباد.

ولا يستطيع أحد أن يجيب عن كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ لأن الاستواء معلوم، وأما الكيف فمجهول للعباد وهو معلوم لله؛ لأنه ليس هناك شيء في حق الله مجهولاً، فعالم الغيب عند الله معلوم ومشاهد له عز وجل.

فأفعال العباد هي من كسب أيديهم، ومن خلق الله عز وجل، وهذا الذي يعبر عنه أهل العلم بخلق أفعال العباد.

فأفعال العباد من الجري والمشي، والقيام والقعود، والحركة والسكنة، والكلام والسكوت.. كل ذلك مخلوق لله، بمعنى أن الله هو الذي أذن في إيجاده وفي خلقه، وقدره وكتبه وعلمه أزلاً، لكن الذي قام وقعد وتكلم وسكت هو العبد، فالفعل من كسبه، وهو من خلق الله عز وجل.

وهناك أفعال لله عز وجل مثل: (لقد عجب الله من صنيعكما تلك الليلة) أي: صنيع أبي طلحة وامرأته مع الضيف، والضحك، لقد ضحك ربنا لعبد فعل كذا وكذا، والغضب مثل: (لقد غضب ربنا اليوم غضباً لم يغضبه من قبل).

فالغضب والضحك والرضا والسخط من صفات الله، وهذه أفعال، لكن غضب الله تعالى ليس كغضبي، فغضبه يليق بذاته العلية، وأنا لا أعلمه، أما غضبي فأنا أعلمه، وبالإمكان أن أكيف غضبي، أي: أن الواحد حينما يكون غضبان يكون وجهه أحمر، وعيناه حمراواتان، والشر في وجهه وغير ذلك.. فالعبد حينما يكون غضبان نستطيع أن نصفه، لكن حينما يكون ربنا غضبان لا يستطيع أحد أن يصفه.

إذاً: فليس غضب الله كغضب العبد، ولذلك فإن أفعال الله تعالى غير أفعال العباد، فأفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وأما أفعال الله تعالى فهي غير مخلوقة؛ لأن الله تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وكلام الله تعالى لا منتهى له.

ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأن الذي يقول إن كلام الله تعالى مخلوق؛ فمعناه أنه حادث، وكل حادث يطرأ عليه الفناء.

فأنا حادث، ولا بد من أحد شيئين: إما أن أكون خالقاً أو مخلوقاً، فالمخلوق لا بد أن يطرأ عليه الفناء، وسيأتيه يوم ينتهي فيه ويموت، ولهذا فنحن نولد ونموت من غير أي إنكار من أحد، حتى الذين يقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] لا ينكرون الموت ولا الميلاد، فإذا كان المخلوق حادثاً ويطرأ عليه الفناء؛ فهل يطرأ الفناء على كلام الله عز وجل؟

ومن هنا تعلم فقه الإمام أحمد بن حنبل حينما قال: القرآن كلام الله، فحينما قيل له: بل مخلوق يا إمام، قال: من قال بذلك كفر؛ لأنه يجرد الذات العلية عن الصفات، فلو أنه كان عاجزاً عن الكلام ثم تعلم الكلام فلا يستحق أن يُسمى رزاقاً إلا بعد أن رزق، ولا يكون سميعاً إلا بعد أن سمع أحد الأصوات، ولا يكون قادراً إلا بقهره لغيره وغير ذلك..، وهذا كله شرك؛ لأننا لو قلنا: إن صفات البارئ مخلوقة؛ لقلنا: إنه كان عاجزاً فصار قادراً، وكان أصم فصار سميعاً، أو فصار متكلماً، وهذا كله كفر.

مشيئة الله عز وجل القدرية

نرجع إلى موضوعنا الأول وهو مشيئة الله عز وجل القدرية، وهي التي قدر أن تقع في الكون، قال: ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه؛ لا يُقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم ويضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها، وينزوي بعضها إلى بعض.. إلى غير ذلك من شئونه وأفعاله؛ من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير، فيا لها من كلمة من حبر الأمة وترجمان القرآن!

وقد كان ابن عباس شديداً على القدرية، وكذلك الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

الحكمة من العمل مع أن الأمور مقدرة ومفروغ منها

وابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية يقول عند قول الإمام الطحاوي : وكل ميسر لما خُلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.

أي: أن كلٌ ميسر لما خلق له من السعادة أو الشقاوة، ولذلك في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خُلق له).

ولذلك فإن أكثر من واحد قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت ما بقي لنا من أعمالنا وعمرنا شيء قد سبق وقد كتبه الله عز وجل، أو شيء مستأنف؟ قال: بل شيء سبق -أي: مكتوب ومعلوم لدى الله عز وجل- قال الصحابي: (ففيم العمل إذاً؟) أي: إذا كانت الأمور معلومة لدى الله عز وجل ومقدرة ومكتوبة؛ فلماذا نعمل؟ فكل واحد إذاً يركن على المكتوب.

فنقول: تشتغل لأنك لا تدري أأنت من أهل الشقاوة، أو أنك من أهل السعادة، فابذل جهدك لأن تكون من أهل السعادة، والله تبارك وتعالى ييسر لك بحرصك على الطاعة أمر الطاعة، ولو أنك تركت الطاعة وحرصت على المعصية؛ سهلها لك؛ لأنك نفسك تميل إلى المعاصي، فهناك نفوس خبيثة تميل إلى الخبيث، وهناك نفوس طاهرة نظيفة مؤمنة إذا سمعت بمعصية فرت منها فرارها من الأسد، وهرولت وأسرعت إلى طاعة الله عز وجل.

فهناك من إذا فاتته تكبيرة الإحرام يتفطر قلبه حزناً، وهناك من إذا أجبرته على الدخول إلى المسجد فإنه لا يصلي، ولو كان اسمه محمداً، أو أحمد، أو عبد الله، أو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ويشابه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك نفوس خبيثة ونفوس طيبة، فهذا كله بقدر الله، لكن الله تعالى يسر لهذا لأنه علم منه أزلاً أنه لا يميل إلى الطاعة، وخلق الله النار لحكمة.

عدل الله تعالى والحكمة من خلق الجنة والنار

فتصور أنك رجل مؤمن موحد مطيع لله عز وجل، وجارك رجل عاص وفاسق وزنديق وغير ذلك، لو أتيتما يوم القيامة والله تعالى أدخلكما جميعاً الجنة فستقول: ما هي القضية؟! وهذا لا يحصل؛ لأن الله خلق الجنة وخلق النار لحكمة عظيمة، فهل مآل هذا المشرك المعرض العاصي الجاحد الجنة؟ وهل أهل الجنة يقفون على الباب والعصاة يدخلون الجنة؟ لا، لا بد للكفرة من عقاب، وعقابهم أن يدخلوا النار.

والذي يهزأ ويسخر، بل ويُعذب المؤمنين الموحدين؛ لا يهنأ قلبك حينما يكون بجوارك في الجنة؟ فهو لن يدخلها، ولا بد له من عذاب وعقاب.

ولا بد أن تعتقد أن ما عند الله عز وجل من خيرات هي أعظم مما في أيدي العباد من خيرات، وما عند الله كذلك من عذاب وعقاب هو أشد وأبقى، فهناك من عنده روح الانتقام، ولا يحب أن يفوت صغيرة، فعندما يغلط عليه واحد لا بد أن يتشفى منه، ولا يقر له قرار إلا بعد أن يأخذ حقه، فالله بقادر على أن يأتي به يوم القيامة، والله يقدر على مثل ذلك بمئات المرات، فلماذا أنت متضايق؟ ففوض أمرك إلى الله عز وجل، واصبر واحتسب، فالصبر عبادة، وقد فرضه الله على عباده وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فالحق عبادة، والصبر أيضاً عبادة.

وهذه العبادة تستخدمها وقت الضعف، وأما في وقت القوة فتستخدم الحق؛ لأنك ستكون لك صولة وجولة ونجدة وغير ذلك حينما تكون في زمن القوة، فعندها تستخدم الجهر والصدع بالحق وغير ذلك، وكل الذي يقابلك في الطريق يعطلك عن هذه الدعوة خذه في طريقك، ولذلك نجد الإسلام حينما كانت له دولة وشوكة كان النبي عليه الصلاة والسلام يبعث الجيش إلى أي بلد من البلدان ليغزوها، أو يفتحها، أو يدعوها فإنه يخيرهم بين ثلاثة أشياء. إما أن تسلموا وتدخلوا معنا في الدين، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا.. فليس هناك فرق بيننا وبينكم.

وإما أن تبقوا على ديانتكم ولكن لا بد أن تأذنوا لنا في الدخول، فإذا أذنتم ولم تدخلوا في الدين فادفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.

والواحد منا الآن حينما يسمع هذه الآية قلبه يتقطع فيقول: نحن صاغرون في هذا الوقت، يقول الإمام ابن تيمية : ولو أن اليهود والنصارى علوا وحاصروا المسلمين في ثغر أو بلد، وأمروهم بدفع الجزية وإلا أُريقت دماؤهم؛ كان واجباً على المسلمين أن يدفعوا الجزية، وأصبحت الجزية على المسلمين بعد أن كانت مفروضة على رقاب النصارى واليهود، وليس هذا فحسب، وإنما أيضاً يدفعونها بذلة فيدفعونها وهم صاغرون، أي: أن زعيمهم وعمدة بلدهم يأتي بالجزية فتقول له: اذهب وخذها معك وهاتها غداً، ثم يأتي في الغد فتقول له: خذها وأرجعها في الشهر القادم، وتذله وتذل أنفاسه، وأما الآن فنحن في ذلة؛ وهذا إنما هو بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة.

العمل بالأسباب موافق للدين والعقل

يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي بن أبي طالب : (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له)، وما يدريك أنك من أهل الشقاء أو السعادة؟

وفي حديث جابر: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من كبار الصحابة رضي الله عنه، وكان من أعظم المحاربين للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي بعثته قريش لقتل النبي عليه الصلاة والسلام في هجرته من مكة إلى المدينة، وحينما كاد أن يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ساخت قدم فرسه في الأرض، فعلم أنه هالك، كل هذا كان لأجل أن يأخذ مائة ناقة من قريش في مقابل قتل محمد وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه، فأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ -أي: نحن سنعمل لماذا؟- أفيما جفت به الأقلام -يعني: فيما جرت به الأقلام وكتبته- وجرت به المقادير، أم فيما يُستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟) قال زهير : ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألته: ماذا قال؟ قال: (اعملوا فكل ميسر) فهو يسأله: ففيم العمل؟ قال: اعملوا -أي: لا بد من العمل- فكل ميسر.

والجوع يكون بقدر الله، لكن هل من الممكن أن تقول: إن الله عز وجل قد كتب سلفاً وأزلاً أنني في الوقت الفلاني سأجوع، وما دام هذا بقدر الله فأنا لا آكل؟ لا يمكن؛ لأن الجوع بقدر والشبع بقدر، وكذلك المعاصي بقدر، والعقوبة المترتبة على هذه المعصية بقدر.

وآخر يقول: أنا لن أتزوج، ولو شاء الله تعالى أن يرزقني الولد بغير زوجة لفعل، ونحن نعرف أن الله على كل شيء قدير، لكن الأسباب لا بد منها، ولذلك من اعتمد على السبب فقد أشرك، أي: أن الذي يعتبر أن الطعام الذي أكله هو الذي أشبعه، فهذا ضرب من ضروب الشرك؛ لأن الذي أشبع على الحقيقة هو الله، والذي شفى المريض على الحقيقة هو الله، وإنما الدواء عبارة عن سبب، فالله تعالى خلق المرض وهو ابتلاء، فهو مخلوق بقدر، وكذلك العلاج بقدر.

وإذا قدر الله لي المرض فأنا أتداوى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله! فما من داء إلا وله دواء) إذاً فالداء بقدر الله، والدواء أيضاً من قدر الله عز وجل.

بيان أن الأعمال بالخواتيم

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) أي: أنه يعمل الطاعات، لكنه في هذه الطاعات لم يكن مخلصاً فيها لله عز وجل، وإنما يعملها رياء ونفاقاً، كما كان عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي، ويصوم، ويزكي، وكان أيضاً يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كان قلبه مليئاً بالكفر، وأما عمله في الظاهر فيما يبدو للناس فعمل رجل من أهل الجنة.

وهناك رجل حارب حرباً شديدة جداً، وقاتل قتالاً عنيفاً جداً، حتى أُعجب الصحابة بفدائيته وفروسيته، فقالوا: إنه من أهل الجنة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأراه من أهل النار) فاندهش الصحابة حينما رأوه يعمل بعمل أهل الجنة، فلم يجدوا فارساً في الجيش فعل مثل ما فعل! ففزعوا كيف يكون من أهل النار مثل هذا الرجل؟!

فتبعه رجل فكلما أسرع أسرع خلفه، وكلما وقف وقف، فكان يراقبه حتى أصابه سهم فلم يصبر على ألمه، فقتل نفسه، وضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرجت من ظهره، فحينئذ قال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، فهذا الرجل عمل في الظاهر بعمل أهل الجنة، ولكنه في نفسه من أهل النار.

وأول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: العالم، والجواد، والمقاتل، فحينما ينادون للجهاد يخرج هذا المجاهد أول واحد، ويحضر إلى الصف بفرسه، والعالم تعلم العلم لغير الله عز وجل ليقال عالم، فيؤمر به فيُسحب على وجهه فيدخل النار، والجواد لا يترك باباً من أبواب الخير إلا وينفق إليه، وهذا عمل صالح، لكنه لا ينوي بهذا وجه الله، وإنما يبتغي المدحة والثناء من الناس، والذي يصلي رياءً لو تركته في خلوة لا يصلي، وإذا حضر الناس تجده في خشوع وقيام وسجود وركوع ويطيل في ذلك، فتقول: ما أعبده! وما أخشعه لله عز وجل! وفي الحقيقة هذا خشوع للبدن، وليس خشوعاً في القلب لله عز وجل، أي: أن خشوعه اصطنعه لأجل أن يقال: خاشع أو عابد أو غير ذلك.

ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)، لكن قد تلحقه التوبة، ولا حرج على فضل الله عز وجل، ولو أن رجلاً أشرك وكفر وأتى بجميع المعاصي، ومات بعد أن نطق بالشهادة بلحظة؛ فهو لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج، ولم يأت طاعة إلا نطقه بكلمة التوحيد، فإنه يدخل الجنة، فلا حرج على فضل الله عز وجل، فهذا له سبحانه وتعالى لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ولو كانت لك وأخذها أحد الناس منك فإنك لا ترضى بذلك، أما وهي لله عز وجل فله الحق حينئذ أن يعطيها لمن يشاء.

قال: وزاد البخاري : (إنما الأعمال بالخواتيم) أي: حسب ختام الله لك.

وهذا الكلام يجعلنا في غاية الوجل والخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (والله لا يغفر الله لفلان! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وصعد المنبر وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟) أي: أن الجنة ملك لله فلا يدخل فيها إلا رجل قد أذن الله له، (قال الله تعالى: أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لفلان، وأني عذبت فلاناً) وهو المطيع.

ومن هنا تعلم قولهم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة.

أي: أن رجلاً مثلاً صلى صلاة، وظل يفاخر بها، أو حج ولم يجد الناس يكتبون على الحيطان: حج مبرور وذنب مغفور، مبروك يا حاج فلان وغير ذلك.. فتجده يغضب غضباً شديداً حين لم يُكتب له مثل هذا، وأنه حينما دخل البلد لم يجد استقبالاً على عادة الناس، وظل يسب دين البلد بأكمله، مع أنه قد أتى من الحج، فالذي يقول له: يا عم أحمد أو يا سيد أحمد لا يرد عليه، وإذا أجابه إنما يقول: نعم يا بني! فهل يتصور أن العمل هذا ممكن يُقبل؟! لا يُقبل أبداً، نسأل الله السلامة، والأعمال بالخواتيم.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك -وهو ملك الأرحام وليس جبريل- فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات -أي: يؤمر بكتابة أربع كلمات-: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، أي: من أهل النار أم من أهل الجنة، فهذا مكتوب عليك قبل أن تولد، وليس في هذا ظلم للعبد؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل والحكمة. (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها.

القدر سر الله في خلقه فلا يتعمق فيه

ثم قال الطحاوي : وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، أي: الذي يظل يجادل ويناظر في القدر، ويقول: لماذا فعل الله كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ وما هي الحكمة من كذا؟ فهذا يدل على أن العبد هذا مخذول، فالخير كل الخير في اتباع من سلف، والسلف لم يكونوا يعملون هذا، فالسلف ممسكون تماماً عن الكلام في القدر، فما الذي يمنعنا أن نمسك عن القدر، ونؤمن به خيره وشره!

قال: والتعمق والنظر في ذلك -أي: في القدر- ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه -أي: عن خلقه-، ونهاهم عن مرامه -أي: عن مقاصده وغاياته- كما قال الله تعالى في كتابه : لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل الله كذا؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم

وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، وهذا صحيح: أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر، ولكن الله تعالى كذلك شاء منه الكفر، ومعنى أن الله تعالى شاء من خلقه الإيمان: أنه أمر الخلق جميعاً بالإيمان، فقد شاءه منهم، ولكن الله تعالى أذن لبعض عباده بوقوع الكفر منهم، وشاءه منهم، وهذه مشيئة قدرية كونية لا شرعية دينية، وبيت القصيد هو التفصيل بين الاثنين، فالإيمان من مشيئة الله القدرية الكونية؛ لأن الإيمان وقع في الكون بقدره، والكفر وقع بمشيئته الكونية القدرية، بمعنى أن الله أذن بوقوعه في الكون وقدره.

فالمعتزلة والقدرية قالوا: إن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فقالوا هذا القول لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من أشياء فوقعوا فيما هو شر منها، فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى!

ويلزم من قول المعتزلة والقدرية أن هناك مشيئتين: مشيئة الله، ومشيئة العبد، فالله عز وجل شاء الإيمان منه، وهو شاء الكفر من نفسه، ومشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا كفر، أي: أنه حينما أقول لك: إن الله أراد مني الطاعة، لكني أريد المعصية، فتتعارض إرادتي مع إرادة الله، فحينما وقعت مني المعصية هذا دليل على أن إرادتي ومشيئتي غلبت إرادة الله ومشيئته! وهذا كفر.

إذاً فلا بد أن أقول: إن الله تعالى شاء الكفر، لكن ليست هي المشيئة الشرعية الدينية وإنما هي المشيئة القدرية الكونية.

مناظرة بين قدري ومجوسي في القدر

قال عمرو بن الهيثم : خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله.

أي: إذا أراد الله لي الإسلام سأُسلم، وهذا المجوسي يعلم أن الإسلام بقدر الله عز وجل.

فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد، أي: أن الله يريد منك الإسلام، ولكن الشيطان لا يريد منك الإسلام، وانظر إلى هذا المجوسي فقد كان فقيهاً جداً..

فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي فأنا مع أقواهما!!

وكأنه يقول له: تعارضت إرادة الله مع إرادة الشيطان، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله! فبقيت على مجوسيتي، فإذا كان الشيطان إرادته أقوى من إرادة الله، فالطبيعي جداً والعقلي أنني أكون مع القوي، وهو الشيطان! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فيستفاد من قول هذا المجوسي: أن إرادة الله أقوى من إرادة الشيطان؛ لأنه قال له: أسلم، قال: حتى يريد الله؛ لأنه يعلم أن الإيمان لا يكون إلا بإرادة الله.

أعرابي يغلب عمرو بن عبيد

ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد -وهو رأس الاعتزال ورأس القدر، وكان أسوأ من بشر المريسي الذي ذكرنا ترجمته في الدرس الماضي- فقال الأعرابي: يا هؤلاء! إن ناقتي قد سُرقت، فادعوا الله أن يردها علي.

فهو أتى إلى طلاب العلم لعل فيهم واحد تكون دعوته مقبولة ومستجابة، فقال لهم: فادعوا الله أن يرد ناقتي؛ لأنها سُرقت.

أي: أن الله تعالى هو الذي أراد إرادة كونية قدرية أن تُسرق هذه الناقة.

فقال له عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسُرقت، فأرددها عليه، أي: أن إرادة السارق أقوى من إرادة الله.

فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك.

وبعض المتكلمين وأئمة الاعتزال والفلسفة بعد أن حاروا في علم الكلام؛ كانوا في فراش الموت يوصون بكلمة واحدة: عليكم بدين العجائز، أي: الزموا العقيدة الصافية.

فحينما تقعد عند جدتك وجدك تجد أن عندهما من التوكل على الله والثقة بالله ما ليس عندك.

فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولِم؟ قال: أخاف أن يريد ردها فلا ترد.

فالأعرابي غلب عمرو بن عبيد .

وقال رجل لـأبي عصام القسطلاني : أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً؟

فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئاً هو له فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء.

أي: أن الهدى له فهو يعطيه لمن يشاء، ويمنعه ممن يشاء، وإذا علم الله تعالى من العبد الخير واستحقاق الهدى لا يمنعه، وإذا علم الله تبارك وتعالى ميل عبده إلى المعصية، وحرصه عليها، فلِم يعطيه الهدى؟

مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر

ودخل القاضي عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة على الصاحب بن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني المعروف بالأستاذ، وهو من أئمة السنة، فلما رأى عبد الجبار الأستاذ الإسفراييني قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.

أي: عن الإذن للفواحش بالوقوع، فهو يريد أن يقول له: إن الفحشاء لا تقع بإذن الله.

فقال له: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟

فقال الأستاذ: أيعصى ربنا قهراً؟ يعني: هل تقع المعصية في ملكه غصباً عنه؟

فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟

فقال الإسفراييني : إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء.

فبُهت القاضي عبد الجبار، لكنه مع ذلك ظل أيضاً قائماً على اعتزاليته، ولم يستطع الرد.

الأدلة على عموم مشيئة الله تعالى وأنها الغالبة النافذة

وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

إذاً: فقد شاء الله تعالى الهداية لأهل الجنة، وشاء الضلال لأهل النار، وكل يقع بأمره، وقوله وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13] أي: أن إرادته نفذت في أهل الضلال حتى أدخلهم النار، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

فالله تعالى أثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله، فلا يمكن أبداً أن يشاء العبد شيئاً إلا وقد سبق في مشيئة الله وإرادته، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وقال تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأنه أراد له الهداية، فهداه وشرح صدره للإسلام، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي: أن الضلال يقع بإذنه ويقع بعلمه، والله تعالى كتبه أزلاً.

منشأ الضلال عند القدرية

ومنشأ الضلال عند القدرية والمعتزلة أنهم سووا بين المشيئة والإرادة من ناحية، وبين المحبة والرضا من ناحية أخرى، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئاً، أو لا يأذن في شيء، أو لا يشاء شيئاً إلا إذا أحبه ورضيه، ولذلك تساوى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، أي: أن كل ما يقع في الكون بقضائه وقدره، وهو محبوب مرضي لله، أي: أن المعاصي محبوبة لله عز وجل وإلا لم يأذن في وقوعها، ويلزم من قولهم: أن الله عز وجل يحب الزنا، وشرب الخمر، والقتل؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد وقدر، ولا تكون إرادته وقدره إلا متعلقاً بالمحبة والرضا.

وسموا بالجبرية: لأنهم قالوا: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، والعبد لا علاقة له بالفعل؛ لأنه مجبور، أي: أن العبد كالحمار أو الجاموسة التي تسحبها من خطامها، ولا قدرة لها على الانفكاك، فقالوا: إن العبد يساق إلى المعاصي كما سيق إلى الطاعات، فهو مجبور على فعل الطاعات، ومجبور على فعل المعصية؛ فالله قد جبره على فعل ذلك، فالعبد ليس عليه ذنب، وليس عليه إثم.

فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأنه مجبور، وهذا فساد، وأنا لا أقول هذا القول وأقرره، وإنما أرد عليه وأُبين عوار هذا المعتقد.

وهناك نوع آخر من القدرية وهم نفاة القدر، ويقولون: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فالمعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، فليست مقدرة ولا مقضية، أي: أن الله لم يأذن في وقوعها، وإنما أذن في وقوعها العبد.

وقال قوم: إن الله يحب المعاصي؛ لأنه أذن في وقوعها، وجبر العبد على ذلك، وهؤلاء هم الجبرية المثبتة، أي: الذين يثبتون الجبر، وهو أن العبد مجبور على فعله الطاعة والمعصية، وإذا كان مجبوراً فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأن الفاعل الحقيقي هو الله.

ومع هذا إلا أن عندهم وجه حق وهو: أن كل شيء من عند الله، أي أن الله تعالى أذن في وجوده وخلقه، لكنهم يقولون: إن العبد مجبور على ذلك، فلا ثواب له على طاعة، ولا عقاب عليه على معصية.

والجبرية النفاة قالوا: إن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، وهذا الكلام صحيح، لكن الغلط في قولهم: إنها ليست مقدرة ولا مقضية، أي: أنها وقعت في الكون بغير قضاء الله وقدره، ولكن بقضاء العبد، وهذه المصيبة السوداء التي نريد أن نعالجها.

وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة، بل والفطرة الصحيحة، فنصوص الكتاب في المشيئة والإرادة مثل قوله تعالى في المحبة والرضا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وقوله: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].

لكن الفساد واقع بإذن الله، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وجوده وفي خلقه في الكون، وكذلك الكفر، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، أي: أن الله يكره هذه الأفعال كلها، وفي الصحيح: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

إذاً: فالله يكره هذه الأشياء، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)،وغير هذا من الكلام الجميل المتين الذي تكلم فيه أهل العلم، ولولا الإطالة لذكرت بقية كلامهم.

معنى حديث: (والشر ليس إليك)

والشيخ ابن عثيمين قال في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً جميلاً يبين فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه وهو يثني على ربه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك).

ظاهر النص: أن الشر غير مقدر لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لم يأذن فيه، والكلام هذا مردود عليه، قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وإذنه في وقوع الأشياء، وأما المقدور فهو اسم مفعول بمعنى فاعل؛ لأن المفعول والمقدور هو الفعل الذي يأتيه العبد، فالقتل فعل العبد، ولكنه وقع بقدر الله، ومقدور لله، بمعنى أنه مخلوق لله عز وجل، ولكن هو شر.

قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في الحديث، وكما قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70].

أي: أن الله كتب كل ما كان، وما يكون في السماوات والأرضين إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

وقوله: (نؤمن بالقدر خيره وشره)، أما وصف القدر بالخير فلا إشكال فيه، أي: أن الطاعات كلها وقعت بقدر الله، وأما وصف القدر بالشر فالمراد به شر المقدور لا شر القدر؛ لأن القدر هو فعل الله عز وجل، وأما المقدور هو فعل العبد الذي أذن الله في وقوعه.

أي: أن فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، فكل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته التي وقعت بكسب العبد وبقدر الله عز وجل.

فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، وأما باعتبار الفعل فلا؛ لأن الفعل هو فعل الله عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك).

أي ليس إليك من جهة المقدور، وإنما هو من جهة القدر فقط، ففي المخلوقات المقدورات شر، ففيها الحيات والعقارب والسباع، والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، فأنت حينما ترى ثعباناً فإنه شر؛ لأنك لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور، والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك.. وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، أي باعتبار أن الله تعالى أذن في وقوعها، وقدرها أن تقع في الكون فهي خير؛ لأن الشر المحض لا يُنسب إلى الله عز وجل.

قال: لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.

وعلى هذا يجب أن نعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات التي يأتيها العبد، لا باعتبار التقدير الذي قدره الله عز وجل وفعله.

ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ ، وهذا الفساد بقدر، وهو من أفعال العباد؛ لأنه فساد، والله تعالى يُنسب إليه الشر على جهة القدر لا على جهة المقدور.

قال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] أي: أن الفساد حينما يظهر على أيديهم يُعذّبهم المولى عز وجل؛ لعلهم يستيقظوا بعد هذا، وإذا استيقظوا رجعوا إلى الله، وتابوا وأنابوا إليه.

إذاً: فهذا هو وجه الفساد الذي فيه خير، وبما أن النتيجة طيبة فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.

فمثلاً حد الزاني، إذا كان الزاني غير محصن - أي: غير متزوج - فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرب عاماً، وهذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، كما لو ربطنا شخصاً في الصحراء وضربناه، فهذا بالنسبه له شر.

لكن لو أن العقوبة هذه تمت في التلفزيون على الهواء مباشرة، والأمة كلها تفرجت عليه، فإنه لا يتصور أن واحداً يفكر في الجريمة مرة أخرى، ولو فكر فيها فإنه سيراجع نفسه مليون مرة.

إذاً: فهذا بالرغم من أنه بالنسبة له هو شر، إلا أن فيه خيراً عظيماً لمجموع الأمة، بل وفيه خير له أيضاً، لأنه لن يفكر فيها مرة أخرى.

إذاً: فالفساد هذا في طياته خير، فنسبته إلى الله عز وجل من هذه الحيثية نسبة مشروعة، ولذلك يقولون: إن الفساد والشر والمعاصي تقع في الأرض بقدر الله عز وجل؛ لحكمة علمها الله عز وجل، أو علمها من علمها وجهلها من جهلها.

وأما بالنسبة للأمور الكونية القدرية فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً كالمرض، فالإنسان إذا مرض فلا شك أن المرض بالنسبة له شر، لكن فيه خير بالنسبة للواقع، وخيره تكفير الذنوب، فالمرض من هذه الحيثية خير وإن بدا لك أنه شر، ورغم أنه شر لكنه وقع بإذن الله.

فالذي لا بد أن نعلمه جميعاً أن الخير والشر بقدر الله عز وجل، وفي الدرس الماضي تحدثنا أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأذن في بقائه وحياته إلى قيام الساعة، وعلم ما سيكون عليه إبليس، ومع هذا خلقه لحكمة عظيمة جداً وهي هذه الحكمة التي نذكرها الآن، فالله تعالى قدر خلق إبليس، وقدر وقوع المعاصي منه ومن أتباعه ومن شيعته، فهي بالنسبة لله عز وجل وقعت بقدره، وأما المقدورات وهي أفعال المعاصي نفسها فالذي اكتسبها هم العباد، والمعاصي فيها وجه خير ووجه شر، ولا يعلم ذلك إلا من وفقه الله عز وجل.

أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، وأن يتجاوز عن سيئها؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح أصول اعتقاد أهل السنة - إثبات القدر وأن الله خالق الخير والشر للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

https://audio.islamweb.net